كتاب امجاد مريم البتول
القديس ألفونس دي ليكوري
المقالة السادسة: في تطهير مريم البتول (تقدمة يسوع إلى الهيكل)
فيما يلاحظ عيد تطهير البتول الكلي طهرها، أي تقدمة ابنها يسوع المسيح إلى الهيكل بعد أربعين يوماً من ميلاده وفيه يبرهن عن عظمة القربان الذي صنعته هذه السيدة في مثل اليوم الحاضر لله، بتقدمتها له حياة ابنها.*
أن وصيتين كانتا مرسومتين في الشريعة الموسوية في شأن الأطفال الأبكار الفاتحين مستودعات أمهاتهم. فالوصية الأولى هي إن الوالدة الطبيعية كان يلزمها أن تستمر مدة أربعين يوماً كأنها دنسةٌ منفردةً في بيتها، وبعد نهاية هذه الأربعين يوماً كان يلزمها أن تمضي إلى هيكل الرب لتطهر ذاتها. وأما الوصية الثانية فكانت التزام الوالدين بأخذ ابنهما البكر إلى الهيكل وبتقدمتهما إياه لله كقربانٍ. فمريم البتول الكلية القداسة قد أرادت في مثل هذا اليوم أن تطيع مكملةً الوصيتين المذكورتين معاً. ولئن لم تكن هي ملتزمةً بإتمام الوصية الأولى الملاحظة تطهير الأمهات من دنسهن، لأنها قد كانت دائماً بتولاً نقيةً طاهرةً بريئةً من الدنس. ولكن مع ذلك حباً منها بفضيلة التواضع. وطاعة زائدة منها نحو الشريعة قد أرادت أن تصنع نظير سائر الأمهات، وتذهب إلى هيكل الرب لتطهر ذاتها، كما أنها قد أطاعت بالتمام الوصية الثانية بتقدمتها ابنها في الهيكل الناموسي لله أبيه، كما يخبرنا القديس لوقا الإنجيلي بقوله: أنه لما كملت أيام تطهيرها كناموس موسى، أخذ يسوع أبواه إلى أورشليم ليقيماه للرب، كما هو مكتوبٌ في ناموس الرب. أن كل ذكرٍ فاتح مستودعاً يدعى قدوساً للرب: (لوقا ص2ع22) غير أن مريم الطوباوية قدمت لله ابنها بنوعٍ مختلفٍ عن بقية الأمهات، اللواتي حين تقدمتهن أولادهن للرب، كن عارفاتٍ أن ذلك هو احتفالٌ طقسي بسيط مأمورة صيرورته بقوة الشريعة الموسوية. ومن ثم بواسطة الفدية التي كن يقدمنها عوضاً عنهم، كانوا يصيرون أولادهن الأحرار المعتوقين من كل ألتزامٍ آخر في هذا الشأن، وكن ناجياتٍ من كل خوفٍ من أنهن يلتزمن بأن يقدمنهم فيما بعد مرةً أخرى للموت. أما مريم فقدمت ابنها حقيقةً للموت، لأنها كانت متأكدةً أن ذبيحة حيوة يسوع التي صنعتها في الهيكل حينئذٍ، قد كان يوماً ما لازماً إكتمالها فوق مذبح الصليب. فلهذا عندما قدمت هي حياة ابنها، فلأجل الحب الشديد المرتبطة هي به معه بنوعٍ فائق الوصف. قد ضحت حياتها هي أيضاً وذاتها بجملتها صحبة هذا الابن الإلهي قرباناً لله. فإذا ما نحن تركنا جانباً التأملات والملاحظات الأخرى كلها، التي يمكننا أن نلاحظها متأملين في الأسرار المختصة بالعيد الحاضر، فلنأخذ بالتأمل في هذه القضية فقط، وهي كم كانت عظيمةً الضحية التي قدمت بها مريم البتول ذاتها لله، بتقدمتها لديه تعالى في مثل هذا اليوم حياة أبنها. والقضية المذكورة هي الموضوع الوحيد لهذا الفصل.*
فالآب الأزلي قد كان حدد راسماً أن يخلص الإنسان الهالك بالخطيئة وينقذه من الموت الأبدي، ولكن من حيث أنه جلت حكمته كان يريد في الوقت عينه أن عدله الإلهي لا يبقى خائباً من الوفاء المحق له ضرورةً، فلذلك إذ لم يوفر في هذا الأمر المهم عنايةً، حتى ولا حياة ابنه الوحيد المتجسد لأجل خلاص البشر، فأراد تعالى أن هذا الابن يفي بكل صرامةٍ العقاب الذي استحقته البشر، كما يقول الأنبا المصطفى: أن الله لم يشفق على ابنه بعينه بل بذله عن جميعنا: (رومانيين ص8ع32) فقد أرسله إذاً إلى العالم لأجل هذه الغاية متأنساً، وعين أماً له البتول مريم الطوباوية، ولكن لأنه عز وجل لم يرد أن ابنه الإلهي يصير ابناً لهذه العذراء قبل أن تعطى هي رضاها الصريح بذلك. فهكذا لم يشأ تعالى أن هذا الابن يقدم ذاته وحياته ضحيةً من غير أن ترافقه إرادة والدته ورضاها، حتى يكون على هذا النوع قلب مريم العذراء مقدماً ضحيةً لله جملةً مع تقدمة حياة ابنها يسوع. فالقديس توما اللاهوتي يعلم: بأن للأمهات من قبل صفتهن الوالدية حقاً وولايةً على أولادهن: فإذاً من حيث أن يسوع قد كان في ذاته باراً. ولم يكن مستحقاً أدنى عقابٍ لأجل ذنبٍ خصوصي الذي قط لم يلتحق به. فقد يبان لائقاً أن لا يكون تعينً هو لأن يقدم ذبيحةً على عود الصليب من أجل خطايا العالم من دون رضا أمه، الذي به تقدمه هي طوعاً واختيارياً للموت.*
ولكن ولئن كانت مريم البتول من حين صيرورتها أماً ليسوع المسيح. قد أعطت رضاها بموته، فمع ذلك أراد الرب أن هذه الأم الإلهية تقدم لديه تعالى في مثل هذا اليوم في الهيكل الأورشليمي ذاتها ضحيةً كاملةً، بطقسٍ احتفالي خارج، وذلك بتقدمتها الاحتفالية له حياة ابنها الحبيب غفراناً عن خطايا العالم ووفاءً لعدله الإلهي. ولهذا يسمي القديس أبيفانيوس هذه البتول القديسة: العذراء الكاهنة المقدمة الضحية. فالآن ينبغي لنا أن نتأمل في كم وجد ثمن هذه الضحية لدى مريم عظيماً. من قبل الألم الذي شعرت به باطناً، وكم هو مقدار الشجاعة وسمو فضيلة الصبر التي بها مارست هي هذه الضحية، بإمضائها حكومة الموت ضد ابنها الحبيب كأنه بخط يدها.*
فهوذا مريم تبادر نحو مدينة أورشليم بأسراعٍ لتكمل تقدمة ابنها قرباناً. حاملةً على ذراعيها الحمل المهيأ للذبيحة، حيث دخلت إلى هيكل الرب، ودنت من المذبح مملوءةً من الاحتشام والتواضع وحسن العبادة، مقدمةً للعلي بكرها المحبوب في الغاية، وفي الوقت عينه قد جاء إلى هناك القديس سمعان الشيخ، الذي كان حصل من الله على الوعد بألا يرى الموت قبل أن يعاين مسيح الرب المنتظر، فهذا البار اذ أقتبل من يدي البتول طفلها الإلهي. وأستنار من قبل الروح القدس، فأخبر هذه الأم عن عظمة ثمن ذاك القربان المقدم لله منها، لأنه كان يلزمها أن تضحي نفسها جملةً مع ابنها. فهنا القديس توما الفيلانوفي إذ يتأمل في كيفية حال الشيخ البار سمعان، عند التزامه بأن يعلن للعذراء المجيدة تلك الحكومة المرة ضدها. يقول هكذا: أن هذا الشيخ عند ذلك القلق وسكت، ولكن مريم كأنها كانت تقول نحوه لماذا أنت يا سمعان مضطربٌ، في الوقت الذي أنت فيه حاصلٌ على تعزيةٍ عظيمةٍ بمشاهدتك تمام ما وعدت به. فمن ثم أجابها هو قائلاً: أيتها السيدة الشريفة أني كنت أتمنى ألا أخبركِ بقضيةٍ مغمةٍ مملوءةٍ من المرارة، ولكن من حيث أن الله يريد مني أن أعلنها لديكِ، لأجل ازدياد أجركِ واستحقاقاتكِ ، فأسمعي ما أقوله لكِ، وهو أن هذا الطفل الذي الآن يجلب لكِ مقداراً لا حد له من الابتهاج والمسرة، وذلك بكل صوابٍ، أواه أنه هو نفسه يوماً ما عتيد أن يجلب لكِ الحزن الأشد مرارةً، الذي ما تجرعه قط إنسانٌ في العالم، وهذا سيكون حينما أنتِ تشاهدين ابنكِ هذا نفسه مضطهداً من كل نوعٍ من الشعوب، مطروحاً في الأرض كأحقر العبيد وكآخر الناس، مهزأ به غاية الاستهزاء. وأخيراً أمام عينيكِ سيمات مشجوباً موت العار، ثم أعلمي أيضاً أنه بعد موته عتيد أن يموت من أجله عددٌ عظيمٌ من الشهداء فيما بين العذابات القاسية، ولكن إذا كان أستشهادهم المر مزمعاً أن يتم بأجسادهم، فأستشهادكِ أنتِ أيتها الأم الإلهية عتيد أن يصير بنفسكِ وقلبكِ.*
أي نعم أن استشهاد هذه البتول المجيدة كان عتيداً أن يتم في قلبها، بواسطة التوجع والحزن المر على ابنها الحبيب الوحيد، وهذا هو السيف الذي كان عتيداً أن يحوز في نفسها قاطعاً فاصلاً مفقداً إياها الابن الكلي الحب لديها. وهذه هي ألفاظ نبؤة الشيخ سمعان القائل لمريم أمه: ها هوذا هذا موضوع لسقوط وقيام كثيرين في اسرائيل. ولعلامة تخالفٍ، وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ، لتظهر أفكارٌ من قلوبٍ كثيرين: (لوقا ص2ع34) فيقول القديس أيرونيموس أن البتول الكلية القداسة قد كانت استنارت من الكتاب الإلهي، وعرفت مقدار الآلام التي كان يلزم أن يحتملها ابنها المخلص في مدة حياته، وبأبلغ من ذلك في حين موته. على أنها كانت تفهم جيداً من أقوال الأنبياء أنه كان ينبغي له أن يسلم بخيانةٍ من أحد المختصين به، كقول داود النبي: أن إنسان سلامي الذي وثقت به الذي أكل خبزي ورفع عليَّ عقبه: (مزمور 41ع10) وأنه سيهمل متروكاً من تلاميذه. بموجب نبؤة زخريا هكذا (ص13ع7): قال رب الجنود أضرب الراعي فتتبدد الخراف: وكانت تعرف حسناً الإهانات التي كان يلزمه أن يتكبدها. واللطم والبصاق والاستهزاء المزمع أن يلم به من الشعوب. كقول أشعيا النبي: أنا لست أعصي ولا أجاوب. قد بذلت ظهري للسياط. وخدي لل لطمات. وما رددت وجهي من خزي البصاق عليه: (ص50ع5) قد كانت تعلم أنه كان عتيداً أن يصير هو عاراً فيما بين الأمم وهزاءاً للناظرين ورذالةً في الشعب، حسبما تنبأ عنه داود قائلاً (مزمور22ع7): أنا دودة ولست إنساناً، عارٌ للبشر ورذلةٌ في الشعب: وكما قال عنه أرميا (مراثي ص3ع30): يعطي الخد لمن يلطمه، يشبع من العار: وكانت عارفةٌ أن لحمانه المقدسة كانت عتيدةً عند نهاية حياته أن تتناثر بالجلد، كقول أشعيا النبي: هو جرح لأجل تجاوزنا الشريعة، وتوجع بسبب خطايانا: (ص53ع5) بنوعٍ أن جسده كان يلزم أن يعود فاقد الصورة حاصلاً كجسم إنسانٍ أبرص كله جراحاتٌ. حتى أن عظامه نفسها تصير منظورةً مجردةً. كقول النبيين أشعيا وداود هكذا: ليس له منظرٌ ولا جمال… ونحن حسبناه كأبرص: وأحصوا جميع عظامي: وكانت تعرف أنه كان يلزم أن يديه ورجليه تتبجن مسمرةً كقول المرتل: ثقبوا يدي ورجلي: (مزمور22ع18) وأنه مزمعٌ أن يحصى فيما بين الأشرار. كقول أشعيا النبي: أنه حسب مع العادمين الشريعة ( ص53ع12) وأخيراً كانت عارفةً بأنه كان عتيداً أن يموت مطعوناً بحربةٍ على الضليب. كقول زخريا النبي: وينظرون إليَّ أنا الذي طعنوه: (ص12ع10).*
فأي نعم أن هذه الأشياء بوجه العموم كانت معروفةً عند البتول الكلية القداسة، ولكن عندما قال لها سمعان الشيخ: وأنتِ سيحوز سيفٌ في نفسكِ: فحينئذٍ (حسبما أوحى الرب للقديسة تقلا) قد انكشفت لديها ظروف آلام ابنها مفصلاً، والأوجاع الباطنية والخارجة التي كانت مزمعةً أن تحيق به حين آلامه، وهي أي العذراء المجيدة قد ارتضت بذلك جميعه، وبثبات عزمٍ وشجاعةٍ تذهل عقول الملائكة قبلت حكومة الموت على ابنها الوحيد. موتاً هكذا شنيعاً وذا آلامٍ مرةٍ قابلةً: أيها الآب الأزلي أنك إذ كنت هكذا تريد، فلتكن مشيئتك لا مشيئتي، وأنا أتحد إرادتي مع إرادتك المقدسة، وأضحي لديك ابني هذا، وأرتضي بأن يعدم الحياة لأجل مجدك، ولأجل خلاص العالم، ومعه أنا أقرب لك ضحية قلبي أيضاً فليجز فيه سيف الحزن والوجع حينما تشاء يا إلهي، ويكفيني أنك تعود ممجداً وراضياً، ليس كمشيئتي بل كمشيئتك”. فيا لها من محبةٍ لا قياس لها، ويا لها من شجاعةٍ لا مثيل لها، ويا له من انتصارٍ يذهل العقول، ويا لها من غلبةٍ تستحق مؤبداً مديح السماويين والأرضيين.*
فمن هذا القبيل والدة الإله حين آلام ابنها قد وجدت ساكتةً، ولم تتكلم شيئاً ضد المثالب الضالة التي منيَ هو بها، بل لم تهتم في إنقاذه عند بيلاطس الذي كان عرف برائته مريداً إطلاقه. ولكنها ظهرت في ذلك المحفل فقط عند جبل الجلجلة لكي تشترك بتقدمة ذبيحته العظيمة هناك، إذ أنها قد رافقته منذ ابتداء صلبه، ولم تفارقه إلى أن تمم الذبيحة ومات على الصليب، كقول البشير: وكانت واقفةً عند صليب يسوع أمه: وهذا كله فعلته لتكمل الضحية التي كانت سبقت وقدمتها لله، من يوم تقدمتها يسوع له تعالى في الهيكل.*
فلكي يستطيع أحدٌ أن يدرك عظم الجهاد الذي تكبده هذه الأم الإلهية ضد ذاتها في أمر قربان ابنها وتقدمتها إياه ضحيةً وكم كان علقم مرارة الألم الذي هي تجرعته في شربها هذه الكأس. فينبغي ضرورةً أن يدرك قبلاً مقدار الحب الذي به كانت هي تحب هذا الابن الوحيد. فنحن بوجه العموم نعلم أن المحبة الوالدية الكائنة في الأمهات عموماً نحو أولادهن، تصيرهن عند موتهم أو فقدانهم أن ينسين بالكلية نقائصهم بأسرها، وخصالهم الرديئة وبشاعة خلقة بعضهم بل الإهانات والإفتراء الذي يكون التحق بهن من البعض منهم. وبالإجمال يشعرون بالوجع والحزن على فقدهم كأنهم مزينون بالكمالات بأجمعها. هذا مع أن حب هؤلاء الأمهات لأولادهن المشار إليهم هو حبٌ مقسومٌ فيما بينهم وبين أولادهن الآخرين، أو فيما بينهم وبين موضوعاتٍ أخرى من الأشياء المجلوقة. أما البتول القديسة فليس لها إلا ابنٌ طبيعي واحدٌ فقط، وهو كلي الجمال وسامٍ في البهاء على أولاد آدم كافةً، وهو موضع الحب الكلي، لأنه حاوٍ كل الصفات الموجبة حبه. وهو مطيعٌ وديعٌ عذبٌ بارٌ قدوسٌ، مالكٌ على كل الفضائل الفائقة سمواً، ويكفي القول عنه أنه متأنسٌ، ثم أن الحب الذي لهذه الم الإلهية نحوه تعالى لم يكن مقسوماً فيما بينه وبين موضوعاتٍ أخرى، بل أنها وضعت حبها بجملته في هذا الابن الوحيد، ولم يكن عندها خوفٌ من أن تفرط بحبه الزائد المتفاوت الحدود، إذا تركت لذاتها العنان بتعلق قلبها الشديد به. لأنه في الوقت عينه الذي فيه هو ابنها، ففيه نفسه هو إلهها المستحق أن يحب فوق كل شيءٍ حباً غير متناهٍ. فابنٌ هذه صفاته قد وجد هو هو عينه الضحية التي هذه الأم التزمت بأن تقدمها اختيارياً للموت.*
فلينظر كل واحدٍ متأملاً في كم احتملت مريم العذراء في ذاتها وبأية شجاعةٍ قد أتصفت بتقدمتها ابنها هذا الحبيب محرقةً حيةً، ليموت على الصليب موت العار. فهذه هي الأم الأعظم سعادةً فيما بين الأمهات كلهن. من حيث أنها اختيرت والدةً لله، ولكنها في الوقت ذاته هي الأم المستحقة أكثر من سائر الأمهات التوجع من أجلها. لأنها اختبرت في ذاتها مرائر الآلام بنوعٍ لم يحدث قط، ولا هو ممكنٌ أن يحدث لأمٍ سواها. لأنها من حينما حصلت على هذا الابن. فإنما فازت هي به محكوماً عليه بأن يموت فيما بين الآلام الأشد قساوةً. فترى أي أمٍ تقبل لها ابناً ذاك الذي قد أعد معيناً لأن يموت موت الخزي والعار أمام عينيها. فمريم وحدها قد اقتبلت أن تتبنى بهذا الأبن تحت شرطٍ هكذا شديد المرارة، وفائق الاحتمال طبيعياً، وليس فقط أنها قبلت هذا الشرط، بل أيضاً هي نفسها في مثل هذا اليوم قدمت ابنها بيديها، قرباناً معداً لذبيحةٍ دمويةٍ مزمعة أن تضحى على الصليب اللعدل الإلهي. فيقول القديس بوناونتورا: أن الطوباوية مريم البتول لقد كانت بأوفر رضا اقتبلت على ذاتها الآلام والموت المرسوم على ابنها احتماله. ولكنها طاعةً منها لله قد صنعت التقدمة العظيمة، مضحيةً حياة ابنها الإلهية المحبوبة منها بهذا المقدار، منتصرةً بألمٍ لا يوصف على مفاعيل انعطافات حبها الوالدي الشديد: ومن ثم في هذه التقدمة قد صنعت هي أمراً أعظم جداً. باغتصابها ذاتها وبصبرها على التوجع بشجاعةٍ، مما لو كانت تقدم ذاتها هي نفسها لأحتمال جميع ما كان مرسوماً على ابنها أن يتحمله، فهي بفعلها هذا سمت متعاليةً على جميع ما أحتمله فيما بعد الشهداء كلهم. لأن الشهداء إنما قدموا لله حياتهم الذاتية، أما مريم فقدمت له تعالى حياة ابنها الذي كانت تحبه وتعتبره أفضل من حياتها بما لا يحد ولا يوصف.*
ثم أن تقدمة البتول المجيدة لم تنته عند هذا الحد، بل ههنا هي بدايتها، لأن هذه الأم الإلهية منذ تلك الساعة إلى نهاية حياة ابنها، قد كانت على الدوام تشاهج بإزاءٍ عيني عقلها جميع الآلام والموت المزمع هذا الابن الإلهي أن يتكبده. وبالتالي بمقدار ما كانت يوماً فيوماً تختبر جديداً في حبيبها يسوع موضوعاتٍ للحب ولتعلق القلب به. فبأكثر من ذلك كان يزداد في فؤادها ألم الحزن بتذكرها ما كان عتيداً أن يحدث له عند نهاية حياته.*
أواه أيتها الأم المحزونة. أنكِ لو تكونين وجدت أقل حباً لابنكِ، أو لو كان هذا الابن وجد مستحقاً أقل حباً. أم لو أنه كان أحبكِ أقل حباً. فلكان توجعكِ وآلامكِ وجدا أقل مرارةً وعذاباً، بتقدمتكِ حياة هذا الأبن ضحيةً للموت على الصليب. ولكن لا وجدتِ ولا هو ممكنٌ أن توجد أمٌّ أحبت ابنها بمقدار حبكِ يسوع ابنكِ. لأنه لا وجد قط ولا هو ممكنٌ أن يوجد ابنٌ محبوبٌ ومستحق أن يحب نظير ابنكِ. ولا نظير حبه إياكِ الشديد. أترى لو أمكننا أن نشاهد جمال وجه هذا الطفل الإلهي، وجلالة هيبته ألقد كنا ارتضينا بأن نقدمه ضحيةً من أجل خلاصنا. أما أنتِ يا مريم التي هي أمه المتعلقة بحبه بهذا المقدار كما يستحق. فكيف استطعتِ أن تقدمي ذبيحةً من أجل خلاص البشر هذا الابن البار، ضحيةً للموت فيما بين أوجاعٍ فائقة الإدراك، وبميتةٍ لم يحدث مثلها قد لأحدٍ من المجرمين.*
أواه كم كانت مرائر الحزن تجرح قلب هذه الأم الرؤوفة منذ ذلك اليوم فصاعداً، أي مدة حياة يسوع المسيح على الأرض. بتذكرها على الدوام، وبتصورها أمام عينيها الآلام والأهانات التي كان البشر عتيدين أن يعاملوا بها هذا الابن الإلهي. فالحب الوالدي كان دائماً يصور لديها يسوع غائصاً في بحر الحزن في بستان الزيتون، قاطراً من جسده عرقٌ دمويّ، مجلوداً في دار بيلاطس، ممزقاً جسمه من شدة الضرب، مكللاً بأكليل الشوك، متردياً بثوب الأرجوان للاستهزاء. وأخيراً معلقاً على خشبة العار فيما بين لصين على جبل الجلجلة. فهوذا أيتها الأم (كان يقول نحوها الحب) الابن الحبيب البار الذي أنتِ تقدمينه ضحيةً ليحتمل أعظم آلاماً هذه صفتها وشدة مرارتها. فترى ماذا يفيدكِ أن تهربي به إلى مصر لتخلصيه من يدي هيرودس، وتحفظيه لميتةٍ ذات حزنٍ أعظم وآلامٍ أمر.*
فإذاً مريم ليس في هيكل أورشليم فقط قدمت ابنها ضحيةً لله أبيه، بل أنها قدمته قرباناً متصلاً متكرراً على الدوام مدة حياته كلها. لأن هذه السيدة قد أوحت للقديسة بريجيتا: بأن سيف الحزن والوجع الذي أخبرها عنه سمعان الشيخ لم يفارق قلبها قط، طالما هي بقيت في الأرض إلى حينما ارتقت إلى السماء.
ثم يقول نحوها القديس أنسلموس: أنه لا يمكنني يا سيدتي أن أصدق، أنكِ مع وجودكِ في حزنٍ ومرارة قلبٍ هكذا شديدةٍ، أستطعتِ أن تعيشي على الأرض دقيقةً واحدةً، لولا أن الله نفسه الذي يهب الحياة يحفظكِ بقوته الإلهية: إلا أن القديس برنردوس يشهد لنا عن مرارة الحزن الذي تجرعته هذه البتول، حين تقدمتها ابنها لله في الهيكل الناموسي بقوله: أنها كانت تعيش مائتةً في كل دقيقةٍ، لأنه في كل دقيقةٍ كان يعتريها وجع موت ابنها يسوع الحبيب، الوجع الذي هو أشد قساوةً من أية ميتةٍ كانت.*
فبالصواب هذه الأم الإلهية، لأجل ما اكتسبته من الاستحقاق العظيم، بواسطة هذا القربان الكريم الذي قدمته لله من أجل خلاص العالم، قد دعيت من القديس أوغوسطينوس: مصلحة الجنس البشري. ومن القديس أبيفانيوس: فادية المأسورين: ومن القديس أيدالفنسوس: مقومة العالم الهالك. ومن القديس جرمانوس: أصلاح تهشمنا وشقائنا. ومن القديس أمبروسيوس: أم المؤمنين أجمعين. ومن القديس أوغوسطينوس نفسه: أم جميع الأحياء. ومن القديس أندراوس الأقريطشي:“أم الحياة”. على أنه، كما يقول أرنولدوس كارنوطانسه: أنه في موت يسوع قد أتحدت مريم أمه إرادتها مع إرادة ابنها هذا الإلهي، بنوع أنهما كليهما قدما ذبيحةً واحدةً هي نفسها. ولهذا كما الابن كذلك الأم قد باشرا عمل الفداء واستمدا الخلاص للبشر. فيسوع اكتسب لنا الخلاص بواسطة وفائه عن خطايانا. ومريم بواسطة استمدادها لنا تخصيص هذا الوفاء ومن ثم كتب الطوباوي ديونيسيوس كارتوزيانوس: أنه يمكن أن تسمي هذه الأم أفلهية: مخلصة العالم: لأنها بواسطة الآلام التي هي تكبدتها بتوجعها من أجل ابنها (الذي هي أختيارها قدمته ذبيحةً للعدل الإلهي) قد استحقت للبشر أن يشتركوا بعد ذلك بأثمار الفداء.*
فمن حيث أن البتول المجيدة إذاً لأجل استحقاقات آلامها وتوجعها، وما تكبدته بتقدمة ابنها قرباناً لله اكتسبت صفة كونها أماً لجميع المفتدين. فأمرٌ عادلٌ هو الاعتقاد بأنه بواسطتها هي وحدها يعطى لهم حليب النعم الإلهية. التي هي أثمار إستحقاقات يسوع المسيح. ثم الوسائط المبلغة إلى الحياة الأبدية. وهذا يوافق لما يقوله القديس برنردوس: أن الله قد وضع في يد مريم كل ثمن فدائنا: فبهذه الكلمات يعلمنا القديس المذكور أنه بواسطة تضرعات البتول الطوباوية. تتخصص الأنفس باستحقاقات المخلص. في الوقت الذي فيه تتوزع عن يدي هذه الأم الإلهية النعم التي إنما هي قيمة استحقاقات يسوع المسيح.*
لأنه إن كان الله بهذا المقدار ارتضى مسروراً بتقدمة أبينا أبراهيم. التي بها أطاع صوته تعالى ليقدم له ابنه أسحق ضحيةً. حتى أنه عز وجل ألزم ذاته بأن يكثر نسل أبراهيم كنجوم السماء. كما هو مكتوبٌ: بذاتي حلفت يقول الرب. لأجل أنك عملت هذا العمل وما شفقت من أجلي على ابنك الحبيب. بالحقيقة لأباركنك تبريكاً. ولأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء، وكالرمل الذي عند شاطئ البحر. ويرث نسلك مدن أعدائه، وتتبارك بنسلك كافة أمم الأرض عوض ما سمعت صوتي: (سفر التكوين ص22ع16 إلخ) فيلزمنا بكل تأكيدٍ أن نصدق. بأن القربان الأعظم والأكمل والأشرف. الذي قدمته لله هذه الأم العظيمة بتضحيتها ابنها يسوع. قد وجد لديه سبحانه أكثر قبولاً. وسر به أوفر سروراً من قربان ابراهيم. ولذلك قد أعطاها جلت عدالته. أن بواسطة تضرعاتها يتكاثر عدد المنتخبين. أي نسل أولادها السعيد الذي هي تحامي عنه متشفعةً بالمتعبدين لها.*
فالقديس سمعان الشيخ قد نال الوعد من الله بألا يذوق الموت ألى أن يعاين مسيح الرب. كما يقول عنه القديس لوقا الإنجيلي (ص2ع26): أنه لا يرى الموت حتى يعاين مسيح الرب: إلا أن هذا البار لم يفز بهذه النعمة من دون واسطة مريم البتول. لأنه لم يجد مسيح الرب يسوع إلا فيما بين ساعدي أمه هذه العذراء، ولهذا من يريد أن يجد يسوع. فلا يحصل عليه إلا بواسطة مريم. فلنذهبن إذاً نحو هذه الأم الإلهية أن كنا نريد أن نجد يسوع. ولنبادرن إليها برجاءٍ وطيدٍ وأملٍ أكيدٍ. فقد أوضحت العذراء المجيدة لعبدتها برودانتسيا نازاينوني، أن كل سنةٍ في هذا اليوم الثاني من شهر شباط المختص بعيد تطهيرها، يمنح الله نعمةً ذات رحمةٍ عظيمةٍ لواحدٍ من الخطأة، فمن يعلم أن هذا الخاطئ السعيد يكون واحداً منا نحن في هذا اليوم. فإن تكن خطايانا عظيمةً، فأعظم منها هو اقتدار مريم، لأن ابنها الإلهي لا يعرف أن ينكر شيئاً مما تطلبه منه هذه الأم العزيزة لديه، كما يقول القديس برنردوس. وأن كان يسوع هو غضبان علينا، فمريم حالاً تهدئ غضبه وتعطفه إلى الرضوان نحونا. فيخبرنا المؤرخ بلوطاركوس بأن أنتيباطروس كتب إلى الملك ألكسندروس الكبير رسالةً مستطيلةً ضد أوليمبيا أمه. فلما قرأ الرسالة ألكسندروس قال: أن أنتيباطروس لا يعلم أن دمعةً صغيرةً تقطر من عيني أمي تكفي لأن تمحي عدداً فائق الإحصاء من الرسالات المملوءة شكاواتٍ. فهكذا يمكننا أن نتصور في عقولنا أن يسوع يرد الجواب للشيطان عدونا عن جميع الشكايات التي يقدمها ضدنا، حينما تتوسل مريم الى هذا الابن افلهي من أجلنا ويقول: أن لوسيفوروس لا يعلم أن تضرعاً واحداً مقدماً لي من أمي من أجل خاطٍ ما، يكفي لأن يجعلني أن أنسى جميع الإهانات التي هو أغاظني بها. وهذ يتضح من النموذج الآتي تحريره.*
* نموذج *
أن هذا النموذج لم يوجد مدوناً في كتابٍ ما عند أحد الكتبة الكنائسيين، بل أن أحد رفاقي الكهنة قد أخبرني به شفاهياً. لأن الأمر الآتي إيراده قد حدث مع هذا الكاهن نفسه، وهو أن خادم الله المومى إليه إذ كان يوماً ما جالساً في كرسي الاعتراف كالعادة في إحدى الكنائس (وهنا نصمت عن ذكر اسم البلد لأجل الاحترام الواجب للسر. ولئن كان المعترف أعطى الأذن لمعلم اعترافه المشار إليه بأن يشهر الحادث) فجاء أمامه شابٌ قد كان يظهر عنه بعض إشاراتٍ دالةٍ على مقاومةٍ في أفكاره، فيما بين الإرادة بأن يتقدم إلى منبر الاعتراف وبين رفض قبول هذا القصد. فلما لاحظه الكاهن وهو في كرسي الاعتراف عدة مراتٍ يتقدم ويتأخر حاصلاً في تلك الحال. قد دعاه إليه أخيراً وسأله أن كان يريد أن يعترف، فأجابه الشاب أي نعم أنه كان يرغب الاعتراف. ولكن من حيث أن ذاك الاعتراف كان يلزمه خطابٌ مستطيل. فأخذه الكاهن إلى قلايةٍ منفردة نوعاً، وهناك ابتدأ الشاب المعترف بأن يخبره عن ذاته بأنه هو رجل شريف غريب البلاد، ولكنه لم يكن يفهم كيف أن الله كان يمكنه أن يغفر له الخطايا التي أرتكبها هو في مدة حياته بسيرةٍ ممقوتة. لأنه ما عدا الخطايا الفائقة الإحصاء عدداً، التي فعلها بأنواعٍ كثيرة ضد الطهارة وضد العدل، من الفواحش والقتل تعمداً وغيرها من الكبائر. قد اعترف بأنه لحال يائسه قطع رجائه مطلقاً من الخلاص. أبتدأ يرتكب مآثم رديئة جداً تعمداً، ليس لأشفاء آلامه السيئة بل تقصداً منه بأهانة الله، وبالأفتراء عليه تعالى، وبغضةً محضةً في عزته الإلهية، وقال أيضاً انه كان حاملاً على ذاته صليب مجسم مطرحه في الأرض بإهانةٍ. واعترف كذلك بأنه قبل أيامٍ وجيزة من ذاك اليوم الذي فيه تقدم إلى الاعتراف. قد كان تناول القربان المقدس ليس بنفاقٍ فقط، وهو في تلك الحال الأثيمة، بل خصوصاً لهذه الغاية، وهي ليخرج من فمه سراً بعد التناول جسد الرب الأقدس ويضعه تحت رجليه ويدوس عليه. وأنه حقيقةً بعد أن تناوله أخرجه من فمه ليتمم قصده الذي ترتعش المفاصل من مجرد ذكره، ولكنه لم يتمم ذلك حياءً من الناس الذين كانوا ينظرون إليه. ولهذا حفظ القربان الأقدس ضمن ورقةٍ. وحينئذٍ أي حين اعترافه سلمها بيد الكاهن المومى إليه. ثم أورد بعد ذلك أنه حينما كان ماراً في ذاك الصباح من أمام تلك الكنيسة، قد شعر باطنياً بإرادةٍ فعالةٍ تجتذبه إلى الدخول هناك، وأنه إذ لم يمكنه مقاومة هذا العزم الباطن الشديد قد دخل الكنيسة، وأنه وقتئذٍ قد ابتدأ ضميره أن يوبخه بقساوةٍ، وتواردت عليه الأفكار في أن يتقدم إلى كرسي الاعتراف ليقر بخطاياه، ولكن هذه الأفكار كانت تقاوم من إرادته فيما بين النعم واللا، من دون أن يعتمد على شيء. وأنه لأجل ذلك بعد أن كان دنا من منبر الاعتراف، قد كان قلقه شديداً ورجاؤه ضعيفاً بالكلية في نوال الغفران، حتى أنه أراد أن يخرج من الكنيسة. ولكنه كان يشعر باطناً بشيء يغتصبه على المكث هناك. ثم أردف كلامه قائلاً للكاهن: أني قد أستمريت على هذه الحال الى أن دعوتني أنت أيها الأب، وهكذا أنا الآن أرى ذاتي جاثياً أمامك معترفاً بخطاياي، ولكنني لا أعرف كيف تم بي ذلك. فبعد هذا جميعه قد سأله معلم الاعتراف إن كان في تلك الأيام مارس هو عبادةً ما. وماذا كانت تلك الأشياء التي مارسها. مشيراً بذلك الى عبادةٍ نحو مريم البتول، لمعرفته أن نعماً هذه صفتها فعالةً لا تخرج أعتيادياً الا من يد هذه السيدة المقتدرة أمام الله بشفاعاتها لاستمداد نعمٍ كذا. فأجابه المعترف قائلاً: كلا، لأنه ترى أية عبادة أيها الأب يمارس إنسانٌ مثلي قد كان قطع رجاه من الخلاص بالكلية، فأنا حصلت ميؤوساً على الإطلاق، وكنت أعتد ذاتي هالكاً لا محالة: فقال له الكاهن: أفتكر جيداً لتعرف الحقيقة: فأجابه كالأول نافياً لعلمه بأنه لم يكن يمارس عبادةً ما، ولكنه في هذه الحركة إذ كان مريداً أن يكشف صدره للكاهن، وإذا بثوب السيدة المحزونة معلقاً على بعض أثوابه التحتانية كأنه منذ أزمنةٍ. فحينئذٍ قال له الكاهن: هوذا يا ابني التي فعلت معك هذه النعمة، وأعلم يا ولدي أن هذه الكنيسة خاصة سيدتنا والدة الإله. فالشاب عندما سمع ذلك قد تخشع وبدأ يبكي، وقد أتبع إيراد خطاياه بندامةٍ وتوجع مع بكاءٍ بشهيقٍ، حتى أنه من شدة الأسف والندامة الباطنة المرافقة بانسكاب العبرات، قد سقط في الأرض غاشياً غائباً عن الحواس. فمعلم الاعتراف أحضر إليه بعض روائح معطرة التي باستنشاقه إياها قد رجع إلى ذاته، وهكذا أمكنه أن يتمم اعترافه. والكاهن بعد وضعه عليه القوانين قد حله من خطاياه بتعزيةٍ عظيمةٍ للجهتين. لا سيما للمعترف الممتلئ من الخشوع والندامة والقصد الأكيد على إصلاح سيرته، وبعد ذلك قد أصرفه الكاهن ليسافر راجعاً الى وطنه، وبعد أن أعطاه المعترف إذناً صريحاً بأن يخبر بهذا الحادث لكل من يريده. ويشهره في المواعظ وغيرها. لتعرف عند الجميع المراحم العظيمة التي استعملتها معه هذه السيدة أم الرحمة.*
† صلاة †
يا والدة الإله القديسة مريم أمي. أنكِ بهذا المقدار إذاً أنتِ اهتممتِ في أمر خلاصي الأبدي، حتى أنكِ اتصلتِ إلى أن تضحي ذبيحةً حيةً الموضوع الذي لا يوجد أعز منه على قلبكِ وتقدميه للموت وهو ابنكِ الحبيب يسوع. فإذاً من حيث أنكِ تريدين إرادةً هكذا فعالةً أن تشاهديني مخلصاً، فبالصواب أنا أضع فيكِ بعد الله رجائي كله، اي نعم أنني أثق بكِ أيتها البتول المباركة بأملٍ وطيدٍ، متوسلاً إليكٍ باستحقاقات هذا القربان العظيم الذي أنتِ قدمتيه في مثل هذا اليوم، وهو حياة ابنكِ، بأن تطلبي إليه أن يرحمني ويشفق على نفسي، التي من أجلها لم يأنف هذا الحمل البريء من العيب من أن يموت على الصليب.*
فأنا أشتهي يا سلطانتي اقتداءً بنموذجكِ أن أقرب لله في هذا اليوم قلبي المسكين، ولكني أخاف من أنه تعالى يرذله عند مشاهدته إياه هكذا دنساً متمرغاً في حماة الأباطيل. غير أنه إذا أنتِ قدمتيه له تعالى فلا يرفضه. لأن التقدمات التي تتقرب إليه عز وجل عن يديكِ الكلية طهارتهما. فهو يقبلها كلها مرتضياً بها، فمن ثم أتقدم إليكِ في هذا النهار يا مريم أنا الشقي، وأهبكِ ذاتي بجملتها، فأنتِ قدميني كشيء مختص بكِ لدى الآب الأزلي جملةً مع أبنكِ يسوع، وتوسلي إليه باستحقاقات ابنه الإلهي وحباً بكِ، بأن يقبلني خاصته. فلا تهمليني يا أمي الكلية الحلاوة، بحق المحبة التي بها تحبين ابنكٍ الذي ضحيتيه قرباناً من أجلي. لكن عينيني دائماً. ولا تسمحي بأني يوماً ما أفقد بخطاياي هذا الأبن الإلهي، الذي أنتِ بأوجاعٍ هكذا مرةٍ قدمتيه ضحيةً على خشبة الصليب من أجل خلاصي. بل قولي أني عبدكِ أنا وأني قد ألقيت عليكِ كل رجائي. وبالإجمال قولي له أنكِ تريدين خلاصي، لأنه تعالى بكل تأكيدٍ يقبل ذلك آمين.*
†
No Result
View All Result
Discussion about this post