رسالة بندكتس السادس عشر بمناسبة الصوم الكبير 2011
المعمودية، لقاء مع المسيح
روما، الأربعاء 23 فبراير 2011 zenit.org
يقترح البابا بندكتس السادس عشر
مسار صوم متمحوراً حول معنى المعمودية كلقاء مع المسيح.
“باللقاء الشخصي مع فادينا، وبممارسة الصوم، الصدقة والصلاة،
ترشدنا درب الاهتداء إلى الفصح إلى اكتشاف معموديتنا بشكل جديد”،
يكتب البابا في هذه الرسالة التي قدمها صباح الثلاثاء في الفاتيكان
والتي وقعت بتاريخ الرابع من نوفمبر.
ننشر في ما يلي رسالة بندكتس السادس عشر.
***
“فقد دفنتم معه في المعمودية، وفيها أيضاً أقمتم معه” (كول 2، 12).
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
إن الصوم الكبير الذي يقودنا إلى الاحتفال بالفصح المقدس، يشكل بالنسبة إلى الكنيسة زمناً ليتورجياً ثميناً ومهماً. بسرور، أوجه لكم هذه الرسالة لكي يتم عيش هذا الصوم بكل الحماسة الضرورية. في انتظار اللقاء الحاسم مع عريسها خلال الفصح الأبدي، تعزز الجماعة الكنسية درب تطهرها في الروح، من خلال صلاة مواظبة ومحبة فعالة، لكي تستقي بوفرة أكبر الحياة الجديدة في المسيح الرب من سر الفداء (المقدمة الأولى من الفصح.
1.هذه الحياة منحت لنا يوم معموديتنا عندما بدأنا “مغامرة التلاميذ السارة والمحمسة” بعد أن “أصبحنا شركاء في موت المسيح وقيامته” (العظة في عيد معمودية الرب، 10 يناير 2010). في رسائله، يشدد القديس بولس مراراً على الشركة الاستثنائية مع ابن الله، التي تتحقق لحظة الانغماس في مياه المعمودية. إن فعل نيل سر العماد في معظم الأحيان في سن صغيرة يشير إلينا بوضوح أنه هبة من عند الله: لا أحد يستحق الحياة الأبدية بجهوده الخاصة. فرحمة الله التي تمحو الخطيئة وتسمح لنا بعيش وجودنا بـ “هذا الفكر الذي هو أيضاً في المسيح يسوع” (فيل 2، 5) تعطى للإنسان مجاناً.
في الرسالة إلى أهل فيليبي، يوضح لنا رسول الأمم معنى التبدل الذي يحصل عبر المشاركة بموت المسيح وقيامته، ويدلنا على الغاية: “أن أعرف المسيح وقوة قيامته والشركة في آلامه؛ والتشبه به في موته، على رجاء القيامة من بين الأموات!” (فيل 3: 10، 11). المعمودية ليست إذاً طقساً من الماضي، بل هي اللقاء مع المسيح الذي يعطي معنى لكل حياة المعمد، ويمنحه الحياة الإلهية ويدعوه إلى اهتداء صادق تحركه وتدعمه النعمة، سامحاً له بالتوصل إلى مقام المسيح الكامل.
هناك رابط خاص يجمع المعمودية بالصوم كفترة ملائمة لاختبار النعمة المخلصة. لقد وجه آباء المجمع الفاتيكاني الثاني دعوة إلى جميع رعاة الكنيسة من أجل “استخدام أكبر لعناصر العماد الخاصة بليتورجيا الصوم الكبير” (الدستور الرسولي “المجمع المقدس” Sacrosanctum Concilium، 109). ففي الواقع، ومنذ بداياتها، جمعت الكنيسة أمسية الفصح بالاحتفال بالعماد: ففي هذا السر، يتحقق السر العظيم الذي فيه يموت الإنسان بسبب الخطيئة، ويصبح مشاركاً في الحياة الجديدة في المسيح القائم من بين الأموات، ويتلقى روح الله عينه الذي أقام يسوع من بين الأموات (رو 8، 11). هذه الهبة المجانية يجب إنعاشها دوماً في كل واحد منا، والصوم يقدم لنا مساراً مشابهاً لمسار تحضير الموعوظين الذي يشكل بالنسبة إلى مسيحيي الكنيسة الأولية وموعوظي اليوم، مدرسة إيمان وحياة مسيحية: يعيشون عمادهم كفعل حاسم لكل وجودهم.
- في سبيل سلوكنا الدرب المؤدية إلى الفصح بجدية، واستعدادنا للاحتفال بقيامة الرب العيد الأكثر سروراً وأبهة في السنة الليتورجية ، ما المناسب أكثر من السماح لكلمة الله بهدايتنا؟ لذلك، تقودنا الكنيسة من خلال النصوص الإنجيلية المعلنة خلال أيام آحاد الصوم إلى لقاء عميق مع الرب، وتجعلنا نجتاز من جديد مراحل الإعداد المسيحي: للموعوظين الجدد، استعداداً لنيل سر الولادة الجديدة؛ للمعمدين، على ضوء الخطوات الحاسمة الجديدة التي يجب اتخاذها على خطى المسيح، في بذل الذات له بشكل أكمل.
الأحد الأول في مسار الصوم يكشف حالتنا كبشر. وكفاح يسوع الظافر ضد التجارب الذي يفتتح زمن رسالته هو دعوة إلى إدراك ضعفنا لنقبل النعمة التي تحررنا من الخطيئة وتقوينا بشكل جديد في المسيح، الطريق والحق والحياة (Ordo Initiationis Christianae Adultorum، رقم 25). إنها دعوة ملحة إلى أن نتذكر، على مثال المسيح وبالاتحاد معه، أن الإيمان المسيحي يتضمن كفاحاً ضد “أسياد العالم حكام هذا الظلام” (أف 6، 12) حيث يعمل الشرير ولا يتوقف حتى في أيامنا هذه عن إغراء كل إنسان راغب في التقرب من الرب: المسيح ينتصر في هذا الصراع، يفتح أيضاً قلوبنا على الرجاء، ويرشدنا إلى الانتصار على إغراءات الشر.
يظهر لنا إنجيل تجسد الرب مجد المسيح الذي يتوقع القيامة ويعلن تأليه الإنسان. تكتشف الجماعة المسيحية أنها تؤخذ، على غرار الرسل بطرس ويعقوب ويوحنا، “على انفراد إلى جبل عال” (مت 17، 1) لكي تنال بشكل جديد، في المسيح، وكأبناء في الابن، هبة نعمة الله: “هذا هو ابني الحبيب الذي سررت به كل سرور. له اسمعوا” (الآية الخامسة). هذه الكلمات تدعونا إلى التخلي عن الضجة اليومية لننغمس في حضور الله: فهو يريد أن ينقل إلينا يومياً كلمة تخترق أعماق الروح، حيث نميز الخير والشر (عب 4، 12) وتعزز تصميمنا على اتباع الرب.
“اسقيني” (يو 4، 7). هذا الطلب الذي يلتمسه يسوع من السامرية والذي تخبرنا عنه ليتورجيا الأحد الثالث، يعبر عن محبة الله لكل البشر، ويود أن يوقظ في قلوبنا الرغبة في هبة ماء يصبح “نبعاً يفيض فيعطي حياة أبدية” (الآية 14): إنها هبة الروح القدس الذي يجعل المسيحيين “عابدين صادقين” قادرين على الصلاة إلى الآب “بالروح وبالحق” (الآية 23). وحده هذا الماء قادر على إرواء عطشنا إلى الخير والحق والجمال! وحده هذا الماء الذي يعطينا إياه الابن قادر على إسقاء صحارى النفس المضطربة وغير الراضية حتى “ترتاح في الله”، بحسب التعبير الشهير للقديس أغسطينوس.
إن أحد الأعمى منذ الولادة يقدم لنا المسيح كنور العالم. يسأل الإنجيل كل واحد منا: “أتؤمن بابن الله؟”. “أنا أؤمن يا سيد!” (يو 9: 35، 38)، يجيب الأعمى منذ الولادة بفرح، متحدثاً باسم كل مؤمن. معجزة هذا الشفاء هي دليل على أن المسيح، ومن خلال إعادة البصر، يريد أن يفتح لنا أيضاً أعيننا الداخلية لكي يكون إيماننا أعمق ونستطيع أن نرى أنه مخلصنا الأوحد. فالمسيح ينير كل ظلمات الحياة، ويدفع الإنسان إلى العيش “كابن النور”.
عندما يعلن إنجيل الأحد الخامس قيامة لعازر، نجد أنفسنا أمام أسمى سر في وجودنا: “أنا هو القيامة والحياة… أتؤمنين بهذا؟ (يو 11: 25، 26). على مثال مرتا، آن الأوان لكي تضع الجماعة المسيحية مجدداً وبصدق كل رجائها في يسوع الناصري: “نعم يا سيد. أنا قد آمنت أنك أنت المسيح ابن الله الذي جاء إلى العالم” (الآية 27). الشركة مع المسيح في هذه الحياة تعدنا لنتخطى عائق الموت فنعيش فيه إلى الأبد. والإيمان بقيامة الأموات والرجاء في الحياة الأبدية يفتحان أعيننا على أسمى معنى لوجودنا: الله خلق الإنسان للقيامة والحياة؛ هذه الحقيقة تضفي بعداً حقيقياً وحاسماً على التاريخ البشري، والوجود الشخصي، والحياة الاجتماعية، والثقافة، والسياسة، والاقتصاد. من دون نور الإيمان، يهلك الكون أجمع ويصبح سجين قبر خال من المستقبل أو الرجاء.
تكتمل مسيرة الصوم في ثلاثية الفصح، وبخاصة في الأمسية العظيمة لليلة المقدسة: إذ نجدد وعود العماد، نعلن مجدداً أن المسيح هو رب حياتنا، هذه الحياة التي منحنا إياها الله عندما ولدنا من جديد “من الماء والروح القدس”، ونعيد التأكيد على التزامنا الثابت بالاستجابة لعمل النعمة لنكون تلاميذه.
- إن انغماسنا في موت المسيح وقيامته، من خلال سر العماد، يدفعنا يومياً إلى تحرير قلوبنا من عبء الأمور المادية، من الرابط الأناني مع “الأرض”، الذي يفقرنا ويحول دون بذل ذاتنا لله والقريب والانفتاح عليهما. في المسيح، تجلى الله المحبة (1 يو 4: 7، 10). إن صليب المسيح، كلمة “الصليب” تكشف قدرة الله الخلاصية (1 كور 1، 18) التي تُمنح لترفع الإنسان وترشده إلى الخلاص: هذا هو أسمى شكل من أشكال المحبة (الرسالة العامة، الله محبة، Deus caritas est، 12). بالممارسة التقليدية للصوم والصدقة والصلاة التي هي رموز التزامنا بالاهتداء، يعلمنا الصوم أن نعيش محبة المسيح بشكل أكثر فعالية. الصوم الذي يمارس بدوافع مختلفة، له دلالة دينية عميقة لدى المسيحي: فمن خلال تبسيط مائدتنا، نتعلم كيفية التغلب على أنانيتنا لنعيش منطق الهبة والمحبة؛ ومن خلال قبول حرمان الذات من شيء ما ؟ ليس فقط من شيء غير ضروري ؟ نتعلم إشاحة نظرنا عن “الأنا” لنكتشف شخصاً قريباً منا ونرى الله على وجوه كثيرين من إخوتنا. إن ممارسة الصوم بالنسبة إلى المسيحي لا تحبط بل تساعد على الانفتاح على الله وعلى احتياجات الآخرين؛ وتسمح لمحبة الله بأن تتحول أيضاً إلى محبة القريب (مر 12، 31).
على دربنا، نواجه أيضاً إغراء التملك وحب المال الذي يتعارض مع أولية الله في حياتنا. يولد جشع التملك العنف، الإخلال بالأمانة والموت؛ لذلك، تدعو الكنيسة، بخاصة في زمن الصوم، إلى الصدقة أي إلى المشاركة. بالمقابل، فإن عبادة الثروات لا تفصلنا فقط عن الآخرين، ولكنها تفرغ الإنسان بجعله تعيساً، وتضليله، وخداعه من دون تحقيق ما تعده به، لأنها تستبدل الله، منبع الحياة الأوحد، بالخيرات المادية. إذاً، كيف نستطيع أن نفهم صلاح الله الأبوي إن كان قلبنا مليئاً بالأنانية وبمشاريعنا التي توهم بالقدرة على ضمان مستقبلنا؟ الإغراء يقوم على التفكير كالرجل الغني الذي ورد ذكره في المثل: “يا نفس، عندك خيرات كثيرة مخزونة لسنين عديدة…”. نحن نعلم جواب الرب: “يا غبي، هذه الليلة تطلب نفسك منك…” (لو 12: 19، 20). تذكرنا الصدقة بأولية الله وبالاهتمام بالآخر، وتجعلنا نكتشف من جديد صلاح الآب وننال رحمته.
طيلة فترة الصوم، تقدم لنا الكنيسة بوفرة كلمة الله. من خلال التأمل بها واستيعابها لتجسيدها في الحياة اليومية، نكتشف شكلاً ثميناً وفريداً من الصلاة. فالإصغاء بانتباه إلى الله الذي يخاطب قلوبنا، ينمي درب الإيمان التي بدأناها يوم عمادنا. والصلاة تسمح لنا أيضاً باكتساب مفهوم جديد للزمان: من دون منظور الأبدية والسمو، يوجه الزمان خطانا نحو آفاق من دون مستقبل. بالمقابل، ومن خلال الصلاة، نجد وقتاً لله لنكتشف أن “كلامه لا يزول أبداً” (مر 13، 31)، لندخل في الشركة الحميمة معه التي لن يستطيع أحد أن يسلبنا إياها (يو 16، 22)، والتي تدفعنا إلى الانفتاح على الرجاء الذي لا يخيب، على الحياة الأبدية.
باختصار، يقوم مسار الصوم الذي ندعى فيه إلى التأمل بسر الصليب على جعلنا نتشبه “بالمسيح في موته” (فيل 3، 10)، لتحقيق هداية عميقة لحياتنا من خلال السماح لأنفسنا بالتبدل بفعل الروح القدس، على غرار القديس بولس على طريق دمشق؛ توجيه حياتنا وفقاً لمشيئة الله؛ والتحرر من أنانيتنا بتخطي غريزة السيطرة على الآخرين وبانفتاحنا على محبة المسيح. فترة الصوم هي زمن ملائم لندرك ضعفنا، ونقبل من خلال مراجعة صادقة لحياتنا، نعمة سر التوبة المجددة، ونسير بعزم نحو المسيح.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، باللقاء الشخصي مع فادينا وبممارسة الصوم، والصدقة والصلاة، ترشدنا درب الاهتداء نحو الفصح، إلى اكتشاف عمادنا بطريقة جديدة. في هذا الصوم، دعونا نجدد قبولنا للنعمة التي أعطانا إياها الله لحظة عمادنا، لكي تنير أعمالنا وترشدها. نحن مدعوون إلى أن نعيش يومياً ما يعنيه هذا السر ويتممه من خلال اتباع المسيح بمزيد من السخاء والأصالة. على هذه الدرب، دعونا نوكل أنفسنا إلى مريم العذراء التي ولدت كلمة الله بالإيمان وبالجسد، لنغوص مثلها في موت وقيامة ابنها يسوع ونحظى بالحياة الأبدية.
من الفاتيكان، في 4 نوفمبر 2010
الحبر الأعظم بندكتس السادس عشر
نقلته إلى العربية غرة معيط
Discussion about this post