كتاب الإكرام الحقيقي للعذراء مريم
القديس لويس ماري غرينيون دي مونفورت
2– في استخدام مريم عند التجسد
لم يعطِ الله الآب وحيده للعالم إلا بواسطة مريم. رغم تنهد الآباء اشتياق الأنبياء وقديسي العهد القديم، خلال آلاف السنين، للحصول على هذا الكنز، الذي لم تستحقه إلا مريم التي وَجَدت حُظوةً أمام الله بقوة صلواتها وسموِ فضائلها.
قال القديس أوغسطينوس: «كان العالمُ غيرَ أهلٍ لقبول ابنِ الله مباشرةً من الآب، لذلك أعطاه إلى مريم حتى يتقبلَه بواسطتها. تأنَّس ابنُ الله لأجل خلاصنا في مريم وبواسطتها الله الروح القدس، بعد أن طلب رضاها على يد أحد خدام بلاطه المقدمين، صاغ منها وبواسطتها يسوع المسيح».
إنَّ الله الآب أولى مريمَ خصوبته قدر ما كان بوسع خليقته المحضة استيعابَه، فأعطاها القدرةَ على إنجاب ابنِه وسائر أعضاء جسده السري. حلّ الله الابن في حشاها البتولي، كآدم جديد في فردوسه الأرضي ليبتهجَ فيها ويجترحَ خفيةً عجائب النعمة. إلهٌ متأنس يجد حرّيته بجعل ذاته أسيراً في حشاها. يُشرق قوته في هذه الابنة الصغيرة التي حملته، ووجد مجده ومجد أبيه بإخفاء سنائِه عن كل الخلائق الأرضية ليكشفَها لمريمَ، مجّدَ استقلالَه وجلالَه بخضوعه لها، في الحبل به، وولادته وتقدمته إلى الهيكل، وحياته الخفيّة مدة ثلاثين سنة، وحتى في موته، الذي وجب أن تحضرَه، ليكمّلَ معها ذبيحةً واحدة، وليُقرّبَ برضاها للآب الأزلي، كما قُرّبَ سابقاً اسحق برضى ابراهيم لإرادة الله. إنها أرضعته وغذّته وأعالته وربّته وقرّبته ذبيحةً لأجلنا.
يا للخضوع الإلهي العجيب، اللامفهوم. إنَّ الروح القدس لم يسمح بأن يبقى ذلك في الإنجيل محفوفاً بالصمت، رغم إخفائه عنا تقريباً جميع الأشياء العجيبة التي قام بها الحكمةُ الإلهي، في حياته الخفية، ليبيّن لنا قيمتها ومجدها اللامتناهي.
أعطى يسوع المسيح المجد لأبيه السماوي بخضوعه لأمّهِ ثلاثين سنة، أكثر ممّا كان يُعطيه له بتوبة كلِ الأرض باجتراح أعظم المعجزات. فيا للتمجيد العظيم المقدَّم لله بالخضوع لمريم إرضاءً له على مثال يسوع مثالِنا الأوحد.
لو فحصنا عن كثَب، بقيةَ حياةِ يسوع المسيح، لرأينا أنه أراد بدءَ معجزاته بواسطة مريم. قدّسَ يوحنا في أحشاء أمه أليصابات بكلمة مريم، إذ حالما تكلمت تقدّسَ يوحنا. وهذه أولُ أعجوبةٍ له وأعظمها في حقل النعمة، كما كان تحويلُه الماءَ إلى خمر في عرس قانا، على طَلَبِها المتواضع، أُولى أعاجيبه الطبيعية. بدأ وواصل معجزاته بواسطة مريم، وسيواصلُها حتى انتهاء الدهور.
لما كان الروح القدس، عقيماً في الثالوث، أي أنه لا يصدر أُقنوماً إلهياً آخر، صار مُخصباً بواسطة مريم عروسِه، فأصدر معها وفيها ومنها أسمى أعماله، أعني الإله المتأنس. ويُصدر كلَ يومٍ وحتى نهاية العالم، المختارين وأعضاءَ جسدِ هذا الرأس المعبود. وعليه كلما يجد أكثر مريم عروسَه المحبوبة وغير المنفصلة، في نفس، تزداد فعاليتُه وقدرتُه على إصدار يسوع في تلك النفس وهذه فيه. ومع ذلك لا نريد القولَ بأنَّ العذراءَ مريم تُعطي الخصوبةَ للروح، كأنْ ليس له ذلك من ذاته، لأن طالما هو إلهٌ فله الخصوبةُ والقدرةُ على الإصدار، مثل الآب والابن، ولو أنه لا يضعها بالعمل، ولا يصدر أقنوماً إلهياً آخر، ولكن أعني بأن الروحَ يضع خصوبتَه بالعمل، بواسطة مريم التي يريد استخدامَها رغم عدم حاجتِه إليها، فيصدر يسوع المسيح وأعضاءَه فيها وبواسطتها. إنهُ سرُ النعمة اللامعروف حتى من أفقَهِ المسيحيين وأكثرِهم روحية.
No Result
View All Result
Discussion about this post