كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
في العبادة تجاه العذراء مريم
فأمرٌ معروفٌ من الجميع، هو أنَّ العبادة المُختصَّة بالورديَّة المقدسة، قد أُوحيَ بها من والدة الإله عينها للقديس عبد الأحد، حينما كان مُمتلئاً من الهموم. لأجل أنَّ الهراطقة الألبيجازيين، كانوا وقتئذٍ يُسبِّبون للكنيسة أضراراً عظيمة. ولذلك أخذ هذا القديس يتشكّى لسيّدته الأُم الألهيَّة من تلك الحال السيئة، فأجابته قائلةً له في الوحي: “إنَّ هذه الأرض ستلبث عقيمةً من الثمار، إلى حينما تنحدر عليها الأمطار”. فالقديس حينئذٍ فهم أنَّ الأمطار المومَى إليها، قد كانت المسبحة الورديَّة.
كم من الناس بواسطتها تخلَّصوا من رذائلهم ومآثمهم. وكم هم الذين بممارستهم إيّاها، حصلوا على سيرةٍ فاضلةٍ وحياةٍ مُقدسة، وفازوا أخيراً بميتةٍ صالحةٍ، وهم الآن في الفردوس السماوي.
ويكفي القول أنَّ هذه العبادة قد تثبَّتت من الكنيسة المُقدسة، وإنَّ الأحبار الرومانيين قد أغنوها من الغفرانات. فقد منحوا لكلّ من يتلو ثُلث هذه المسبحة الورديَّة، غفران سبعين ألف سنةً، وأكثر من ذلك لكل من يتلوها أمام هيكل الورديَّة. والبابا “بنديكتوس الثالث عشر” أعطى لكلّ من يتلو من المسبحة الورديَّة قلمّا يكون ثلثها، مُستعملاً إحدى المسابح المُباركة من الآباء، رهبان القديس عبد الأحد. كلّ الغفرانات الممنوحة لمسبحة القديسة بريجيتا، أي غفران ماية يوماً على كلٍّ من السلام عليكِ يامريم، ومثله على كلٍّ من الأبانا الذي في السماوات.
وإنَّ مَن يُمارس هذه العبادة، يكتسب غفراناً كاملاً في كلٍّ من أعياد والدة الإله، ومن الأعياد الكنسيَّة المُتميزة، وكذلك في أعياد القديسين الذين من قانون البار عبد الأحد، بزيارة كنائسهم بعد الإعتراف والتناول.
ثمَّ يجب أن تُتلى المسبحة الورديَّة بحُسْن عبادةٍ، وفي هذا الشأن قالت العذراء الكليَّة القداسة عينها للطوباوية أفلاليا: “إنها هي تقبل أفضل قبولاً تلاوة خمسة بيوتٍ بإنتباهٍ وعبادةٍ، من تلاوتها كلها أي الخمسة عشر بيتاً بإسراعٍ ودمجٍ، وبعبادة فاترة”. فأمرٌ جيدٌ جداً هو أن تُتلى هذه المسبحة، ممَّن يكون جاثياً على رُكبتَيه، وأمام إحدى أيقونات والدة الإله. وإنه عند بداية كلّ بيتٍ منها، يُمارس باطناً فعل حبٍّ نحو يسوع ووالدته بعواطف قلبيَّة، طالباً منها نعمةً ما. ثمَّ يُفيد كثيراً أن تُتلى هذه المسبحة من كثيرين معاً، أفضل من تلاوتها من شخصٍ بمفرده.
إنَّ كثيرين من المُتعبّدين لهذه الأُم الإلهيَّة، قد إعتادوا أن يُكرِّموها بصيامهم على الخبز والماء في أيام السبوت، وفي بيرمونات أعيادها. فأمرٌ واضحٌ، هو أنَّ الكنيسة المُقدسة قد كرَّست نهار السبت لتكريم هذه السيّدة الشريفة. لأنه كما يقول القديس برنردوس في يوم السبت بالخصوص: “قد تلألأت فضيلة إيمانها الثابت في إبنها بعد موته ودفنه”.
إنَّ الأب بولس السنيري يقول: “إنَّ الشيطان لم يعرف أن يُعزّي ذاته، نوعاً عن الخسارة التي ألمَّت به في مُلاشاة العبادات الوثنية القديمة، إلا بواسطة إستخدامه الهراطقة في إضطهاد الأيقونات المُقدسة. ولكن كنيسة المسيح الجامعة، قد دافعت عن تكريم هذه الأيقونات، حتى بِسَفك دماء شُهداء كثيري العدد. وكذلك البتول الأُم الإلهيَّة، قد أظهرت بواسطة عجائب عظيمةٍ وعديدةٍ، كم هو مقبولٌ لديها تكريم أيقوناتها الطاهرة. فقد قُطِعَت يد القديس يوحنا الدمشقي، لأجل أنه إستخدمها بتحريك قَلَمه الجليل في المدافعة عن أيقونات هذه السيّدة، غير إنّ سلطانة العالمين هذه، قد ردَّت إليه يده صحيحةً بأُعجوبةٍ شهيرة.
يقول القديس يوحنا الدمشقي: “إنّ هذه الأيقونات والكنائس المختصَّة بوالدة الإله، هي مُدُن الملجأ والحماية، التي بهربنا إليها، نجد النجاة من وثبات أعدائنا الجهنّميين، الذين يحاربونا بالتجارب، ثمّ الخلاص من العقوبات التي إستحقّيناها بخطايانا المفعولة منّا”.
فالملك القديس أنريكوس كان من عادته في حين دخوله إلى كلٍ من المدن، أن يزور قبل كل شيء إحدى الكنائس الكائنة هناك على إسم العذراء المجيدة.
نحو سنة 1251، قد ظهرت والدة الإله للطوباوي سمعان سطوكيوس، الذي من بلاد إنكلترا، وإذ أعطته ثوبها بالصورة المصنوع بموجبها ثوب السيدة. وقد قالت له: إنَّ أولئك الذين يحملون في أعناقهم هذا الثوب، ستخلُص أنفسهم من الهلاك الأبدي. وهذه ألفاظها عينها وهي: “إقتبل مني يا إبني العزيز هذا الثوب الذي هو الإسكيم، علامةً لأخويَّتي التي هي رهبنتكَ، وهو خاصٌ لكَ ولجميع الرهبان الكرمليين. فكلّ من يموت وهو حاملٌ في عُنُقه هذا الثوب، فلا يحترق في النيران الأبديَّة”.
ثمَّ إنَّ الأب كراسات عينه، يُبرهن بأنَّ هذه السيّدة قد ظهرت مرةً أُخرى للحبر الأعظم “يوحنا الثاني والعشرين”، وأمَرَته بأن يُعرِّف أولئك الذين يحملون ثوبها المذكور، بأنَّ أنفسهم عتيدةٌ أن تخلُص من العذابات المطريَّة، في نهار السبت الأول الذي يأتي بعد موتهم. حسبما أوضح ذلك، الحبر الروماني نفسه في منشوره الرسولي، الذي أعلنه بعد هذه الرؤيا، والمُثبَّت فيما بعد من الباباوات “ألكسندروس الخامس” و”إكليمنضوس السابع” وغيرهما.
والحبر الأعظم “بولس الخامس” يُفسِّر مراسيم أسلافه، بشرحه الشروط التي بموجبها تُكتسَب الغفرانات الممنوحة لهذه العبادة. وهي حفظ العفَّة بقدر إستطاعة كلّ إنسانٍ في دعوته، وتلاوة الفرض الوجيز المُختصّ بوالدة الإله، وأنَّ الذي لا يُمكنه أن يتلو هذا الفرض، فيحفظ قلمّا أصوام الكنيسة، مُمتنعاً عن أكل اللحم نهار الأُربعاء.
وأما الغفرانات الممنوحة لأُولئك الذين يحملون ثوب سيّدة الكَرْمِل، ومثله ثوب أحزان العذراء، وثوب سيّدة النجاة، وخاصةً ثوب الحَبَل بلا دَنَس. فهي غُفرانات لا تُحصى عدداً، كاملةً وغير كاملةٍ، يوميَّةً وشهريَّةً وسنويَّةً، في مدة الحياة وساعة الموت.
† خبر †
“من يَجِدْني، يَجِد الحياة، ويَستقي الخلاص من عند الربّ” (أمثال 8/5).
كَتَبَ الأب أورياما في الرأس 11 من المجلد 2 من تأليفه، عمّا أخبر به الطوباوي ألانوس عن إمرأةٍ شريفةٍ إسمها عَبدة الأحد، التي في الأول كانت مثابرةً على تلاوة الورديَّة المقدسة، إلا أنها أهملت فيما بعد تلاوتها بالكلية، فأحاط بها الفقر من كل ناحيةٍ بهذا المقدار، حتى إنها يوماً ما لأجل يأسها من الحياة، قد ضربت ذاتها بالسكين ثلاث ضرباتٍ، وانطرحت في الأرض مُشرفةً على الموت.
ولكن إذ كانت في حال النزاع والشياطين مُنتظرين موتها ليأخذوا نفسها، قد ظهرت لها البتول الكليَّة القداسة وقالت لها: “إنكِ قد نَسيتيني يا إبنتي، ولكنني أنا ما نسيتكِ لأجل مسبحة الورديَّة، التي حيناً ما كنتِ تصلّين بها تكريماً لي، فإذاً إن كنتِ تعودين إلى تلاوتها، فأنا أَرُّدُ لكِ الحياة الجسديَّة، والموجودات الزمنيَّة معاً التي فقدتيها”. فعَبدة الأحد نَهَضَتْ حينئذٍ من الأرض سالِمةً، وأخذت تواظب على تلاوة الورديَّة بكلِّ عبادةٍ، وحصلت على موجوداتها الفاقدة، وعند موتها قد زارتها من جديد هذه الأُم الإلهية، ومَدَحَتْها على أمانتِها.
نموذج (1)
إنه لمدونٌ في سيرة حياة القديسة كاترينا المختصّة بالقديس أوغسطينوس. أنه في المكان الذي فيه كانت موجودةً خادمة الرب هذه، قد كانت هناك امرأة اسمها مريم، التي إذ أنها منذ حداثتها قد كانت تمرّغت في حمأة المآثم، وتأصلت فيها الرذائل الشنيعة.
فحينما تقدمت في العمر والسنين لم تكن بعد تركت سيرتها الأولى الرديئة المدّنسة بهذا المقدار من الخطايا. حتى أنَّ أهل بلدتها قد طردوها من وطنهم، ونفوها إلى مغارةٍ بعيدةٍ عنهم. كي تعيش هناك حيث ماتت فيما بعد مرذولةً منتةً، من دون تناول الأسرار المقدسة، ولذلك قد دفنت جثتها في أحد الحقول كجثة وحشٍ مكروهٍ.
فالبارة كاترينا، التي كانت من عادتها أن تقدم تضرعاتٍ حارةً، من أجل أولئك الذين كانت تسمع عنهم أنهم فارقوا هذه الحياة بالموت. فقد أهملت الصلاة من أجل نفس هذه المرأة التعيسة، لظنها فيها نظير ما كان ظنّ الجميع، أنها قد ماتت هالكةً في الجحيم. فبعد أن مضى من الزمن أربع سنوات، وإذا يوماً ما بنفسٍ من الأنفس الكائنة في المطهر، قد ظهرت للبارة كاترينا قائلةً لها: أيتها الأخت كاترينا كم هو تعسٌ حظي، فأنتِ دائماً تتوسّلين لله من أجل إسعاف كل الأنفس، التي تسمعين خبر انتقالها من هذه الدنيا.
فكيف من أجلي أنا فقط لم توجد عندكِ شفقةٌ. فعبدة الربّ كاترينا قد سألتها قائلةً: ومن هي أنتِ. فأجابتها هذه النفس بقولها: إني هي تلك المرأة المسكينة مريم، التي ماتت منفيةً في المغارة. فأردفت عليها السؤال كاترينا مستفهمةً بقولها لها: كيف جرى الأمر، أهَل أمكنك أن تخلصي من الهلاك. فأجابتها: نعم أنني فزت بالخلاص بواسطة مراحم مريم البتول. فقالت لها كاترينا: وكيف تمّ ذلك.
فأخذت تلك تخبرها قائلةً: إنني حينما رأيت ذاتي مدنفةً قريبةً من الموت، فإذا تأملت في شقاوتي. وفي كم أنني مملؤةً من المآثم ومهملةٌ من الجميع، فقد إتّجهت نحو والدة الإله قائلةً لها: أنك أيتها السيدة أنت هي ملجأ المتروكين المهملين، فأنت هي رجائي الوحيد وانت وحدكِ تقدرين أن تعينيني، فأرحميني وترأفي عليَّ: فالبتول القديسة قد استمدت لي من الله نعمة الندامة الصادقة.
وهكذا قد مُت ونجوت من الهلاك، ثم إنَّ القديسة ملكتي قد استماحت لي من الرب هذه النعمة أيضاً. وهي أنَّ زمن إقامتي في العذابات المطهريَّة لا يكون مستطيلاً، بل اختصرته لي بنوع أني أتكبّد العذاب مضعفاً، بدلاً مما كان يلزمني أحتمله أزمنةً مستطيلةً من السنين، ولذلك فأنا الآن لست محتاجةً، لأجل خلاصي من المطهر، سوى إلى بعض قداديس، تتقدم لله من أجلي.
فمن ثمّ أتوسّل إليكِ بأن تهتمي في أن تصيري بعض الكهنة أن يتمم ذلك، وأنا أعدك بأن أتضرّع من أجلك دائما لدى الله ولمريم البتول. فالبارة كاترينا من دون تأخيرٍ، قد اجتهدت في تقدمة تلك القداديس عن نفس مريم المذكورة، التي ظهرت لها مرةً ثانيةً بعد أيام وجيزة، ملتحفةً بالأنوار الأكثر لميعاً من ضياء الشمس وقالت لها: إنني أشكر فضلكِ أيتها الأخت كاترينا، فهوذا أنا الآن منطلقةٌ إلى السماء لكي أسبِّح رحمة الله إلهي وأتضرّع لديه من أجلكِ.*
نموذج (2)
إنَّ الأب بوفيوس يخبرنا فيما بين الأشياء الأخرى، عن إمرأة رديئة السيرة اسمها هيلانه. فهذه إذ اتّفق لها يوماً ما بطريق الصدفة، أن تستمع في الكنيسة عظةً مختصةً بالوردية، فلما خرجت من المعبد الإلهي، اشترت مسبحةً من مسابح الوردية، إلا أنها حملتها خفيةً كيلا يراها أحدٌ، ثم شرعت فيما بعد تمارس صلاة هذه المسبحة، ومع إنها كانت تتلوها من دون عواطف العبادة، فمع ذلك قد أفاضت البتول القديسة في قلبها عذوبةً وتعزيةً بهذا المقدار عظيمةً عندما كانت تصلّي بها، حتى إنها ما عادت تعرف تهمل تلاوتها، وبذلك قد حصل عندها تكرهٌ ونفورٌ من سيرتها القبيحة، بنوع إنها لم تعد تحتمل توبيخ ضميرها الشديد، أو تجد راحةً لأفكارها القلقة.
ومن ثم شعرت بنفسها منجذبةً بإغتصابٍ، إلى أن تمضي تعترف بخطاياها في منبر التوبة. كما فعلت حقاً بتوجعٍ وندامةٍ قلبيةٍ بهذا المقدار عظيمةٍ، حتى إنَّ معلّم اعترافها قد استوعب من ذلك إنذهالاً، فبعد نهاية الاعتراف ذهبت أمام هيكل والدة الإله، لكي تقدم الشكر لمعينتها هذه المقتدرة، وهناك أكملت صلاة الوردية، فالأم الإلهية قد تنازلت لأن تخاطبها من تلك الأيقونة قائلةً لها: يكفيكِ يا هيلانه ما قد أغظتِ به الله لحد الآن، وما أهنتيني به، فمنذ هذا اليوم فصاعداً غيّري سيرتكِ، وأنا سأهبكِ جانباً ليس بقليلٍ من إنعامي. فهيلانه الخاطئة المسكينة قد امتلأت خجلاً وإنذهالاً وأجابتها هاتفةً: أيتها البتول الكلية القداسة، إنني بالحقيقة قد عشت لحدّ هذا الوقت خاطئةً أثيمةً شقيةً دنسةً، ولكن أنتِ من حيث أنكِ قادرةٌ على كل ما تشائين، فعينيني لأني أهبكِ ذاتي بجملتها. وأريد أن أصرف ما بقي من حياتي في أعمال التوبة وفاءاً عن مآثمي.
ثم خرجت من الكنيسة وبمعونة والدة الإله قد وزعت كل ما كانت تملكه على الفقراء والمحتاجين، وشرعت تمارس أفعال التوبة الأشد صرامةً. فأي نعم أن التجارب قد نهضت لمحاربتها ووثبت عليها بقوةٍ كلية. إلا أنها أي هيلانه لم تكن تغفل عن الإلتجاء المتصّل إلى مُعينة التائبين، وبذلك كانت دائماً تنتصر على أعدائها الجهنميين، وقد حصلت على إنعامٍ وافرةٍ فائقة الطبيعة، حتى إنها فازت بأوحيةٍ وجلياناتٍ سماوية وبروح النبوة أيضاً. وأخيراً قبل نياحها بأيامٍ وجيزة، قد أنذرتها والدة الإله مخبرةً إياها عن وقت خروجها من هذه الحياة. ولما جاءت الساعة قد حضرت إليها هذه الأم الإلهية عينها، مع ابنها الحبيب لتعزيتها، وعند انفصالها من الجسد قد شوهدت نفسها بصورة حمامةٍ بيضاء جزيلة الجمال، قد تراءت متطايرةً إلى السماء لتمجّد الله في السعادة الأبدية سرمداً.*
نموذج (3)
إنها لشهيرة هي حياة القديسة مريم المصرية، المدوّنة في الكتاب الأول من سير الآباء. فهذه إذ كان عمرها إثنتي عشرة سنةً، هربت من بيت أهلها ومضت إلى المدينة الإسكندرية، حيث عاشت بسيرة هكذا قبيحة، حتى إنها صارت حجر عثرةٍ لجميع سكان المدينة. فبعد أن استمرت على عمل القبائح مدة ست عشرة سنة، مضت إلى أورشليم في زمن الإحتفال بعيد رفع الصليب المقدس. وتحركت لأن تدخل هي أيضاً إلى الكنيسة بروح التفرج أحرى مما بروح العبادة، ولكن عندما دنت من باب المعبد الإلهي، شعرت بيدٍ غير منظورة كانت تردها غصباً إلى الوراء، كيلا تدخل داخلاً، وإذ امتحنت الأمر مرةً ثانيةً ثم ثالثةً ورابعةً، ومُنعَت بقوةٍ فائقة الطبيعة عن الدخول إلى الكنيسة.
فحينئذٍ قد انفردت في ناحيةٍ من النرتكس، وعرفت الشقية ليس من دون إشراق النور الإلهي في عقلها، أنَّ الله لأجل قبائح سيرتها قد كان يرذلها من كنيسته أيضاً، فلأجل حسن حظها قد رفعت عينيها حيث كانت، فرأت أمامها على الحائط أيقونة العذراء المجيدة، فإتجهت نحوها بدموع قائلةً: يا والدة الإله ارحمي هذه الخاطئة المسكينة، فأنا ألاحظ أنه لأجل كثرة خطاياي لا أستحقّ أن تنظري إليَّ، ولكن أنتِ هي ملجأ الخطأة، فعينيني حبّاً بإبنكِ يسوع، واجعليني أن أدخل الكنيسة، لأني أريد أن أغيّر سيرتي، وأمضي فأمارس أفعال التوبة حيثما تريدين. فحينئذٍ قد شعرت كأن البتول القديسة كانت تقول لها باطناً: أنه لأجل أنكِ التجأتِ إليَّ قاصدةً أن تتوبي عن مآثمكِ، فأنهضي وأدخلي الكنيسة لأنَّ بابها عاد مفتوحاً لكِ. فقامت ودخلت بيت الرب وسجدت للصليب المقدس وبكت على خطاياها، ثم رجعت أمام الأيقونة قائلةً: يا سيدتي أوضحي لي أين أنفرد لعمل التوبة.
إذ إني مستعدةٌ لأن أتمم ما ترسمينه عليَّ. فأجابتها العذراء الطوباوية بقولها: اذهبي إلى جايز الاردن، وهناك تجدين مكان راحتكِ. فانطلقت واعترفت بخطاياها وتناولت القربان الأقدس واجتازت نهر الاردن، ودخلت إلى القفر الذي فهمت هي أنه فيه كان يلزمها أن تباشر أفعال التوبة. ففي مدة السبع عشرة سنة الأولى التي مكثت بها في ذلك القفر، قد احتملت محارباتٍ شديدةً من التجارب الشيطانية، ولكن ماذا كانت تصنع هي حينئذٍ، إنها لم تكن تفعل شيئاً آخر سوى الإلتجاء المتصّل لوالدة الإله.
وهذه الأم الرؤوفة قد استمدت لها من الله قوةً، لأن تقاوم الأرواح الجهنمية في بحر تلك السنين وتنتصر عليها، وهكذا عند نهاية السبع عشرة سنة قد هدأت عنها التجارب، واستمرت هي في ذلك القفر إلى حد السنة السابعة والخمسين من انفرادها فيه. فلما بلغت إلى السنة السابعة والثمانين من حياتها. فبعنايةٍ إلهيةٍ قد وجدها هناك الأنبا القديس زوسيموس، الذي أخبرته هي بسيرة حياتها كلها، وتوسّلت إليه بأن يأتيها في السنة المقبلة بالقربان الأقدس. كما تمّم هو مطلوبها برجوعه إليها وبمناولته إياها السرّ المسجود له، ثم بعد ذلك تضرّعت إليه بأن يزورها في السنة الأخرى أيضاً. إلا أنه حينما رجع إليها في الميعاد قد رآها مائتةً، وكان جسدها محاطاً بأشعةٍ نورانيةٍ، ورأى مكتوبةً عند رأسها هذه الكلمات وهي: أدفن في هذا المكان جسدي أنا الخاطئة المسكينة وصلّي من أجلي لدى الله. فقد دفنها عندما جاء إليه أسدٌ وحفر له الأرض، ثم رجع إلى ديره وأخبر بعجائب الرحمة الإلهية التي صنعها الله مع هذه التائبة السعيدة.*
† صلاة †
يا سيدتي البريئة من الدنس، أنني أفرح معكِ عند ملاحظتي إياكِ غنيةً بهذا المقدار من سمو النقاوة والطهارة. فأشكر الخالق العام عازماً على أن أشكره دائماً، لأجل أنه حفظكِ بريئةً من دَنَس كل خطيئةٍ. ولكي أحامي عن قضية الحبل بكِ بغير دنس الخطيئة الأصلية، الأمر الذي هو خصوصيةٌ عظيمةٌ وجليلةٌ لائقةٌ بكرامتكِ، فأنا مستعدٌ وأقسم حالفاً، بأني أبيح دمي أن لزم الأمر، وأقبل الموت من أجل تأييدها، ولقد أتمنى أن سكان العالم بأسره يعرفونكِ ويعترفون بأنكِ أنتِ هي نجمة الصبح، التي هي دائماً مشعشعةٌ بالضياء الإلهي. وأنكِ أنتِ هي سفينة الخلاص المختارة ناجيةً من غرق الخطيئة العام. وأنكِ أنتِ هي تلك الحمامة الكاملة البريئة من العيب والخالية من الدنس، كما أوضحكِ عروسكِ الإلهي. وأنكِ أنتِ هي البستان المختوم والجنة المغلقة التي فيكِ وجد العلي تنعمه، وأنكِ أنتِ هي تلك العين المختومة التي لم يدخل إليها العدو ليعكّر أمواهها. وأنكِ أخيراً أنتِ هي زهرة السوسن والزنبق النقي، إذ أنكِ قد نبت فيما بين الأشواك، الذين هم أبناء آدم المولودون مدنّسين بالخطيئة وأعداءً لله، فأنتِ ولدتِ نقيةً طاهرةً بيضاء خليلةً، صديقةً لخالقكِ العظيم.*
فدعيني أمدحكِ أنا أيضاً حسبما مدحكِ إلهكِ قائلاً: كلكِ جميلةٌ يا قرينتي وليس فيكِ عيبٌ: يا حمامةً كلية النقاوة بيضاء بجملتكِ، جميلة بكليتكِ. صديقة الله دائماً. فيا مريم البريئة من الدنس الخالية من العيب الكلية الحلاوة، الموضوع الكلي الحب. فلأنكِ أنتِ بهذا المقدار جميلةٌ في عيني سيدكِ. لا تأنفي من أن تنظري بطرفكِ الشفوق الرحيم إلى جراحات نفسي المثخنة المستكرهة. بل أنظري إليَّ وارحميني واشفيني. فيا حجر مغناطيس القلوب اجتذبي إليكِ قلبي أنا أيضاً الذليل، فأنتِ التي منذ الدقيقة الأولى من حياتكِ قد وجدتِ نقيةً وظهرتِ طاهرةً جميلةً أمام الله. أشفقي عليَّ أنا الذي ليس فقط ولدت بالخطيئة، بل أني بعد المعمودية أيضاً قد دنست من جديد نفسي بالمآثم.
فذاك الإله الآب الذي أنتخبكِ ابنةً له، والإله الإبن الذي أختاركِ أماً له، والإله الروح القدس الذي أختصكِ عروسةً له. ولأجل ذلك قد حفظكِ الثالوث الأقدس بريئةً من كل دنسٍ. وميزكِ بحبٍ متقدم على مخلوقاته كلها، فأية نعمةٍ يمكن أن ينكر عليكِ. إذاً يلزمكِ أن تخلصيني أيتها البتول البريئة من العيب، فأنا أقول لكِ ما كان يقوله نحوكِ القديس فيلبس نيري: اجعليني أن أفتكر بكِ دائماً، وأنتِ لا تنسيني، ولكن تظهر لي إعاقتي عن الحضور لأشاهد جمالكِ السماوي كأنها مدة ألف سنة، حيث أراكِ في الفردوس، لكي أحبكِ أشد حباً، وأسبحكِ يا أمي ويا ملكتي، ويا حبيبتي الكلية البهاء والحلاوة والنقاوة البريئة من كل عيبٍ آمين.*
†
No Result
View All Result
Discussion about this post