خطابات البابا في عيد كنيسة رومية 2010
بقلم: البابا بندكتوس السادس عشر
“الكنيسة قوة تجدد عظيمة في العالم”
عظة البابا عشية عيد القديسين بطرس وبولس
نقلته إلى العربية غرة معيط
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!
مع الاحتفال بصلاة الغروب الأولى، نستهل عيد القديسين بطرس وبولس. ويشرفنا القيام بذلك في البازيليك البابوية المكرسة لرسول الأمم، من خلال التأمل في الصلاة قرب ضريحه. لذلك، أرغب في تركيز تأملي الموجز على آفاق الدعوة التبشيرية الكنسية. وفي هذا التوجه، تصب الترنيمة الثالثة من المزمور الذي تلوناه والقراءة البيبلية. إن الترنيمتين الأولتين مكرستان للقديس بطرس. أما الثالثة المخصصة للقديس بولس فتقول: “أنت رسول الله أيها الرسول بولس القديس: لقد أعلنت الحقيقة في العالم أجمع”.
وفي القراءة الموجزة المأخوذة من الجزء الأول من الرسالة إلى أهل روما، يعرف بولس عن نفسه كـ “الرسول المدعو والمفرز لإنجيل الله” (رو 1، 1). بولس بشخصه وخدمته وكل وجوده وعمله الجاد من أجل ملكوت الله، مكرس بالكامل لخدمة الإنجيل. في هذه النصوص، تلاحظ حركة لا يعتبر الإنسان محركها بل الله، نفس الروح القدس الذي يرشد الرسول على دروب العالم ليحمل البشرى السارة للجميع: وعود الأنبياء تتحقق في يسوع، المسيح، ابن الله الذي مات من أجل خطايانا وقام من بين الأموات لتبريرنا. شاول لم يعد موجوداً وبولس بقي حياً، بل المسيح هو الذي يحيا فيه (غل 2، 20) ويرغب في لم شمل جميع البشر. إن كان عيد شفيعي روما القديسين يثير التوتر المزدوج بين الوحدة والشمولية الذي تتصف به هذه الكنيسة، فإن السياق الذي نجد فيه أنفسنا في هذا المساء يدعونا إلى تأييد الثانية سامحين لأنفسنا إن جاز التعبير بالانجذاب نحو القديس بولس ودعوته الاستثنائية.
عندما انتخب خادم الله جوفاني باتيستا مونتيني خليفة لبطرس في أوج الاحتفال بالمجمع الفاتيكاني الثاني، اختار أن يحمل اسم رسول الأمم. في برنامج عمله في المجمع، دعا بولس السادس سنة 1974 إلى انعقاد جمعية سينودس الأساقفة حول مسألة التبشير في العالم المعاصر، وبعد مرور سنة تقريباً، أصدر الإرشاد الرسولي “التبشير في العالم المعاصر” (Evangelii Nuntiandi) الذي يبدأ بهذه الكلمات: “ما من شك في أن الالتزام بإعلان الإنجيل لشعوب زماننا الذين يحركهم الرجاء وإنما يقمعهم الخوف والأسى في الوقت عينه، هو خدمة تُقدم للجماعة المسيحية وللبشرية جمعاء” (رقم 1). كم هي مذهلة آنية هذه الكلمات! فيها، تبرز نزعة بولس السادس التبشيرية، ومن خلال صوته، التوق المجمعي العظيم لتبشير العالم المعاصر، التوق الذي بلغ ذروته في المرسوم “إلى الأمم” (Ad Gentes)، وإنما الذي يتخلل كل وثائق المجمع الفاتيكاني الثاني، والذي أنعش في السابق فكر وعمل آباء المجمع الذين اجتمعوا ليمثلوا، بطريقة لم يسبق لها مثيل، الانتشار الواسع الذي حققته الكنيسة.
إن الكلمات لأعجز من أن توضح كيف نمى الموقر يوحنا بولس الثاني خلال حبريته الطويلة هذا المخطط التبشيري الذي يستجيب لطبيعة الكنيسة التي يجب أن تردد دوماً مع القديس بولس: “فما دمت أبشر بالإنجيل، فليس في ذلك فخر لي، لأنه واجب مفروض علي ? فالويل لي إن كنت لا أبشر!” (1 كور 9، 16). لقد مثل البابا يوحنا بولس الثاني طبيعة الكنيسة التبشيرية “في حياته” من خلال الرحلات الرسولية وتشديد تعليمه على إلحاحية “تبشير جديد”، “جديد” ليس في المحتوى، وإنما في الاندفاع الداخلي المنفتح على نعمة الروح القدس الذي يشكل قوة الشريعة الإنجيلية الجديدة ويجدد الكنيسة دوماً؛ “جديد” في البحث عن أساليب تتوافق مع قوة الروح القدس، وتتلاءم مع الأزمنة والظروف؛ “جديد” لأنه ضروري أيضاً في البلدان التي سبق أن أُعلن الإنجيل فيها. الجميع يعلم أن سلفي أعطى دفعاً استثنائياً لرسالة الكنيسة، ? أعيد وأكرر ? ليس فقط من خلال المسافات التي قطعها، وإنما بخاصة من خلال الروح التبشيرية الحقيقية التي شجعته والتي تركها لنا إرثاً في فجر الألفية الثالثة.
من خلال هذا الإرث، استطعت أن أؤكد في بداية خدمتي البطرسية أن الكنيسة شابة ومنفتحة على المستقبل. وهذا ما أكرره اليوم قرب ضريح القديس بولس: الكنيسة هي قوة تجدد عظيمة في العالم، ليس بسبب قواها، وإنما بسبب قوة الإنجيل الذي ينفخ فيه الروح القدس، روح الله الخالق وفادي العالم. إن تحديات الزمن الحاضر تفوق بالتأكيد القدرات البشرية؛ هي التحديات التاريخية والاجتماعية، ولأسباب أعظم، إنها التحديات الروحية. أحياناً، يبدو لنا نحن رعاة الكنيسة أننا نعيد عيش تجربة الرسل، عندما تبع آلاف المحتاجين يسوع، فسأل: ماذا نستطيع أن نقدم لكل هذه الجموع؟ فاكتشفوا عجزهم عندئذ. لكن يسوع أظهر لهم في الواقع أن لا شيء مستحيل مع الإيمان بالله، وأن بعض الأرغفة والأسماك المباركة والمتقاسمة تشبع الجميع. لكن الجوع لم يكن وليس جوعاً للغذاء المادي: هناك جوع أعمق لا أحد يسده إلا الله وحده.
كذلك، يرغب الإنسان في الألفية الثالثة بحياة حقيقية وتامة. إنه بحاجة إلى الحقيقة والحرية العميقة والمحبة المجانية. وفي صحارى العالم المعلمن، تظمأ نفس الإنسان إلى الله، إلى الله الحي. لذلك، كتب يوحنا بولس الثاني: “ما تزال رسالة المسيح الفادي التي أوكلت إلى الكنيسة بعيدة عن التحقق”، وأضاف: “إن النظر إلى البشرية جمعاء يظهر أن رسالة مماثلة ما تزال في أوائلها، وأننا بحاجة إلى الالتزام بخدمتها بكل قوانا” (رسالة الفادي، Redemptoris Missio، 1). هناك في العالم مناطق ما تزال تنتظر تبشيراً أولياً؛ وهناك مناطق أخرى تم تبشيرها لكنها بحاجة إلى عمل أعمق؛ ومناطق تجذر فيها الإنجيل منذ عهد طويل وأسس تقليداً مسيحياً حقيقياً، لكن عملية العلمنة سببت فيها بديناميكيات معقدة خلال القرون الأخيرة أزمة خطيرة لمعنى الإيمان المسيحي والانتماء للكنيسة.
لذلك، قررت تأسيس هيئة جديدة على شكل مجلس حبري. وتقضي مهمتها بتعزيز تبشير متجدد في البلدان التي شهدت أول إعلان للإيمان، والتي تقوم فيها كنائس قديمة التأسيس، وإنما تشهد حالياً علمنة اجتماعية تدريجية ونوعاً من “غياب معنى الله”، مما يشكل تحدياً لإيجاد السبل الملائمة لإعادة اقتراح حقيقة إنجيل المسيح الخالدة.
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء، إن الكنيسة الجامعة تواجه تحدي التبشير الجديد، مما يتطلب منا أن نستمر بالتزام بالسعي وراء الوحدة التامة بين المسيحيين. في هذا الصدد، ومن رموز الرجاء البليغة، تبرز عادة الزيارات المتبادلة بين كنيسة روما وكنيسة القسطنطينية بمناسبة أعياد شفعائهما القديسين.
لذلك، نرحب اليوم بفرح وامتنان متجددين بالوفد الذي أرسله البطريرك برتلماوس الأول الذي أوجه له أطيب التحيات. إنني أسأل أن تنال شفاعة القديسين بطرس وبولس للكنيسة جمعاء الإيمان الغيور والشجاعة الرسولية لتعلن للعالم الحقيقة التي نحتاج إليها جميعاً، الحقيقة أي الله، بداية ونهاية الكون والتاريخ، الآب الرحيم والأمين، رجاء الحياة الأبدية. آمين.
خطاب البابا الى البعثة الأرثوذكسية
نقله الى العربية طوني عساف
أيها الإخوة في المسيح،
“النعمة والسلام معكم من الله أبينا” (كو 1:2). بفرح عظيم، أرحب بكم في الرب في مدينة روما، بمناسبة الاحتفال بالذكرى السنوية لاستشهاد القديسين بطرس وبولس. هذا العيد الذي تحتفل به الكنيستان الكاثوليكية والأرثوذكسية في نفس اليوم، هو أحد الأعياد الأكثر قدماً في السنة الليتورجية، وهو يشهد للزمن الذي كانت تعيش فيه جماعاتنا بشراكة تامة.
إن حضوركم هنا اليوم – والذي لأجله أشكر بطريرك القسطنطينية، قداسة برتلماوس الأول والسينودس المسكوني المقدس ? يملأ قلوبنا جميعاً فرحاً. أشكر الله أن العلاقات بيننا تتميز بالثقة المتبادلة، والتقدير والاحترام، كما تبين في جميع اللقاءات التي عقدت خلال هذه السنة. وفي كل ذلك مدعاة للرجاء بأن الحوار الكاثوليكي-الأرثوذكسي سيستمر ويحرز تقدماً ملحوظاً. وانتم تعلمون أن اللجنة الثنائية للحوار اللاهوتي بلغت مرحلة حاسمة، بعد أن بدأت في بافوس في أكتوبر الماضي مناقشة “دور أسقف روما في كنيسة الألفية الأولى”.
نصلي من كل قلبنا لكيما ? وبهدي الروح القدس ? يتابع أعضاء اللجنة مسيرتهم على هذا الدرب خلال الجمعية القادمة في فيينا، وأن يخصصوا لها الوقت الكافي لدراسة هذا الموضوع البالغ الأهمية. وإنها بالنسبة لي علامة مشجعة ان يتقاسم البطريرك المسكوني برتلماوس الأول والسينودس المقدس معنا هذه القناعة بأهمية الحوار، كما قال قداسته بوضوح في رسالته العامة بمناسبة الأحد الأرثوذكسي في 21 فبراير 2010.
إن سينودس أساقفة الشرق الأوسط الذي دعيت إليه وسينعقد في أكتوبر في روما، سيولي انتباهاً كبيراً للعمل المسكوني والتعاون فيما بين المسيحيين في المنطقة. في الواقع ، هذا ما تشدد عليه ورقة عمل السينودس ? التي سلمتها لأساقفة الشرق الأوسط خلال زيارتي الى قبرص، حيث استقبلني غبطة كريزوستوموس الثاني بعاطفة أخوية.
إن الصعوبات التي يعاني منها مسيحيو الشرق الأوسط تعنينا جميعاً: إنهم يعيشون كأقليات ويطمحون الى الحرية الدينية الحقيقية والى السلام. وهناك حاجة لتعزيز الحوار مع الجماعات اليهودية والإسلامية. وفي هذا الإطار يسعدني أن أرحب بالبعثة التي سيرسلها البطريرك المسكوني للمشاركة في أعمال الجمعية السينودوسية.
صاحب النيافة، أعضاء البعثة الأعزاء، أشكركم على زيارتكم وأسألكم أن تنقلوا تحيتي الى قداسة برتلماوس الأول والى السينودس المقدس، والى الإكليرس والمؤمنين في البطريركية المسكونية. وبشفاعة الرسولين بطرس وبولس، فلينعم الله علينا بفيض بركاته، وليحفظنا دائماً بمحبته.
عظة القداس الإلهي
نقله من الإيطالية إلى العربية روبير شعيب
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء!
النصوص الكتابية لليتورجية قداس عيد الرسولين بطرس وبولس، في غناها الكبير، تسلط الضوء على موضوع يمكننا أن نلخصه بهذا الشكل: الله قريب من خدامه الأمناء ويحررهم من كل شر، ويحرر الكنيسة من السلاطين السلبية. هذا هو موضوع حرية الكنيسة، التي تقدم بعدًا تاريخيًا وآخر روحيًا عميقًا.
هذا الموضوع يتخلل كل ليتورجية الكلمة اليوم. القراءة الأولى عن القديس بطرس والقراءة الثانية عن القديس بولس تشدد على عمل الله المحرر تجاههما. وخصوصًا نص أعمال الرسل يصف بالتفصيل تدخل ملاك الرب، الذي يحل بطرس من القيود ويقوده خارج سجن أورشليم، حيث كان قد وضعه الملك هيرودس تحت حراسة مشددة (راجه أع 12، 1 ? 11).
بينما يكتب بولس لتلميذه تيموثاوس وقد قاربت مسيرته الأرضية الختام، ويقدم ميزانية يتبين فيها كيف أن الله كان قريبًا منه دائمًا، وقد خلصه من الكثير من المخاطر وسيحرره أيضًا مدخلاً إياه في ملكوته الأبدي (راجع 2 تيم 4، 6 ? 8 . 17 ? 18). يقوي مزمور القراءات الموضوع (مز 33)، ويتوسع في النص الإنجيلي الذي يسرد اعتراف إيمان بطرس، حيث يعد يسوع بأن قوى الجحيم لن تقوى على كنيسته (راجع مت 16، 18).
إننا وإذ نتأمل بإمعان في هذا الموضوع نلاحظ نوعًا من تقدم. في الرسالة الأولى نسمع خبر حدث محدد يبين تدخل الرب لكي يحرر بطرس من السجن؛ في القراءة الثانية، يقول بولس ? انطلاقًا من خبرة رسولية مميزة ? أنه مقتنع بأن الرب، الذي سبق وحرره من “فم الأسد”، سيحرره أيضًا “من كل شر” فاتحًا له أبواب السماوات: أما الإنجيل فلا يتحدث عن الرسل المفردين، بل عن الكنيسة بمجملها وعن الضمانة ضد قوى الشر بمعناها العميق والواسع. بهذا الشكل نرى أن وعد يسوع ? “قوى الجحيم لن تقوى” على الكنيسة ? تتضمن أيضًا خبرات الاضطهاد التاريخية التي عاشها بطرس وبولس وشهود الإنجيل الآخرين، وتذهب أبعد من ذلك، مريدة أن تضمن الأمان بشكل خاص ضد التهديدات ذات الطابع الروحي؛ بحسب ما يكتبه بولس عينه في رسالته إلى أهل أفسس: “إن صراعنا ليس مع لحم ودم، بل ضد رؤساء وسلاطين وأسياد هذا العالم، ضد أرواح الشر التي تقيم في المناطق العلوية” (أف 6، 12).
بالواقع، إذا فكرنا في ألفي سنة من تاريخ الكنيسة، يمكننا أن نلاحظ ? كما سبق وأعلن الرب يسوع ( راجع مت 10، 16 ? 33) ? أنه لا يمكن أن تنقص التجارب للمسيحيين، وأن هذه قد أخذت في بعض الحقبات طابع اضطهاد حقيقي. ولكن هذه الاضطهادات، بالرغم من الآلام التي تتسبب بها، لا تشكل الخطر الأكبر للكنيسة. الضرر الأكبر، بالواقع، يأتي مما يلوث الإيمان وحياة المسيحيين والجماعات المسيحية، ومما يتعدى على وحدة الجسد السري، مضعفًا قدرته النبوية على الشهادة، وملوثًا جمال وجهه.
وهذا الأمر تشهد له رسائل بولس. الرسالة الأولى إلى أهل كورنثوس، على سبيل المثال، تجيب على بعض مشاكل الانقسام، عدم التماسك وعدم الأمانة للإنجيل التي تهدد الكنيسة بشكل جدي. ولكن أيضًا الرسالة الثانية إلى تيموثاوس ? التي سمعنا مقطعًا منها اليوم ? تتحدث عن مخاطر “الأزمنة الأخيرة”، مطابقًا إياها مع تصرفات دنيوية تستطيع أن تعدي الجماعة المسيحية: الأنانية، المجد الباطل، الكبرياء، التعلق بالمال، وما إلى ذلك (راجع 3، 1 ? 5). خلاصة الرسول تحمل الطمأنينة: الأشخاص الذين يفعلون الشر ? يكتب بولس ? “لن يطول بهم الأمر كثيرًا، لأن حماقتهم ستظهر للجميع” (3، 9). هناك إذًا ضمانة حرية يضمنها الله للكنيسة، حرية من القيود المادية التي تسعى لكي تمنع أو تعرقل رسالتها، ومن الشرور الروحية والأخلاقية التي تستطيع أن تعكر أصالتها ومصداقيتها.
موضوع حرية الكنيسة، التي يؤكدها يسوع لبطرس، ترتبط أيضًا برتبة وضع الدرع، الذي يجدده اليوم 38 رئيس أساقفة متروبوليتي، أوجه لهم تحيتي القلبية، وأشمل بها بعطف جميع الذين أرادوا أن يرافقوا هذا الحج. الشركة مع بطرس وخلفائه هي ضمانة حرية لرعاة الكنيسة وللجماعات الموكلة إليهم. وهي كذلك على الصعيدين اللذين أشرت إليهما آنفًا. على الصعيد التاريخي، الاتحاد مع الكرسي الرسولي يضمن للكنائس الخاصة وللمجالس الأسقفية الحرية تجاه السلطات المحلية، الوطنية والدولية، التي تستطيع في بعض الأحيان أن تعرقل الرسالة الكنسية. إضافة إلى ذلك، الخدمة البطرسية هي ضمانة حرية بمعنى ملء الالتزام بالحقيقة، بأصالة التقليد، بشكل يحمي شعب الله من الأخطاء المرتبطة بالإيمان والأخلاق. إن مجيء المتروبوليت الجدد كل عام إلى روما لقبول الدرع من يد البابا يعني شيئًا محددًا: هو بادرة شراكة، وموضوع حرية الكنيسة يقدم لنا مفتاح قراءة هام جدًا. فهذا الأمر يظهر جليًا في الكنائس الموسومة بالاضطهاد، أو الخاضعة لتدخل السلطة السياسية أو تجارب قاسية أخرى. ولكن هذا الأمر ليس أقل أهمية في حال الجماعات التي تعاني من تأثير التعاليم المضلة، أو الميول الإيديولوجية والممارسات المناهضة للإنجيل. يضحي الدرع بهذا المعنى حافزًا على الحرية، مثل “نير” يسوع، الذي يدعونا إلى حمله على أكتافنا (راجع مت 11، 29 ? 30). مثل وصية المسيح، التي رغم أنها متطلبة، إنما هي “طيبة وخفيفة”، وبدل أن تثقل على من يحملها إنما ترفعه، كذلك أيضًا الرباط مع الكرسي الرسولي، رغم أنه متطلب، إلا أنه يسند الراعي والكنيسة الموكلة إلى عنايته، وتجعلهما أكثر قوية وحرية.
أود أن أستخلص توجيهًا آخر من كلمة الله، وبشكل خاص في ما يتعلق بوعد المسيح أن قوى الجحيم لن تقوى على كنيسته. هذه الكلمات تستطيع أن تحمل معنى مسكوني هام، لأنها، كما سبق وأشرت، إن إحدى خصائص عمل الشرير هي التقسيم داخل الجماعة الكنسية. الانقسامات هي بالحقيقة مرادف لقوى الخطيئة، التي ما زالت تعمل في أعضاء الكنيسة حتى بعد الخلاص. ولكن كلمة المسيح واضحة: “لن تقوى ? Non praevalebunt ” (مت 16، 18). وحدة الكنيسة هي متجذرة في الاتحاد بالمسيح، وهي الدافع لملء وحدة المسيحيين ? التي يجب التفتيش عنها دومًا وتجديدها، من جيل إلى جيل ? وهي مسنودة دومًا بصلاة المسيح ووعده. في الحرب ضد روح الشر، أعطانا الله في يسوع “المحامي”، وبعد فصحه “برقليطًا آخر” (راجع يو 14، 16)، الروح القدس، الذي يبقى معنا دومًا ويقود الكنيسة نحو ملء الحقيقة (راجع يو 14، 16؛ 16، 13)، التي هي أيضًا ملء المحبة وملء الوحدة. مع عواطف الرجاء الواثق، يسرني أن أحيي بعثة بطريركية القسطنطينية، التي، تبعًا لتقليد الزيارات المتبادلة الجميل، تشارك في احتفالات شفيعَي روما. نشكر سوية الله لأجل التقدم في العلاقات المسكونية بين الكاثوليك والأرثوذكس، ونجدد التزامنا لكي نتجاوب بسخاء مع نعمة الله، التي تقودنا إلى ملء الوحدة.
أيها الأصدقاء الأعزاء، أحيي بحرارة كلاً منكم: السادة الكرادلة، الإخوة في الأسقفية، السادة السفراء والسلطات المدنية، وبشكل خاص عمدة روما، الكهنة، رجال الدين والمؤمنين العلمانيين. أشكركم جميعًا لحضوركم. فلينل لكم القديسان الرسولان بطرس وبولس أن تحبوا أكثر الكنيسة المقدسة، جسد المسيح السري ورسولة الوحدة والسلام لجميع البشر. فلينالا لكم أيضًا أن تقدموا بفرح لأجل قداستها ولأجل رسالتها الأتعاب والآلام التي تحتملونها لأجل أمانتكم للإنجيل. العذراء مريم، ملكة الرسل وأم الكنيسة تسهر دومًا عليكم، وبشكل خاص على خدمة رؤساء الأساقفة المتروبوليتيين. بمساعدتها السماوية، فلتستطيعوا أن تعيشوا وتتصرفوا دومًا في تلك الحرية، التي ربحها لنا المسيح. آمين.
نقلاً عن وكالة زينيت العالمية
Discussion about this post