كتاب
الإقتداء بمريم
لمؤلف مجهول
الكتاب الثالث:
الفصل التاسع عشر
عن محبة الله
العبد
لقد مت أخيراً أيتها البتول القديسة: وكان موتك ضحية الحب الإلهي! لقد توصل هذا الحب أخيراً إلى أن يلتهم بلهباته الأخيرة الذبيحة التي كان يعدها له منذ أجيال. إن انفصالاً كهذا عن الجسد ماكان يمكن أن يكون إلا نصيب نفس قديسة هذا عظم سخائها مع الله وكمال خضوعها لإرادته وسعة أمانتها معه. ولست بمستغرب من أنك تموتين لشدة الحب، بل عليّ أن أستغرب كيف أمكن لشدة محبتك أن تميتك قبل ذلك! منذ أول خروجك من يد الخالق نقية طاهرة أخترت حبه الإلهي غاية وحيدة لك، ولم يعش قلبك ولم يغتذ إلا بحرارة هذه اللهب التي كانت تلتهمه. لم يكن لك على هذه الأرض طيلة حياتك سوى هذه المحبة، فأفكارك وأشواقك وإلفاظك وأعمالك ومخاوفك ورجاؤك وفرحك وحزنك وكل شيئ فيك كان يدفعك نحوهذا الحب! بمقدار مايعرف الإنسان شيئاً عن عظائم الله وكمالاته بمقدار ذلك يجده مستحقاً المحبة فيحبه، ومن أمكنه من بين كل الخلائق أن يعرفه أكثر منك أو مثلك؟ ياقلوب جميع القديسين: إنك كنت حاصلة على محبة عظيمة ليسوع، إلا أن قلب مريم كان يحوي ملئ هذه المحبة. يا أيها السارافيم: إنكم تحبون كثيراً، إلا أن محبتكم ليست إلا شرارة إزاء هذا أتون محبة مريم ليسوع! يا أم المحبة الجميلة، يجب على الإنسان أن يكون قد أحب مثلك حتى يشرح كم كنت تحبين. أنك تموتين حباً، ونحن لا فقط لا نحيا بالحب بل ولا نجتهد في سبيل الحصول على أن نموت فيه.
مريم
مالذي يشغلك يابني في هذا العالم إذا لاتنشغل بما لأجله خلقك الله في العالم؟ لقد خلقك حتى تحبه. فيا لتعس البشر الذين يستسلمون لكل أنواع المحبة عدا تلك التي ترتكز عليها سعادتهم الزمنية والأبدية. ألق عنك يابني هذه الرخاوة التعيسة التي تتصدى لك في طريق الحب الإلهي وتوقفك بعد أن تكون بالكاد قد القيت فيه بعض الخطوات الأولى. إنك تخشى التضحيات ولا تحب ألا ما لا يكلفك شيئاً. ومحبتك كثيرة الريب فلا تريد أن تبرر ألا عندما تتحقق بأنه لا يوجد شيئ تتحمله لأجل الحبيب. أحب بأكمل نوع وبشجاعة، وكن مستعداً لأن تفقد كل شيئ مما أن تفقد نعمة الله، وأن تتحمل كل شيئ مما أن تقترف زلة مهما كانت صغيرة. ومتى انشغفت إرادتك بجمال الحب لن يبد لك حينئذ أي شيئ مستحيلاً. إن الحب قوي كالموت لايعرف صعوبة. لك رذائل للقمع وحواس للكبح، أحب إذاً وستقوم المحبة بكل ذلك وفي وقت قصير. لاتحب إلا مايحبه الله، وإذا أحببت موضوعاً آخر معه فليكن مثلما يريد الله أن تحبه، أعني أن الله وحده يجب أن يروق في كل مايروق أمام أعيننا. المحبة الحقيقية تتوقف على عدم الاكتراث بكل ما ليس هوالله، وعلى ألا تفتش إلا عليه، وعلى أن تطلبه في كل شيئ. إنك يابني ستكون سعيداُ تحت سيطرة هذه المحبة، بقدر ما تعيش بها بقدر ذلك ستشتهي أن تعيش فيها بعد. نعم إن سلاسلها ستؤلمك، إلا أن الملك يكون أعظم عندما لا تكون مستعبداً ذاتك لها. لتكن هذه المحبة كنزاً لك حتى في وسط أعظم فاقات الحياة فتشعر كيف أنها تعوض لك عن كل خيرات الرض، وستتحقق في ساعة الموت خاصة كم أنت سعيد بانقيادك لمؤثراتها. الموت! هذه البرهة الممتلئة اضطراباً وهياجاً لعموم البشر هي للمسيحي الممتلئ من محبة الله برهة مفعمة تسلية وسلاماً هنيئاً. أستسلم إذاً للمحبة الإلهية وأنقد لتسييرها إياك، ولتكن لك محركاً ومبدأه مسيراً، ولتتسم بها أفعالك كلها.
العبد
أيتها البتول السامية: إنني بإصغائي لأرشاداتك أشعر بشوق عظيم يتولد في ويحملني على ألا أطلب من الآن فصاعداً معلماً آخر غير الحب الإلهي. وحيث أن قلبي لا زال قادراً على أن يرضي ربي، بل وحيث أنه لا يوجد في ما يستطيع أن يرضيه تعالى إلا هذا القلب، فلا أريده لي من بعد الآن ولا أريد أن أسلمه للخلائق. إنني أهبه وأكرسه بكليته له تعالى. أن هذا الشرف هوثمرة النعمة التي نلتها لي أنت، لأني بدون الله وعونه لا أقدر أن أحبه، ولا أن أحبه مثلما يجب، ولا أن أثبت في محبته. الا داومي في تشفعك بي حتى يرافقني حبه هذا دائماً. إنني أخشى عدم استقراري، فكوني سندي وعضدي بواسطة حمايتك أنت التي تعرفين عدم استقراري هذا وقد ونبتني عنه مراراً.
ألا أبعدي عني أيتها الدنيويات الزائلة الذليلة! أنك تسببين الموت لقلبي! إن هذا القلب يريد أن يحيا، وهل هي حياة أن يعيش الإنسان من دونك يارب؟ لتندب الخلائق نبذي أياها! إنها سلبتني سعادتي الحقيقية بحجة بعض الخدمات التي تقدمها لي، فسأداوم في احتقاري ورذلي إياها حتى تكف عن الولوج إلى قلبي. يابتولا ً مثال المحبة الكامل! إن قلبي سيضحي إذاَ سماء حيث أنني ناوعلى أن أحب ربي فقط على مثال حياتك وحياة القديسين الأرضية، ولي وطيد الأمل أنني سأموت في حبه وأن أحبه إلى الأبد.
No Result
View All Result
Discussion about this post