كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
المقالة التاسعة: في أحزان مريم البتول بوجه العموم
فيما يلاحظ أحزان هذه العذراء المجيدة بوجه العموم تحت صفة كونها سلطانة الشهداء، لأجل أن استشهادها وجد أطول*
وأشد من استشهادهم كافةً.*
* وفيه جزءان *
† الجزء الأول †
* في أن استشهاد مريم البتول وجد أكثر استطالةً من استشهادات جميع الشهداء*
ترى من هو ذاك الإنسان الحاصل على قلبٍ قاسٍ كالجلمود، حتى أنه لا يتوجع متخشعاً عند استماعه إيراد حادثٍ مملؤٍ من الغم، مستحق الندب والبكاء الحادث الذي حصل وقتاً ما في هذا العالم وهو أنه كانت على الأرض امرأةٌ شريفةٌ قديسةٌ، لم يكن لها إلا ابنٌ وحيدٌ، وهذا الابن كان هو الموضوع المستحق أعظم المحبات الممكن تصوره في العقل، باراً جميلاً حاوياً كل الفضائل، مغرماً بالحب الشديد نحو هذه الوالدة، بنوع أنه قط لم يكن أغاظها بأدنى شيءٍ. بل كان دائماً يحترمها بوقارٍ، ويطيعها بتكريمٍ، ويكمل مشيئتها بكل حقائق الحب، ولذلك قد وضعت هي فيه جميع أميالها وعواطفها وحبها على الأرض. فماذا جرى بعد ذلك، فقد حدث أن هذا الابن لأجل روح الحسد الذي استوعبت منه قلوب أعدائه، قد اشتكوا عليه كذباً وعدواناً أمام القاضي، الذي ولئن كان عرف براءته وأشهرها معترفاً بها، فمع ذلك لكيلا يغيظ هو أولئك الأعداء قد حكم على هذا الابن البريء من الذنب بالموت ذي العار والخزي، بالنوع المطلوب من الأعداء أنفسهم، ومن ثم هذه الأم المسكينة احتملت الحزن الشديد المسبب لها من قبل مشاهدتها ابنها البار المحبوب منها بهذا المقدار، يقتل ظلماً في سن شبوبيته بميتةٍ بربريةٍ كلية القساوة! أعدموه ــ الحياة أمام عينيها، فيما بين العذابات الأشد أوجاعاً، وأماتوه موت الخزي والعار. فماذا تقولون يا ذوي الأنفس الحنونة اللينة، أما أن هذا الحادث هو مستحق التوجع والشفقة، وأما أن هذه الوالدة الحزينة هي مستأهلة أن يرثى لها ويشفق عليها. فأنتم تفهمون جيداً عمن أشير أنا بهذا الحادث. أي أن الابن الذي حكم عليه بالموت وقتل بالنوع المقدم إيراده، هو مخلصنا يسوع المسيح الموضوع المستأهل كل محبة، والأم التي تكبدت الأحزان والآلام بما أشرنا عنه، هي والدة الإله مريم الطوباوية، التي حباً بنا وبخلاصنا قد ارتضت بأن تشاهد ابنها هذا الحبيب مقدماً ذبيحةً للعدل الإلهي بأيدي البشر القساة القلوب. فاذاً الأوجاع والأحزان التي ذاقتها من أجلنا هذه الأم الإلهية بمرارةٍ تفضل على مرائر ألف ميتةٍ، تستحق منا التوجع والترثي ومعرفة الجميل. وإن كان لا يوجد لنا شيءٌ آخر نكافئ به حبها إيانا هذا الشديد، فقلما يكون نأخذ في هذا اليوم بالتأمل برهةً من الزمان، في شدة الحزن والتوجع والألم الذي تكبدته هذه العذراء، ومن قبل ذلك صارت هي سلطانة الشهداء، إذ أن أوجاع استشهادها قد فاقت على عذابات الشهداء كافةً.
أولاً: بما أن هذا الأستشهاد وجد زمنه أكثر استطالةً من أزمنة عذابات الشهداء. الأمر الملاحظ في الجزء الحاضر.
ثانياً: لأنه قد وجد هو الاستشهاد الأشد أوجاعاً من عذاباتهم كلها الأمر الملاحظ في الجزء الآخر.*
فكما أن يسوع المسيح سمي: سلطان الأوجاع، وملك الشهداء لأجل أنه في مدة حياته قد احتمل آلاماً أشد مما احتمله الشهداء أجمعون، فهكذا بكل عدلٍ تدعى مريم البتول: سلطانة الشهداء لأنها استحقت هذا اللقب باحتمالها استشهاداً أعظم من كل ما سواه بعد ذاك المحتمل من أبنها مخلصنا. فإذاً بالصواب يسميها العلامة ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: شهيدة الشهداء: ويمكن أن يقال عنها ما قاله أشعيا النبي: يكللكِ الله بالضيق تكليلاً: (ص22ع18) أي أن الإكليل الذي تتوجت به هذه السيدة سلطانةً للشهداء قد كان إكليل الضيق والأوجاع عينها التي فاقت على عذابات الشهداء كلهم إذا أنجمعت معاً. فإما عن كون مريم العذراء وجدت شهيدةً حقيقيةً، فهذا لا ريب فيه ولا أشكال، ويبرهن عنه بإثباتٍ العلماء كارتوزيانوس وبالبارتوس وكاتارينوس وآخرون غيرهم. على أنه لحكمٌ عامٌ هو أنه يكفي لحقيقة الاستشهاد أن يحتمل الشهيد عذاباً وألماً كافياً لأن يعدمه الحياة الجسدية، ولئن لم يكن هو يموت من مجرد هذا العذاب، فهكذا القديس يوحنا الإنجيلي قد كرم من الكنيسة الجامعة بصفة شهيد ولئن لم يكن مات هذا الرسول ضمن خلقين الزيت المغلي، حينما هو وضع فيها بأمر الملك دوميتسيانوس، بل خرج من تلك الخلقين أشد قوةً من ذي قبل (كما هو مدون تحت اليوم السادس من شهر أيار في كتاب الفرض الروماني) ويقول القديس توما اللاهوتي: أنه يكفي لاكتساب مجد الاستشهاد أن الإنسان يطيع في أن يقدم ذاته لحد الموت: فمريم وجدت شهيدةً لا مماتةً بواسطة الحديد، بل بشدة أوجاع القلب: كما يقول عنها القديس برنردوس، أي أن كان جسدها الطاهر لم يجرح من الجلادين، فقد طعن قلبها المبارك بسهام أوجاع آلام ابنها، وهذه الأوجاع قد وجدت كافيةً لأن تسبب لها لا موتاً واحداً فقط، بل ألف ميتةٍ أيضاً، ومن ثم أن مريم قد صارت ليس شهيدةً حقيقيةً فقط، بل أيضاً أن استشهادها الأليم قد فاق على استشهادات جميع الشهداء، لأجل استطالة زمنه، لأنه يمكن القول أن حياتها بأسرها قد وجدت استشهاداً متصلاً من دون انقطاعٍ.*
فكما أن آلام سيدنا يسوع المسيح قد أبتدأت معه منذ إتلاده على الأرض، حسبما يقول القديس برنردوس: أن المسيح قد ولد ومعه ولدت آلام الصليب: فهكذا مريم التي هي شبيهة بأبنها في كل شيءٍ. قد أحتملت استشهادها مدة حياتها كلها. فاسم مريم فيما بين التفاسير التي يعنيها يفسر: بحر المرارة: كما يبرهن الطوباوي ألبارتوس الكبير. ولذلك يخصص بهذه البتول ما قاله أرميا النبي في العدد الثالث عشر من الإصحاح الثاني من مراثيه وهو: يا بتول ابنة صهيون إن إنكساركِ هو عظيمٌ كالبحر فمن يعالجكِ: لأنه كما أن مياه البحر كلها هي مرةً مالحةً، فهكذا هي حياة مريم البتول قد وجدت دائماً مملؤةً من المرائر، لأجل أن آلام مخلصنا كانت على الدوام بإزاء عقلها مصورةً، فلا يمكن لأحدٍ أن يرتاب في أن هذه السيدة قد استنارت من الروح القدس أكثر استنارةً من الأنبياء كلهم. وكانت هي تعلم أفضل علماً منهم حقيقة ما دونوه عن المسيح في أقوالهم النبوية. فهكذا قال الملاك للقديسة بريجيتا، كما أنه قال لها في محلٍ آخر: أن البتول المجيدة اذ كانت تعرف كم هو مقدار الآلام التي كان مزمعاً الكلمة المتجسد أن يتكبدها من أجل خلاص الجنس البشري، فمن قبل أن تصير هي أمه كانت تتصور آلامه وتتوجع من أجل الميتة البربرية المعدة له، ليس من أجل خطاياه، إذ لا خطيئة فيه، وعلى هذه الصورة منذ ذاك الوقت أبتدأ زمن استشهادها:*
فهذا التوجع والآلام قد ازدادت مرارةً وقوةً بما لا يحد عندما صارت هذه البتول أماً للكلمة المتجسد، لأنها حينئذٍ عند تأملها في جميع ما كان عتيداً هذا الابن المحبوب منها أن يتألم به. فهي احتملت بهذا التصور المتصل عذاب استشهادٍ متصلٍ مدى حياتها، ولذلك يقول نحوها الأنبا روبارتوس: أنكِ إذ كنتِ سبقتِ وعرفتِ آلام ابنكِ العتيدة صيرورتها بعد زمنٍ طويلٍ من معرفتكِ بها. فوجد لذلك استشهادكِ في تكبدكِ مرارتها مستطيلاً: وهذا بالحصر ما تفسره الرؤيا التي شاهدتها القديسة بريجيتا في مدينة رومية، في كنيسة القديسة مريم الكبرى، حيث ظهرت لها البتول الطوباوية وبرفقتها القديس سمعان الشيخ، مع ملاكٍ كان حاملاً بيده سيفاً طويلاً جداً، مصبوغاً بالدم، مشيراً به إلى الحزن والآلام الشديدة المرارة والمستطيلة معاً، التي أجتازت في نفس هذه الأم الإلهية طول أيام حياتها. ولذلك الأنبا روبارتوس يجعل هذه السيدة متكلمةً هكذا: أيتها الأنفس المفتداة، يا بناتي العزيزات لا تتوجعن من أجلي لما تكبدته في تلك الساعة فقط، التي فيها شاهدت ابني يموت فيما بين العذابات أمام عيني. لأن سيف الحزن والوجع الذي سبق سمعان وأخبرني عنه. قد اجتاز في نفسي مدة حياتي كلها. ومن ثم حينما كنت أرضع ابني الحبيب. وأدفئه في حجري وبين ذراعي. فدائماً كنت أشاهد الميتة المرة التي كانت تنتظره. فتأملن كم هي شدة التوجع. وكم هو مستطيلٌ زمان هذه الآلام التي أنا احتملتها.*
ولهذا بكل صوابٍ يمكن للعذراء المجيدة أن تقول عن ذاتها ما قاله النبي والملك داود: أن حياتي قد فنيت بالأوجاع وعمري بالتنهد: (مزمور 31ع10): لأنني أنا للضرب مستعدٌ ووجعي مقابلي في كل حين: (مزمور 380ع17): فقد أصرفت حياتي كلها بالأوجاع والدموع. من حيث أن حزني وتوجعي الصادرين من تذكري في آلام أبني الحبيب وموته. ولم يبرحا قط من أمام عيني، بل دائماً كنت أشاهد أنواع آلامه، وكيفية ميتته التي يوماً ما كان هو مزمعاً أن يتكبدها: فهذه الأم الإلهية قد أوحت إلى القديسة بريجيتا: بأنها قد استمرت تشعر حتى بعد قيامة ابنها من بين الأموات وصعوده إلى السموات، بمرارة آلامه وموته في قلبها باقي الزمن الذي عاشت هي فيه على الأرض. سواءٌ كانت تمارس أعمالها، أو تأكل أم تصنع شيئاً آخر إلى حين نياحها: ولهذا كتب طاولاروس: بأن مريم البتول قد اجتازت زمن حياتها بأسره في توجعٍ متصلٍ. لأنه لم يكن يهجس في قلبها شيءٌ من قبيل الآلام سوى الغم والحزن:*
ولهذا فاستطالة الزمان المعتاد أن يصرف من المحزونين في الإنفراج. وفي تمويه الحزن ونسيان موضوعه، لم يفد البتول القديسة لتخفيف أوجاعها، بل بالعكس أن استطالة الزمن كانت لديها علةً لأزدياد التوجع والحزن، لأن نمو ابنها يسوع في القامة والعمر، فبمقدار ما كان ينمى فيها تعلق قلبها به من الجهة الواحدة، لمشاهدتها فيه موضوعاتٍ جديدةً للحب والكمال وحسن الصفات، فبأكثر من ذلك من الجهة الأخرى، لتقدمه نحو زمن الآلام ولدنوه من أيام الحكومة عليه بالموت البربري كان ينمى فيها شدة الحزن والتوجع من أجله لفقدانها إياه من على الأرض. وحسبما أخبر ملاك الرب في الرؤيا للقديسة بريجيتا:” أنه كما أن الوردة تظهر نابتةً فيما بين الأشواك، فكذلك والدة الإله كانت تتقدم بالسنين فيما بين الأوجاع. ونظير ما أن الوردة في نموها تنمو معها الأشواك المحيطة بها، فهكذا وردة الرب المختارة هذه بمقدار ما كانت هي تنمو في العمر، فبأكثر من ذلك كانت تنمو معها أشواك آلامها وأحزانها لتزيدها وجعاً وغماً”. فإذ تأملنا لحد ههنا في استطالة زمن أحزان هذه السيدة فلنأتِ إلى
*الجزء الثاني لنتأمل عظم هذه الأحزان.*
† الجزء الثاني †
* في أن استشهاد مريم البتول هو أشد أوجاعاً من عذابات الشهداء كلهم*
فمريم العذراء دعيت سلطانة الشهداء ليس فقط من كون زمن استشهادها في احتمال الآلام وجد أطول من أزمنة عذابات الشهداء بل أيضاً من كون أوجاعها وآلامها قد وجدت أشد وأعظم من أوجاع الشهداء وآلامهم كافةً. على أنه ترى من يمكنه أن يقايس مقدار هذه الأوجاع. ويعرف حقيقتها وشدتها وعظمتها. فالنبي أرميا يشير إلى أنه لا يقدر أن يجد من يمثل هو به أوجاع هذه الأم وأحزانها، لأنه يقول: بمن أشبهكِ، أو بمن أمثلكِ يا بنت أورشليم. من أقايس عليكِ وأعزيكِ، يا بتول ابنة صهيون فإن إنكساركٍ هو عظيمٌ كالبحر فمن يعالجكِ: (مراثي ص2ع13) ولذلك إذ فسر هذا النص الكردينال أوغون فكتب قائلاً نحو هذه البتول المجيدة هكذا: أنه كما أن مرارة مياه البحر تفوق في شدتها على مرائر الأشياء المرة كلها. فعلى هذا المثال أن أوجاعكِ أيتها العذراء المباركة قد فاقت في شدتها على الأوجاع الأخرى بأسرها: ولهذا يقول القديس أنسلموس: أنه لولا يكون الله بأعجوبةٍ خصوصيةٍ حفظ حياة مريم البتول. لكان وجع قلبها كافياً لأن يميتها في كل دقيقةٍ من دقائق حياتها: وأما القديس برنردينوس السياني فقد أتصل إلى أن يقول: أن أوجاع مريم قد كانت بهذا المقدار عظيمةً. حتى أنه لو أمكن تفريقها موزعةً على البشر كلهم. لكانت كافيةً لأن تميتهم كافةً بكل سرعةٍ.*
إلا أننا ههنا نتأمل الأسباب التي من أجلها وجد استشهاد هذه الأم الإلهية أعظم من استشهاد كل الذين سفكوا دماؤهم من أجل الإيمان بالمسيح. فليعتبر.
أولاً: أن الشهداء إنما احتملوا العذابات في أجسادهم بواسطة النار أو الحديد وغيرهما. أما مريم فاحتملت عذاب استشهادها باطناً في نفسها. حسبما سبق القديس سمعان الشيخ وقال لها: وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ: (لوقا ص2ع35) وكأنه يريد بقوله هذا أن يعلن لها هكذا مخاطباً: أيتها البتول المثلثة القداسة أن جميع الشهداء أنما عتيدون في أجسادهم أن يتكبدوا أوجاع الحديد، وأما أنتِ فاستشهادكِ أنما هو باطنٌ، لأن سيف الحزن مزمع أن يحوز في نفسكِ وتحيق الأوجاع بقلبكِ مع آلام أبنكِ يسوع: فإذاً بمقدار ما أن النفس هي أشرف من الجسد فبمقدار ذلك كان استشهاد مريم بنفسها أعظم من استشهاد الشهداء بأجسادهم. كما أوحى مخلصنا عينه للقديسة كاترينا السيانية بقوله لها: أنه فيما بين الاستشهاد بالأجساد، وبين الاستشهاد بالأنفس يوجد فرق لا قياس لعظمته: ومن ثم يقول الأنبا القديس أرنولدوس كارنوتانسه: أن من أتفق له أن يوجد حاضراً في جبل الجلجلة ليشاهد ذبيحة الحمل البريء من العيب، حينما هو مات على خشبة الصليب. لقد كان لاحظ هناك مذبحين عظيمين. أحدهما في قلب يسوع، وثانيهما في قلب مريم. حيث أنه في زمنٍ واحدٍ نفسه الذي فيه كان الابن يضحي قرباناً بالتوجع القلبي:*
ثانياً: يقول القديس أنطونينوس: أن الشهداء الآخرين قد تعذبوا بواسطة ذبيحة حياتهم الذاتية. وأما البتول الطوباوية فتعذبت بواسطة ذبيحة حياة ابنها الذي كانت هي تحبه أشد حباً بما لا يحد من حياتها الذاتية. ولهذا ليس فقط قد تكبدت هي بنفسها كل الأوجاع التي تكبدها أبنها في جسده. بل أيضاً قد سبب لقلبها نظرها بعينيها تعاذيب ابنها أوجاعاً أعظم مما لو كانت هي نفسها احتملت تلك التعاذيب في جسدها عينه. فعن القول أن مريم العذراء قد تكبدت في قلبها جميع العذابات التي شاهدت هي ابنها الحبيب يسوع معذباً بها. لا يمكن أن يوجد ريبٌ أو أشكالٌ. فكل أحدٍ يفهم أن عذاب الأبناء هو نفس عذاب أمهاتهم. إذا كن حاضراتٍ وناظراتٍ مباشرة ذاك العذاب. فالقديس أوغوسطينوس إذ كان يتأمل في الأوجاع التي احتملتها القديسة (صالومي) أم السبعة شهداء المكابيين بمشاهدتها العذابات التي كانت أولادها هؤلاء يتكبدونها قال: أنها إذ كانت تنظر أوجاع أولادها قد تألمت هي بالأوجاع كلها، لأنها كانت تحبهم كلهم. وبالتالي كانت هي تتعذب في عينيها بجميع العذابات التي هم كانوا يتعذبون بها في أجسادهم. فهكذا حدث لوالدة الإله، أي أن جميع تلك العذابات من الجلد وأكليل الشوك، والمسامير، والصليب التي تعذبت بها لحمان يسوع الطاهرة. فهذه كلها دخلت حينئذٍ في قلب مريم لتكمل بواسطتها أستشهادها، كما كتب القديس أماداوس قائلاً: أن هذه العذابات التي دخلت على جسد يسوع هي نفسها دخلت على قلب مريم: بنوع أنه (حسبما قال القديس لورانسوس يوستينياني) قد أضحى قلب هذه الأم بمنزلة مرآةٍ للأوجاع التي احتملها ابنها، وبهذه المرآة كانت تنظر اللطمات والبصاق والجراحات وسائر العذابات التي تألم بها يسوع. ثم أن القديس بوناونتورا يتأمل: في أن جميع تلك الجراحات التي كانت مفرقةً في جسد يسوع كله، فهذه بأسرها وجدت مجموعةً معاً في قلب مريم.*
فإذاً قد تكبدت هذه البتول لأجل أوجاع أبنها وآلامه محتملةً في قلبها الشديد الحب أنواع تلك الآلام! أي الجلد، التكليل بالشوك، الإهانات، التعييرات، المسامير، الصليب، كأنها هي نفسها جلدت، كللت، أهينت، عيرت، سمرت، صلبت، ولهذا إذ يتصور القديس بوناونتورا عينه حال وجود هذه الأم الإلهية في جبل الجلجلة حاضرةً موت ابنها، فيخاطبها كمستفهمٍ قائلاً: أيتها السيدة أخبريني أين كنتِ حينئذٍ واقفةً، أهل أنكِ وجدتِ قريبةً فقط من صليب يسوع، كلا بل أنني أقول الأجود أنكِ كنتِ مرفوعةً على الصليب عينه، ومسمرةً مصلوبةً مع ابنكِ نفسه. أما ريكاردوس فإلى كلمات النبي أشعيا المدونة في العدد الثالث من الإصحاح 63 من نبؤته المقالة منه عن لسان مخلصنا وهي: دست المعصرة وحدي ومن الأمم ليس معي رجلٌ: يضيف هو هذه الكلمات قائلاً: أنك بالصواب تقول أيها السيد أنه في عمل افتداء الجنس البشري أنت وحدك دست المعصرة متألماً، ولم يكن معك رجلً يتوجع من أجلك بكفايةٍ. ولكن توجد امرأةٌ وهي أمك التي مقدار ما أنت احتملت في جسدك، فهي مقدار ذلك تكبدت في قلبها.*
إلا أن هذه الأقوال كلها هي شيءٌ زهيدٌ جداً بالنسبة إلى حقيقة ما تألمت به العذراء المجيدة، من حيث أنها (كما قلت آنفاً) قد تكبدت هي بالنظر إلى عذابات يسوع آلاماً وأوجاعاً أشد مرارةً من آلام يسوع وأوجاعه عينها، لو كانت هي احتملتها في جسدها بدلاً منه. فالعلامة أيرازموس كتب في تكلمه بوجه العموم عن الوالدين بقوله عنهم: أنهم يشعرون في ذواتهم بالأوجاع التي تتعذب بها أولادهم. أشد آلاماً مما يشعرون بأوجاعهم الذاتية: إلا أن هذا ليس بحقيقي دائماً ولا في كل الوالدين. أما في مريم البتول فقد تحقق ذلك بكل تأكيدٍ. لأجل أن هذه الأم المجيدة كانت تحب ابنها الإلهي حباً أعظم بما لا يحد، ولا يمكن وصفه من حبها ذاتها، بل من حبها ألف حياةٍ لو كانت لها. ولذلك بكل صدقٍ يشهد لنا القديس أماداوس: بأن هذه الوالدة المحزونة إذ كانت تشاهد المنظر المرثى له، الذي به ابنها يسوع الحبيب كان يحتمل العذابات، فهي قد تعذبت أكثر جداً مما لو كانت هي نفسها تحتمل في جسمها آلام هذا الأبن كلها: فالبرهان هو واضحٌ من حيث أنه كما يقول القديس برنردوس: أن النفس توجد مستقرةً ومتحدةً في الموضوع المحبوب منها اتحاداً أشد جداً من كيانها في الجسد الذي هي تحييه: بل أن مخلصنا عينه قبل هذا القديس قال: أنه حيثما يكون كنزكم فهناك يكون قلبكم: (لوقا ص12ع34) فإذاً من حيث أن هذه البتول كانت بقوة الحب تحيا بيسوع بنوعٍ أفضل مما كانت تحيا في ذاتها، فمن دون ريبٍ أنها تكبدت من الآلام، لأجل موت حبيبها هذا، أوجاعاً أشد وعذاباً أعظم مما لو كانت هي نفسها تمات فيما بين أمر عذابات العالم، ميتةً ذات قساوةٍ أشد من كل ما يمكن اختراعه من التعذيبات.*
ثالثاً: أن السبب الذي قد صير عذاب استشهاد والدة الإله أعظم من عذابات الشهداء كلهم بما لا حد له ولا قرار، هو أنها قد تألمت هي كثيراً، ومن دون أدنى تعزيةٍ. فأي نعم أن الشهداء كانوا يشعرون بالعذابات التي كان المضطهدون القساة يذيقونهم إياها، ولكن حبهم ليسوع كان يصير عذبةً حلوةً مراير تلك الامتحانات. بل كان يجعلها محبوبةً منهم. فالقديس فينجانسوس في استشهاده تكبد عذاباتٍ وافرةً كلية القساوة، من الزيار والجلد، وسلخ الجلد والتمشيط بالأظفار الحديد، والحريق بالمشاهيب. ولكن يقول عنه القديس أوغوسطينوس: أن آخر كان يتعذب هكذا، وآخر كان يتكلم بفصاحةٍ: لأن هذا الشهيد وهو فيما بين عذاباتٍ هذه صفتها كان يخاطب المغتصب بشجاعةٍ وفصاحةٍ، وباحتقار عظيمٍ لتلك التعاذيب، حتى أنه استبان أن فنجانسوس واحداً كان يعذب. وفينجانسوس آخر كان يتكلم، ومن هنا يظهر واضحاً كم كان الله بعواطف حبه العذبة، يشجع هذا الشهيد ويقويه على احتمال تلك النكال المرة. وهكذا القديس بونيفاسيوس الشهيد كان يقاسي شدائد الامتحانات، بتمزيق لحمان جسده بالمخالب الحديد، وبإدخال القضيب الرفيع تحت أظافره، وبصب الرصاص المذاب في فمه. أما الشهيد ففيما بين هذه العذابات لم يكن يشبع من تكرار الشكر لله هاتفاً: أشكرك شكراً دائماً أيها الرب يسوع المسيح. وكذلك القديسان مرقص ومركلوس إذ كانا يتكبدان عذابات الاستشهاد، مسمرين بأرجلهما على قائمةٍ من خشبٍ، والمغتصب كان يقول لهما: أيها الشقيان تأملا حالكما هذه التعيسة. وخلصا ذاتيكما من هذا العذاب بالطاعة. فهما أجاباه قائلين: عن أية عذابات أنت تتكلم، فهذه هي أشياء مضحكةٌ، لأننا نحن ما شعرنا قط بلذةٍ ولا تنعمنا أصلاً على مائدةٍ، بمقدار ما نلذ ونتنعم الآن في هذه الوليمة، التي فيها نحتمل الأوجاع بالتذاذٍ عظيمٍ حباً بيسوع المسيح. ومثلهما القديس المجيد في الشهداء رئيس الشمامسة لافرنتيوس حينما كان يشوى على المصبع الحديد فوق جمرات النار: قد وجد حينئذٍ (يقول القديس البابا لاون في خطبته على عيد هذا القديس) أعظم قوةً لهيب الحب الباطن في قلبه لله ليعزي نفسه، وأشد حرارةً من لهيب النار المادية الخارجة التي كانت تحرق جسده. وقد فاز بالقوة والشجاعة في تلك الحال بنوع أنه أتصل إلى أن يستهزئ بالمغتصب قائلاً له: هوذا لحماني قد أشويت حسناً وأنتهي شيها من الجانب الواحد، فإن كنت تريد أن تأكل منها فأقلبها على الجانب الآخر وكل. ولكن كيف أمكن لهذا الشهيد في احتماله تلك الميتة المستطيلة بعذابٍ هذه صفة شدته أن يتهلل مبتهجاً، فيجيب القديس أوغوسطينوس قائلاً: أن هذا المعظم في الشهداء قد سكر بخمرة الحب الإلهي، حتى أنه لم يعد يشعر لا بالعذابات ولا بالموت:*
فإذاً أن الشهداء بمقدار اشتداد حبهم ليسوع، فبمقدار ذلك كانت تحلو لديهم العذابات من أجله. حتى كأنهم لم يعودوا يشعروا بها. وكان الموت يصير لديهم عذباً حلواً. وكان مجرد تصورهم مرائر آلام إلهٍ متجسدٍ على الصليب يخفف عنهم مرائر تعاذيبهم معزياً إياهم. ولكن أهل أن حب سيدتنا مريم البتول ليسوع، قد كان على هذه الصورة يعزيها ويخفف عنها مرائر الأوجاع، لا لعمري، بل أن ابنها الحبيب يسوع الذي كان هو يتألم، فهو نفسه كان علة أحزانها وآلامها، وأن الحب الشديد الذي كان قلبها به مغرماً نحوه تعالى، فهو عينه كان الجلاد الوحيد الكلي قساوة المعذب إياها. لأن كل استشهاد هذه الأم الإلهية كان قائماً في مشاهدتها عذابات ابنها المحبوب منها بهذا المقدار، والبريء من كل خيال ذنبٍ. بل البراءة بالذات، الذي كان يتألم آلاماً فائقة الوصف. وبالتالي أنها بمقدار ازدياد حبها إياه حباً هكذا عظيماً، فبمقدار ذلك كانت شدة أوجاعها وأحزانها تتعاظم من دون أدنى تعزيةٍ: فانكساركِ هو عظيمٌ كالبحر يا بتول ابنة صهيون فمن يعالجكِ. أواه يا سلطانة السموات والأرض، أن المحبة قد صيرت الشهداء الآخرين أن ينسوا عذابتهم، لخفتها عنهم من قبل الحب الذي كان يشفي جرحاتهم، وأما أنتِ فمن يعالجكِ ويجلي لديكِ بحر المرائر والحزن العظيم. ومن يشفي جراحاتكِ المتخنة الكلية الأوجاع، المجروح بها قلبكِ. لأن ذاك الابن الحبيب عينه الذي كان يمكنه أن يفرح غمكِ ويعزيكِ فهو كان بآلامه العلة الوحيدة لأوجاعكِ. والحب الذي أنتِ ملتهبةٌ به نحوه فهو نفسه الذي كان يصور مجموع استشهادكِ. ولهذا يقول العلامة دياز: أنه قد جرت العادة في أن المصورين عندما يصورون أيقونات الشهداء ففي كلٍ منها يرسمون مع الشهيد صورة تلك الآلة التي بها كمل استشهاده، مثلاً السيف مع القديس بولس، الصليب مع القديس أندراوس، المصبع الحديد مع القديس لافرنتيوس وهلم جراً. فأما العذراء مريم فيصورن آلة استشهادها المسيح عينه ميتاً متكئاً على ركبتيها، لأن حبها الشديد إياه كان لها آلة الاستشهاد. أما القديس برنردوس فبألفاظٍ وجيزةٍ يثبت جميع ما قلته لحد الآن، إذ أنه كتب هكذا قائلاً: أنه في الاستشهادات الأخرى عظم الحب الشديد يخفف مرائر العذابات، أما البتول الطوباوية فبمقدار ما كان حبها له تعالى أشد ألتهاباً. فبأكثر من ذلك كانت أوجاعها أعظم قساوةً ومرارةً، وهو الذي صير استشهادها أوفر تألماً وأمر توجعاً.*
فأمرٌ حقيقي هو أنه بقياس المحبة التي توجد في قلب إنسانٍ ما نحو موضوعٍ ما، يقاس حزنه وغمه على فقد ذاك الموضوع، وهكذا يوجد قياس شدة توجعه على خسرانه إياه، مقدار شدة غرامه في حبه الزائد نحوه. ومن ثم أن فقد الإنسان أخاه الطبيعي بالموت يحزن قلبه أشد حزناً، مما يحدث له من الغم على فقده أحد الحيوانات، كالفرس وغيرها. وكذلك يتوجع الأب على موت ابنه أعظم توجعاً مما على موت أحد أصدقائه. ولهذا يقول كورنيليوس الحجري: أنه لكي يفهم كم كان مقدار توجع مريم البتول على موت ابنها يسوع، يلزم أن يفهم مقدار الحب التي هي كانت تحبه به تعالى. ولكن من يمكنه أن يعرف قياس هذا الحب الذي هي كانت مغرمةً به نحو ابنها (يقول الطوباوي أماداوس) حيث أن حبها إياه بالنوع الواحد وبالنوع الآخر قد أجمعا معاً في قلبها كشيءٍ واحدٍ، أي الحب الفائق الطبيعة الذي به كانت هي تحبه عز وجل بحسبما هو إلهها، ثم الحب الطبيعي الذي به كان قلبها متعلقاً بمحبته بحسب كونه ابنها”. فإذاً هذان النوعان من الحب قد اجتمعا واحداً في قلبها. ولكن بهذا المقدار وجد هذا الحب المضعف عظيماً فائق الحد والقياس، حتى أن غوليالموس الباريسي يقول:” أن الطوباوية مريم العذراء قد أحبت ابنها وإلهها يسوع بمقدار ما أمكن للنوع الإنساني أن يكون قابلاً لأن يحب، أي أن خليقةً محضةً لم تقدر أن تكون موضوعاً قابلاً لأن تحب أكثر من ذلك”. ولهذا كتب ريكاردوس الذي من سان لورانسوس: أنه كما ان حب مريم ليسوع ما وجد قط ولن يوجد أبداً أعظم منه، فلا وجد ولن يوجد أصلاً وجعٌ أعظم من وجعها من قبل آلامه وموته، ومن حيث أن حبها إياه تعالى كان عديم الحد ولا قرار له، فعديم الحد ولا قرار له كان وجعها بفقدها إياه بالموت. وقال الطوباوي ألبارتوس الكبير: أنه حيثما يكون الحب أشد. فهناك يوجد التوجع أعظم.*
ولهذا فلنتصور أن مريم إذ كانت واقفةً تحت صليب يسوع على جبل الجلجلة، فبكل عدلٍ وصوابٍ كان يمكنها أن تخصص ذاتها بكلمات أرميا النبي وهي: يا عابري الطريق انظروا وتأملوا هل رأيتم وجعاً مثل وجعي: (مراثي ص1ع12) أي يا معشر المجتازين على الأرض أيام حياتكم ولا تفتكرون بي ولا تتوجعون من أجلي. قفوا قليلاً متأملين فيَّ أنا التي الآن أشاهد أمام عيني مدنفاً على الموت، في بحرٍ من الآلام هذا الابن الحبيب، وأنظروا هل يوجد فيما بين جميع الحزانى والمتألمين أحدٌ أوجاعه تشابه أوجاعي. فهنا يرد الجواب القديس بوناونتورا قائلاً: كلا، أيتها الأم المملوءة أحزاناً أنه لا يمكن أن يوجد من الأرض وجعٌ مرٌ قاسٍ مثل وجعكِ، لأنه لا يمكن وجود أبنٍ عزيزٍ حبيبٍ على الإطلاق نظير ابنكِ. ويضيف إلى ذلك القديس لورانسوس يوستينياني بقوله: أنه حقاً لم يكن وجد قط في العالم أبنٌ موضوعٌ للحب الشديد نظير يسوع، ولا أمٌ مغرمةٌ بالحب الكلي نحو أبنها مثل مريم. فإن كان إذاً ما صودف على الأرض حبٌ هكذا عظيمٌ يشابه حب هذه الأم الإلهية لابنها، فكيف يستطاع أن يصادف وجعٌ شديد القساوة يماثل وجعها ويشابهه.*
ومن ثم القديس أيدالفونسوس لم يرتب في أن يقول: أنه لقليلٌ هو أن يورد عن مريم البتول أن آلامها قد فاقت على عذابات الشهداء كلهم، حتى ولو افترضت أوجاعهم متحدةً معاً بجملتها. ويضيف إلى ذلك القديس أنسلموس بقوله: أن التعاذيب الأشد مرارةً ووجعاً التي بها عذب الشهداء القديسون بأعظم قساوةٍ، قد وجدت خفيفةً وكلا شيء بالنسبة إلى استشهاد البتول المجيدة. وكتب القديس باسيليوس الكبير قائلاً: أنه كما أن الشمس تفوق بأنوارها على سائر الكواكب والنجوم، فهكذا مريم العذراء قد فاقت بآلامها على مرارة أوجاع الشهداء الآخرين أجمعين.
من العلماء العباد (وهو الأب بينامونته) يبرهن بعبارةٍ جليلةٍ عما أشرنا إليه قائلاً: أن أوجاع مريم البتول قد كانت بهذا المقدار شديدةً وعظيمةً، حتى أن هذه الأم الحنونة وحدها وجدت حين آلام ابنها بهذه الأوجاع كافيةً ومقتدرةً على أن تتوجع بألمٍ كافٍ على موت إلهٍ متأنسٍ.*
ولكن ههنا يلتفت القديس بوناونتورا نحو هذه السيدة المجيدة قائلاً كمستفهم هكذا: أخبريني يا سيدتي لماذا أنتِ أردتِ أن تذهبي إلى جبل الجلجلة، لتقدمي أنتِ أيضاً ذاتكِ ذبيحةً. أهل أنه ربما لم يكن كافياً لأفتدائنا أن إلهاً يموت من أجلنا على الصليب بالجسد، ولذلك رغبتِ أن تصلبي معه أنتِ أيضاً والدته: الجواب، أنه لأمرٌ كلي الوضوح هو أن موت يسوع المسيح وجد كافياً ليس لخلاص هذا العالم كله فقط، بل لخلاص عوالم غير متناهٍ عددها أيضاً، إلا أن هذه الأم الصالحة قد أرادت لأجل الحب الشديد الذي تحبنا به، أن تفيد أمر خلاصنا هي أيضاً بواسطة استحقاقات الأوجاع التي تكبدتها هي وقدمتها لله على جبل الجلجلة. ولذلك يقول الطوباوي ألبارتوس الكبير: أنه كما أننا ممنونون وملتزمون بالمعروف نحو يسوع المسيح، لأجل آلامه التي تكبدها حباً بنا. فهكذا نحن ممنونون وملتزمون بمعرفة الجميل نحو مريم العذراء لأجل الاستشهاد الذي هي أرادت بموت ابنها أن تحتمله من تلقاء مشيئتها لأجل خلاصنا.
وإنما قلت من تلقاء ذاتها: لأن أمنا هذه الكلية الإشفاق نحونا (كما أوحى ملاك الرب للقديسة بريجيتا) “قد أرتضت بأن تحتمل بالأحرى العذابات كلها، من أن تشاهد الأنفس غير مفتداة باقيةً مهملةً في حال الخسران القديم”. فهذا الموضوع يمكن أن يقال عنه أنه كان هو التعزية الوحيدة التي هي شعرت بها في حين غرقها في بحر تلك الآلام العظيمة الشديدة المرائر، المسببة لها من آلام ابنها، أي ملاحظتها أنه بواسطة آلامه المقدسة قد أفتدى العالم الهالك، وفاز البشريون بالصلح مع الله بعد أن كانوا أعداءً له تعالى: (حسبما يقول سمعان الكاسياني).*
فحبٌ هكذا عظيمٌ من والدة الإله نحونا يستحق منا معرفة الجميل نحوها، وقلما يكون ينبغي لنا أن نكافئ جميلها بتأملنا في أوجاعها وآلامها. وبتوجعنا من أجلها، لأن هذه السيدة قد تشكت للقديسة بريجيتا من أن قليلين جداً هم أولئك الذين يفتكرون بأوجاعها، والأكثرين يعيشون متناسين هذا الموضوع. ولذلك أوصت هي هذه القديسة بأن تتذكر أحزانها. فلكي يفهم كم هو أمرٌ مقبولٌ لدى هذه الأم الإلهية التفكر مراتٍ كثيرةً في آلامها وأوجاعها. يكفي أن يعرف هذا الحادث فقط، وهو أنها أي والدة الإله قد ظهرت سنة 1239 للسبعة الأشخاص المتعبدين لها، الذين هم مؤسسوا الجمعية الملقبة: برهبنة عبيد مريم: وكان ظهورها لهم بثوبٍ أسود، وأوضحت لهم أنه أن كانوا يريدون أن يكتسبوا رضاها ومسرتها، فيلزمهم أن يتأملوا متواتراً في أحزانها وأوجاعها. وأعلنت لهم أرادتها في أنهم تذكرةً لآلامها يتردون من ذلك الوقت فصاعداً بالثوب الأسود الذي شاهدوها متشحةً به (كما هو مدون في الرأس 14من الكتاب1 من تاريخ الرهبنة المذكورة) ثم أن مخلصنا يسوع المسيح نفسه قد أوحى للقديسة فارونيكا البيناسكية قائلاً لها هكذا: أعلمي يا أبنتي أنه مقبولٌ لدي جداً ذرف الدموع من عبيدي حين تأملهم بآلامي، ولكنني لأجل حبي والدتي حباً لا حد له. فأكثر قبولاً لدي هو التأمل في أحزانها وأوجاعها التي هي احتملتها حين موتي، من التذكر بآلامي أنا عينها: (كما يوجد مدوناً في مجموع البولانديستي تحت اليوم الثالث عشر من كانون الثاني).*
ومن ثم عظيمةٌ هي النعم والمواهب الموعود بها من فادينا يسوع، لأولئك الذين يتأملون متواتراً في أوجاع والدته، محسنين العبادة نحو هذا الموضوع. فقد كتب العلامة بالبارتوس بأنه أوحى إلى القديسة أليصابات الراهبة، بأن القديس يوحنا الأنجيلي بعد أن كانت الطوباوية مريم البتول صعدت الى السماء قد كانت أشواقه متقدةً لأن يشاهدها مرةً ما، فهذه النعمة قد أعطيت له، وهكذا قد ظهرت له هذه الأم المحبوبة منه حباً عظيماً، وقد ظهر صحبتها يسوع المسيح أيضاً. وقد فهم هذا القديس أن المجيدة مريم البتول كانت تطلب من ابنها نعماً ما خصوصيةً للمتعبدين لآلامها وأوجاعها، وأنه تعالى قد وعدها بأن يهبهم أربع نعم خاصةً متقدمةً.
فالأولى: هي أن من يستغيث بهذه الأم الإلهية باستحقاقات أوجاعها. فقبل موته يكتسب نعمة أن يصنع التوبة الحقيقية على جميع خطاياه.
والثانية: هي أنه عز وجل يحفظ هؤلاء العابدين في حين شدائدهم وتجاربهم التي تلم بهم، لا سيما في ساعة الموت.
والثالثة: هي أنه يرسم في قلوبهم مطبوعةً تذكرة آلامه وتعد لهم المكافأة الغنية في السماء.
والرابعة: هي أنه تعالى يضع هؤلاء العباد في يد مريم عينها لكي تتصرف هي بهم حسبما تشاء وتريد. وأن تستمد لهم كل النعم التي ترغبها لهم، وأثباتاً لذلك فلنلاحظ في النموذج الآتي ذكره كم تفيد للخلاص الأبدي العبادة نحو البتول المتألمة.*
* نموذج *
أنه يوجد مدوناً في الرأس 97 من الكتاب 6من سيرة حياة القديسة بريجيتا، أنه كان رجلٌ ما الذي بمقدار ما وجد أصله شريفاً ومولده ذا نسبٍ منيفٍ، فبمقدار ذلك كان هو شريراً رديء السيرة، حتى أنه أتصل إلى أن يسلم ذاته باشتراطٍ واضحٍ أسيراً للشيطان. وقد خدمه في هذه العبودية مدة ستين سنة بأتصالٍ. عائشاً بسيرةٍ يمكن لكل واحدٍ بسهولةٍ أن يتصور كم كانت رداوتها، بعيداً على الدوام عن اقتبال الأسرار المقدسة. فهذا الأمير قد دنا أخيراً من الموت، ولكن لكي يستعمل معه الله رحمته الغير المتناهية قد أمر تعالى القديسة بريجيتا بأن تقول لمعلم اعترافها، أن يمضي فيزور هذا الأمير في بيته، وأن يحرضه ناصحاً على الاعتراف بخطاياه، فالكاهن المشار إليه ذهب عند الأمير وتمم واجبات رسالته. إلا أن الأمير أجابه بأنه لم يكن هو محتاجاً إلى اعترافٍ، لأنه كان يعترف متواتراً. فذهب إليه معلم الاعتراف مرةً ثانيةً، ولكن من دون فائدةٍ، لأن ذاك التعيس أسير الجحيم استمر مصراً على عدم إرادته أن يعترف. فمخلصنا أوحى للقديسة بريجيتا جديداً آمراً بأن يمضي الكاهن إليه مرةً أخرى. فذهب عنده خادم الله المرة الثالثة وأخبره بما أوحى به تعالى للبارة بريجيتا، وبأنه لأجل هذه الغاية هو حضر إليه ثلاثة مراتٍ، لأن الرب هكذا كان أمره مريداً أن يستعمل معه رحمته الإلهية. فلما سمع المريض هذا القول قد تخشع وبدأ يبكي، ولكنه صرخ هاتقاً: كيف يمكن أن تغفر لي خطاياي بعد أني خدمت الشيطان مدة ستين سنة أسيراً له، وحملت نفسي أوساقاً عظيمةً من الخطايا والآثام القبيحة. فأجابه الأب المرشد مشجعاً إياه بقوله: لا ترتاب يا ابني، فإن كنت أنت تندم على هذه الخطايا كلها تائباً، فأنا من قبل الله أعدك بغفرانها. فحينئذٍ ابتدأ المريض أن يثق بالله وقال للكاهن: يا أبتي أنا كنت أعتد ذاتي هالكاً بالكلية ومن ثم قطعت رجائي من الخلاص، ولكني الآن أنا أشعر بالندامة على خطاياي، وهذا يشجعني على أن أرجو غفرانها من الله، فممن حيث أنه عز وجل لم يهملني بعد، فأنا أريد أن أعترف بمآثمي. وبالحقيقة أنه في ذلك اليوم أعترف أربع مراتٍ بخشوعٍ وتوجعٍ حقيقيٍ على خطاياه. وبعد هذا تناول القربان الأقدس. وفي اليوم السادس مات بعلامات الندامة الصادقة وحسن التسليم للإرادة الإلهية ميتةً صالحةً. فبعد موته قد أوحى مخلصنا للقديسة بريجيتا مخبراً إياها بأن ذاك الخاطئ فاز بالخلاص الأبدي. ولكنه بعد لم يزل في المطهر، وأن خلاصه قد تم بواسطة شفاعة والدته المجيدة مريم البتول. لأجل أن ذاك الأمير ولئن كان عائشاً بسيرةٍ هذا عظم شرها، فمع ذلك قد حفظ عبادته نحو أوجاع هذه السيدو. وكان يتذكرها بتوجعٍ ويتأملها بغمٍ وحزنٍ.*
† صلاة †
يا سلطانة الشهداء أمي المحزونة بل سلطانة الأوجاع، فأنتِ قد بكيتِ بهذا المقدار على ابنكِ الذي مات لأجل خلاصي، ولكن ماذا تفيدني دموعكِ أن كنت أنا أمضي هالكاً. فباستحقاقات أحزانكِ وأوجاعكِ إذاً استمدي لي توجعاً حقيقياً على خطاياي، وإصلاحاً كاملاً لسيرتي. مع أنعطافٍ دائمٍ وتوجعٍ متصلٍ، بتذكري آلام أبنكِ يسوع المسيح وأحزانكِ. ومن حيث أن ابنكِ الذي هو البراءة بالذات، وأنتِ البريئة من كل زلةٍ قد احتملتما آلاماً هكذا عظيمةً من أجلي، فأمنحاني أنا المذنب المستحق جهنم أن أتألم أنا أيضاً محتملاً شيئاً ما أجلكما وحباً بكما: فيا أيتها السيدة (أني أقول نحوكِ ما قاله القديس بوناونتورا) إن كنت أنا أغظتكِ فأجرحي بالعدل قلبي. وإن كنت أنا خدمتكِ فأطلب الآن المكافأة بأن تطعنيه، لأنه شيءٌ مرذولٌ مكروهٌ هو أن يشاهد يسوع مجروحاً وأنتِ مجروحةً معه، وأنا أبقى سالماً من الجراحات. وأخيراً أتوسل إليكِ يا أمي بحق الحزن والآلام التي تكبدتيها عند مشاهدتكِ ابنكِ فيما بين عذاباتٍ هكذا قاسية، محنياً رأسه ومائتاً على الصليب، أن تستمدي لي ميتةً صالحةً. فلا تهملين حينئذٍ يا شفيعة الخطأة نفسي المحزونة والمتضايقة في وقت ذاك الرحيل من الدنيا، خاليةً من معونتكِ في حين انطلاقها نحو الأبدية. ومن حيث أنه يمكن أن يحدث لي وقتئذٍ أن أفقد الصوت والتكلم، ولا أعود أستطيع أن أستغيث بفمي باسم ابنكِ الحبيب وباسمكِ، مع أنه هو تعالى وأنتِ أيضاً كلاكما رجائي الوحيد. فلهذا منذ الساعة الحاضرة أنا أستغيث باسمه عز وجل وباسمكِ. بأن تعيناني في تلك الساعة الضيقة، وهكذا أقول: يا يسوع ويا مريم *إنني أستودعكما نفسي مسلماً.*
†
تنبيه (1)
أننا إذ كنا في الفصل الأول المنتهي تكلمنا عن أوجاع مريم البتول وأحزانها بوجه العموم، فالآن لزم أن نتكلم عن كلٍ من أحزانها *السبعة بوجه الخصوص، في الفصول السبعة الآتية.*
تنبيه (2)
أن الذي تكون فيه عبادةٌ مرغوبةٌ منه في أن يتلو المسبحة المختصة بأحزان والدة الإله، فيراها مدونةً في الجزء الأول من الباب السابع من كتاب الرياضة اليومية الذي طبعناه في مطبعة مجمع انتشار الإيمان المقدس عينها. وهي تأليف الطوباوي المصنف هذا الكتاب نفسه.
إفـرحي أيتهـا السماوات والسـاكـنـون فـيهـا ويـلٌ لساكني الأرض والبحر لأن إبلـيس نزل إليكما وبـه غضب عظيم، لأنـه عـالم أنه زمناً قليلاً بقي له. (رؤيا 12/12)
†
No Result
View All Result
Discussion about this post