كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
المقالة الثامنة: في إنتقال العذراء إلى السماء
في شأن عيد انتقال سيدتنا والدة الإله نفسه. وفيه يبرهن عن كم كان مجيداً هذا الانتقال، وكم وجد عظيماً العرش السماوي الذي هي ارتقت إليه
* وفيه جزءان. *
† الجزء الأول †
* في كم كان مجيداً الانتصار الذي به أنتقلت البتول الكلية القداسة من الأرض إلى السماء*
أنه لقد كان يظهر أمراً عادلاً أن الكنيسة المقدسة في اليوم الحاضر المختص بتذكار نياح العذراء المجيدة، تدعونا إلى الندب والبكاء أحرى مما تستدعينا إلى الفرح والتهليل، لأن أمنا هذه العزيزة قد تركتنا في الأرض عادمين مشاهدتها وفاقدين حضورها بالجسد فيما بيننا، لإسعافنا ومعونتنا، كما يقول القديس برنردوس:” أنه يلزمنا أن نبكي أحرى مما أن نبتهج لفقدنا النظر إليها”. إلا أن الكنيسة بالحقيقة تطلب منا في هذا اليوم أن نسر فرحين بقولها نحونا: فلنتهلل كلنا بالرب إلهنا باحتفالنا بعيد الطوباوية مريم البتول تكريماً لها: وهذا بكل صوابٍ، لأننا أن كنا نحب أمنا هذه، فيلزمنا أن نفرح معها لأجل المجد الذي حصلت هي عليه أفضل من رغبتنا تعزيتنا الذاتية، على أنه أيُّ ابنٍ لا يتهلل مسروراً عندما يعلم أن والدته تبارحه لتمضي فتأخذ الولاية سلطانةً على مملكةٍ ما، ولئن كان يلزمه أن يتكبد مرارة انفصالها عنه. فمريم البتول في هذا اليوم تنطلق لتأخذ التملك، وتتوج سلطانةً على السموات، فهل يمكننا ألا نفرح مبتهجين، ونعيد مسرورين إن كنا حقاً نحبها، فلنتهلل إذاً كلنا بالرب. ولكي نتعزى بأفضل نوعٍ لأجل المجد الذي هي حصلت عليه. فلنتأمل في هذا الجزء كم كان انتصار انتقالها إلى السماء مجيداً، تاركين للجزء الآخر التأمل في عظمة العرش الذي جلست هي عليه في السماء.*
فالطغمات الملائكية بعد أن شاهدوا أن مخلصنا قد كان أكمل عمل الفداء وخلص الجنس البشري بموته، فكانوا يتشوقون لأن يفوزوا بمشاهدة ناسوته المتحد مع لاهوته مالكاً في السموات، ومن ثم كانوا يهتفون نحوه بالكلمات الداودية: قم يا رب إلى راحتك أنت وتابوت قدسك: (مزمور132ع8) أي أنك أنت يا رب إذ افتديت البشر، فقم وهلم إلى ملكوتك معنا، وأصحب معك التابوت الحي المختص بتقديسك أي والدتك التابوت المختار منك الذي أنت قدسته بسكناك فيه. فهكذا القديس برنردينوس يجعل الملائكة مخاطبين الله بقولهم نحوه: “فلتصعد أمك أيضاً إلى السماء مريم الكلية القداسة التي أنت قدستها حين حبلها بك.” فأراد الرب أخيراً أن يسر سكان السماء هؤلاء ويتمم مرغوبات أشواقهم، باستدعائه أمه الدائمة بتوليتها إلى السماء. ولكن إن كان هو عز وجل قد شاء أن يحتفل بإدخال تابوت العهد إلى مدينة داود احتفالاتٍ عظيمةً، كما هو مكتوبٌ في الإصحاح السادس من سفر الملوك الثاني: أن داود وجميع بني أسرائيل، كانوا يصعدون تابوت عهد الرب بتضريب التهليل وصوت البوق. فقد رسم تعالى بأن يحتفل بأعظم من ذلك في صعود تابوته الحي أي والدته المجيدة إلى السماء. فالنبي إيليا قد صعد إلى السموات بواسطة مركبةٍ ناريةٍ التي (حسبما يبرهن المفسرون) لم تكن شيئاً آخر سوى جوقٍ من الملائكة قد رفعوه عن الأرض مخطتفين إياه إلى العلو: ولكن لأجل رفعكِ أنتِ من الأرض إلى السماء (يقول نحو هذه السيدة الأنبا روبارتوس) لم يكن كافياً جوقٌ من الملائكة، بل أن ملك الملائكة نفسه قد جاء إليكِ ليرفعكِ إلى السماء، مرافقاً من أهل بلاطه السماوي بأسرهم.*
والقديس برنردينوس السياني هو نفسه يرتأي ذلك بقوله: ان يسوع المسيح لكي يكرم انتصار مريم والدته، فهو تعالى عينه جاء من السماء إلى ملاقاتها، وأخذها صحبته إلى الأخدار الملكوتية. ولهذا يقول القديس أنسلموس:” أن المخلص قد أراد أن يصعد هو أولاً إلى السماء قبل أن ترتقي إليها أمه، وذلك ليس فقط لكي يهيء هناك عرشاً لائقاً بهذه الملكة. بل أيضاً حتى يصير دخولها فيما بعد إلى السماء ذا مجدٍ أعظم بحضوره الى ملاقاتها هو عينه، وبرفقته الأرواح الطوباويون أجمعون”. ومن ثم القديس بطرس داميانوس إذ كان يتأمل في عظته انتقال هذه الأم الإلهية إلى الفردوس السماوي قد قال:” أننا نلاحظ أن صعود مريم العذراء الى السماء هو ذو مجدٍ أعظم من صعود يسوع المسيح، لأجل هذا السبب، وهو لأنه في صعود مخلصنا قد جاءت الملائكة فقط لملاقاته ولمرافقته. وأما الطوباوية والدة الإله فقد ارتقت إلى السماء بمجدٍ هكذا سامٍ، حيث أن إله المجد نفسه قد استقبلها ورافقها. جملة مع المليكة كافةً والقديسين أجمعين بزفةٍ إلهيةٍ.” ولهذا الأنبا غواريكوس يجعل الكلمة الأزلي قائلاً هكذا: أنني قد نزلت من السماء إلى الأرض لكي أصنع ما به أمجد أبي الأزلي، ولكن بعد ذلك لكي أكرم أمي مريم وأمجدها قد أنحدرت مرةً ثانيةً من السماء حتى يمكنني هكذا أن أستقبلها بذاتي وأرافقها بحضوري الشخصي إلى الفردوس في السموات.*
فلنمض إذاً متأملين بعقولنا كيف جاء المخلص لملاقاة والدته، وحالما رآها قال نحوها معزياً: انهضي يا قرينتي وتعالي يا جميلتي وهلمي يا حمامتي، فها الشتاء قد عبر والمطر ذهب وصار غلى ذاته: (نشيد ص2ع10) فقومي يا أمي يا عزيزتي يا جميلتي الحمامة النقية، اتركي وادي الدموع هذا الذي هو الأرض حيث تكبدتِ أتعاباً وأحزاناً عظيمةً من أجلي وحباً بي. يا عروستي تعالي من لبنان هلمي من لبنان تجئين فتتكللين: (نشيد ص4ع8) فهلمي بنفسكِ وجسدكِ معاً لتتمتعي بمكافأة حياتكِ المقدسة، ومن حيث أنكِ قد تألمتِ كثيراً في الأرض فأنا قد أعددت لكِ مجداً أعظم بما لا يحد في السماء، فتعالي لتجلسي في العرش بالقرب مني. هلمي لتأخذي الأكليل الذي أتوجكِ به سلطانةً على العالمين.*
فهوذا مريم الكلي قدسها تترك الأرض مفارقةً إياها. ولكنها عند تذكرها مقدار النعم التي حازتها من الرب في هذه الأرض. فتنظر إليها بعلامات الحب والإشفاق والرحمة، تاركةً فيها جميع أولادها المساكين فيما بين الأحزان والشدائد والأخطار. وهوذا يسوع ابنها يسندها بيده حيث رفعها إلى الجو، وأجتاز بها من أبواب السحب، وعلا بها فوق الكواكب والنجوم. ودنا بها من أبواب الفردوس. فمن عادة الملوك أنهم حينما ينطلقون ليأخذوا التملك على إحدى المدن فلا يدخلون من بابها، بل أما أنهم يصيرون أن يهدم بابها ليدخلوا منه من دون أن تعلو فوق رأسهم عتبته العليي، وأما أنهم يجعلون اجتيازهم بمماشي خشبية من فوق باب المدينة إليها. ومن ثم كما أن الملائكة حينما دخل يسوع المسيح إلى السماء هتفوا قائلين: ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية ليدخل ملك المجد: (مزمور 24ع9) فهكذا عندما بلغت مريم البتول إلى الفردوس لتأخذ التولي سلطانةً على السماوات والأرض، فالملائكة المرافقون إياها هتفوا نحو الملائكة المتقدمين أمامها: ارفعوا أيها الرؤساء أبوابكم وارتفعي أيتها الأبواب الدهرية لتدخل ملكة المجد.*
فهوذا مريم المجيدة قد دخلت الوطن الطوباوي، ولكن عند اجتيازها إليه فإذ شاهدتها الطغمات النورانية المنتظرتها هناك، هكذا متصفةً بالجمال والمجد. سألوا الملائكة الآخرين القادمين صحبتها. كما يتأمل المعلم أوريجانوس قائلين: من هي هذه الصاعدة من البرية مدللةً مستندةً على حبيبها: (نشيد ص8ع5) فمن هي هذه المخلوقة الفائقة البهاء والكمال المقبلة من قفر الأرض، المكان المملوء من الأشواك والقرطب. لكنها صاعدةٌ هكذا غنيةً بالفضائل ومتلألئةً بالنقاوة، مستندةً على سيدها العزيز وحبيبها الوحيد الذي قد تنازل هو عينه لأن يستقبلها، ويرافقها بشرفٍ وإكرام هذا حدهما. فأجابهم هؤلاء الأرواح الطوباويين المحيطون بها بقولهم: أتسألون من هذه، والحال أنها هي أم ملكنا وهي سلطانتنا المباركة في النساء الممتلئةً نعمةً، قديسة القديسين، حبيبة الله البريئة من العيب والدنس، الحمامة الفائقة جمالاً على المخلوقات كلها. فمن ثم جميع الأرواح السماوية معاً طفقوا يسبحونها ويباركونها ويمدحونها، بأفضل مما مدح العبرانيون يهوديت الجليلة بقولهم: أنتِ هي شرف أورشليم وعز أسرائيل ومدحة شعبنا: (يهوديت ص15ع10) فأنتِ هي إذاً يا ملكتنا وسيدتنا مجد الفردوس وبهجة وطننا. أنت هي شرفنا كلنا. فسعيدٌ هو قدومكِ إلينا، ولتكوني مباركةٍ سرمداً، فها هو ملككِ الذي تملكين فيه، وها نحن بأجمعنا عبيدٌ لكِ وخاضعون تحت سلطانكِ ومستعدين لطاعة أوامركِ.*
ثم بعد ذلك أقبل نحو هذه الملكة السماوية القديسون أجمعون الموجودون هناك يومئذٍ، يسلمون عليها كسلطانتهم. وكذلك القديسات البتولات كافةً تقدمن إليها وإذ: أبصرتها هؤلاء البنات فأعطينها الطوبى ومجدنها: (نشيد ص6ع8) قائلاتٍ لها: أننا نحن أيضاً يا سيدتنا سلطاناتٌ في هذه المملكة، وأما أنتِ فهي ملكتنا بأجمعنا، لأنكِ أنتِ كنتِ الأولى التي أعطتنا النموذج العظيم في أن نكرس بتوليتنا لله، الأمر الذي من أجله نحن نشكركِ نبارككِ. وبعد هذا جاء المعترفون والأبرار ليحيوها بالسلام كمعلمتهم، لأنهم منها اتخذوا تمثال الكمال ونموذجات الفضائل الجميلة بواسطة سيرة حياتها المملوءة قداسةً. وهكذا أقبل مصاف الشهداء ليسلموا عليها كملكتهم، لأنها بثباتها العظيم على أحتمال آلام ابنها الإلهي قد علمتهم الشجاعة. وبصلواتها واستحقاقاتها قد استمدت لهم نعمة الاستشهاد التي بها سفكوا دمائهم من أجل الإيمان. وقد جاء أيضاً القديس يعقوب الكبير الذي هو وحده من مصاف الاثني عشر رسولاً كان حينئذٍ في السماء وقدم لها الشكر نيابةً عن باقي أخوته الرسل عما ساعدتهم به وشجعتهم عليه وأرشدتهم إليه. طالما كانت معهم على الأرض. ثم تقدم إليها الأنبياء القديسون قائلين لها: أيتها العظيمة سيدتنا أنتِ هي موضوع نبؤاتنا التي سبقنا وأخبرنا بها عن إتيان المسيح منكِ: ثم تقدم إليها رؤساء الآباء قائلين لها: أنتِ إذاً كنتِ رجانا الذي منذ أزمنةٍ هكذا مستطيلةٍ ننتظره وأشواقنا كانت متقدةً نحوكِ: إلا أنه فيما بين هؤلاء وقبلهم كافةً قد دنا منها أبونا آدم مع أمنا حواء قائلين لها: نعماً يا أبنتنا العزيزة فأنتِ قد أصلحتِ الضرر الذي نحن سببناه للجنس البشري. وأستمديتِ للعالم تلك البركة التي نحن فقدناها بمعصيتنا. وقد خلصنا نحن بواسطتكِ، فلتكوني دائما مباركةً.*
وهكذا جاء القديس سمعان الشيخ ليقبل قدميها. مذكراً إياها بذلك اليوم الذي فيه هو كان اقتبل في هيكل الرب من يديها يسوع المسيح طفلاً. وأقبل القديس زخريا مع القديسة أليصابات وكررا لها جديداً تقدمة الشكر، على تلك الزيارة التي كانت صنعتها لهما في بيتهما بأتضاعٍ وحبٍ ساميين، وعما نلاه من النعم العظيمة بتلك الزيارة المقدسة. وبأبلغ من ذلك تقدم يشكرها القديس يوحنا المعمدان على كونه تقدس في أحشاء أمه بمجرد صوت سلامها. ولكن من يمكنه أن يصف مقدار فرح القديس يواكيم والقديسة حنه والديها. عندما أقبلا نحوها يباركانها بذاك الحب والانعطاف الوالدي قائلين:” يا لسعادتنا ويا لشرف حظنا يا ابنتنا الحبيبة على الغبظة التي فزنا بها بأن نحصل على ابنةٍ هذه صفتها. فأنتِ الآن هي سيدتنا وملكتنا لأنكِ أم إلهنا، فهكذا نعتبركِ وكذلك نسجد لكِ”. غير أن الحب والانعطاف والتهليل والمسرة التي بها جاء إليها القديس يوسف خطيبها. من يستطيع أن يصفها عند مشاهدته عروسته هذه المجيدة بلغت إلى الفردوس بتلك العظمة والجلالة سلطانةً على العالمين، وبأية كلماتٍ خشوعيةٍ كان يقول لها: يا خطيبتي وسيدتي بأي نوعٍ يمكنني أن أشكر إلهي وأسبحه وأمدحه على ما أنعم به عليَّ نعمةً هذا سمو مقدارها، بأن أكون خطيباً لكِ أنتِ التي هي والدته الحقيقية، فبواسطتكِ أنا أستحقيت أن أخدم يسوع كلمة الله على الأرض في زمن طفوليته وحداثته، وأن أحمله مراتٍ كثيرةً على ذراعي. وأن أنال منه نعماً خصوصيةً عظيمةً، فلتكن مباركةً تلك الأوقات التي أنا أصرفتها في حياتي خادماً له تعالى ولكِ أنتِ أيتها العروسة السامية في القداسة. فها هوذا يسوع حبيبنا، الذي ليس هو الآن متكياً في مذود البهائم في مغارة بيت لحم كما شاهدناه هناك حين أتلاده منكِ، ولا هو عائشاً فقيراً كما عاش معنا ضمن الدكان في الناصرة، ولا هو معلقاً على الصليب حسبما مات موت العار على جبل الجلجلة في أورشليم من أجل خلاص البشر، بل هو جالسٌ من عن يمين الله الآب ملكاً على السموات والأرض، وها نحن يا سيدتي وملكتي مستمران معه من دون خطر أن نفترق منه بعد، بل نقبل قدميه ونسبحه ونباركه الى أبد الآبدين.*
ثم أنه حينما جاءت الملائكة كافةً ليسلموا على سلطانتهم. فهي شكرتهم على مساعدتهم إياها لما كانت على الأرض، بنوعٍ خاص شكرت زعيمهم القديس جبرائيل على البشارة التي كان أتاها بها بسر الحبل الإلهي، والبشارة التي جلبت لها السعادات كلها بصيرورتها والدة الله. إلا أن البتول المجيدة المتواضعة قد جثت ساجدةً للعزة الإلهية، غائصةً في عمق اتضاعها وفي معرفتها ذاتها أنها كالعدم، وقدمت له عز وجل الشكر الواجب على جميع النعم السامية التي أفاضها عليها. لا سيما انتخابه إياها أماً للكلمة الأزلي، وذلك بمجرد خيرية صلاحه ورأفته. وهنا الذي يستطيع أن يدرك فيمكنه أن يفهم بأية عواطف حبٍ إلهي، قد بارك الثالوث الأقدس هذه المخلوقة المحبوبة منه تعالى حباً لا حد له، وبأية كرامةٍ اقتبل الآب الأزلي ابنته هذه العزيزة، والابن الإلهي أمه هذه الجليلة، والروح القدس عروسته هذه الفائقة في البهاء والنقاوة. وهكذا قد توجها الآب مفوضاً لها القدرة، والابن واهباً إياها الحكمة، والروح القدس مفيضاً عليها الحب، ومن ثم الثلاثة الأقانيم الإلهية أقاموا لها عرشاً عن يمين ابنها، وكللوها سلطانةً مطلقةً على السموات والأرض، وأمروا الملائكة والمخلوقات كلها بأن يعرفوها سلطانتهم الحقيقية وتحت هذه الصفة يخدمونها ويطيعونها.*
† الجزء الثاني †
من هي الطالعة من البرية، مدللة، مستندة على حبيبها (نشيد8/5)
قد قيلت فيكِ المسبحات يا مدينة الله (مزمور 87/3)
لوجهكِ يصلي كل أغنياء الشعب (مزمور 45/13)
*في كم هو عظيمٌ العرش والمرتبة التي أقيمت فيها هذه البتول المجيدة في السماء*
فيقول القديس برنردوس: إن كان لمن المستحيل أن قلباً بشرياً يدرك تلك الأشياء المعدة في السماء، لأولئك الذين يحبون الله على الأرض، مما لا سمعت به أذنٌ، ولا شاهدته عينٌ، ولا خطر على قلب إنسانٍ، كما يعلم الرسول الإلهي: فمن يمكنه أن يدرك إذاً عظمة المجد الذي أعده تعالى لوالدته الحقيقية، التي قد أحبته على الأرض حباً أشد جداً مما أحبه به البشر كلهم، بل منذ الدقيقة الأولى من حياتها قد أحبته أكثر مما أحبه به البشريون والملائكة معاً أجمعون، فإذاً لأجل أن مريم إذ كانت على الأرض قد أحبت الله أشد حباً مما أحبه به الملائكة كافةً فبالصواب ترتل الكنيسة عنها (في فرض عيدها الحاضر): بأن الله قد رفعها في السماء فوق طغماتهم أجمعين: أي نعم قد رفعها تعالى فوق الملائكة (يقول الأنبا غوليالموس) بنوع أنها لم تعد ترى أحداً يعلوها سوى ابنها يسوع الذي هو ابن الله الوحيد:.*
ثم أن العلامة جرسون يقول: أنه إذ كانت المصافات الملائكية وطغماتهم تقسم بوجه العموم إلى ثلاثة مراتب، حسبما يعلم القديس توما اللاهوتي، جملةً مع القديس ديونيسيوس. فمريم قد أقيمت برتبةٍ خصوصيةٍ في السماء أشرف وأعظم وأمجد من الثلاثة المراتب كلها، وأضحت هي في المرتبة الثانية بعد الله. ويضيف إلى ذلك القديس أنطونينوس بقوله: أن السيدة تتميز من عبيدها سمواً لا قياس ولا تمثيل له، وكذلك من دون قياسٍ ولا تمثيل والدة الإله هي أعظم قدراً وسمواً من الملائكة كافةً: ولكي يفهم هذا يكفي أن يعرف ماذا يقول النبي والملك داود (مزمور 45ع9) هكذا: قامت الملكة من عن يمينكَ مشتملةً بثوبٍ مذهبٍ موشى: كما يفسر القديس أثناسيوس: بأن هذه الكلمات النبوية قيلت بالحصر عن جلوس مريم البتول ملكةً من عن يمين ابنها في البلاط السماوي:*
أما القديس أيدالفونسوس فيقول: أن أفعال البر التي مارستها العذراء المجيدة في مدة حياتها على الأرض. فهي من دون ريبٍ أعمالٌ تفوق باستحقاقاتها أمام الله على استحقاقات أعمال القديسين الصالحة كلهم، تفوقاً لا حد لعلوه ولا قياس لإدراكه، ولذلك لا يمكن وصف المكافأة والمجد الذي هي استحقته في السماء، ولا يستطاع إدراكه: على أنه كان هو أمراً صادقاً (كما هو بالحقيقة) قول الأنا الصطفي: أن الله يجازي كل إنسانٍ حسب أعماله: (رومانيين ص2ع6) فصادقٌ هو وكلي: التأكيد (يقول القديس توما اللاهوتي) أن البتول الكلي قدسها التي يفوق استحقاقها على استحقاق البشر أجمعين والملائكة بأسرهم، قد لزم ارتفاعها فوق جميع المراتب السماوية. وبالإجمال يضيف إلى ذلك القديس برنردوس قائلاً: فلتعتبر النعمة التي حصلت عليها والدة الإله في الأرض بنوع اختصاصٍ فريدٍ، وبموجب قياس هذه النعمة فليعتبر سمو المجد والمكافأة التي هي حصلت عليها في السماء.*
فمجد مريم البتول (يقول أحد العلماء الأب كولومبياري) هو مجدٌ تامٌ، مجدٌ كاملٌ، وهو مختلفٌ عن المجد الحاصل عليه القديسون الآخرون في الملكوت: (فهذه الملاحظة هي حسنةٌ) على أنه أي نعم حقٌ هو أن كلاً من القديسين يتمتع في السماء بسلامٍ تامٍ، وبراحةٍ ونعيمٍ كاملٍ. ولكن مع ذلك أمرٌ حقيقي هو، أنه ولا واحدٌ منهم يتمتع بذاك المجد الأعظم، الذي لكان يمكنه أن يفوز هو به في السعادة الأبدية، لو كان خدم الله على الأرض بأعظم أمانةٍ، وأحبه أشد حباً مما خدمه وأحبه في مدة حياته. فمن ثم ولئن كان الطوباويون في السماء لا يشتهون راغبين أن يملكوا مجداً أعظم مما قد حصل كلٌ منهم عليه. بل أنهم جميعاً هم راضون بما قد فازوا به، فمع ذلك يوجد الموضوع لاشتهاء شيءٌ أعظم، يكون هذا ممكناً. ثم كذلك حقٌ هو أن الخطايا المفعولة على الأرض من بعض هؤلاء القديسين قبل تبريرهم منها، لا يمكن أن توجب لهم عنها عقاباً ما في النعيم الأبدي، ولا يعاقب الزمان الضائع منهم على الأرض، أي الذي لم يكتسبوا فيه استحقاقاً ما. ولكن مع هذا فأمرٌ صادقٌ هو لا يستطاع إنكاره، أن الخير الأوفر أو أعمال البر الأعظم الممارسة على الأرض من البعض منهم، تسبب لهؤلاء فرحاً أعظم وتعزيةً أكمل. ومثل ذلك يحدث للذين حفظوا بر المعمودية غير مدنسٍ، ولم يضيعوا من الزمن شيئاً سدى بدون أعمالٍ ذات استحقاقٍ. أما مريم البتول فلا ترغب ولا يمكنها أن تشتهي نوال شيءٍ أعظم، إذ أن الظروف المشار إليها لم تلتحق بها أصلاً. على أن القديس أوغوسطينوس يقول: ترى من من القديسين الكائنين في السماء إذا سئل أن كان هو صنع خطيئةً ما على الأرض فيقدر أن يجيب، لا، ما عدا مريم البتول فقط التي هي وحدها تستطيع أن تجيب، كلا، لأنه كما حدد المجمع المسكوني التريدنتيني، المقدس (في القانون 13من الجلسة 6): أن مريم العذراء لم ترتكب أصلاً خطيئةً ما على الإطلاق، حتى ولا أصغر النقائص. على أن هذه السيدة المجيدة ليس فقط لم تفقد قط نعمة التقديس، ولم تضعفها أصلاً، بل أيضاً لم تترك هذه النعمة الإلهية بطالةً من العمل، ولم تمارس مطلقاً عملاً ما لم يكن ذا إستحقاقٍ، ولا تكلمت قط كلمةً، ولا قبلت فكراً ما، ولا تركت من أنفاسها شيئاً من دون أن توجه ذلك جميعه لمجد الله الأعظم. وبالإجمال أنها لم تفتر بالكلية، ولا توخرت هنيئةً من الزمان خلواً من الانعطاف نحو الله والالتجاء إليه. وبالتالي لم تخسر شيئاً ما خسارة الكسل والتهاون، بل دائماً سعت مع نعمة الله بكلية قواها واستطاعتها. وأحبته عز وجل بكل ما أمكنها أن تحبه، وبذلك تقدر أن تقول نحوه الآن في السماء: يا سيدي إن كنت أنا ما أحببتك بمقدار ما أنت تستحق، فقلما يكون أحببتك بمقدار ما أسطتعت أنا أن أحبك.*
ثم أن النعم الإلهية قد أعطيت للقديسين بأنواعٍ مختلفةٍ، كما يقول رسول الأمم القديس بولس: أن المواهب والنعم هي متميزة: ومن ثم إذ كان كلٌ منهم قد سعى مع النعمة التي أعطيت له. فقد ظهر هو معتبراً في فضيلةٍ ما بنوعٍ متميز عما سواها. فمنهم من تلألأ في إكتساب الأنفس واقتادها إلى الخلاص. ومنهم أشرق في سيرة النسك وأفعال الإماتات الشاقة جداً. ومنهم من لمع في احتمال التعاذيب المبرحة. ومنهم من تسامى في الثاوريا والغوص في الأمور السماوية. ولذلك تقول الكنيسة المقدسة في احتفالها بعيد كل من هؤلاء القديسين: أنه لا شبيه له: وأنه كموجب الاستحقاقات يتميز القديسون بعضهم عن بعضٍ بالمجد في السماء، لأن نجماً يفضل على نجمٍ في البهاء: (قرنتيه أولى ص15ع41) فالرسل يتميزون عن الشهداء والأبرار والمعترفون عن البتولات. والذين حفظوا بر المعمودية عن الذين قد أخطأوا وصنعوا توبةً، فأما البتول مريم المثلثة القداسة، فمن حيث أنها وجدت ممتلئةً من النعم كلها. فقد ظهرت في كل الفضائل أسمى من كل من القديسين في فضيلته التي تلألأ هو بها، وأكمل من فضائلهم كافةً. فهي وجدت رسولةً أعظم من الرسل. وسلطانةً للشهداء لكونها تألمت أكثر منهم جميعاً. ومقداماً وقائدةً للبتولين والعذارى. ونموذجاً وقدوةً للمتحدين بسر الزواج، ومارست هي في ذاتها أنواع الإماتات وبالإجمال قد جمعت في قلبها الفضائل كلها بأعلى درجاتها، متساميةً بكلٍ منها على أسمى فضيلةٍ بلغ إليها كلٌ من القديسين. ولذلك قيل عنها: قامت الملكة من عن يمينك مشتملةً بثوبٍ مذهبٍ موشى: (مزمور 45ع10) لأن كل النعم وجميع الفضائل وسائر الاستحقاقات التي تزينت بها الأبرار والقديسون، فقد وجدت مجموعةً في شخص هذه الملكة. كما يخاطبها الأنبا جالانسه قائلاً: أن اختصاصات القديسين أجمعين قد انجمعت فيكِ بجملتها:*
ومن ثم يقول القديس باسيليوس الكبير: أنه كما أن نور الشمس يفوق ضياءً على أنوار الكواكب والنجوم كافةً، فهكذا مجد هذه الأم الإلهية يعلو متسامياً على مجد الطوباويين كلهم: ويضيف إلى ذلك القديس بطرس داميانوس بقوله: كما أن أنوار القمر والكواكب والنجوم تغيب مضمحلةً، كأن هذه الأجرام تفقد كونها من الوجود حينما تظهر الشمس مشرقةً، فهكذا مجد مريم العذراء يفوق على مجد جميع الملائكة وسائر البشر حتى كأن هؤلاء لا يعود لهم ظهورٌ في السماء. ولأجل ذلك كتب القديس برنردينوس السياني باتفاق رأي مع القديس برنردوس قائلاً: أن الطوباويين يشتركون في جزءٍ من المجد الإلهي، أما البتول مريم فقد أغنيت بالمجد بنوعٍ خاص بهذا المقدار، حتى يبان أنه لمن المستحيل أن خليقةً ما يمكنها أن تتحد مع الله أشد اتحاداً، مما فازت بالاتحاد معه تعالى هذه العذراء المجيدة: ويضاف إلى هذا ما حرره الطوباوي ألبارتوس الكبير بقوله: أن ملكتنا السعيدة تشاهد الله وتتمتع بالتأمل فيه بأكثر قربٍ، بنوعٍ فائقٍ عادم القياس على ما يتمتع بالنظر إليه الأرواح السماويون بأجمعهم: بل أن القديس برنردينوس السياني عينه يقول: أنه كما أن سائر الكواكب أو الأجرام السماوية الأخرى تستمد الضياء من الشمس، فهكذا جميع الطوباويين يكتسبون مجداً أعظم ونعيماً متفاضلاً بواسطة مشاهدتهم مريم البتول في مجدها: ويقول في عظته على نياحها: أن هذه العذراء المغبوطة حينما ارتقت إلى السماء ضاعفت نعيم سكانه أجمعين. وقد كتب القديس بطرس داميانوس: أنه لا يوجد عند الطوباويين في السماء مجدٌ أعظم بعد الله. من أنهم يتمتعون بالنظر إلى هذه الملكة الكلية الجمال: ويقول القديس بوناونتورا: أن مجدنا الأعطم ونعيمنا الألذ بعد الله هو في مريم البتول:*
فلنفرح إذاً مبتهجين مع مريم لأجل سمو العرش وعلو المرتبة التي رفعها الله إليها في السماء ولنسر فرحين مع ذواتنا، لأن أمنا هذه إذ تركتنا على الأرض بارتقائها إلى الملكوت منفصلةً عنا بالجسد، فلم تتركنا من حبها ولم تنفضل عنا بانعطافاتها نحونا. بل بالأحرى لكونها الآن في السموات أكثر قرباً إلى الله، وأشد اتحاداً به تعالى، فتعلم بأفضل نوعٍ حال شقائنا، ومن هناك تتشفق علينا أوفر إشفاقاً، وتقدر بأسهل طريقة أن تسعفنا وتعيننا. ومن ثم يخاطبها القديس بطرس داميانوس قائلاً: أهل أنكِ أيتها العذراء المغبوطة نسيتينا نحن البائسين المضنوكين لأجل أنكِ ارتفعتِ في السموات إلى مقامٍ هكذا عظيمٍ، كلا، والعوذ بالله من التفكر بذلك، لأن قلباً هذه صفة رأفته وحنوه نظير قلبكِ، لا يقدر أن لا يشفق على شقائنا وألا يحنو علينا. ويقول القديس بوناونتورا: أنه أن كان بهذا المقدار وجدت عظيمةً رأفة هذه السيدة نحونا حينما كانت هي عائشةً على الأرض، فحنوها الآن هو أعظم من ذلك في حال كونها متملكةً في السموات.*
فلنخصص ذواتنا إذاً لخدمة هذه الملكة. ولننعش فينا روح عبادتنا لها وتكريمنا وحبنا إياها بمقدار ما يمكننا: لأنها ليست هي نظير المسلطين والملوك الآخرين (يقول ريكاردوس الذي من سان لورانسوس) الذين يثقلون على رعاياهم حمل إيفاء الأموال والخراجات والخسائر، بل أن ملكتنا هذه تغني عبيدها وخدامها بالنعم والاستحقاقات والمكافأة. ولنصل إليها متضرعين مع الأنبا غواريكوس بقوله لها: أنكِ يا أم الرحمة أنتِ جالسةٌ بالقرب من الله سلطانةً للعالم على عرشٍ هكذا سامٍ، فأشبعي حسناً من مجد أبنكِ يسوع. وأرسلي إلينا نحن عبيدكِ الفتات الذي يزيد عنكِ، فأنتِ إنما تتنعمين على مائدة الرب، ونحن المساكين نوجد تحت هذه المائدة ههنا في الأرض نظير كلابٍ صغيرة حقيرة، نطلب منكِ الرأفة والشفقة، فأرحمينا وترأفي علينا يا أم الرحمة.*
* نموذج *
أن الأب سلوانس راتسي يخبرنا ( في كتابه الثالث على عجائب العذراء) عن أحد أصحاب الوظائف الكنائسية الصغيرة، الذي كان جزيل العبادة والمحبة نحو سلطانتنا البتول المجيدة. فهذا إذ سمع وصف كيفية جمال هذه الملكة السماوية الفريد الفائق البهاء. فقد اشتد غرامه مشتهياً أن يرى مرةً واحدةً سيدته هذه الجميلة. ومن ثم قد ألتمس منها بتضرعاتٍ حارةٍ متضعةٍ أن تهبه هذه النعمة. فالعذراء الرؤوفة أرسلت إليه أحد الملائكة يقول له عن لسانها، أنها تريد هي أن تتنازل لقبول ألتماسه بأن تجعله أن يشاهدها. ولكن بهذا الشرط، وهو أنه بعد أن يراها هو مرةً واحدةً يفقد نظره ويصير أعمى. فالرجل العابد المومى إليه قد اقتبل هذا الشرط. وهوذا الطوباوية مريم البتول قد ظهرت له يوماً ما، ففي الابتداء لكيلا يبقى هو أعمى بالكلية قد اكتفى بأن يغلق عينه الواحدة، وينظر الى هذه السيدة بالعين الأخرى. ولكنه لشدة ما أنبهر من جمالها وما تنعم بمشاهدتها، قد فتح عينه الثانية ليتأملها جيداً بنظره كله. إلا أن والدة الإله قد غابت عنه حالاً قبل أن يراها بهذه العين الثانية التي استمرت مفتوحةً والأخرى قد فقد بصرها. فالمسكين أشتمله الحزن وطفق يبكي ليس لأجل عمائه من العين الواحدة، بل لأجل أنه لم يتأمل هذه السيدة حسناً منذ الأبتداء بعينيه كلتيهما. ولهذا شرع يتوسل إليها جديداً في أن تتنازل لأن تظهر له مرةً ثانيةً، غير مبالٍ من أن يفقد بصر عينه الأخرى الباقية له وهكذا يعود أعمى بالكلية، وكان يقول لها: أني أعتد ذاتي سعيداً وأكون مسروراً راضياً يا سيدتي بأن أصير أعمى من عيني كلتيهما، لأجل هذه الغاية وهي لكي أعود مغرماً أشد غراماً بحبكِ وبحرارة تعبدي لكِ. فالبتول المملوءة إشفاقاً قد انعطفت لدموعه واستجابت طلبته وظهرت له مرةً أخرى. ولكنها إذ لا تعرف أن تسبب لأحدٍ غماً أو ضرراً ففي ظهورها هذا الثاني له ليس فقط لم تشاء أن يعدم هو بصر عينه الصحيحة، بل أنها قد ردت إليه بصر عينه الأولى. وهكذا أملأته تعزيةً كاملةً وسروراً تاماً.*
† صلاة †
إننا ونحن في وادي البكاء هذا نجثوا لدى عرشكِ أيتها السيدة العظيمة الكلية المجد، ساجدين لكِ ولو عن بعدٍ، وفرحين معكِ قلبياً لأجل المجد الفائق الإدراك الذي أغناكِ به الرب. فأنتِ التي الآن جالسةٌ سلطانةً على السموات والأرض، لا تنسينا نحن عبيدكِ الفقراء البائسين، ولا تأنفي من أن ترمقينا بنظركِ الرحيم. من علو البلاط السماوي الذي أنتِ فيه متملكةً نحن الأذلاء الحقيرين، فأنتِ بمقدار كونكِ قريبةً من ينبوع النعم، فبمقدار ذلك تستطعين بسهولةٍ أن تسعفينا وتغني فقرنا، لأنكِ أنتِ الآن في السماء تعرفين أفضل معرفةً حال شقائنا. ومن ثم يلزم أن تشفقي علينا وترثي لذلنا، وتفتقدينا بأوفر سخاءٍ. فأجعلينا نكون عبيداً أمينين نحوكِ في الأرض، ليمكننا بعد ذلك أن نأتي إلى السماء لنبارككِ ونسبحكِ إلى الأبد، وها نحن نكرس ذواتنا لعبادتكِ وخدمتكِ في هذا اليوم الذي في اليوم الذي في مثله أنتِ صرتِ سلطانة العالمين. فأقبلينا عبيداً لكِ في حال فرحكِ العظيم المختص بهذا العيد، إذ أنتِ إذاً هي أمنا. فيا أيتها الأم الكلية الحلاوة والمستحقة منا حباً عظيماً. أن هياكلكِ الآن محاطةٌ من شعوبٍ كثيرين. ومنهم من يلتمس منكِ أن تشفيه من مرضٍ ما. ومنهم من يتوسل إليكِ بأن تسعفيه في أحتياجه الخصوصي، ومنهم من يطلب منكِ خصب أثمار أراضية، وغيره يسألكِ أن يربح دعوةً ما مقامةً له في ديوان الشريعة، أما نحن فنلتمس منكِ نعماً أكثر قبولاً لدى قلبكِ الحنون، وهي أن تستمدي لنا من الله أن نكون مثلكِ متواضعين. غير متعلقي القلوب بمحبة خيرات هذه الأرض. محسنين تسليم إرادتنا بالتمام لمشيئة الله. وألتمسي لنا منه تعالى حبه المقدس، وميتةً صالحةً، ونوال الفردوس السماوي، وأنقلينا أيتها السيدة من حال الخطيئة الى حال القداسة، وأن صنعتِ هذه الأعجوبة فهي تسديكِ كرامةً أفضل مما أن تهبي النظر إلى ألف إنسانٍ أعمى وتفتحي أعينهم، ومما أن تردي إلى الحياة ألفاً من الموتى، فأنتِ أمام الله هكذا مقتدرةٌ، ويكفي القول أنكِ والدته والأكثر معزةً لديه الممتلئة نعمةً منه. فإذاً ماذا يمكنه هو أن ينكر عليكِ، أما نحن يا ملكتنا الكلية الجمال فلا ندعي مؤملين أن نشاهدكِ في الأرض، بل نريد أن نأتي إلى السماء لنراكِ هناك. الأمر الذي يخصككِ أن تناليه لنا، فهكذا نرجوا بتأكيدٍ آمين.
†
No Result
View All Result
Discussion about this post