رسالة البابا لمناسبة اليوم العالمي السابع والتسعين للمهاجر واللاجئ:
شرطان من أجل سلام حقيقي ومستدام
بقلم: البابا بندكتس السادس عشر
(ترجمة: غرة معيط)
روما، الأربعاء 27 تشرين الأوّل أكتوبر 2010 (Zenit.org) “عالم المهاجرين رحب ومتنوع. وهو يتألف من تجارب رائعة وواعدة”: هذه هي النظرة الإيجابية التي يدعو بندكتس السادس عشر إلى إلقائها على ظاهرة الهجرة، وذلك في رسالته بمناسبة اليوم العالمي السابع والتسعين للمهاجر واللاجئ (16 يناير 2011) الذي يحمل شعار “عائلة بشرية واحدة”. وفي الرسالة، يدعو البابا أيضاً إلى العدالة والتضامن مع الأكثر حرماناً، اللذين يعتبران شرطين من أجل “سلام حقيقي ومستدام”.
ننشر في ما يلي رسالة بندكتس السادس عشر بمناسبة اليوم العالمي السابع والتسعين للمهاجر واللاجئ:
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء،
إن اليوم العالمي للمهاجر واللاجئ يتيح للكنيسة جمعاء فرصة التفكير في مسألة مرتبطة بظاهرة الهجرة المتنامية، والصلاة من أجل انفتاح القلوب على القبول المسيحي، والعمل لكي تنمو في العالم العدالة والمحبة، الركيزتين لبناء سلام حقيقي ومستدام. “كما أحببتكم أنا، تحبون بعضكم بعضاً” (يو 13، 34) هي الدعوة التي يوجهها لنا الرب بقوة والتي تجددنا على الدوام: إن كان الآب يدعونا لنكون أبناء أعزاء في ابنه الحبيب، فهو يدعونا أيضاً إلى أن ندرك جميعاً أننا إخوة في المسيح.
عن هذا الرابط العميق بين جميع البشر، ينجم الشعار الذي اخترته هذه السنة لنتأمل به وهو “عائلة بشرية واحدة”، عائلة واحدة من الإخوة والأخوات في مجتمعات يزداد فيها التنوع الإتني والثقافي، وحيث تُشجع مختلف الديانات أيضاً على الحوار، لكي يتم التوصل إلى تعايش هادئ ومثمر في احترام الاختلافات المشروعة. يؤكد المجمع الفاتيكاني الثاني على أن “كل الشعوب تشكل في الواقع جماعة واحدة؛ أصلها واحد لأن الله أسكن الجنس البشري أجمع بلاد الأرض كلها (أع 17، 26)؛ وغايتها الأخيرة أيضاً واحدة وهي الله الذي تشمل الجميع عنايته وشهادات صلاحه وتدابيره الخلاصية” (إعلان في زماننا هذا، Nostra aetate، رقم 1). هكذا، “لا نعيش إلى جانب بعضنا البعض صدفة؛ بل نسير جميعاً على الدرب عينها كبشر وبالتالي كإخوة وأخوات” (الرسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2008، رقم 6).
الدرب هي نفسها، إنها درب الحياة، لكن الظروف التي نمر بها على هذا المسار هي مختلفة: ينبغي على كثيرين أن يواجهوا تجربة الهجرة الصعبة في مختلف أشكالها: الداخلية أو الدولية، الدائمة أو الموسمية، الاقتصادية أو السياسية، الطوعية أو القسرية. في عدة حالات، تدعو شتى أشكال الاضطهاد إلى مغادرة البلاد الأم، فيصبح الهرب محتوماً. إضافة إلى ذلك، فإن ظاهرة العولمة التي تميز عصرنا ليست فقط عملية اجتماعية واقتصادية، لكنها تشمل أيضاً “بشرية تضحي مترابطة أكثر فأكثر”، متجاوزة الحدود الجغرافية والثقافية. في هذا الصدد، لا تكف الكنيسة عن التذكير بأن المعنى العميق لهذه العملية التاريخية ومعيارها الأخلاقي الأساسي ينجمان تحديداً عن وحدة العائلة البشرية ونموها في الخير (بندكتس السادس عشر، الرسالة العامة “المحبة في الحقيقة”، Caritas in veritate، رقم 42). لذلك، فإن جميع المهاجرين والسكان المحليين الذين يستقبلونهم ينتمون إلى عائلة واحدة، ويتمتعون جميعاً بحق الاستفادة من خيرات الأرض المخصصة للجميع، كما تعلم العقيدة الاجتماعية للكنيسة. هنا تحديداً، يجد التضامن والمشاركة أساسهما.
“في مجتمع يسير على طريق العولمة، لا يمكن للمصلحة المشتركة والالتزام بها إلا أن يشملا كافة أبعاد العائلة البشرية جمعاء، أي جماعة الشعوب والأمم، إلى حد إعطاء شكل وحدة وسلام لحاضرة البشر، وجعلها إلى حد ما تجسيداً مسبقاً لحاضرة الله التي لا حدود لها” (بندكتس السادس عشر، “المحبة في الحقيقة”، رقم 7). من هذا المنظور أيضاً، يجب رؤية واقع حركات الهجرة. ففي الواقع، وكما أشار مسبقاً خادم الله بولس السادس، إن “انعدام الأخوة بين البشر وبين الشعوب” هو السبب البعيد للتخلف (الرسالة العامة “ترقي الشعوب، Populorum progressio، رقم 66)، وهو ? يمكننا أن نضيف ? يؤثر بشدة على ظاهرة الهجرة. الأخوة البشرية هي تجربة ? مذهلة أحياناً ? علاقة توحد برابط عميق مع الآخر المختلف عني، بناءً على واقع بسيط يتمثل في أننا بشر. عند قبولها وعيشها بطريقة مسؤولة، تغذي الأخوة حياة الشركة والمشاركة مع الجميع، وبخاصة مع المهاجرين؛ وتدعم هبة الذات للآخرين للمصلحة الخاصة ومصلحة الجميع، ضمن الجماعة السياسية المحلية والوطنية والعالمية.
بمناسبة هذا اليوم الذي احتفل به سنة 2001، شدد الموقر يوحنا بولس الثاني على أن “المصلحة العامة الشاملة تشمل كل عائلة الشعوب، فوق كل أنانية قومية. في هذا السياق، يجب النظر إلى الحق في الهجرة. الكنيسة تعترف بهذا الحق لكل إنسان، بجانبه المزدوج المتمثل في إمكانية مغادرة بلاده وإمكانية الدخول إلى بلد آخر سعياً وراء ظروف حياة أفضل” (الرسالة بمناسبة اليوم العالمي للهجرة 2001، رقم 3؛ يوحنا الثالث والعشرون، الرسالة العامة “أم ومعلمة” Mater et Magistra، رقم 30؛ بولس السادس، الرسالة العامة “ثمانون سنة” Octogesima adveniens، رقم 17). في الوقت عينه، يحق للدول أن تنظم تيارات الهجرة وتدافع عن حدودها، ضامنة دوماً احترام كرامة كل إنسان. إضافة إلى ذلك، ينبغي على المهاجرين الوافدين الاندماج في البلد المضيف، واحترام قوانينه والهوية الوطنية. “لذا، لا بد من التوفيق بين الترحيب الواجب بكل البشر وبخاصة بالمحتاجين، وتقييم الشروط الأساسية لحياة كريمة وسلمية لسكان البلاد الأصليين وللذين ينضمون إليهم” (يوحنا بولس الثاني، الرسالة بمناسبة اليوم العالمي للسلام 2001، رقم 13).
في هذا السياق، يعتبر حضور الكنيسة كشعب الله السائر عبر التاريخ بين كل الشعوب الأخرى، مصدر ثقة ورجاء. في الواقع، الكنيسة هي “في المسيح، السر نوعاً ما، أي في آن معاً رمز ووسيلة الوحدة الخاصة مع الله ووحدة كل الجنس البشري” (المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، الدستور العقائدي “نور الأمم” Lumen gentium، رقم 1)؛ وبفضل عمل الروح القدس فيها، “لا يكون المجهود الذي يميل إلى تأسيس أخوة شاملة أمراً غير مجد” (المرجع عينه؛ “إيمان ورجاء” Gaudium et spes، رقم 38). إن سر الافخارستيا المقدس هو الذي يشكل تحديداً وسط الكنيسة مصدراً لا ينضب من الشركة للبشرية جمعاء. بفضله، يعانق شعب الله “كل الأمم والأعراق والشعوب واللغات” (رؤ 7، 9) ليس من خلال نوع من السلطة المقدسة، وإنما من خلال خدمة المحبة السامية. وفي الواقع أن ممارسة المحبة، بخاصة تجاه الأكثر فقراً وضعفاً، هي معيار يثبت أصالة الاحتفالات الافخارستية” (يوحنا بولس الثاني، الرسالة الرسولية “ابق معنا يا رب”، Mane nobiscum Domine، رقم 28).
على ضوء شعار “عائلة واحدة”، يجب التفكير بطريقة خاصة في وضع اللاجئين والمهاجرين القسريين الآخرين الذين يمثلون جزءاً مهماً من ظاهرة الهجرة. إزاء هؤلاء الأشخاص الذين يهربون من أعمال العنف والاضطهاد، تعهدت الأسرة الدولية بالتزامات واضحة. فاحترام حقوقهم والاهتمام بالأمن والتماسك الاجتماعي يعززان تعايشاً ثابتاً ومتناغماً.
في حالة المهاجرين القسريين أيضاً، يتغذى التضامن من “مخزون” المحبة الناشئة عن اعتبار أنفسنا كعائلة بشرية واحدة، وللمؤمنين الكاثوليك، كأعضاء جسد المسيح السري: ففي الحقيقة أننا نرتبط جميعاً ببعضنا البعض، وأننا جميعاً مسؤولون عن إخوتنا وأخواتنا في الإنسانية، وللمؤمنين، في الإيمان. وكما سبق لي أن ذكرت، فإن “استقبال اللاجئين واستضافتهم يشكل للجميع بادرة تضامن بشري لكي لا يشعر هؤلاء بأنهم مهمشون بسبب التعصب وغياب الاهتمام” (المقابلة العامة، 20 يونيو 2007: التعليم الثاني، 1 (2007)، 1158). هذا يعني أنه لا بد من مساعدة المجبرين على مغادرة منازلهم أو أراضيهم لإيجاد مكان يستطيعون فيه أن يعيشوا بسلام وأمان، ويعملوا ويجدوا الحقوق والواجبات القائمة في البلد المضيف، مسهمين في المصلحة العامة، من دون إهمال البعد الديني للحياة.
ختاماً، أرغب في تخصيص كلمة مرفقة دوماً بالصلاة، إلى الطلاب الأجانب والدوليين الذين يمثلون أيضاً واقعاً متزايداً وسط ظاهرة الهجرة الكبيرة. إنها فئة تتخذ بدورها أهمية اجتماعية من ناحية عودتهم كمرشدين مستقبليين إلى بلادهم الأم. فهم يشكلون “جسوراً ثقافية” واقتصادية بين هذه البلدان والبلدان المضيفة، وكل هذا يذهب في اتجاه تشكيل “عائلة بشرية واحدة”. هذه القناعة هي التي يجب أن تدعم الالتزام لصالح الطلاب الأجانب، وترافق الاهتمام بالمشاكل الملموسة كالمصاعب المالية أو الخوف من الشعور بالوحدة لمواجهة بيئة اجتماعية وجامعية مختلفة جداً، إضافة إلى مصاعب الاندماج. في هذا الصدد، أود التذكير بأن “الانتماء إلى جماعة جامعية يعني التواجد عند ملتقى طرق الثقافات التي صاغت العالم الحديث” (يوحنا بولس الثاني، الكلمة إلى أساقفة الولايات المتحدة الذين جاؤوا لزيارة الأعتاب الرسولية من الأقاليم الكنسية في شيكاغو، إنديانابوليس، وميلووكي، 30 مايو 1998، 6: التعليم الحادي والعشرين، 1، 1998، 1116). ففي المدرسة والجامعة، تتكون ثقافة الأجيال الجديدة: على هذه المؤسسات تعتمد إلى حد كبير قدرتها على اعتبار البشرية كعائلة مدعوة إلى أن تكون موحدة في التنوع.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن عالم المهاجرين رحب ومتنوع. وهو مؤلف من تجارب رائعة وواعدة، إضافة مع الأسف إلى تجارب أخرى مأساوية وغير لائقة بالإنسان وبالمجتمعات التي تصف نفسها بالمدنية. بالنسبة للكنيسة، يشكل هذا الواقع علامة معبرة في زماننا، علامة تشدد بوضوح أكبر على دعوة البشرية إلى تشكيل عائلة واحدة، وفي الوقت عينه، على المصاعب التي تقسمها وتفككها بدل أن توحدها. دعونا لا نفقد الرجاء ولنطلب معاً من الله أب الجميع أن يساعدنا لكي نكون رجالاً ونساءً قادرين على بناء علاقات أخوية؛ وعلى الصعيد الاجتماعي والسياسي والمؤسسي، لكي يزيد التفاهم والتقدير المتبادلين بين الشعوب والثقافات. بهذه التمنيات، وبالتماس شفاعة مريم العذراء الكلية القداسة، نجمة البحر، أمنح من صميم القلب بركاتي الرسولية للجميع، وبخاصة للمهاجرين واللاجئين ولجميع العاملين في هذا المجال المهم.
من كاستل غاندولفو، في 27 سبتمبر 2010
الحبر الأعظم بندكتس السادس عشر
Discussion about this post