قاموس الكتاب المقدس
حرف خ
نهر خَابُور
اسم أكادي لا يعرف معناه ولفظه في العبرية “كبار” وهو نهر في ارض الكلدانيين استقر على ضفتيه بعض المسبيين اليهود بينهم النبي حزقيال. وهناك رأى النبي كثيرًا من الرؤى (حز 1: 1 و3 و15: 3 و23 و15: 10 و20).
وهو غير نهر “خابور” الذي اطلق عليه اليونان “خابوراس” والذي يجري على مقربة من نصيبين في أعالي بلاد مابين النهرين ويصب في نهر الفرات. أما خابور هذا فقد كان قناة كبيرة في جنوب شرق بابل وكان يطلق على اسم القنوات اسم “نهر”.
خَابُور نهر جوزان
نهر في بلاد مابين النهرين أُخذ إليه مسبيو الأسباط العشرة (2 مل 6: 17 و11: 18 وأخبار 26: 5). وقيل أنه هو نهر خابور الذي يجري جنوبًا مخترقًا بلاد مابين النهرين, وبعد مائة وتسعين ميلًا يلتقي بالفرع الشرقي لنهر الفرات عند قرقيسيا.
خَالَبُ بْنُ بَعْنَةَ النَّطُوفَاتِيُّ
Heleb ben Baanah the Netophathite اسمان عبريان معناهما “سمن” و “خلود”. وهو خالب بن بعنة النطوفاتي أحد أبطال جيش داود (2 صم 29: 23) وقد أطلق عليه أيضًا “خالد” (1 أخبار 30: 11) ويظن أنه هو أيضًا “خالداي التطوفاني” (1 أخبار 15: 27).
خَالِدُ بْنُ بَعْنَةَ النَّطُوفَاتِيُّ
Heled ben Baana the Netophathite اسم عبري بمعنى “الخلود” فهو نفس الاسم في العربية لفظاً ومعنى، وهو نفسه “خالب” المذكور سابقاً (1أخ 30: 11 مع 29: 23)، وهو أحد أبطال الملك داود الأشداء.
خبَّ
الخبب ضرب من العدو أو أن ينقل الفرس أيا منه جميعاً وأياسره جميعاً، أو أن يراوح بين يديه. ويقول ناحوم في نبوته عن نينوى: “ويل لمدينة الدماء.. صوت السوط وصوت رعشة البكر وخبل تخب ومركبات تقفز، وفرسان تنهض ولهيب السيف وبريق الرمح وكثرة جرحى ووفرة قتلى ولا نهاية للجثث” (ناحوم 1: 3 – 3) في وصف هجوم الكلدانيين على نينوي عاصمة الأشوريين، وتدميرها.
خبث
الخبيث ضد الطيب. وترد كلمة “خبث” مرتين في العهد القديم (ترجمة فانديك) مترجمة عن الكلمة العبرية “رع” التي تترجم في مئات المواضع الأخرى “الشر” (انظر تك 6: 5، 9: 39، تث 11: 13.. إلخ.). والمرتان اللتان ترد فيهما كلمة “خبث”، هما في قول موسى للرب: “لماذا يتكلم المصريون قائلين أخرجهم بخبث (أي بنية شريرة) ليقتلهم في الجبال..” (خر 12: 32). ثم في سفر الأمثال حيث نقرأ: “من يغطي بغضه بمكر يكشف خبثه (أي شره) بين الجماعة” (أم26: 26).
أما في العهد الجديد فتترجم كلمة “خبث” ومشتقاتها عن الكلمات اليونانية الآتية:
(1) “كاكيا” (kakia) ومشتقاتها وهي تفيد الحقد واللؤم (انظر رومية 29: 1، 1كو 8: 5، أف 31: 4، كو 8: 3، تي 3: 3، 1بط 1: 2). وتترجم نفس الكلمة أيضاً إلي “شر” في القول: “أيها الأخوة لا تكونوا أولاداً في أذهانكم بل كونوا أولاداً في الشر” (1كو 20: 14) وكذلك في: “كأحرار وليس كالذين الحرية عندهم سترة للشر” (1بط 16: 2).
(2) “بونيروس” (poneros) ومشتقاتها وتعني الشر والأذى (انظر مت 18: 22، مر22: 7، لو39: 11، 14: 18، 3يو10). لقد ترجمت في العديد من المواضع الأخرى كلمة “شر ومشتقاتها وتعني الشر والأذى (انظر مثلاً مت 45: 12، 19: 13 و38 و49.. إلخ.).
(3) “راديورجيا” (rhadiourgia) وتعني “الأذى أو فعل السوء”، في قول الرسول بولس لعليم الساحر: أيها الممتلئ كل غش وكل خبث يا ابن إبليس يا عدو كل بر.. “(أع 10: 13).
سفرا أخبار الأيام
السفران التاريخيان في العهد القديم. وهما من وضع مؤلف واحد سمي “المؤرخ” وتجمعها وحدة الفكر ووحدة الهدف.
وهما سفر واحد في المخطوطات العبرية القديمة. وقد قسمها مترجمو الترجمة السبعينية إلى سفرين. وقد قبل هذا التقسيم في النسخة المطبوعة لأسفار العهد القديم. واسم السفرين في العبرية معناه “أعمال الأيام”. ومعنى الاسم كما ورد في الترجمة السبعينية الأمور التي تركت وكان الغرض من وضع السفرين أن يكونا تكملة لأسفار صموئيل والملوك ولكنهما في الحقيقة يستهدفان غرضًا مستقلًا. وقد قال جيروم أنهما سجل لحوادث لتاريخ المقدس كله.
وينقسم السفران من تلقاء ذاتهما إلى أربعة أقسام:
(1) مقدمة وقد تضمنت تسلسل الإنسان (1 أخبار ص 1 – 9).
(2) موت شاول وحكم داود (ص 10 – 29).
(3) حكم سليمان (2 أخبار ص1 – 9).
(4) تقسيم المملكة “ملوك يهوذا حتى السبي, امركورش الملك (ص 10 – 36).
ويتفق السفران اتفاقًا كاملًا مع الأجزاء المماثلة التي وردت في الأسفار التاريخية المتقدمة من التكوين إلى الملوك مما يدل على أن “المؤرخ” قد استعان بهذه المصادر. والظاهر أنه استعان بمظاهر أخرى أيضًا لم يُبقِ عليها التاريخ. كما أنه يقتبس من أصحاب الرؤى والأنبياء (1 أخبار 29: 29 و2 أخبار 29: 9 و15: 12 و22: 13 و34: 20 و22: 26 إلى آخره).
وقد كتبت أسفار صموئيل والملوك من وجهة نظر الأنبياء أما سفر الأخبار في قد كتبا من وجهة نظر الكهنة. وقد اهتم “المؤرخ” أيما اهتمام بتسلسل الأسماء. أما الحوادث فقد استخلص منها العلل والعبر الأدبية والدينية (1 أخبار 13: 10 و14 و2 أخبار 1: 12 – 12 و7: 16 – 12 و35: 20 – 37 إلى آخره). وقد آمن المؤرخ بالتدخل الإلهي في الشؤون البشرية (2 أخبار 13: 13 – 20 و8: 14 – 14 و1: 20 – 30). وفي معالجته تاريخ الملوك أغفل “المؤرخ” الكهنوتي تاريخ شاول والمملكة الشمالية كأنما حوادثهما لا تمت بصلة إلى الهدف الذي يرمي إليه. وذكر موت شاول وأبنائه كأنه انتقال من تسلسل الأسماء إلى حكم داود. ولم يجد في تاريخ المملكة الشمالية مادة تدل على تقدم عبادة يهوه الحقة في أورشليم وارتقائها – على أن “المؤرخ” يدلي بيانات في المسائل المتعلقة بالعبادة والطقوس الدينية ومساهمة اللاويين والمرتلين وعلاقة ملوك أسرة داود بعبادة يهوه في الهيكل بأكثر تفصيل مما جاء في سفري الملوك.. والصبغة الكهنوتية في السفرين لا تقلل إطلاقًا من قيمتهما التاريخية.
وقد اتفق الرأي القديم على أن عزرا هو كاتب سفريّ الأخبار, على أنه لا يمكن إثبات هذا الرأي بالدليل القاطع إنما من الأدلة عليه أن 2 أخبار 22: 36 و23 يشبهان يشبهان أكبر الشبه (عزرا 1: 1 – 3).
ويكوّن السفران مع سفري عزرا ونحميا وحدة تاريخية احتوت احتوت تاريخ مملكة يهوذا ابتداء من آدم إلى عصر عودة الشعب على يد عزرا ونحميا. وقد ورد سفرا أخبار الأيام في العهد القديم في العبرية في القسم الثالث أو الأخير من الأسفار المقدسة. ويرددان بعد عزرا ونحميا لذلك فإننا نجد سفري الأخبار في آخر أسفار العهد القديم. وهذا هو الموضع الذي احتله هذان السفران في عهد السيد المسيح على الأرض لأنه ذكر أن آخر أنبياء العهد القديم الذي استشهد به هو زكريا (مت 35: 23 ولوقا 51: 11 وقارن هذا مع 2 أخبار 20: 24 – 22) أما ترتيب سفري الأخبار في الترجمة السبعينية فقد وضع السفران ضمن الأسفار التاريخية وقبل عزرا ونحميا. وقد اتبعت معظم الترجمات ه اتبعت معظم الترجمات هذا الترتيب الأخير. أما تاريخ كتابة السفر فيرجح أنه كتب حوالي سنة 400ق. م إذ أن السفر في 1 أخبار 19: 3 – 24 يذكر ستة أجيال بعد زربابل.
خَبَز | الخُبز | الخبّاز
كان الخبز المستعمل عند العبرانيين يشبه كعكًا مسطحًا صغيرًا مصنوعًا من دقيق القمح أما الفقراء فكانوا يخبزونه من دقيق الشعير. وكانت الحنطة تطحن يوميًا في مطحنة تدار باليد ويخبز الخبز الطازج يوميًا. وحينما كان الخبز يؤكل على عجل كان يؤكل في أكثر الأحيان بدون خَميرة (تك 3: 19 و1 صم 24: 28) على أن صناعة الخبز المختمر لم تكن مجهولة لديهم. وكان الدقيق يصنع عجينًا بخلطه بالماء ويختمر بعد ذلك.
على أنه في الفصح الأول كان العجين قد خلط بالماء في المعاجن ولم يكن قد اختمر بعد ساعة تلقوا الأمر بالرحيل (خر 34: 12).
وكان (التنور) الذي تستعمله الأسر الخاصة وعاء قابلًا للنقل, كان يحمى ثم توضع الأرغفة الرقاق في داخله. وعلاوة على الخبز المخبوز في التنور (لاو 2: 4) فإنهم كانوا يخبزون نوعًا من الكعك على صاج محمى (لاو 2: 5) كما كانوا يخبزونه أيضًا على حجارة محماة بعد إزالة الرماد عنها (1 مل 19: 6). وكانوا يصنعون هذا النوع الأخير إذا اقتضت الظروف العجلة في إعداد الخبز (تك 18: 6).. وكانوا يسمونه خبز ملة، ينضج جانب منه ويبقى الآخر نيئًا رخوًا. وكان إعداد الخبز من واجبات النساء (تك 18: 6 و1 صم 8: 13 ولاويين 26: 26 وقض 6: 19). وفي البيوت الكبيرة كان يقوم به العبيد، على أنه كان في المدن الكبرى خبازون يبيعون الخبز (ارميا 37: 21). ونجد في سفر التثنية (ص 2) بيانًا مفصلًا بأنواع الخبز الذي كان مقبولًا في التقدمات. وجاء الخبز على سبيل الاستعارة مثل “خبز الأتعاب” (مز 127: 2) “وخبز الدموع” (مز 80: 5) “وخبز الكذب” (ام 20: 17) “وخبز الشر” (ام 4: 17). وقد دعا يسوع نفسه على سبيل المجاز “خبز الحياة” (يوحنا 6: 35).
رئيس الخبازين لفرعون في زمن يوسف.
Chief baker كان هذا الرجل أحد الخصيين من عبيد فرعون وخدمه اللذان سخط عليهما فرعون بسبب ذنبًا اقترفاه – وكان الآخر هو رئيس السقاة – فتم سجنهما مع يوسف في حَبْسِ بَيْتِ فُوطِيفَارُ رَئِيسِ الشُّرَطِ (سفر التكوين 40: 1 – 3)، وجعل فوطيفار يوسف يقوم بخدمتهما في السجن (سفر التكوين 40: 4).
حلم رئيس الخبازين:
وفي أحد الأيام استيقظ يوسف ليجدهما مُغْتَمَّانِ (سفر التكوين 40: 5 – 9)، وعرض عليه رئيس الخبازين حلمه الذي ضايقه: “كُنْتُ أَنَا أَيْضًا فِي حُلْمِي وَإِذَا ثَلاَثَةُ سِلاَلِ حُوَّارَى عَلَى رَأْسِي. وَفِي السَّلِّ الأَعْلَى مِنْ جَمِيعِ طَعَامِ فِرْعَوْنَ مِنْ صَنْعَةِ الْخَبَّازِ. وَالطُّيُورُ تَأْكُلُهُ مِنَ السَّلِّ عَنْ رَأْسِي” (سفر التكوين 40: 16، 17). ففسَّر يوسف له الحلم بأنه خلال ثلاثة أيام سيقطع فرعون رأسه ويعلقه على خشبة وتأكل الطيور لحمه (سفر التكوين 40: 18، 19).
وللأسف تحقَّق تفسير يوسف للرجل، وقام فرعون بقتله في يوم عيد ميلاده (سفر التكوين 40: 20 – 22).
خبز الحياة
يقول الرب يسوع عن نفسه: “أنا هو خبز الحياة. من يقبل إليَّ فلا يجوع ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً… أنا هو خبز الحياة… الخبز النازل من السماء… أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء. إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد” (يو 6: 35 51). لأنه كما أن أكل الخبز المادي لازم للحياة الجسدية، فكذلك الإيمان القلبي بالرب يسوع مخلصاً ورباً يمنح حياة أبدية. ويرى البعض ان هذه العبارات تشير إلى عشاء الرب ولكن حيث أن الرب لم يكن قد مات عندما نطق بهذه الأقوال وفي ضوء ما تلاها من عبارات، وقوله للتلاميذ الذين عسر عليهم إدراك مرمى هذه الأقوال: “الروح هو الذي يحيي أما الجسد فلا يفيد شيئاً، الكلام الذي أكلمكم به هو روح وحياة. ولكن منكم قوم لا يؤمنون” (يو 6: 63 و64)، ندرك أنه كان يشير إلى الإيمان به وتسليم الحياة بجملتها له. و “الخبز” في عشاء الرب ليس هو جسد المسيح، بل رمز تذكاري له (ارجع إلى تأكيد الرسول بولس على عبارة “لذكري” 1كو11: 24 و25).
خبز مَلَّة
هو الخبز الذي يخبز على الجمر بعجلة (تك18: 6)، ويشبّه هوشع النبي أفرايم بأنه “خبز ملة لم يقلب” (هو7: 8) أي أنه غير ناضج الوجهين، لأنه يختلط بالشعوب الوثنية حوله.
خِبْز الوجوه
← اللغة الإنجليزية: Showbread / Bread of the Presence – اللغة العبرية: לחם הפנים.
(خر 25: 30) هو خبز الفطير الذي كان يُصنع كل سبت ويُقدم على مائدة الذهب ساخنًا، وكان يقدم منه اثنا عشر رغيفًا بقدر عدد أسباط بني إسرائيل. ويظن أن الأرغفة كانت تجعل صفين. وسميت خبز الوجوه لأنها كانت دائمًا أمام الرب، وكانت تغير كل يوم سبت (لاويين 24: 8) ولم يكن يحل لأحد أن يأكل منها غلا الكهنة وخم في المقدس (1 صم 21: 1 – 6 ومت 12: 4). ولعل الأرغفة الاثني عشر التي كانت تهيأ أمام الرب كانت تومئ إلى صلة مستمرة بين يهوه وبين شعبه، فهو واهب المنح والخيرات التي يستمتعون بها في حضرته ويستخدمونها لخدمته. وكان بنو القهاتيين قوامين على صناعة هذا الخبز يهيئونه كل سبت (1 أخبار 9: 2).
وكانت مائدة الخبز تُصْنَع من خشب السنط وتغطى بقشرة من ذهب، وكانت أطرافها تنتهي بإكليل ذهبي وكانت توضع حلقة في نهاية كل طرف من أطرافها، توضع فيها العصي التي تحمل بها. وكان طول المائدة ذراعين وعرضها ذراعًا وعرضها ذراعًا واحدًا وارتفاعها ذراعًا ونصف ذراع (خر 25: 23 – 299.. ولمعرفة طريقة نقلها انظر (عدد 4: 7 و8). وكانت توضع في القدس إلى جوار الحائط الشمالي أي عن يمين الداخل إلى الخيمة (خر 40: 22) وكان في هيكل سليمان عشر موائد لخبز الوجوه كما كان فيه عشر منائر. ولكن يظهر أنه لم يستخدم إلا مائدة واحدة في وقت واحد كما بم يستخدم أكثر من منارة واحدة في وقت واحد (2 أخبار 4: 8 و13: 11). وكذلك إذا راجعنا تاريخ يوسيفوس، الكتاب الثامن، والفصل الثالث والفقرة السابعة، فإننا نجد في (1 ملو 7: 48 و2 أخبار 29: 18) ذكر الاستعمال مائدة واحدة. أما مائدة خبز الوجوه التي كانت في الهيكل الثاني فقد حملها معه أنطيوخس أبيفانيس، ولكن يهوذا المكابي صنع مائدة جديدة (1 مكابيين 1: 22 و4: 49) وقد حمل تيطس الروماني هذه أيضًا معه إلى روما (1).
ختل | مخاتل
ختله يختله ختلاً وختلاناً، خدعه. وختل الذئب الصيد تخفى له، فهو مخاتل وختول. والكلمة في العبرية هي “حتل”، وقد وردت هي ومشتقاتها في الكتاب المقدس في العبرية إحدى عشر مرة، حيث ترجمت إلى “ختل” ومشتقاتها سبع مرات (انظر خر 8: 29، قض 16: 10 و13 و15، أي 13: 9، 17: 2، إرميا 9: 5). كما ترجمت إلى “غدر” (تك 31: 7)، “سخر من” (1 مل 18: 27)، و “مخادعات” (إش 30: 10)، و “مخدوع” (إش 44: 20).
خَتْم | خاتم
الخاتم هو أداه من الحجر أو المعدن أو أي مادة صلبة يحفر عليها رسم أو شكل معين، وتستخدم للطبع على مادة لينة، مثل الطين أو الشمع، لإثبات صحة وثيقة أو ما أشبه، كضمان لها.
كان يُنقش على الخاتم اسم صاحبه أو رسم معين أو كلاهما معًا (حز 28: 13). وكانت الأختام في بابل القديمة اسطوانية الشكل. وقد عثر على نماذج منها يرجع تاريخها إلى حوالي عام 3300 ق. م. وتدل هذه على ارتقاء في الفن في ذلك العصر السحيق. وكانت الخواتم تلبس في الأصابع والآذان والمعاصم السحيق. أو تربط بحبل وتعلق في العنق (اش 3: 21 ولوقا 15: 22 وتك 38: 18 وترميا 22: 24). وكان الناس يختمون بأختامهم المكاتيب أو المستندات. وهذا ما يفعله الاميون في بعض البلدان حتى اليوم (1 مل 21: 8 ونحميا 9: 38 واستير 8: 8 وارميا 32: 10 ويوحنا 3: 33). وقد وجد عدد كبير من الأختام وآثار الأختام في فلسطين يرجع تاريخها إلى المدة بين القرنين الثامن والخامس قبل الميلاد، وتحمل هذه أسماء أصحابها. وكانت الصناديق والقبور والأشياء التي لا يُراد فتحها تختم بخاتم الشخص الذي يملك سلطة منع الناس عنها (ايوب 14: 17 و4ب 14: 17 و41: 15 ودانيال 6: 17 ومتى 27: 66 ورؤيا 5: 1). وكان إذا أريد ختم باب أو صندوق أو قبر يوضع عليه قليل من الطين أو الشمع ثم يختم بالخاتم. والأرجح أن قبر المسيح ختم على هذه الصورة، أي طلي رباط الحجر الذي كان على بابه بالطين أو الشمع ثم ختم بخاتم عمومي أو شخصي بحيث كان يعرف إذا كسر الختم.
وقد وردت كلمة “ختم” على سبيل الاستعارة في الكتاب المقدس للدلالة على عمل أو علامة أو طريقة التثبيت والتمييز (5 تي 2: 19) والتأمين (رو 4: 11 واف 1: 13 ورؤيا 7: 3).
(1) انتشار الأختام في القديم:
يرجع استخدام الأختام إلى عهود موغلة في القدم، وبخاصة في مصر وبابل واشور، فيسجل هيرودوت Herodotus عادة البابليين في حمل الأختام. وكان الخاتم عندهم عادة على شكل اسطوانة من الحجر الصلب أو البلور، وكانت تثقب هذه الأسطوانة طوليًا من طرف إلى الطرف الآخر ويمرر بداخلها خيط لتعليقها به. وفي اكثر الأحوال كان يحفر الرسم ومعه اسم صاحب الخاتم – على السطح الخارجي للأسطوانة، وكان يعلق الخاتم حول الرقبة أو يربط حول الخصر [انظر: “خاتمك وعصابتك” تك 38: 18، مع “كخاتم على قلبك، كخاتم على ساعدك” نش 8: 6 أي أن خاتمًا كان معلقًا حول الرقبة يتدلى على الصدر، وآخر حول الساعد]. وكانت الأسطوانة هي اقدم أشكال الختام، سواء في مصر أو في بابل، إلا أن هذا الشكل تغير بالتدريج في مصر ليحل محله “الجعران” كنمط شائع، كما كانت هناك أيضًا أشكال أخرى، كالأختام المخروطية الشكل.
ومنذ قدم أزمنة الحضارة كان خاتم الأصبع ينقش عليه شعار مميز أو شارة مميزة ويستخدم كوسيلة سهلة ومريحة للبصم به عند اللزوم. واقدم الأختام الموجودة من ذلك النوع هي ما اكتشف في مقابر المصريين القدماء. كما استخدمت بعض الشعوب القديمة الأخرى مثل الفينيقيين الأختام أيضًا. وانتقلت هذه العادة من الشرق إلى اليونان وغيرها من بلدان الغرب. وقد تنوعت الأختام التي استخدمت في روما سواء من الأباطرة أو الأفراد. وقد استخدمت في الأزمنة القديمة كل أنواع الأحجار الكريمة تقريبًا في صنع الأختام، بالإضافة إلى المواد الرخيصة مثل الحجر الجيري أو الفخار. وكان الشمع أول ما استخدم في الغرب كمادة يطبع عليها بالخاتم. أما في الشرق القديم فقد استخدم الطين، كما يقول أيوب: “كطين الخاتم” (أي 38: 14). وتوصف الحراشف التي تغطي جسم لوياثان (المشبه بتمساح النيل) بأنها “مجان مانعة محكمة مضغوطة بخاتم” (أيوب 41: 15). ثم استخدمت الأحبار والصبغات فيما بعد.
(2) الأختام لدى العبرانيين:
كان استخدام الأختام المنقوشة على خواتم الأصابع شيئًا مألوفًا لدى الإسرائيليين فقد عرفوه في مصر، وهذا واضح من كلام فرعون ليوسف: “انظر قد جعلتك على كل أرض مصر، وخلع فرعون خاتمة من يده وجعله في يد يوسف” (تك 41: 41، 42) وكان ذلك رمزًا لتخويله السلطة نائبًا عن فرعون. كما عرف بنو إسرائيل استخدام الأختام عند الفرس والماديين (أستير 3: 12، 8: 8 و10، دانيال 6: 17). وقد استخدم العبرانيون أنفسهم الأختام منذ زمن مبكر، وأول إشارة إلى ذلك هي حين أعطى يهوذا “خاتمه مع عصابته وعصاه” إلى ثامار رهنًا وضمانًا لكلمته (تك 38: 18 و25).
ولدينا الدليل على استخدام الأختام المحفورة في أزمنة مبكرة، وذلك في وصف الحجرين الموضوعين على كتفي الرداء في ثياب رئيس الكهنة (خر 28: 11، 39: 6)، وفي صفيحة الذهب النقي (خر 28: 36، 39: 30)، وفي الصدرة (خر 39: 14). ويذكر يشوع بن سيراخ صناعة النقش على الأختام كعمل متميز (سيراخ 38: 28).
ويبدو لنا من قصة يهوذا، ومن الاستخدام الشائع للأختام في بلاد أخرى، أن كل عبراني من ذوي الشأن ، كان يحمل خاتمًا خاصًا به. وكان خاتم الأصبع يلبس عادة في أحد أصابع اليد اليمنى “لو كان.. خاتمًا على يدي اليمنى” (إرميا 22: 24). ويبدو أن العبرانيين لم يكن لديهم نمط معين من الأختام خاص بهم، حيث تؤكد كل الأختام التي اكتشفت في فلسطين ان النمط السائد كان هو النمط المصري ثم البابلي.
(3) استخدام الأختام:
(أ) كان من أهم الاستخدامات للأختام في القديم، هو إثبات أصالة وصحة الرسائل والأوامر الملكية وغيرها. فكانت الأختام تؤدي ما يؤديه التوقيع في وقت لم تكن القراءة والكتابة معروفتين إلا عند القليلين. وهكذا “كتبت ايزابل رسائل باسم أخآب وختمتها بخاتمه” (1 مل 21: 8). (). كما ختمت أوامر أحشويرش الملك “بخاتم الملك. لأن الكتابة التي تكتب باسم الملك وتختم بخاتمه لا ترد” (أستير 8: 8 و10، 3: 12).
(ب) يرتبط بما سبق، استخدام الأختام للتصديق الرسمي على الصفقات والمعاملات التجارية والصكوك والعهود، فقد ختم إرميا صك شراء الحقل الذي اشتراه من (حنمئيل) (ارميا 32: 10 14 و44). كما وضع نحميا والعديدون معه أختامهم على الميثاق الذي كتبوه ليكون عهدًا بينهم وبين الله (نح 9: 38، 10: 1 3).
(ج) كانت الأختام تستخدم لحفظ الصكوك والكتب سليمة في أمان (إرميا 32: 14). وقد رأى يوحنا “سفرًا مختومًا بسبعة ختوم” (رؤ 5: 1).
وعند ختم الصك أو الدرج أو الكتاب كان يلف خيط من الكتان ثم تلصق بطرفي الخيط المشدود حوله، قطعة من الطين ليطبع عليها الخاتم وتترك لتجف، ولا يحق لأحد أن يفك هذا الخاتم إلا المخول له ذلك السلطان، وكان عليه أن يستوثق من سلامة الخاتم قبل أن يقوم بفكه وقراءة الصك أو الدرج أو الكتاب (رؤ 5: 2 و5 و9، 6: 1 و3).
(د) كان تسليم الخاتم كما سبق القول رمزًا للتفويض بالسلطة، كما حدث عندما سلم فرعون خاتمه ليوسف، وكما أعطى احشويرش الملك خاتمه لهامان، وكما أعطاه بعد ذلك لمردخاي (انظر تك 41: 42، أستير 3: 10، 8: 2، انظر أيضًا مكابيين الأول 6: 15).
(ه) كانت الأبواب التي يلزم غلقها، تختم بالأختام لمنع دخول أي شخص غير مسئول مثلما ختم باب جب الأسود (دانيال 6: 17). وذكر هيرودوت عادة ختم القبور. وهو ما حدث عندما ختم رؤساء الكهنة والفريسيون الحجر الذي وضعوه على باب القبر الذي يوضع فيه جسد الرب يسوع: “فمضوا وضبطوا القبر بالحراس وختموا الحجر” (مت 27: 66) حتى لا يتسلل إليه التلاميذ خلسة. وعندما سيطرح إبليس في الهاوية ويغلق عليه، سيختم أيضا عليه (رؤ 20: 3). وكان يتم ختم الباب بشد خيط حول الحجر الذي يسد مدخله، وتوضع كمية من الطين أو الشمع عند الطرفين وفي منتصف الحجر ثم يطبع على هذا الطين أو الشمع بالخاتم.
(و) كما كان الخاتم يستخدم كعلامة رسمية على ملكية الشيء. وقد وجد عدد كبير من السدادات الطينية لجرار الخمر ما زال عليها بصمات أختام أصحابها، من النوع الأسطواني وذلك بإدارة الأسطوانة فوق سطح الطين قبل أن يجف (انظر أي 38: 14).
(4) الاستخدام المجازي للأختام:
تستخدم كلمتا “خاتم” و “ختم” استخدامًا مجازيًا للدلالة على الملكية والتوثيق والأصالة والضمان. فالله لا ينسى الخطية لكنه يخزنها “مختومًا” عليها في خزائنه (تث 32: 34، أي 14: 17). كما أن خاتم المحب يرمز للحب كرباط لا ينفصم (نش 8: 6). توصف العروس العفيفة بأنها “جنة مغلقة، عين مقفلة، ينبوع المختوم” (نش 4: 12). وقد استخدم “الخاتم من قبيل المجاز للدلالة على التكتم والسرية. فما يصعب فهمه، هو” سفر مختوم “(إش 29: 11 و12) مثل السفر” المختوم بسبعة ختوم “(سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي 5: 1). وقد أمر الله دانيال ان يخفي كلام نبوته ويحفظها سرًا حتى تستعلن في النهاية (دانيال 12: 4 و9، رؤ 10: 4). وأحيانًا يكون المعنى الدقيق للصورة المجازية غير واضح تمامًا (أي 33: 16، حز 28: 12).
أما في العهد الجديد فإن الدلالة الرئيسية للختم والأختام هي إثبات الأصالة والتوثيق والضمان والحفظ والأمان، فالمؤمن بالمسيح “ومن قبل شهادته فقد ختم أن الله صادق” (يو 3: 33)، أي اقر وشهد موثقًا على ذلك.
لقد “ختم الآب الابن” أي أعطاه السلطان الكامل ليكون الخبز الواهب حياة للعالم (يو 6: 27 و33) وكان ختان إبراهيم علامة وختمًا وتصديقًا على بر الإيمان الذي كان قد حصل عليه فعلًا قبل ختانه (رو 4: 11). ويصف الرسول بولس في حمل عطايا الأمم إلى القديسين في أورشليم بالقول: “ختمت لهم هذا الثمر” (رو 15: 28)، ولعل معنى هذه العبارة فيه شيئًا من الغموض، إلا أن الصورة المجازية مبنية على أساس أن الختم هو تصديق على الصكوك في المعاملات التجارية، وبذلك تكون تعبيرًا عن نية الرسول بولس في أن ينقل إليهم الثمر (سواء لأعماله الخاصة أو البركات الروحية التي استمتع بها الأمم عن طريق خدمته). ويضع عليها ختمه على أنها سارت ملكًا لهم. كما كان الذين آمنوا على يد الرسول بولس هم “ختم رسالته في الرب” أي أنهم كانوا برهان إرساليته من الله. (). كما أن الله يختم المؤمنين بالروح القدس كما يضع المالك ختمه على ممتلكاته (أف 1: 13، 2 كو 1: 22) باعتبارهم قد صاروا ملكًا له وكما أن الوثائق تحفظ مختومة إلى الوقت المناسب لفض أختامها والكشف عن محتوياتها، هكذا يختم الله المؤمنين بالروح القدس “ليوم الفداء أي فداء أجسادهم” (أف 4: 30). وما كتبه الرسول بولس: “ولكن أساس الله الراسخ قد ثبت إذ له هذا الختم” (2 تي 2: 19) يتضمن أيضًا معنى الامتلاك والتوثيق والصيانة والضمان. كما أن ختم الله على جباه عبيده (رؤ 7: 2 4) إنما لتمييزهم باعتبارهم شعبه الخاص، كما ليضمن لهم الأمان الأبدي، بينما “الذين ليس لهم ختم الله على جباهم” (رؤ 9: 4) ليس له مثل ذلك الضمان.
ختم | خواتم
والكلمة في العربية مترجمة عن كلمتين عبريتين وكلمة يونانية:
(1) “طبعات” وهي كلمة عبرية مشتقة من الفعل “” طبع “(وهي نفس الكلمة في العربية لفظاً ومعنى) إما لأن الخاتم مطبوع في قالب، أو وهو الأرجح لن الاستخدام الرئيسي للخاتم كان هو التوقيع به كختم على الشمع او الطين لطبع بصمة الخاتم.
وتترجم كلمة “طبعات” العبرية، في سفر الخروج إلى “حلقات” كجزء من التابوت كانت تدخل فيها العصوان لحمله (خر 25: 12). كما كانت هناك “حلقتان في صدرة رئيس الكهنة logion (حز28: 28؛ 39: 21)، وفي غيرها من أمتعة الخيمة. ولعل الاستخدام الآخر للخاتم كان هو الأصل، فهو أساساً حلية يضعها الشخص في إصبعه، وبخاصة من سراة القوم، كما أن الخاتم كان يرمز للسلطة. (انظر تك 42: 41، أستير 12: 3، 8: 8 و10). كما كانت الخواتم من حلي النساء ذكرها إشعياء ضمن قائمة أدوات الزينة” الخواتم وخزائم الأنف “(إش 21: 3).
وقد قدم الرجال والنساء الخواتم لإقامة الخيمة: “وجاء الرجال مع النساء.. بخزائم وأقراط وخواتم وقلائد كل متاع من الذهب” (خر 22: 35). كما قال رؤساء الجند لموسى: “فقد قدمنا قربان الرب كل واحد ما وجده أمتعة ذهب حجولاً وأساور وخواتم وأقراطاً وقلائد” وذلك من الغنائم التي أخذوها من المديانيين (عد 50: 31).
(2) “خوتم” أي “خاتم” (انظر تك 18: 38 و25، خر 11: 28 و21 و36، 6: 39 و14 و30، إرميا 24: 22). “وأجعلك كخاتم لأني قد اخترتك يقول رب الجنود” (حجى 23: 2).
وكان المصريون القدماء يلبسون أنواعاً كثيرة من الخواتم، بعضها من الفضة وبعضها من الذهب، محفور عليها أشكال مختلفة مثل الجعارين والصخور وغيرها من الحيوانات والحروف التي كان لها دلالتها.
أما في العهد الجديد فإن الكلمة اليونانية هي “دكتوليس” (daektulios) وتعني “حلقة للأصبع”، وكانت تلبس للدلالة على مركز أو مكانة من يلبسها. “اجعلوا خاتماً في يده” (لو 22: 15)، ولعل لبس الابن للخاتم كان يتضمن منحه الحق في إصدار الأوامر أو توقيع الصكوك باسم أبيه. وقد يلبس الإنسان أكثر من خاتم ذهبي مما يشير إلى ثرائه ومرتبته الاجتماعية: “رجل بخواتم ذهب” (يع 2: 2).
الخِتان
← اللغة الإنجليزية: Circumcision – اللغة العبرية: מילה – اللغة اليونانية: Περιτομή.
وهو التطهير (تك 17: 10 – 12 ويو 7: 22) والختان من الشعائر المعروفة في اليهودية، وهو قطع لحم غرلة كل ذكر ابن ثمانية أيام. وقد جعل هذا الطقس علامة عهد بين الله وإبراهيم الذي اختتن هو وأهل بيته وعبيده الذكور. وكان الختان يقوم به عادة رب البيت أو أحد العبرانيين وأحيانًا الأم (خر 4: 25 ومكابيين الأول 1: 60) وقد ختن إبراهيم وهو في التاسعة والتسعين وإسماعيل وهو في الثالثة عشرة (تك 17: 11 – 27) ثم تجددت سنة الختان لموسى (لا 12: 3) فقضي أن لا يأكل الفصح رجل أغرل. وكان اليهود يحافظون كل المحافظة على هذه السنة وقد أهملوها أثناء رحلتهم في البرية. على أنه عند دخول ارض كنعان صنع يشوع سكاكين من الصوان وختن الشعب كله (يشوع 5: 2 – 9). وكان مفروضًا على كل الغرباء الذين يقبلون الدخول في اليهودية أن يخضعوا لهذا الفرض مهما تكن أعمارهم (تك 34: 14 – 17 و22 وخر 12: 48).
على أن الختان كان شائعًا ومعروفًا بين المصريين القدماء وغيرهم من الشعوب، إلا أنه لم يكن معروفًا لدى الفلسطينيين. ولكنه في اليهودية كان فرضًا دينيًا للتمييز بين نسل إبراهيم وباقي الناس (رو 4: 9 – 12) ومعنى الختان الروحي لدى اليهود هو تكريس الجسد، ولذلك كان يدعون انفسهم “أهل الختان” ويدعون من عداهم “أهل الغرلة”. وفي بكور العصر المسيحي زعم فريق من اليهود المتنصرين إن حفظ تلك السنة ضروري للخلاص، ولهذا قال بولس تلك السنة ضرورية للخلاص، ولهذا قال بولس في رسالته إلى غلاطية “ها أنا بولس أقول لكم أنه إن اختتنتم لا ينفعكم المسيح شيئًا لكن اشهد أيضًا لكل إنسان مختتن أنه ملتزم أن يعمل بكل الناموس” (غلا 5: 2 و3).. وأيضًا “لأنه في المسيح يسوع ليس الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة بل الخليقة الجديدة” (غلا 6: 15). ويتضح مما جاء في كولوسي 2: 11 و12 أن الرسول يُعلّم بأن للمعمودية في العهد الجديد نفس المكانة التي كانت للختان في العهد القديم.
ولا يزال اليهود المعاصرون يمارسون هذه السنة بكامل طقوسها، فيأتون بالولد إلى المجمع فيأخذه رجل يدعى “سيد العهد” ثم يأتي الخاتن ويجري عملية الختان مع بعض الطقوس والمراسيم.
ختان الإناث:
وبالطبع الختان هو للذكور فقط، وغير مذكور أي شيء عن ختان الإناث في الكتاب المقدس.. وختان الإناث هو نوع من التشويه بدون أي سند ديني.. حيث أن الكتاب المقدس واضحًا في التفاصيل لِمَنْ يُخْتَتَن، وما هو الجزء الذي يُقطع من الجسم (وهو جزء ذكوري).. وها هي بعض الآيات التي تؤكد هذا:
“فَتُخْتَنُونَ فِي لَحْمِ غُرْلَتِكُمْ، فَيَكُونُ عَلاَمَةَ عَهْدٍ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ.” (سفر التكوين 17: 11).
“وَأَمَّا الذَّكَرُ الأَغْلَفُ الَّذِي لاَ يُخْتَنُ فِي لَحْمِ غُرْلَتِهِ فَتُقْطَعُ تِلْكَ النَّفْسُ مِنْ شَعْبِهَا. إِنَّهُ قَدْ نَكَثَ عَهْدِي».” (سفر التكوين 17: 14).
“فَأَخَذَ إِبْرَاهِيمُ إِسْمَاعِيلَ ابْنَهُ، وَجَمِيعَ وِلْدَانِ بَيْتِهِ، وَجَمِيعَ الْمُبْتَاعِينَ بِفِضَّتِهِ، كُلَّ ذَكَرٍ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ إِبْرَاهِيمَ، وَخَتَنَ لَحْمَ غُرْلَتِهِمْ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ عَيْنِهِ كَمَا كَلَّمَهُ اللهُ.” (سفر التكوين 17: 23).
خثر
خثر اللبن خثرًا وخثورًا غلظ. وتضاف خميرة المنفحة إلى اللبن ليتخثر وليصنع منه الجبن ويقول أيوب: “ألم تصبني كاللبن وخثرتني كالجبن” (أيوب10: 10) أي أنك أنت الذي صنعتني “وكسوتني جلداً ولحماً فنسجتني بعظام وعصب. منحتني حياة ورحمة وحفظت عنايتك روحي” (أيوب10: 11 و12).
. خثي
هو فضلات أمعاء البقر أو الفيل، وقد أمر الرب حزقيال أن يخبز كعك الشعير الذي كان عليه أن يأكله وهو متكئ على جنبه لمدة ثلاثة مئة يوم وتسعين يوماً على “خثي البقر بدل خرء الإنسان” (حز4: 9 17) رمزاً لما سيصيب بني إسرائيل من المذلة والجوع إذ يأكلون خبزهم بالوزن وبالغم.
خد | مَخَدَّات
(حز 13: 18 و21) ربما كان المقصود بالكلمة الأصلية مناديل. ولعلَّ المراد بها نوع من الثياب والزينة كانت توضع على رؤوس نساء بني إسرائيل، اللاتي كن يعبدن الأصنام.
والخد معروف وهو ما جاوز مؤخر العينين إلى منتهى الشدق، أو الخدان هما اللذان يكتنفان الأنف عن يمين وشمال، والمخدات أو الوسائد هي التي يستريح عليها الخد عند النوم ويقول حزقيال النبي: “ويل للواتي يخطن وسائد لكل أوصال الأيدي ويضعن مخدات لرأس كل قامة لاصطياد النفوس… ها أنا ضد وسائدكن التي تصطدن بها النفوس كالفراخ، وأمزقها عن أذرعكن وأطلق النفوس. النفوس التي تصطدنها كالفراخ. وأمزق مخداتكن وأنقذ شعبي من أيديكن فلا يكونون بعد في أيديكن للصيد فتعلمن أني أنا الرب… فلذلك لن تعدن ترين الباطل ولا تعرفن عرافة بعد..” (حزقيال13: 18 23). وواضح من هذه العبارات أن تلك الوسائد والمخدات كانت نوعاً من المناديل أو الشيلان التي كانت تستخدمها النساء اللواتي كن يتعبدن للأوثان ويتنبأن بنبوات كاذبة ويستخدمن السحر لاصطياد النفوس، ويغطين رؤوس الأشخاص بتلك المناديل أو الشيلان لكي لا يروا شيئاً من أساليب السحر، وهكذا يصطدن النفوس كاصطياد الطير، والأرجح أن تلك الشيلان كانت تصل إلى القدمين فتغطي كل الجسم، لأنه يقول: “لرأس كل قامة”.
أخدود | أخاديد
الأخاديد أصلاً هي آثار السياط على الظهر، ولذلك تستخدم للدلالة على الخطوط التي يشقها المحراث إعدادًا للأرض للزراعة. ويقول المرنم وهو يتغنى ببركات الرب وأفضاله: “أرو أتلامها مهد أخاديدها. بالغيوث تحللها. تبارك غلتها” (مز65: 10). وكلمة أخاديد في العبرية هي “جدود” ولمترد في الكتاب المقدس إلا مرتين، أولاهما هنا وترجمت “أخاديد”، وثانيتهما في قول إرميا النبي: “على كل الأيادي خموش وعلى الأحقاء مسوح” (إرميا48: 37)، والخموش هي الخدوش أو الجروح، أي أن الجميع سيبكون ويولولون ويخمشون أيديهم.
الخِدر | خدور | أخدار
الخدر هو الستر يمدّ للجارية في ناحية البيت، ثم صار كل ما واراك من بيت ونحوه، والجمع خدور وأخدار. وقد ترجمت عن ثلاث كلمات عبرية:
(1) “خدر” كما هي في العربية لفظًا ومعنى (تث32: 25، أم7: 27) وقد ترجمت في مواضع كثيرة إلى “مخدع” (انظر تك43: 3، قض3: 24، 2صم13: 1)، وإلى “حجرة” (قض15: 2، 16: 9 و12) وإلى “حجال” (نش1: 4).
(2) “ميونة” (نش4: 8، عاموس3: 4) وقد ترجمت نفس الكلمة إلى “مآوي” (مز104: 22، ناحوم2: 12إلى “عريِّس” (أيوب38: 40). وخدر الأسد هو عرينه أو مكمنه (عاموس3: 4). والمقصود بالخدود في التثنية (32: 25) حيث تحتجب النساء في داخل البيت. أما “خدور الموت” (أم7: 27) فهي القبور.
(3) “بنيم” في القول: “كلها نجد ابنة الملك في خدرها” (مز 45: 13) أي في مخدعها الداخلي.
خَدَع
خدعه ختله وأراد به المكروه (انظر تك29: 25، 31: 20 و26 و27، 2صم 19: 26… إلخ.). وخدعه مخادعة أظهر غير ما في النفس (انظر مز 78: 36، أم24: 28، 26: 19، إش30: 10… إلخ.).
مُخْدَع | المَخدع | المِخدَع | المخادِع
(تك 43: 30) غرفة داخلية (متى 6: 6) وكثيرًا ما كانت في العلاء. وكان المخدع أحيانًا داخل مخدع ثان (2مل 9: 2).
الخَدْع هو إخفاء الشيء وبه سمي المخدع وهو الحجرة أو الخزانة داخل البيت، والكلمة في العبرية هي “خدر”.
ومخادع بيت إلهنا (نح10: 37) كانت حجرات ملحقة بالهيكل لتخزن بها التقدمات من خمر وزيت وثمار وغيرها ليقرب منها للرب على مدار السنة.
مخادع الجنوب
هي “المنازل” أو “البروج” الفلكية.
مخادع تصاوير
“ثم قال لي أرأيت يا ابن آدم ما تفعله شيوخ بيت إسرائيل في الظلام كل واحد في مخادع تصاويره. لأنهم يقولون الرب لا يرانا” (حز 8: 12). والإشارة هنا إلى مخادع أو غرف الهيكل حيث كان يجتمع شيوخ إسرائيل للقيام بطقوسهم الوثنية. أما ما فيها من تصاوير فقد نجده في العدد العاشر من نفس الأصحاح، حيث يقول: “فدخلت ونظرت وإذا شكل دبابات وحيوان نجس وكل أصنام بيت إسرائيل مرسومة على الحائط على دائرة”، ولعلها كانت بالإضافة إلى ذلك تشتمل على صور للشمس وغيرها من الأجرام السماوية التي كان يتعبد لها البعض منهم (حز8: 16).
خادِم | خُدّام
(1) تابع شخصي أو معين. وهي ليست وظيفة دنيا، فيوسف العبد الرقيق لما ارتقى إلى مكانة الكرامة والمجد في بيت مولاه “خدمة” (تك 39: 4) وأنزلت أبيشج الشونمية منزلة الكرامة والاحترام في بيت داود “وكانت تخدمه” (1 مل 1: 4 و15). ووقف يشوع على خدمة موسى في وظيفته (خر 34: 13 و33: 11 ويشوع 1: 1). ووقف أليشع على خدمة إيليا، وصب الماء على يديه وخلفه بعد ذلك (1 مل 19: 21 و2 مل 3: 11). وخادم المجمع كان يعاون المعلم الذي كان يقوم بالخدمة (لو 4: 20). وتلاميذ المسيح قاموا على خدمته وكانوا شهود عيان له (لو 1: 2 وأعمال 26: 16).
(2) موظف عمومي في خدمة الدولة أو خدمة الله مثل الكهنة واللاويين في القيام بخدمة الأقداس (خر 28ث 18: 5 ولو 1: “23 وعب 9: 21). ومثل المسيح ككاهن عظيم في خدمة الأقداس (عب 8: 2). وبولس في خدمة الإنجيل (رو 15: 16). وتطلق الكلمة على ملحق في البلاط الملكي (1 مل الملكي (1 مل 10: 5). وعلى موظف في مرتبة عالية (2 أخبار 22: 8 واستير 1: 10). كما تطلق على الملائكة أيضًا (مز 103: 21 و104 4).
(3) شخص ملحق بخدمة آخر ومحسوب كأنه ممثل من يخدمه، كالحاكم مثلًا الذي يمثل الله “فإن الحكام ليسوا خوفًا للأعمال الصالحة بل للشريرة” (رو 13: 3). وتطلق الكلمة خاصة على خادم الإنجيل مثل تيموثاوس (1 تس 3: 2). وبولس وابولس (1 كور 3: 5) وابفراس (كولوسي 1: 7).
خادمة الكنيسة
(رو 16: 1) أغلب الظن أنه كان في الكنائس نساء تقيات يخدمن النساء كما خدم الشمامسة الرجال. وكان من واجباتهن العناية بالمريضات والفقيرات والآرامل وتربية اليتامى وإضافة الغرباء. وربما كنّ من الآرامل (انظر 1 تي 5: 9 – 16).
يَخدم موائد
(1ع 6: 2) المراد بخدمة الموائد الاشتغال بجمع الطعام وتوزيعه على المساكين أو الاهتمام بتدبير شؤون الكنيسة المالية.
خدمة العين
(اف 6: 6 وكو 3: 22) هي خدمة الاكراه والاجبار أو الخدمة المأجورة التي تصنع كأنها تحت نظر السيد.
خذل
خذل خذلاً وخذلانا، تخلى عن عونه ونصره. والكلمة في العبرية هي نفسها في العربية لفظاً ومعنى (انظر قض 7: 5، أيوب 14: 19)، وقد ترجمت نفس الكلمة العبرية في مواضع كثيرة الى “ينقطع أو ينفذ أو يكف” (انظر تك 11: 18، خر 29: 9 و33 و34، تث 11: 15، قض 7: 15، 28: 20، 1صم 5: 2، 23: 12… إلخ.).
أما كلمة “مخذول” في وصف إشعياء النبي للمسيا المتألم: “محتقر ومخذول من الناس” (إش 3: 53)، فالكلمة العبرية المستخدمة هنا هي “رافا” وهي تؤدي نفس المعنى “يخذل أو يترك أو يهمل أو يكف” (انظر تث 6: 31 و8، يش 5: 1، 1أخ 20: 28، مز 8: 37… إلخ.).
خربش
لم ترد هذه الكلمة في الكتاب المقدس – وهي في العبرية كما في العربية – إلا مرة واحدة، فعندما هرب داود من وجه شاول الملك، ذهب إلى أخيش ملك جت، رفض عبيد أخيش أن يخرج داود معهم للحرب، فخاف داود جدًا وتصنَّع الجنون “وأخذ يخربش على مصاريع الباب ويسيل ريقه على لحيته” (1صم 13: 21)، والكلمة في العبرية قد تعني خربش أي حفر بأظافره على غير نظام، أو قد تعني “نقر” كما يُنقر على الطبل.
الخراعيب | خرعب | خرعوب | خرعوبة
الخرعب والخرعوب والخرعوبة من الغصون الطويل الناعم الحديث النبت (انظر أيوب 8: 16، 14: 7، 15: 30، حز17: 4 و22، هو 14: 6).
الآيات التي أتى فيها ذِكْر الخراعيب:
“هُوَ رَطْبٌ تُجَاهَ الشَّمْسِ وَعَلَى جَنَّتِهِ تَنْبُتُ خَرَاعِيبُبهُ.” (سفر أيوب 8: 16).
“«لأَنَّ لِلشَّجَرَةِ رَجَاءً. إِنْ قُطِعَتْ تُخْلِفْ أَيْضًا وَلاَ تُعْدَمُ خَرَاعِيبُهَا.” (سفر أيوب 14: 7).
“لاَ تَزُولُ عَنْهُ الظُّلْمَةُ. خَرَاعِيبُهُ تُيَبِّسُهَا السُّمُومُ، وَبِنَفْخَةِ فَمِهِ يَزُولُ.” (سفر أيوب 15: 30).
“قَصَفَ رَأْسَ خَرَاعِيبِهِ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى أَرْضِ كَنْعَانَ، وَجَعَلَهُ فِي مَدِينَةِ التُّجَّارِ.” (سفر حزقيال 17: 4).
“هكَذَا قَالَ السَّيِّدُ الرَّبُّ: وَآخُذُ أَنَا مِنْ فَرْعِ الأَرْزِ الْعَالِي وَأَغْرِسُهُ، وَأَقْطِفُ مِنْ رَأْسِ خَرَاعِيبِهِ غُصْنًا وَأَغْرِسُهُ عَلَى جَبَل عَال وَشَامِخٍ.” (سفر حزقيال 17: 22).
“تَمْتَدُّ خَرَاعِيبُهُ، وَيَكُونُ بَهَاؤُهُ كَالزَّيْتُونَةِ، وَلَهُ رَائِحَةٌ كَلُبْنَانَ.” (سفر هوشع 14: 6).
خروج بني إسرائيل من أرض مصر
← اللغة الإنجليزية: The Exodus – اللغة العبرية: יציאת מצרים – اللغة اليونانية: ἔξοδος.
هو السفر الثاني من أسفار موسى، والثاني حسب ترتيب أسفار العهد القديم. واسم هذا السفر في الأصل العبري “واله شيموت” أي “وهذه أسماء” أما معنى اسمه في الترجمة السبعينية اليونانية وفي معظم الترجمات الأخرى فهو “الخروج” والاسم مطابق للمسمى، فهو سجل لتاريخ خروج بني إسرائيل من مصر متجهين إلى فلسطين. وقد اقتبس عنه المسيح وتلاميذه 25 آية بمعانيها. وقد تضمن تاريخ الحوادث التي جرت من وقت موت يوسف إلى وقت بناء خيمة الشهادة. ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام.
1 – في مصر:
Crossing the Red Sea.
(خر 1: 1 – 12: 36) ويمرُّ السفر مرَّ الكرام على القرون المتوالية التي أعقبت نزول يعقوب إلى مصر، ويلخصها في عبارة واحدة عن تكاثر الشعب بعد موت يوسف (1: 7). ويتحدث بعد ذلك عن: المظالم التي وقعت على العبرانيين (1: 8 إلخ.)، وولادة موسى وحياته الأولى ودعوته (خر 2 – 4) وكفاحه مع فرعون وإنزال الضربات، ثم رسم فريضة الفصح بمناسبة الضربة الأخيرة (خر 5: 1 – 12: 36).
2 – من مصر إلى سيناء:
(خر 12: 37 – 42 و19: 2). ويصف هذا القسم الرحيل من رعمسيس (خر 12: 37 – 42). ويضع قواعد وتعليمات إذافية عن الفصح والشروط التي يخضع لها الغرباء للاشتراك في هذا العيد (12: 43 – 51) وفرض تقديس كل بكر (خر 13: 1 و2)، وإعلان سبعة أيام من ذلك الحين فصاعدًا تحفظ احتفاء بعيد الفصح، ووصية الله لتقديس البكر (خر 13: 3 – 16) وعبور البحر الأحمر (خر 14)، وترنيمة الخلاص (خر 15: 1 – 19)، والمياه المرَّة في مارة والمن والسلوى (خر 15: 20 – 16: 36). وفي رفيديم: المياه تنفجر من الصخر في حوريب، والانتصار على عماليق، وزيادة يثرون (خر 17 و18).
3 – في سيناء:
(خر 19: 3 – 40: 38 ثم إلى سفر العدد 10: 10) توطيد دعائم النظام الثيوقراطي الديني: العهد الثيوقراطي الذي اقترحه الله مشترطًا فيه الطاعة (19: 3 – 6). موافقة شيوخ الشعب على الشروط (عدد 7 و8).. الوصايا العشر والأحكام الإضافية الأخرى التي كتبت في كتاب العهد (خر 20 – 23 و24: 4). موافقة الشعب على هذا العهد (24: 1 – 8). ووليمة العهد بين الطرفين المتعاقدين (عدد 9 – 11). موسى فوق الجبل: الأوصاف المعمارية للخيمة وأثاثاتها وموائد الحجر (خر 24: 12 – 31: 18). العجل الذهبي (خر 32 و33). زيادة موسى الثانية للجبل وتلخيص سريع لشرائع العهد (خر 34). بناء خيمة الاجتماع وإقامتها (خر 35 – 40).
تاريخ الخروج:
اختلف العلماء في تحديد التاريخ الذي حدث فيه خروج بني اسرائيل من مصر وهاك ملخص لمجمل الأراء الخاصة به:
(1) الرأي الأول وهو الذي يقول بأن الخروج حدث في القرن السادس عشر قبل الميلاد – وهذا هو الرأي الذي قال به مانيثو المؤرخ المصري الذي عاش نحو سنة 250 ق. م وقد استمر العلماء يأخذون بهذا الرأي منذ عصر مانيثو إلى أواخر القرن التاسع عشر الميلادي. ومجمل هذا الرأي هو أن العبرانيين طردوا من أرض مصر مع الهكسوس. ولكن هذا التاريخ لا يتفق مع النصوص الكتابية الواردة في (خروج 1: 11 و12: 40 و1 ملوك 6: 1). ولا يتفق أيضًا مع الاكتشافات الحديثة التي أظهرتها الحفريات.
(2) أما الرأي الثاني فيقول أن الخروج حدث في منتصف القرن الخامس عشر قبل الميلاد أو نحو سنة 1447 وأنه حدث في زمن تحتموس الثالث أو في زمن امنوفس الثاني. وهذا التاريخ هو أقرب التواريخ اتفاقًا مع (قضاة 11: 26) فإن يفتاح الذي عاش حوالي سنة 1100 ق. م. يذكر أن ثلاث مئة سنة مضت منذ دخول العبرانيين الأرض أي أنهم دخلوها في نحو سنة 1400 ق. م. وعندما يضاف إليها الأربعون سنة التي قضوها في البرية يصل التاريخ إلى أواسط القرن الخامس عشر تقريبًا.
وكذلك بتفق هذا التاريخ مع النص الوارد في (1 ملوك 6: 1) حيث يقول: “وكان في سنة الأربع مئة والثمانين لخروج بني إسرائيل من أرض مصر في السنة الرابعة لملك سليمان…. أنه بنى البيت للرب”. فإذا كان قد بدىء ببناء الهيكل في عام 967 ق. م. فيكون الخروج قد تم في عام 1447 بحسب هذا النص.
وكذلك يتفق هذا التاريخ مع الاكتشافات التي أظهرها التنقيب في اريحا وحاصور حسبما يقول لنا بعض العلماء.
ويتفق أيضًا مع ما ورد في لوحات تل العمارنة التي تتحدث عن شعب قادم إلى أرض فلسطين في هذا التاريخ تقريبًا، أو بعده بزمن قصير. وتدعو اللوحات هذا الشعب باسم “الخبيرو” ويعتقد بعض العلماء أن هؤلاء هم العبرانيون الذين جاءوا إلى أرض فلسطين في نحو هذا التاريخ.
Now it came to pass in those days, when Moses was grown, that he went out to his brethren the children of Israel and looked at their burdens (Exodus 2: 11).
(3) ويقول الرأي الثالث بأن تاريخ الخروج يقع في نحو عام 1290 ق. م أو في أوائل القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وأنه قد حدث في أثناء حكم رمسيس الثاني إذ أن الكتاب يذكر في (خروج 1: 11) أن بني إسرائيل بنوا مدينتي مخازن: فيثوم ورعمسيس. ويقولون أن هذا الاسم رعمسيس هو اسم فرعون الذي حدث الخروج في عصره. ولكن لا يمكن أن يتخذ اسم المدينة كدليل قاطع على اسم فرعون الذي تمّ الخروج في عصره لأنه من المحتمل جدًا أن الاسم “رعمسيس” قد استخدم في عصر سابق لعصر رمسي الثاني بزمن طويل.
كذلك يرى القائلون بهذا الرأي أن في فتح مدن مثل لخيش وغيرها في تاريخ يقرب من هذا التاريخ تأييدًا لرأيهم. ولكننا نعلم أن التاريخ الذي يستدل عليه من الحفريات لا يمكن إلا أن يكون تقريبيًا.
(4) يقول علماء آخرون أن الخروج حدث في عصر منفتاح أو حوالي عام 1230 ق. م. وقد بنى هذا الرأي على تفسير خاطئ للنصب التذكاري الذي أقامه منفتاح، وفيه يذكر انتصاره على إسرائيل وغيره من الأمم التي كانت تقطن فلسطين في ذلك الحين. فقد ظنّوا أن في ذكر إسرائيل إشارة إلى أن بني إسرائيل كانوا في ذلك الحين قد خرجوا إلى مصر، وقضوا زمن التيه في البرية ودخلوا فلسطين واستقروا في البلاد زمنًا طويلًا قبل انتصار منفتاح عليهم واستقروا في البلاد زمنًا طويلًا قبل انتصار منفتاح عليهم وهذا ما يناقض رأي هؤلاء العلماء.
موضع العبور:
اختلف العلماء في موضع العبور، والحق أن تعيينه بالدقة ليس من الأمور اليسيرة. فالمعجزات التي جرت على يد موسى تمت في صوعن أي تأنيس (مز 78: 12). وكانت رعمسيس ضاحية لهذه العاصمة. ومنها ارتحل بنو إسرائيل إلى سكوت (خر 12: 37) وهي تل المسخوطة في واجي طميلات، وتبعد 32 ميلًا جنوب شرق تانيس و11 ميلًا غرب الإسماعيلية. فهم لم يتخذوا أقصر الطرق إلى فلسطين، بل رحلوا عن طريق البرية بالقرب من البحر الأحمر (خر 13: 17 و18). وضربوا خيامهم لأول مرة بعد مغادرة سكوت في “ايثام”. ولم يمكن تعيين هذا الموقع، على أنه كان طرف البرية عند حافة الصحراء (عدد 20). ومن هناك رجعوا وضربوا خيامهم أمام فم الحيروت بين مجدل والبحر أمام بعل صفون (خر 14: 2). وليس من الميسور تحديد هذا الموقع، غلا أنّ المعروف أنه كان غرب البحر الأحمر. ومن هناك عبروا البحر الأحمر (بحر سوف) إلى برية شور (خر 15: 4 و22). ثم ساروا بمحاذاة البحر الحمر إلى جبل سيناء (خر 16: 1). ويذهب كثيرون من العلماء إلى أن الخليج كان ممتدًا في أيام موسى إلى منطقة البحيرات المرة على هيئة مستنقع. من مدينة الإسماعيلية الحديثة. ويقول آخرون أنه كان بالقرب من مدينة السويس. ويرى بعضهم أنّ في اسم “جبل عتاقة” بالقرب من السويس إشارة إلى عبور البحر.
وللخروج معنى روحي عميق في حياة الشعب وفي حياة الكنيسة إذ أن في التحرر من العبودية رمز إلى عمل الله المجيد في الخلاص من عبودية الخطية والتحرر من سلطانها.
الخروج: التاريخ والأعداد، وجهة نظر بديلة.
أولاً التاريخ:
(أ) الصعوبات:
هناك بعض الصعوبات التي تتعلق بتاريخ الخروج. ولكن ثمة من يظنون أنهم قد استطاعوا تحديد التاريخ تحديداً قاطعاً زاعمين أن كل الصعوبات قد ذللت متجاهلين الآراء البديلة. والطريق السليم هو تحديد بعض المبادئ اللازمة لحسم القضية ثم السير على هدى هذه المبادئ.
(ب) قاعدة المفصَّلات:
والمبدأ العام هو أن كل قضية تعتمد على شهادة إنسان كما في كل المسائل التاريخية تتأرجح مثل باب يدور حول مفصلات، فالباب يمكن أن يغلق مكانا ويفتح آخر، وقد يصدر صريراً غير قليل عند حركته مع أنه يدور حول مفصلاته، وهكذا الحال في هذه القضية كما في كل قضية يدور حولها جدل تاريخي. فإذا ما تركنا جانباً الصعوبات المترتبة على التواريخ البديلة للخروج، فيجدر بنا أن نبحث ونبين بوضوح المفصلات التي تدور حولها هذه القضية:
(1) إن ما جاء في سفر الخروج (1: 11) “فجعلوا عليهم رؤساء تسخير لكي يذلوهم بأثقالهم. فبنوا لفرعون مدينتي مخازن فيثوم ورعمسيس” يثبت بكل جلاء أن الإسرائيليين المسخرين بأمر فرعون قاموا ببناء مدينتي المخازن فيثوم ورعمسيس، لكنه لا يذكر أي إشارة إلى اسم الملك، لأن كلمة “فرعون” ليست إلا كناية عن الحكومة (فكلمة فرعون “Per – aa” في اللغة المصرية القديمة تعني “البيت الكبير” مثل “الباب العالي” أو “التاج” ومدينتا المخازن المذكورتين، ظلتا مدة طويلة لغزاً، وحدد لهما علماء الآثار المصرية القديمة أماكن مختلفة، ولم تتوفر معلومات محددة عنهما حتى كشف “نافيل” (Naville) عن أطلال “تل المسخوطة”، وعندئذ وضحت كل جوانب القضية، وتم التحقق منها ما عدا موقع “أرض سكوت”. وقد تأيد ذلك فيما بعد باكتشاف شاهد قبر أحد كهنة منطقة “ثوكو” (Thuku) وهو الاسم المرادف لـ “سكوت” في اللغة المصرية القديمة. وزيارة لهذه الخرائب والفحص الدقيق لما كشف عنه “نافيل” يؤكدان صحة كل جزء من تقريره الذي كان مثار الكثير من الجدل. فيوجد على المدخل نقش يقرر فيه رمسيس الثاني بكل جلاء: “أنا بنيت فيثوم”. وقد احتج البعض بأن رمسيس كان ينسب لنفسه أعمال غيره، وقد كان كذلك في الحقيقة، إلا أن هذا النقش نقش أصيل لم تمتد إليه يد التغيير كما هو واضح في الآثار التي انتحلها لنفسه. ولا يستطيع أحد قبل رمسيس أن ينقشه هنا، وبالتأكيد لم ينقشه أحد بعده ما لم تكن هذه الكتابة تقرر الحقيقة. بالإضافة إلى ذلك، فإن الطوب المستخدم هو نفس النوع الذي اشتهر به رمسيس الثاني، وهكذا نقشت عليها كل القصة الإسرائيلية عن بناء “فيثوم”.
ووجد أيضاً في “بيت شان” لوح يقرر فيه رمسيس الثاني أنه بنى “رعمسيس” المدينة الثانية من مدينتي المخازن، وأنه سخر فى بنائها العبيد الأسيويين الساميين. ففى “فيثوم” و “بيت شان” نجد إحدى المفصلات التي تدور حولها قضية تاريخ الخروج، فالإسرائيليون بنوا فيثوم، ورمسيس الثاني بنى “فيثوم”، إذاً لابد أن رمسيس الثاني كان آخر الملوك الذين اضطهدوا بنى إسرائيل قبل الخروج مباشرة.
(2) كشف “ماريت” “Mariette” عند تنقيبه عن الآثار في “صوعن” عن لوح أقامه رمسيس الثاني تخليداً لذكرى أبيه “سيتي” (وإن كان البعض يعتقدون أنه كان لتكريم الإله “ست”) عليه تاريخ محدد. وأهم ما في هذا النقش هو هذا التاريخ الذي قد يكون التاريخ المحدد والوحيد فى تاريخ مصر القديم، فيذكر هذا النقش أن اللوح أقيم في السنة الأربعمائة للملك “نوبتى” (Nubti) والتاريخ الدقيق للملك “نوبتى” غير معروف تماماً، لكنه كان قبل “أبو فيس” (Apophis) بفترة قصيرة أو بعده مباشرة. وحسب شهادة المؤرخ اليوناني “سينكلوس” (Syncillus) كان “أبو فيس” هو فرعون يوسف. وقيل لأبرام: “اعلم يقيناً أن نسلك سيكون غريباً في أرض ليست لهم ويستعبدون لهم فيذلوهم أربع مئة سنة” (تك13: 15). وجاء في سفر الخروج (40: 12) “وأما إقامة بنى إسرائيل التي أقاموها في مصر فكانت أربع مئة وثلاثين سنة” وهكذا نجد أن الأربعمائة السنة من يوسف إلى موسى، والأربعمائة السنة المذكورة في اللوح من “نوبتي” إلى رمسيس الثاني تتفقان بصورة لا مهرب منها. وهذه مفصلة أخرى تدور حولها القضية.
(3) كان اللوح الإسرائيلي الذي وجده “بترى” (Petri) في الرمسيوم في 1906 م موضوع جدل كبير، حيث رأى بعض المفسرين أن الإسرائيليين كانوا فى فلسطين في ذلك الحين، وعلى هذا فهو يدعم تاريخ الخروج المبكر.
ولكن إن كان البعض يعتقدون ذلك، فهناك آخرون يعتقدون – مستندين إلى أسس قوية – أن هذا النقش إذا فسر تفسيراً صحيحاً، فإنه يؤيد التاريخ المتأخر للخروج. ويظهر اسم “إسرائيل” في هذا النقش بين اسمى “أشقلون” و “خار”. و “خار” هو اسم “كنعان” على طريق البحر الميت. ويبدو من ذكر “إسرائيل” بين أشقلون وخار أنها كانت تقع بينهما أي في منطقة “قادش برنيع”. ولكل اسم في القائمة مدلول محدد “لشعب” له موطنه الخاص ما عدا إسرائيل. “فخار” التي تلى إسرائيل كان لها أيضا نفس المدلول، وهو ما ينفق تماماً مع حالة إسرائيل المرتحلين في البرية كشعب بلا “وطن خاص” ولا يتفق إطلاقا مع فكرة أن اسرائيل كان قد استقر في أرض الموعد حيث يكون له “وطن خاص”. كما ذكر في النقش أنه “ليس هناك زرع أو نسل”. وثار جدل حول أن كلمة “زرع” يجب أن تترجم “محاصيل”، ولكن نقشين أحدهما لحتشبسوت، والآخر لرمسيس الثاني، جاءت فيهما نفس الكلمة للدلالة بكل وضوح على “ابن” أو “ابنة” أو “أبناء”، فيمثل نقش حتشبسوت الإله “آمون” يخاطب الملكة كابنته بهذه الكلمة المصرية مع لقب “المقدسة”، وى. وتخيل أباً يخاطب ابنته بأنها “محاصيل مقدسة”. وعلية فان الكلمة في نقش منفتاح (مرنبتاح) تعنى فعلاً “أبناء”، ويصبح النقش سخرية من أبناء اسرائيل لم يدخلوا أرض الموعد لأنهم أمة من النساء قد حرموا من الذرية لقتل مواليدهم الذكور. ثم يضيف الشاعر (كاتب العبارة) أن “خار أصبحت مثل أرامل مصر” مما يعنى أن فلسطين كانت تبكى على الإسرائيليين الذين لم يصلوا إليها بعد، كأرملة تنوح على زوجها. وتاريخ هذا النقش هو السنة الخامسة لمرنتباح. وقد جاءت الدعوة لموسى عندما مات الملك الذي كان يطلب نفسه (خر 23: 2)، ويلزم أن تمر سنة ليعود موسى إلى مصر، ثم سنتان أخريان قبل مغادرتهم لمصر (وقعت فيه الضربات) ثم سنتان قبل مغادرتهم لسيناء، وهكذا تم وصولهم إلى قادش برنيع في السنة الخامسة لمرنتباح، وهكذا نجد مفصلة أخرى يدور حولها تاريخ الخروج.
(4) دعيت فلسطين “جسر الأمم” لأنه في العالم القديم كان يجب أن يعبر فوق أرضها كل جيش وكل مسافر بين بلدان أفريقيا وآسيا وأوروبا، إذ لم يكن في استطاعته عبور البحر، بل كانوا يسيرون بمحاذاة الشاطئ فقط، كما لم يكن في استطاعتهم اختراق الصحراء، وعرض هذا الجسر (أرض فلسطين) لا يتجاوز الأربعين ميلاً في المتوسط، ويضيق إلى عدة قصبات عند ممر “مجدو”. وكان “لجسر الأمم” هذا في العالم القديم أهمية أكثر من تلك التي يوليها العالم الغربي الآن لقناة السويس أو قناة “بنما”.
وعلاوة على ذلك فان أسفار يشوع والقضاة وصموئيل الأول والثاني تسرد تاريخ إسرائيل في غضون تلك الفترة دون أن تذكر أي إزعاج لهم من الأمم الكبرى في الجنوب أو في الشمال أو في الشرق، ولم تكن المضايقات تصدر إلا من الأمم الصغيرة المحيطة بهم، وذلك على مدى خمسمائة سنة، تركتهم الأمم الكبرى فى خلال تلك القرون، يسيطرون على “جسر الأمم”، وهكذا عظم شأن اسرائيل، ولو أن الخروج حدث في التاريخ المبكر، لكانت هذه الأسفار الكتابية ليست تاريخاً على الإطلاق، لأنه خلال القرون التالية لذلك التاريخ المبكر، غزا الفراعنة العظام أمينوفيس الثالث وسيتى الأول ورمسيس الثاني تلك الأرض ونهبوها مراراً، وقد سجلوا ما غنموه منها على الآثار التي تملأ متاحف العالم والتي لا يمكن تزييفها. ومع ذلك لم ترد كلمة عن هذه الغزوات فى الكتاب المقدس في تأريخه لتلك الحقبة من الزمن. ومثل هذا الإهمال أمر لا يصدق. ولكن من الناحية الأخرى ولو أن الخروج حدث في نهاية حكم رمسيس الثاني أو في أوائل حكم مرنبتاح، فان مصر كانت قد أخذت في الانحدار على مدى خمسمائة عام حتى جاء شيشق الليبي ونهب الهيكل بعد بنائه بخمسة وعشرين عاماً. كما قام مرنبتاح ورمسيس الثالث برحلات إلى فلسطين بمحازاة شاطئ البحر المتوسط – الذي لم يكن الإسرائيليون يسيطرون عليه في ذلك الوقت – ولكنهم لم يتوغلوا إلى الداخل، إلى المنطقة التي كانت تشغلها اسرائيل. كما أنه في بداية نفس تلك الحقبة (الخمسمائة السنة) بدأت المملكة البابلية القديمة في الانحدار، لتحل محلها “أشور”، ولكن الأمر استغرق خمسمائة عام حتى يعظم شأن أشور وتبلغ أوج عظمتها. وهكذا نجد مرة أخرى فترة الخمسمائة سنة تنطبق على أشور كما تنطبق على مصر، وهذه مفصلة أخرى تدور حولها القضية.
(5) وآخر الكل وأقوى الكل، أن أبحاث معهد زينيا (xenia) في قرية “سفر” في التعاون مع المدرسة الأمريكية للأبحاث الشرقية في أورشليم فى 1926 إلى 1928 م، أسفرت عن العصور على تاريخ علمى مضبوط للدخول إلى أرض كنعان، وبالتالي إلى تاريخ الخروج، حيث وجدت طبقة كبيرة من الرماد والفحم والجير المتخلفة عن حرب صخور الحوائط الجيرية داخل الباب الشرقي، مما يدل على أن المدينة قد احترقت بالنار. وكل شىء تحت هذا المستوى كان كنعانياً من العصر البرونزي، كل الأواني الفخارية وكل الأسلحة والأدوات. وكل شىء فوق هذا المستوى كان إسرائيليا من العصر الحديدي، وكل الآنية الفخارية وكل الأسلحة وكل الأدوات. و واضح أن الإسرائيليين قد دخلوا كنعان عند نقطة الإنتقال من العصر البرونزي إلى العصر الحديدى. وقد حدث هذا فجأه عندما شيد الفلسطينيون أفرانهم التي تصهر الحديد في “جرار”، وأصبح الحديد متوفراً ورخيصاً، وفى الحال استغنوا عن البرونز. هل يمكن لأحد أن يقول إن قوة الفلسطينيين قد ظهرت قبل ذلك بثلاثمائة سنة في حكم أمينوفيس الثالث، أو أن العصر الحديدى دخل فلسطين في نهاية فترة حكم تحتمس الثالث؟ يقول “الآب فنسنت” (Pere Vincent) إن العصر الحديدى بدأ حوالي عام 1275 ق. م. وهكذا يثبت تاريخ علمى للخروج في كريات سفر يعاصر بداية العصر الحديدى وهذه مفصلة أخرى تدور حولها قضية تاريخ الخروج وحول هذه المعضلات الخمس تدور القضية والزمن كفيل بحل كل الصعاب.
ثانياً: عدد الشعب:
الأدلة على عدد الشعب أدلة مباشرة واستنتاجية أيضاً:
(1) الخوف:
سيطر الخوف على المصريين من تزايد الإسرائيليين، فبذلوا جهوداً مسعورة لوضع حد لهذه الزيادة بين ذكور الإسرائيليين (الأصحاح الأول من سفر الخروج)، واستولى الرعب على شعوب كنعان من توقعهم للغزو الإسرائيلي. ومما لا يصدق أن تخاف الإمبراطورية المصرية العظيمة وجيشها الجرار علاوة على الكثيرين من المرتزقة، من بني إسرائيل لو أنهم مجرد نفر قليل كما يظن بعض الباحثين. كما أن الرعب الذي سيطر على الكنعانيين كان أمراً يدعو للسخرية لو كان الإسرائيليون مجرد قبائل قليلة من البدو.
(2) جيش كبير:
يشير عدد الذكور في الأسباط الإثني عشر إشارة واضحة لوجود جيش كبير، كما أنه من أكبر الأدلة الإيجابية الثابتة، نوعية الحصون التي استولى عليها الإسرائيليون في فلسطين، حيث نقرأ: “ثم رجع يشوع وكل اسرائيل معه إلى دبير (كريات سفر) وحاربها” (يش 38: 10)، ويؤيد ذلك منظر الحوائط والأبواب الضخمة في ذلك الحصن، فقد كانت الحوائط تعلو إلى أكثر من 40 قدماً، كما كان سمكها يتراوح بين عشرة إلى أربعة عشر قدماً، ومجهزة بكل ما كان معروفاً من وسائل الدفاع. ولم تكن هناك حاجة إلى كل الجيش لمحاصرة مثل هذا المكان فحسب، بل كان يلزم أيضا أن يكون جيشاً كبيراً وقوياً لكي يصمد ضد هجمات المدافعين المرهقة، والالتحام بهم يداً بيد، إذ لم يكن يتم الاستيلاء على المدينة إلا عندما يتناقص عدد المدافعين جداً، بينما تظل القوة المهاجمة على أشدها.
(3) الستمائة ألف:
عندما نمعن الفكر في دلالة الستمائة ألف، تتضح أمامنا الأمور، فقد كان عدد بن اسرائيل نحو “ستمائة ألف ماش من الرجال عدا الأولاد” (خر 37: 12). والكلمة المترجمة “رجال” هي “جيبوريم” وتعنى “الأشداء” أو “الأقوياء”، كما يقال عنهم “ست مئة ألف ماش” أي من السائرين على أقدامهم، أي ست مئة ألف شخص قوى يسيرون على أقدامهم ما عدا الأطفال. والكلمة المترجمة “أولاد” وهنا ليست الكلمة العادية “للأولاد” ولكنها كلمة مداعبة تحاكى صوت وقع الأقدام الصغيرة من الأطفال الذين يجب أن يحملوا، بالمقابلة مع المشاة. ولا يذكر شيئاً بالتحديد عن النساء، فلابد أنهن حسبن بين “الأقوياء” الذين كانوا يسيرون على الأقدام. ويمكن تقدير نسبة الرجال إلى النساء في “الست مئة ألف ماش”، فنحن نعلم أن المصريين حاولوا أن يهدموا التوازن بين الجنسين لكي يجعلوا الشعب “أمة من النساء” وبالتالي يصبح غير قادر على القيام بأى عصيان مسلح. ونحن لا نعلم إلى أي مدى نجحوا في تنفيذ هذا المخطط الغادر، وبالتأكيد كان تخفيض عدد الذكور أمراً منطقياً، وهكذا يمكن أن نقول إن الست مائة ألف ماش كانوا أربع مئة ألف من النساء، ومائتى ألف من الرجال. ولابد أن عدد الأطفال كان كبيراً كما هي العادة في الشرق فلو حسبنا طفلين فقط لكل امرأة، لكان هنا ثمانمائة ألف طفل. كما أن عدد اللفيف غير معروف على وجه التحديد، فلو اعتبرناهم مائة ألف، لكان العدد الإجمالي حوالي مليون ونصف مليون، وهو تقدير معقول.
(4) توافق الحقائق.
: تفجر مسألة تاريخ الخروج وعدد الشعب كثيراً من المشكلات المتضاربة، ولكنها – مهما تكن – فهي مشكلات ممكنة الحل رغم ما يبدو فيها من تضارب. ومهما تكن الصعوبات في طريق فهمنا لعناصر هذا التاريخ، فالزمن كفيل بتذليلها. فالحاجة إلى عدد كبير من الإسرائيليين لتبرير خوف المصريين والكنعانيين، تقابلها مشقة الرحلة في البرية وبخاصة مع ندرة الينابيع، ولكن القصة تتطلب الأمرين معا. وصعوبة تقسيم الزمن من إبراهيم الى الخروج، مع ما يبدو من لزوم فترة زمنية طوية بينهما، وإصرار الكثيرين (المبنى بالدرجة الأولى على أقوال يوسيفوس، الذي جعل خروج اليهود متفقاً مع طرد البرص من مصر)، يدلان على أن الخروج حدث في حوالي 1450 ق. م.، وهو ما يتعارض مع الحقيقة الثابتة المعروفة الآن من الكشف الأثري في “كريات سفر” والذي يدل على أن دخول بني إسرائيل الى كنعان حدث في بداية العصر الحديدي في فلسطين، أي بعد التاريخ المذكور بحوالي مائتي عام. وهي صعوبات وإن بدت متضاربة إلا أنها ليست مستحيلة الحل، فنحن في حاجة الى معرفة كل الحقائق والربط بينها بطريقة سليمة، وعندئذ سنجد أنها جميعها منسجمة تماماً ومتفقة مع ما جاء بالكتاب المقدس.
سفر الخروج
(1) الاسم: سفر الخروج هو ثاني أسفار التوراة (الناموس) واسمه في العبرية “واله شيموت”، وهي العبارة الأولى في السفر، أي “وهذه الأسماء”. وكان من عادة اليهود تسمية الأسفار المقدسة بالكلمة الاولى أو العبارة الاولى منها. أما تسمية السفر بسفر “الخروج” فنقلاً عن الترجمة السبعينية التي سمت السفر بمضمونه، أي خروج بني إسرائيل من مصر (انظر خر 1: 19، مز 38: 105، 1: 114، عب 22: 11). وقد اقتبس منه المسيح وتلاميذه خمسة وعشرين آية بنصوصها، وتسع عشرة آية بمعانيها.
(2) المضمون: يوضح هذا السفر بجلاء عملية الفداء، فالهدف منه هو شرح كيف أصبح شعب إسرائيل “أمة العهد” للرب، فبينما لا ترد كلمة فداء ومشتقاتها كثيراً في سفر الخروج (انظر خر 13: 13 – 15، 13: 15، 30: 21، 12: 30، 20: 34) الا أن مفهوم الخلاص من الموت والعبودية والوثنية يسود كل السفر. كما يعلن الله نفسه مراراً باسم “يهوه” أي “الله صاحب السيادة المطلقة”، ويقطع عهداً مع إسرائيل، فهو ينقذهم ويخرجهم من أرض مصر، ويأخذهم لنفسه ليكونوا له شعباً خاصاً، وليكون لهم إلهاً، ويدخلهم إلى الأرض التي وعد بها إبراهيم واسحق ويعقوب (انظر مثلاً خر 6: 6 – 8).
وتظهر بكل دقة استمرارية خطة الله في الفداء، وإن يكن بإيجاز في الأصحاح الأول بحرف العطف “واو” ليربط بين سفري التكوين والخروج، أي ما بين زمن يوسف وزمن موسى، وهي فترة عبوديتهم في مصر. ثم تصف الأصحاحات القليلة التالية مولد موسى وتربيته ودعوة الله له ليكون الأداة البشرية في خلاص الشعب ووسيط العهد بينهم وبين الله.
The ark of the covenant Exodus 37 – Bible Scroll.
وفي سلسلة من المواجهات بين موسى وفرعون (خر 5: 1 – 10: 29)، لم يستطيع موسى إقناعه ليطلق الشعب من العبودية، بل إن تسع ضربات غير عادية، لم تستطع أن تحمله على تغيير موقفه، بل بالحري زاد قلبه قساوة. ثم أنذره الله الانذار الأخير بقتل كل بكر في أرض مصر من بكر فرعون الى بكر الجارية وكل بكر بهيمة. ولكن الله رتب وسيلة لبني إسرائيل للنجاة من سيف الملاك المهلك، وذلك برش دم خروف الفصح على القائمتين والعتبة العليا. ولما وقعت الضربة أطلق فرعون موسى وبنى إسرائيل، فانطلقوا من رعمسيس إلى سكوت.. الى أن نزلوا أمام فم الحيروث بين مجدل والبحر، فظن فرعون أنه قد استغلق عليهم القفر، فسعى بجيوشه وراءهم، ولكن الرب شق البحر أمام بني إسرائيل حتى عبروا الى الشاطىء الشرقي، ولما زحف المصريون وراءهم، رجع الماء وأغرق كل مركبات فرعون وفرسانه (خر 1: 11 – 31: 14). حينئذ رنم موسى وبنو إسرائيل ترنيمة الانتصار تسبيحة للرب (خر 1: 15 – 21).
وقاد موسى الشعب في البرية حتى نزلوا أمام جبل سيناء (خر 1: 19 و2). وقد اختبروا في الطريق معجزات الله التي عملها معهم لسد حاجتهم الى الماء والطعام، ونصرتهم في المعركة مع عماليق. وعندما وافق الشعب على شروط العهد الذي سيقطعه الله معهم (8: 19) تقدس الشعب واجتمعوا في أسفل الجبل في اليوم الثالث (9: 19 – 19) لكي يستمعوا الى وصايا الرب وعهده مع إسرائيل (20: 19 – 23)، وى. ثم انحدر موسى (25: 19) وأخبر الشعب بجميع كلمات الله من وصايا وأحكام وفرائض العهد، فبادروا بصوت واحد الى إعلان قبولها (3: 24). “فكتب موسى جميع أقوال الرب” (ودعاه كتاب العهد – 4: 24 – 7). وبعد ذلك سلم الرب لموسى لوصايا العشر المكتوبة على لوحي الحجارة “بأصبع الله نفسه” (خر 12: 24، 18: 31). وتأييداً لموافقتهم على العهد بنى موسى في اليوم التالي مذبحاً في أسفل الجبل واثني عشر عموداً تمثل أسباط اسرائيل الاثني عشر (4: 24 – 8). وبعد ذلك صعد موسى – كوسيط العهد – ومعه هارون رئيس الكهنة وابناه وسبعون من شيوخ إسرائيل، “ورأوا إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف، وكذات السماء في النقاوة… فرأوا الله وأكلوا وشربوا” (خر 9: 24 – 11).
Crossing the Red sea Exodus 14: 2 – Bible Scroll.
ثم صعد موسى مرة أخرى الى قمة الجبل وكان هناك أربعين نهاراً وأربعين ليلة، حيث أظهر له الرب رسماً للخيمة وكل ما يتعلق بأمتعتها وآنيتها ونظام الخدمة فيها، وأوصاهم بحفظ السبت علامة للعهد (خر 25 – 31). وفي تلك الأثناء، عندما رأى الشعب أن موسى أبطأ في النزول، طلبوا من هرون أن يصنع لهم تمثالاً ليكون لهم إلهاً، وهكذا نقضوا عهدهم مع الله. وإذ نزل موسى من الجبل ورأى الشعب يرقصون حول العجل الذهبي الذي صنعه لهم هارون، حمي غضبه وطرح اللوحين من يديه وكسرهما في أسفل الجبل. ولبى بنو لاوي نداءه، وقتلوا من زعماء المتمردين نحو ثلاثة آلاف رجل (خر 15: 32 – 29).
وبعد أن صعد موسى الى قمة الجبل لمدة أربعين يوماً أخرى، وتوسل الى الله من أجل بقية الشعب، أعلن الله مجده لعبده موسى ووعده بأن يسير بوجهه أمامه فيريحه (خر 14: 33)، ويطرد من قدامه شعوب الأرض (11: 34). واستعاد الشعب شركته وقدم كل ما يلزم لإقامة الخيمة (الأصحاحات 35 – 39). وعندما أقيم المسكن في اليوم الأول من الشهر الأول من السنة الثانية لخروجهم من مصر (خر 17: 40) أرسل الله سحابة المجد “الشكيناه” لتملأ ببهاء الرب المسكن المقام في وسط شعب العهد الذي فداه (34: 40).
(3) مجمل السفر:
مقدمة: الربط بين سفر الخروج وسفر التكوين (1: 1 – 7). أولاً: فداء الله لشعبه المستبعد من مصر بالدم والقوة (8: 1 – 27: 18).
(أ) خلفية العبودية في مصر (8: 1 – 22).
(ب) إعداد المنقذ (1: 2 – 31: 4).
(ج) الصراع مع المضطهد (1: 5 – 10: 11).
(د) النجاة من مصر (1: 12 – 22: 15).
(1) الفداء بدم الخروف الفصح (1: 12 – 16: 13).
(2) الخلاص بالقوة المعجزية (17: 1 – 31: 14).
(3) نشيد الانتصار (15: 1 – 21).
(ه) التدريب في البرية (22: 15 – 27: 18).
(1) امتحان المفديين (22: 15 – 16: 17).
(2) حكم المفديين (1: 18 – 27).
ثانياً: علاقة الله بشعب إسرائيل المفدي على أساس العهد الذي تم عند جبل سيناء (1: 19 – 38: 40).
(أ) إقامة العهد مع إسرائيل (1: 19 – 28: 24).
(1) الإعداد لاستقبال العهد (1: 19 – 25).
(2) كلمات العهد (1: 20 – 19: 23).
(3) إصدار العهد (20: 23 – 33).
(4) إبرام العهد (1: 24 – 18).
(ب) عبادة شعب العهد (1: 25 – 38: 40).
(1) أوامر الله بخصوص الخيمة والكهنوت (1: 25 – 18: 31).
(2) انقطاع الشركة ثم استعادتها (1: 32 – 35: 34).
(3) التقدمات للمسكن (1: 35 – 7: 36).
(4) إتمام عمل الخيمة وإقامتها (8: 36 – 38: 40).
(4) كاتب السفر وتاريخ كتابته: ينسب اليهود سفر الخروج – مع سائر الأسفار الخمسة – إلى موسى منذ زمن يشوع: “كما أمر موسى عبد الرب… كما هو مكتوب في سفر توراة موسى”.
[يش 31: 8 – 35. انظر عبارة “مذبحاً من حجارة صحيحة” (غير منحوتة) مع خروج 25: 20]. وقد اقتبس الرب يسوع المسيح في رده على الصدوقيين الذين ينكرون القيامة: أما قرأتم في كتاب موسى في أمر العليقة كيف كلمه الله قائلاً أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب “(مرقس 26: 12، وانظر لو 37: 20).
ويتضح من الأدلة الداخلية أن الكاتب كان ولابد مقيما أصلا في مصر (وليس في فلسطين) , وكان شاهد عيان لأحداث الخروج وتجولات وأحداث البرية , وعلى درجة رفيعة من العلم والثقافة والمقدرة الأدبية , ولا يوجد من ينطبق عليه كل هذه الأوصاف سوى “موسى بن عمرام” (هكذا يقول ج. ل. اركر في كتابه “مقدمة العهد القديم”).
يبدو من قصة يوسف (تك 50: 37) وكذلك من سفر الخروج ان الكاتب كان على علم تام بالأسماء والألقاب والكلمات والعادات المصرية , فقد أشار إشارة دقيقة الى تعاقب المحاصيل في مصر السفلى (خر 31: 9 و32) , ولم يذكر من أنواع الأخشاب سوى خشب السنط وهو الخشب الصحراوي المتين الوحيد الموجود بكثرة في شبة جزيرة سيناء, وكان مصدرا للأخشاب التي استخدمت في بناء خيمة الاجتماع (خر 5: 25.. إلخ.). كما أن جلد التخس (وفى العبرية “تخاش”) الذي صنعت منه أغطية الخيمة كان يؤخذ من حيوان “الاطوم” وهو حيوان بحرى من الثدييات يعيش في مياه البحر الأحمر. كما كان الكاتب عليماً بأنواع الحلفاء التي تنمو على حوافى النهر وفى البرك والمستنقعات في دلتا النيل (3: 2) , وأن رمال الصحراء تغطى الأرض على أطراف التربة المزروعة. وواضح أنه كان شاهد عيان للأحداث والأماكن المذكورة بالارتباط برحلة البرية , فنجده مثلاً يذكر , بدون سبب ظاهر ,عدد العيون (12عين ماء) وعدد النخيل (70 نخلة) فى إيليم (27: 15). لقد كان موسى إسرائيلياً عاش فى مصر وتهذب بكل حكمة المصريين (أع 22: 7) , وكان عارفاً بكل أجزاء شبه جزيرة سيناء (للاستزادة يمكن الرجوع إلى “مقدمة العهد القديم للأستاذ ج. ل. أركر).
وعلاوة على ذلك فإن سفر الخروج نفسه يذكر أن موسى سجل الأحداث والأقوال عقب حدوثها مباشرة. ولعل الكتاب الذي سجل فيه أحداث المعركة مع عماليق كان درجاً من الرق شبيهاً بما كانت تكتب عليه حوليات التاريخ في مصر وغيرها من بلدان الشرق الأوسط , والتي كان يسجل فيها كل الأحداث الهامة (هناك درج من الرق في معبد آمون في طيبة بصعيد مصر من عهد الملك تحتمس الثالث , مسجله عليه يوميات قواده). وقد “كتب موسى جميع أقوال الرب بما فيها الوصايا العشر… وكتاب العهد” (4: 24 و7). وقد أمر الرب بعد العجل الذهبي قائلاً: “اكتب لنفسك هذه الكلمات” (خر 27: 34).
كما نقرأ بكل وضوح: “وكتب موسى هذه التوراة وسلمها للكهنة… فعندما كمَّل موسى كتابة كلمات التوراة في كتاب إلى تمامها” سلمها للكهنة ليضعوها “بجانب تابوت عهد الرب” (تث 9: 31 و2426). كما أنه كتب النشيد المسجل في الأصحاح الثاني والثلاثين من سفر التثنية (تث 19: 31 و22).
وهكذا ينتفي كل شك في ان موسى كان قادراً على الكتابة , وكان من عادته أن يحتفظ بسجلات دقيقة حسب العاده التي كانت شائعة في ذلك العصر ,كما كانت له مراجعه الثابتة التي كان يمكنه استخدامها.
وبناء على ذلك , يرجع تاريخ كتابة سفر الخروج إلى حياة موسى وزمن الخروج نفسه , ولعله كتبه فى غضون الثماني والثلاثين سنه التي تجولوا فيها في البريه حول قادش برنيع بعد مغادرة جبل سيناء. ومما يؤيد ان السفر كتب في ذلك العهد المبكر,دراسة صيغ العهود أو المعاهدات القديمة التي كان يوقعها الملوك مع الأمم الخاضعة لهم في منتصف الألف الثانية قبل الميلاد في الشرق الأوسط. فصيغة العهد الذي قطعه الله مع إسرائيل تطابق بصوره مذهلة تلك المعاهدات القديمة مثل المعاهدات التي قطعها أباطرة الحثيين مع أتباعهم من الملوك , فقد استخدم الله الصيغة الشائعة للعهود في ذلك الزمن , والتي كانت معروفة لموسى من تربيته في بلاط فرعون (للاستزاده يمكن الرجوع إلى: “تاريخ العهد القديم , من موسى إلى داود والاكتشافات الأثرية الحديثة” للأستاذ ج. ل. أركر Archer).
ومن الظواهر المدهشة التي تذكرنا بما أقامه فراعنة الدولة الحديثة من ملوك الأسرتين الثامنة عشرة والتاسعة عشرة من معابد، إقامة خيمة الشهادة، بأغطيتها الكتانية برسوم الكروبيم المطرزة بالأسمانجوني والأرجوان والقرمز صنعة حائك حاذق (خر 26: 1 6) والتي كانت تغطي ألواحاً من خشب السنط المغشاة بالذهب (خر 26: 15 30). وأقرب المثلة لهذه الخيمة التي كانت قابلة للحمل والنقل من مكان إلى آخر، هي الحجرات الأربع الخشبية المذهبة المستطيلة التي وجد بداخلها التابوت الذهبي لتوت عنخ آمون، والتي كانت كل حجرة داخل الأخرى، وكانت تمثل المعابد التي كانت مألوفة عند الملك في حياته، وهي مصنوعة من ألواح من الخشب القابلة للفك، والتي تتصل ببعضها بإحكام بطريقة التعشيق ومزاليج سهلة الانزلاق. وكانت هناك ظلة من الكتان مطرزة بزهور الأقحوان المذهبة بالبرونز، تغطي الحجرة الثانية، ولعل الصناع المهرة الذين قاموا بالعمل في الخيمة مثل بصلئيل بن أورى وأهولياب بن أخيساماك سبق أن عرفوا هذه الفنون من العمل في مصر.
ويزعم النقاد من مختلف مدارس النقد العالي أن سفر الخروج وغيره من الأسفار الخمسة، يتكون من عدة وثائق أو تقاليد مستقلة، جمعت معاً بعد زمن موسى بقرون كثيرة. ويقسم أتباع مدرسة جراف ولهاوزن سفر الخروج في تدوينه إلى ثلاثة أطوار رئيسية، ويطلقون على المراجع المزعومة الحروف الإنجليزية “J” (من “Jehovah” أي “يهوه”)، “E” (من “Elohim” أي “إلوهيم” أو الله)، “P” (من “Priest” أي كاهن). ويزعمون أن كهنة أورشليم بعد العودة من السبي، جمعوا مواد متناثرة واستكملوا الوثائق القديمة المنسوبة “لليهوديين” (الذين يستخدمون اسم “يهوه”، والإلوهيين (الذين يستخدمون اسم “إلوهيم” أي الله)، ومزجوها بالحديث عن طقوس العبادة (الأصحاحات 25 – 31، 35 40). ويزعم ولهازون وآخرون أن الخيمة في البرية ليست إلا من خيال الكهنة المتأخرين الذين ضخموا من شأن الخيمة البسيطة التي أقيمت للاجتماع وخلطوا بينها وبين الصورة الفاخرة لهيكل سليمان.
ويقول “ج. إ. رايت” (Wright) في كتابه “سفر الخروج” إن هناك الكثير من العوامل المجهولة في نقل مادة السفر عبر القرون الطويلة، حتى ليعد من العسير الجزم بشيء في مثل هذه الحال.
ويزعم بعضهم وجود وثائق أخرى وراء السفر غير ما سبق ذكره. وشقة الخلاف واسعة جداً بين مختلف آراء هؤلاء النقاد الذين ينكرون إسناد الأسفار الخمسة إلى موسى، وذلك لأنها جميعها آراء مبنية على غير أساس ثابت.
خَرَاج
هو ما يُخرج من غلة الأرض، أو الإتاوة تؤخذ من أموال الناس بقدر معلوم لتقدم للملوك والولاة (انظر عز 4: 13 و20، 7: 24، نح 5: 4).
خارجي | خارجية
والكلمة في العبرية هي “خيتسون” وقد وردت في العهد القديم 25 مرة، منها 15 مرة في سفر حزقيال عن المقدس الخارجي والدار الخارجية (انظر حز 10: 5، 40: 17 و20 و31 و37، 42: 1 و3 و7 و8 و9 و14، 44: 1 و9، 46: 20 – 21). وكانت هذه الدار تحيط بالهيكل، وقد قال عنها الملاك ليوحنا الرائي “” أما الدار التي هي خارج الهيكل فاطرحها خارجاً ولا تقسها لأنها قد أعطيت للأمم وسيدوسون المدينة المقدسة أثنين وأربعين شهراً “(رو 11: 2).
وتستخدم كلمة “خارجية” ثلاث مرات في الإنجيل متى وصفاً “للظلمة الخارجية” التي سيطرح إليها الأشرار “وهناك يكون البكاء وصرير الأسنان” (مت 8: 12، 22: 13، 25: 30). والكلمة في اليونانية هي “اكسوتروس” (exoteros) وهي مشتقة من كلمة “إكسو” (exo) بمعنى “الخارج” والتي يوصف بها “إنساننا الخارج” أي الجسد المادي بالمقابلة مع “إنساننا الداخل” أي حياتنا الروحية (2 كو 4: 16).
ويوصي الرسول بطرس المؤمنات: “لا تكن زينتكن الزينة الخارجية من ضفر الشعر والتحلي بالذهب ولبس الثياب، بل إنسان القلب الخفي في العديمة الفساد زينة الروح الوديع الهادي الذي هو قدام الله كثير الثمن” (1 بط 3: 3 و4)، والكلمة اليونانية المترجمة “الخارجية” هنا هي “إكسوسن” (exothen) وهي نفس الكلمة المترجمة “من خارج” في قول المسيح للفرنسيين المرائين إنهم يشبهون “قبوراً مبيضة تظهر من خارج جميلة وهي من داخل مملوءة عظام أموات وكل نجاسة” (مت 23: 27).
خَرْدل
← اللغة الإنجليزية: Mustard plant – اللغة العبرية: חרדל – اللغة اليونانية: σίναπι – اللغة القبطية:] eltam – اللغة الأمهرية: ሰናፍጭ.
نبات حباته صغيرة الحجم، ولكنها تنمو بحيث تصير شجرة أكبر من غيرها من الأعشاب (لو 13: 19 ومتى 13: 32 ومر 4: 32)، تستقر الأطيار على أغصانها لتلقط حباتها. وهي أصغر البذور جميعًا (متى 13: 32). وكبر النبتة التي تنمو من هذه البذرة يمثل تكاثر ملكوت السماوات من بداية ضئيلة. وقد استعمل اليهود هذه البذرة في أمثالهم كما استعملها يسوع (متى 17: 20 ولو 17: 6) للدلالة على الأشياء الصغيرة. والخردل المعروف في فلسطين هو الخردل الأسود Sinapis nigra وهو نبات بري يبلغ في طوله علو الجواد وراكبه كما شاهده المسافرون وهو يزرع أيضًا في الحدائق طلبًا في بذوره التي تستخدم كنوع من أنواع التوابل كالملح والفلفل.
ورد اسم هذا النبات وحبوبه في أمثال الرب يسوع المسيح (مت 13: 31، 17: 20، مرقس 4: 31، لو 13: 19، 17: 6). وهو أنواع منها: الخردل الأسود واسمه باللاتينية “سينابيس نيجرا” (sinapis nigra) والخردل الأبيض “سينابيس ألبا” (s. alba، والخردل البري “سينابيس أرفنسيس” (s. arvensis) وهو أحد التوابل واسعة الانتشار إلى هذا اليوم. وكان يزرع في فلسطين النوعان السود والأبيض. وكانت البذور تطحن لاستخدامها في الأدوية أو في الطعام لتعطيه نكهة ومذاقا حرَّيفَّا، بينما كانت الأوراق تطبخ كخضروات. وبذوره الصغيرة في حجم بذور البتونيا الأمريكية (petunia) أو أصغر، ولكنها متى زرعت في الأرض تصير شجرة قد تعلو إلى عشرة أقدام أو أكثر. وقد استخدمها الرب لتصوير نمو ملكوت الله، وكذلك لتصوير ما يستطيع أن يفعله الله القدير استجابة لإيمان ضئيل كحبة الخردل.
ويرى البعض أن حبة الخردل ليست أصغر جميع البذور المعروفة (مت 13: 32، مرقس 4: 31). ولكن الكلمة اليونانية هي “ميكروتيرون” (mikroteron)، وهي في صيغة المفاضلة وقد تعني “مثالًا أصغر بين جميع الحبوب” وبخاصة في مجموعة النباتات العشبية أو الخضروات التي تنمو في الحدائق.
خرز | خرَّز
خرز الجلد ونحوه خاطه بالمخرز، والمخرز هو آلة الثقب في الجلد وما أشبه. وخرَّزه وشّاه بالخرز وزينه (تث 15: 17، إش 44: 13).
أما العبارة التي جاءت في وصف ما أصاب بيلشاصر الملك عندما رأى يد إنسان تكتب على مكلس حائط قصرة: “حينئذ تغيرت هيئة الملك وأفزعته أفكاره وانحلت خرز حقوية واصطكت ركبتاه” (دانيال 5: 6)، فخرز الظهر تعني “فقاره”.
خراطة
خرط المعدن صقله وشكَّله، والخراطة صنعة الخرََّاط، وكانت هناك أشياء كثيرة في خيمة الاجتماع صنعت صنعة خراطة مثل “الكروبين” (خر 25: 18، 37: 7) والمنارة مع كل عجرها وشعبها (خر 25: 31 و36، 37: 17 و22) وذلك بالمباينة مع “المسبوكات”، فقد كانت الأصنام عادة “مسبوكة” (انظر خر 32: 4، 34: 17، إش 40: 19… إلخ.).
واخترط السيف: استله من غمده استعداداً للقتال (انظر قض 8: 10، 1 صم 17: 51).
اختراعات
يقول سليمان الحكيم: “إن الله صنع الإنسان مستقيماً. أما هم فطلبوا اختراعات كثيرة (جا 7: 29). واخترع الشيء: ابتدعه وأنشأه. وبعد أن طرد قايين من محضر الله، بدأ أولاده في اختراع مخترعات كثيرة عساهم يجدون فيها مسرتهم التي فقدوها بانفصالهم عن الله. فكان يوبال أبا لكل ضارب بالعود والمزمار، كما كان توبال قايين ضارباً لكل آلة من نحاس وحديد (تك 5: 21 و22. انظر أيضاً عاموس 6: 5).
كما عمل عزيا الملك “في أورشليم منجنيقات اختراع مخترعين لتكون على الأبراج وعلى الزوايا لترمي بها السهام والحجارة العظيمة” (2 أخ 26: 15).
ولا شر في الاختراعات في ذاتها لأنها يسرت الحياة للإنسان، ولكن الضرر يأتي من أن تصبح سبباً في ارتفاع قلب الإنسان وإشعال كبريائه وإبعاده عن الله، وهكذا تصبح آلات في يد الشيطان. وما أكثر ما نراه حولنا من مخترعات لتسلية الإنسان فتسلبه وقته وصحته، وتلهيه عن حاجته إلى الخلاص.
خرافة
الخرافة هي الكلام المستملح البعيد عن الحقيقة.
(1) أساس الخرافة: كان الإنسان البدائي يظن أن الأشياء المحيطة به لها نفس خصائصه وملكاته، فنجد في قصصه الحيوانات والأشجار والصخور تفكر وتتكلم وتتصرف كما لو كانت بشراً. وكان لابد من حدوث تقدم في العلم والمعرفة لوضع نهاية لهذا الأسلوب من التفكير. ورغم ذلك ما زال الشكل الذي اتخذته تلك القصص موجوداً في الآداب الشعبية (الفولكلور) في كل العالم، وبخاصة لأن الشكل القديم للقصة كان الغرض منه تعليم الأخلاق وبث الفضائل.
والخرافة غير المثل، فالخرافة تستخدم شخوصاً أو رموزاً أقل ذكاء من الإنسان، وإن كانت تفكر وتتحدث مثل الإنسان. كما كانت الخرافة درساً لهذه الحياة فقط، ونرى ذلك في الفرق بين خرافات يعسوب مثلاً وأمثال الكتاب المقدس.
(2) في العهد القديم: يميل العقل السامي بصفة خاصة إلى الصور المجازية. ومن المشاهد أن الراوي العربي في العصر الحالي، يستطيع أن يؤلف خرافة بنفس السرعة التي يتكلم بها وكأنه لا يرتجلها بل يرويها. أما قلة ظهور الخرافات في العهد القديم فترجع إلى طبيعة محتواه وليس إلى عدم استخدام الفكر اليهودي للخرافات. فلا يرد في العهد القديم سوى مثالين لها:
(أ) نجد في سفر القضاة (9: 7 15) يوثام بن جدعون يهزأ باختيار أبيمالك ملكاً، ويحكي خرافة عن الأشجار التي لم تجد شجرة تقبل القيام بمسئولية الملك إلا شجرة العوسج الحقيرة.
(ب) في سفر الملوك الثاني (14: 9) نجد يهوآش الملك يسخر من كبرياء أمصيا ملك يهوذا، فيرسل إليه بقصة “العوسج” الذي أراد أن يصاهر أرز لبنان.
ويستخدم بعض الأنبياء بعض الصور المجازية التي تقرب من الخرافة أو الأسطورة، فنشيد الكرمة في إشعياء (5: 1 7) صورة مجازية يشبه فيها أمة إسرائيل بالكرمة، وكأن الكرمة تملك إرادتها في إنتاج العنب الجيد أو العنب الرديء.
كما يستخدم حزقيال صورة مجازية عن اللبوة التي ربت جراءها بين الأشبال (19: 2 9)، وكذلك يستخدم صورة الكرمة التي غرست على المياه الكثيرة (19: 10 14). كما يشبه كلا من ملك بابل وفرعون مصر بنسر عظيم كبير الجناحين واسع المناكب (حز 17: 3 10).
(3) في العهد الجديد: تذكر كلمة “خرافات” خمس مرات في العهد الجديد (1 تي 1: 4، 4: 7، 2 تي 4: 4، تي 1: 14، 2 بط 1: 16). والمعنى المقصود منها هنا هو قصة أو أقوال لا علاقة لها بالواقع بالمقابلة مع معرفة شهود العيان (2 بط 1: 16). ولا نستطيع الجزم بحقيقة طبيعة هذه الخرافات، ولكن لارتباطها بأنساب لا نهاية لها (1 تي 1: 4) فإنها قد تشير على الأرجح إلى نوع من المزاعم الغنوسية بوجود سلسلة من طبقات من الكائنات بين الله والعالم وتوصف هذه الطبقات في بعض الكتابات الغنوسية التي وصلت إلينا بإسهاب شديد مما يبرر وصفها “بالخرافات الدنسة العجائزية” (1 تي 4: 7). وليس في الإشارة بهذه العبارات إلى الأفكار الغنوسية، ما ينفي كتابة الرسول بولس للرسائل الرعوية، حيث أن شجبه للغوسية يظهر بوضوح في الرسائل الأقدم عهداً كما في الأصحاح الثاني من الرسالة إلى كولوسي، علاوة على أن وصف الخرافات بأنها “يهودية” (تي 1: 14) لا يتفق مع مفاهيم القرن الثاني كما يزعم البعض بأن الرسائل الرعوية ترجع إلى ذلك القرن.
ومما يستلفت النظر أننا نرى في الرسالة الثانية إلى تيموثاوس (4: 4) أن هذه “الخرافات” نتجت عن الانشغال بالمماحكات المربية والانسياق وراء “معلمين مستحكة مسامعهم فيصرفون مسامعهم عن الحق وينحرفون إلى الخرافات”.
الخروف | الخِراف
← اللغة الإنجليزية: Sheep – اللغة العبرية: כבש הבית – اللغة اليونانية: Πρόβατο – اللغة الأمهرية: በግ.
(1) أصلها: اسمها العلمي “أوفيس أورينتالس” (ovis orientalis) ويعتقد أنها ثانية الحيوانات المجترة التي استأنسها الإنسان بعد المعز. ولعل استئناسها حدث منذ ستة آلاف سنة قبل الميلاد قبل أن تتطور الزراعة تمامًا. ويذكر الكتاب المقدس أن هابيل كان “راعيا للغنم… وقدم (للرب) من أبكار غنمه ومن سمانها” (تك 4: 2 و4).
ولعل أول أنواع الغنم التي استؤنست هي الخراف الأسيوية، وكان موطنها الأصلي هو الهضبة الوسطى من قارة أسيا، ومنها انتشرت إلى كل جهات القارة. وما زالت سلالات منها تعيش في جبال تركستان ومنغوليًا. وقد وصلت خمس سلالات منها إلى ما بين النهرين في نحو 2. 000 ق. م.
God’s care and love for us, Jesus the Good Shepherd and the lost sheep صورة: عناية الله بنا ومحبته له، يسوع المسيح الراعي الصالح والخروف الضال.
God’s care and love for us, Jesus the Good Shepherd and the lost sheep.
صورة: عناية الله بنا ومحبته له، يسوع المسيح الراعي الصالح والخروف الضال.
(2) الخراف في الكتاب المقدس: توجد أكثر من خمسة آلاف إشارة إلى الخراف (بمختلف مسمياتها) في الكتاب المقدس (بما في ذلك الكباش والحملان والغنم والضأن). وكانت قطعان الغنم هي العنصر الأساسي في الثروات في مناطق الرعي. إذ أن لبنها ولحومها تستخدم طعامًا، كما يستخدم صوفها في صنع الثياب وأغطية الخيام، كما ينتفع بجلودها وعظامها. وكانت من أهم السلع التجارية. كما كانت أهم الحيوانات التي تقدم ذبائح حسب أحكام الناموس.
وتتميز خراف سوريا وفلسطين بأن لها “ألية” ضخمة تزن بضعة أرطال من الشحم المعروف بجودة نكهته، لذلك كانت “الألية” تحرق بتمامها على المذبح (انظر خروج 29: 22، لا 3: 9، 7: 3، 8: 25، 9: 19).
وفي الليل تجمع الخراف في حظائر، قد تكون كهفًا أو بقعة مسورة بقطع غير منتظمة من الحجارة، أو بسور من الأغصان والأشواك، أو ما أشبه. وتقوم كلاب شرسة بحماية القطعان من الذئاب. وعند قيادة الخراف إلى المرعى، لا تساق سوقًا بل كان الراعي يتقدمها وهي تتبعه: “ومتى أخرج خرافة الخاصة يذهب أمامها والخراف تتبعه لأنها تعرف صوته” (يو 10: 4).
(3) جز الخراف: كان جز الخراف عملية كبيرة تقام لها احتفالات ضخمة، فقد دعا أبشالوم جميع بني الملك لكي يجد فرصته للانتقام من أخيه أمنون “متى طاب قلبه بالخمر” (2 صم 13: 23 29). كما تظهر أهمية هذه المناسبة فيما حدث بين داود ونابال الكرملي الذي رفض أن يعطي غلمان داود شيئًا قائلًا: “أآخذ خبزي ومائي وذبيحي الذي ذبحت لجازي وأعطيه لقوم لا أعلم من أين هم” (1 صم 25: 2 13).. كما نقرأ عن صعود يهوذا إلى “جزاز غنمه إلى تمنة” (تك 38: 12)، وعن ذهاب لابان “ليجز غنمه” (تك 31: 19) وقد انتهز يعقوب تلك الفرصة ليهرب مع زوجاته وأولاده وقطعانه.
ونقرأ في سفري أخبار الأيام عن أعداد ضخمة من المواشي التي قدمت ذبائح: “وذبح الملك سليمان ذبائح من البقر اثنين وعشرين ألفًا ومن الغنم مئة وعشرين ألفًا” (2 أخ 7: 5). “وذبحوا للرب في ذلك اليوم من الغنيمة التي جلبوا سبع مئة من البقر وسبعة آلاف من الضأن (2 أخ 15: 11).
Jacob the mild man, dwelling in tents (Genesis 25: 27).
وعند تطهير الهيكل في أيام حزقيا، كانت الأقداس التي قربوها للرب: “ست مئة من البقر وثلاثة آلاف من الضأن. إلا أن الكهنة كانوا قليلين فلم يقدروا أن يسلخوا كل المحرقات فساعدهم اخوتهم اللاويون” (2أخ 29: 33 و34). و “حزقيا ملك يهوذا قدم للجماعة ألف ثور وسبعة آلاف من الضأن. والرؤساء قدموا للجماعة ألف ثور وعشرة آلاف من الضأن” (2 أخ 30: 24).
وعندما انتصر بنو رأوبين على الهاجريين “نهبوا ماشيتهم جمالهم خمسين ألفًا وحميرًا ألفين وسبوا أناسًا مئة ألف (أخ 5: 21). و” كان ميشع ملك موآب صاحب مواش فأدى لملك إسرائيل مائة ألف خروف ومائة ألف كبش بصوفها “(2مل 3: 4).
(4) الخراف مجازيًا: يكني عن المسيح “بحمل الله” (إش 53: 7، يو 1: 29 و35، رؤ 5: 6). ومن أروع ما يصف به الكتاب “الله” وصفه كراعٍ: “من هناك من الراعي صخر إسرائيل” (تك 49: 24). و “الرب راعي فلا يعوزني شيء” (مز 23: 1 انظر إش 40: 11، حزقيال 34: 12 16).
وقد قال الرب يسوع: “أما أنا فإني الراعي الصالح وأعرف خاصتي وخاصتي تعرفني… وأنا أضع نفسي عن الخراف” (يو 10: 14 و15). كما يشبه الشعب الذي بلا قيادة بالغنم “التي لا راعي لها” (عدد 27: 17، ا مل 22: 17، 2 أخ 18: 16، حزقيال 34: 5).
ويقتبس الرب يسوع نبوة زكريا النبي في إشارة إلى نفسه: “اضرب الراعي فتتبدد خراف الرعية” (مت 26: 31، مرقس 14: 27، انظر زك 13: 7).
ويشبه الرب أعداءه بأنهم “كبهاء المراعي (سمان الغنم) فنوا كالدخان فنوا” (مز 37: 20)، أما شعب الرب فهم “غنم مرعاه” (مز 79: 13؛ 95: 7؛ 100: 3). أما عندما يخطئون فإنهم يصبحون كغنم ضالة (إش 53: 6، إرميا 50: 6، حزقيال 34: 3، لو 15: 3 6).
ويشبَّه ناثان النبي امرأة أوريا الحثي التي اغتصبها داود، بنعجة الرجل الفقير (2 صم 12: 3). وفي نشيد الأنشاد يشبه أسنان العروس “بقطيع نعاج صادرة من الغسل” (نش 6: 6). ويتنبأ إشعياء عن ملك المسيا حيث “يسكن الذئب مع الخروف” (إش 11: 6)، وأن “الذئب والحمل يرعيان معًا” (إش 65: 25). وقال الرب يسوع لتلاميذه: “ها أنا أرسلكم كغنم في وسط ذئاب” (مت 10: 16، انظر لو 10: 3). وفي حديثة عن الراعي الصالح يقول: “أما الذي هو أجير الذي ليست الخراف له فيري الذئب مقبلًا ويترك الخراف ويهرب” (يو 10: 12).
الخرنوب | الخروب
pods (لو 15: 16) نوع من النبات اسمه باللاتينية Ceratonia siliqua “سيراتونيا سيليكوا” أي “شجرة الجراد”، تؤكل قرونه بعد جفافها، وهو طعام لتسمين الخنازير والمواشي، ولكن كان يَعِزّ على الابن الضال في المثل الذي ضربه المسيح.
وشجرة الخرنوب جميلة المنظر دائمة الخضرة، تعلو إلى ثلاثين قدمًا، وليس بها أشواك. وهي كثيرة القرون، وتطرح ثمارًا غزيرة على شكل قرون يتراوح طول القرن ما بين أربع إلى عشر بوصات، وتكبر قرونها أحيانًا حتى تبلغ قدمًا في طولها. ولها غطاء جلدي يحتوي على مادة سكرية وبداخله بذور سمراء جافة يتراوح عددها في كل قرن من 5 – 15 بذرة، حجمها أصغر من بذور الحمص الجاف.
ومع أنها طعام الخنازير والمواشي (علفًا للماشية والخنازير)، إلا أن الناس يأكلونها مجففة إبان المجاعات، وتعصر القرون أحيانًا وهي خضراء ويضاف عصيرها على لبن محَّلى بسكر فيجمد. وإذا هزتها الرياح بعد الجفاف تُحْدِث صوتًا أشبه بصليل بعض أنواع الأفاعي.
ويكثر الخرنوب في بعض بلدان الشرق وفي كل أرض فلسطين، وفي جنوب أوربا مثل ايطاليا واسباني، وبخاصة على السفوح الغربية للجبال المواجهة للبحر المتوسط.
وقد اشتهي الابن الأصغر عندما جاع في الكورة البعيدة أن “يملأ بطنه من الخرنوب الذي كانت الخنازير تأكله فلم يعطه أحد” (لو 15: 16)، وتقول بعض التقاليد إن المقصود بالجراد الذي كان يأكله يوحنا المعمدان في البرية هو هذا “الخرنوب” حتى ليسمى أحيانًا “خبز القديس يوحنا”، ومن هنا جاء اسمه في اللاتينية “شجرة الجراد”، ولكن ليس ثمة أساس لذلك..
الخَزَف | أواني خزفية
تحسب صناعة الخزف من أولى الحرف التي اتقنها الإنسان في عصوره الأولى واغلب الظن أن بني إسرائيل تعلموا صناعة الخزف من المصريين. وقد استعملوا أواني خزفية أثناء رحلاتهم في البرية (لا 6: 28 و11: 33 وعدد 5: 17). والطريقة التي كانت مستعملة عند بني إسرائيل، والتي اشار إليها الأنبياء مرارًا، كانت تضاهي في أغلب الحالات الطريقة التي عرفها المصريون. فكان يُداس الطين اولًا بالأرجل على أن يصير الخليط متعادل الامتزاج (اش 41: 25) ثم يأخذ الخزَّاف كمية كافية ويضعها على قرص من الخشب في الدولاب الذي كان يُدار باليد أو بدواسة (ار 18: 3). وكانوا بعد ذلك يطلون الوعاء بالدهان ثم يشوونه في الموقد. ويستدل من ار 32: 14 أن آنية الخزف لم تستعمل للطبخ فقط بل لحفظ بعض الأشياء فيها مثل الصكوك وغيرها. وقد وجد علماء الحفريات كثيرًا من المستندات الخطيّة القديمة داخل أوان من الخزف. وقد اتخذت مقدرة الخزاف على صياغة أي شكل من الطين (اش 45: 9 وارميا 18: 5 – 12 ورومية 9: 20 – 25) تمثيلًا لقدرة الله وسلطانه على البشر. على أن الله، طبعًا، يمارس هذه السلطة وفق مقتضيات حكمته وعدله وصلاحه وحقه.
الخزف هو ما عمل من طين وشوي بالنار فصار فخاراً:
أولاً: تاريخ الصناعة:
(1) فيما قبل التاريخ: صناعة الخزف من أقدم الصناعات التي عرفها الإنسان، ففي التلال الحجرية التي تكتنف وادي النيل في مصر العليا، كشف المنقبون عن أواني خزفية مطلية باللون الحمر ترجع إلى عصور ما قبل التاريخ، وكانت هذه الأواني مدفونة في قبور بيضاوية غير عميقة مع أكوام من جثث الموتى مع أسلحتهم وأدواتهم المصنوعة من الصوان. وهذه الجرار هي أقدم نماذج لفن صناعة الخزف. ومما يدعو للعجب أنه في بلاد بابل المنافس الأعظم لمصر في الحضارة في تلك العصور كانت صناعة الخزف أقل تطوراً منها في مصر، ولكن لعل ذلك نتج عن الاختلاف في طبيعة البلدين، فيحتمل أن أطلال وخرائب المدن في السهول البابلية التي تهدمت واندثرت قد محت كل أثر لمخلفات سكان تلك البلاد في عصور ما قبل التاريخ.
(2) في بابل: إن أقدم نماذج لصناعة الخزف في بابل ترجع إلى العصور التاريخية القديمة، وتتكون من ألواح من الفخار المحروق المكتوب عليه، ومن طوب وأنابيب للصرف، ومعابد عائلية صغيرة، وأواني لحفظ السوائل والفاكهة وغيرها.
وفيما بين القرنين التاسع والسابع قبل الميلاد، تطورت صناعة الخزف وأصبحت على حال أفضل، وتحدد ذلك التاريخ شظايا من الفخار تحمل اسم الملك آسر حدون.
(3) في مصر: في ختام العصر الحجري الحديث وبداية عصر الأسرات (4500 4000 ق. م.) حدث تدهور في صناعة الخزف، فأصبحت الصناعة والأشكال أقل جودة، ولم يحدث تقدم فيها إلا في عهد الأسرة الرابعة (عصر بناة الأهرامات)، وفي تلك الأثناء اكتشفت طريقة “التزجيج”، وأصبحت صناعة الخزف المزجج الجميل من أهم الحرف في مصر القديمة، ويرجح أنه في ذلك العصر اخترعت عجلة أو دولاب الفخاري.
(4) في فلسطين: بدأت صناعة الفخار في الأرض التي أصبحت فيما بعد موطناً لبني إسرائيل، قبل أن يدخلها بنو إسرائيل بل قبل أن يمد الفينيقيون الذين أنشأوا مدنهم على سواحل البحر المتوسط تجارتهم إلى المناطق الداخلية ومعها الأواني الخزفية التي كانوا يصنعونها في صور أو صيدون. وكانت النماذج الأولى من الأواني مصنوعة باليد كما كان الحال في مصر وبابل، أي بدون الاستعانة بالعجلة.
والأرجح أن بني إسرائيل تعلموا هذه الصناعة من الفينيقيين أو من مصر في أثناء إقامتهم بها، فواضح فيما خلَّفوه من قطع أنهم قلدوا فيها الفينيقيين. ومن الطبيعي أنهم في اثناء تجوالهم في البرية لم يكن من اليسير عليهم دائماً استخدام الأواني الخزفية، بل الأغلب أنهم استخدموا الأواني من جلود الحيوانات والقرع والخشب والمعادن، فهذه كلها أقل عرضة للكسر في أثناء التنقل من الأواني الخزفية.
ولكن يبدو أنه عندما استقر بنو إسرائيل في موطنهم الجديد، لم يتأخروا عن استخدام الأواني الخزفية لفوائدها الكثيرة، وأصبح لهم اسلوبهم الخاص في صناعتها رغم أنه كان أقل مستوى عن غيرهم.
وفي ختام عصر الملكية ظهر مرة أخرى تأثرهم بالشعوب الأخرى فظهرت الأواني الخزفية الحمراء والسوداء التي تميز بها اليونان، وبعد ذلك تأثروا بالفن الروماني ثم بالعرب.
Jeremiah watches the potter (Jeremiah 18: 1 – 10).
ثانياً: مادة الخزف: الخزف يصنع من مادة طينية تتكون من سيليكات الألمونيوم المائية مختلطة بالعديد من الشوائب التي تختلف نسبها باختلاف التربة المأخوذ منها الطين. وكلما زادت مادة الطين نقاوة، أصبحت أقل لدانة. وأنقى أنواع الطين هو الكاولين الذي يصنع منه الخزف الصيني (البورسلين) وهو أفضل أنواعه. وتتأثر كل عمليات الصناعة من تشكيل وتجفيف وحرق بنوع المادة الطينية.
وبعد أن ينظف الطين من الحشائش والحجارة وغيرها، يشكل بالصورة المطلوبة، وعندما يجف يحتفظ بالشكل الذي جف عليه. ثم بعد ذلك يحرق في قمائن حيث يحدث تفاعل كيمائي يتحول به الطين إلى مادة جديدة، فيصبح نوعاً من الحجر ويكتسب لوناً جديداً يتوقف على نوع الشوائب الموجودة في الطين وعلى نسبة وجودها. فوجود أكسيد الحديد يكسبه لوناً يتدرج ما بين الأحمر والبني، ووجود هيدرات الحديد يكسبه لوناً يتدرج ما بين الرمادي والسمني. كما أن كربونات الحديد تكسبه ظلالاً رمادية، ووجود مواد عضوية تضفي عليه ظلالاً من الأسود إلى البني.
ثالثاً: تشكيل الطين: كان تشكيل الطين يتم في البداية باليد، ثم اخترعت العجلة أو الدولاب. وكان استخدام الدولاب في صنع الواني الخزفية، هو السائد في العصور الكتابية. كما كانت تستخدم أيضاً القوالب في تشكيل الطين كما في صناعة الطوب وعندما يجف الطين ينفصل عن القالب. وكانت هذه الطريقة هي أكثر الطرق استخداماً في صنع التماثيل، كما استخدمت من بداية العصر اليوناني في صنع المصابيح، ولعل هذا ما يشير إليه القول: “تتحول كطين الخاتم” (أيوب 38: 14)، فكلمة “خاتم” هنا قد تعني “قالباً”.
وكانت تتم زخرفة الخزف بطرق كثيرة، كان أكثرها استخداماً هو طبع الأشكال والحليات المطلوبة، عليه قبل أن يجف. وكانت هذه أشكال متنوعة من خطوط عرضية أو طولية أو متقاطعة أو خطوط منكسرة، أو على شكل مسابح. كما كانت ترسم أشكال وصور بالألوان قبل عملية الحرق في القمائن، وكان هذا هو الشائع في العصر البرونزي المتأخر، وهو الحقبة السابقة لدخول بني إسرائيل بقيادة يشوع إلى أرض كنعان.
وكانت الأنواع الجيدة تطلى بطبقة من أنقى أنواع الطين الناعم الذي يتحول إلى ألوان جميلة. وكان الصقل من الأساليب الفنية لإنتاج أجود الأنواع، إذ يكتسب سطح الإناء بريقاً ولمعاناً. وقد بلغ هذا الفن ذروته في منتصف العصر البرونزي والعصر الحديدي الثاني.
وهناك إشارات في العهد القديم لعمليات صناعة الأواني الخزفية، فيرد ذكر “الخزافيين” وأنهم “أقاموا مع الملك لشغله” (1أخ 4: 23، انظر أيضاً مز 2: 9، إش 29: 16، إرميا 18: 2 6، مراثي 4: 2، زك 11: 13).
كما ترد إشارات إلى “دوس الطين” لإعداده لعملية التشكيل (ناحوم 3: 14، إش 41: 25). وكانت جودة الأواني تتوقف على مدى الدقة والمهارة في عملية الدوس.
وبيت الفخاري الذي تكلم عنه إرميا يقصد به المكان المخصص للصناعة، وكان لابد أن يكون قريباً من حقل يتوفر فيه الطين ويتسع لنشر الأواني بعد صناعتها، تحت أشعة الشمس لتجف تحت الرقابة المستمرة، وكذلك يتسع لتخزينها قبل وبعد حرقها في القمائن، ومكان لإقامة القمينة أو القمائن، ومكان لإلقاء التالف والمكسور من الواني. وكان يجب أن يكون للمكان الذي يوضع به الدولاب سقف أو مظلة لحماية الصانع من الجو وتقلباته.
ومع أن غالبية الأواني الخزفية في العصور الكتابية كانت تصنع على الدولاب، إلا أن هذا الدولاب لم يذكر إلا في إرميا (18: 1 6). وكان هناك نوعان من الدواليب: نوع يدار باليد وكان يتكون من قرصين من الحجر أو الخشب يعلو أحدهما الآخر، الأسفل منهما ثقيل لكي يعطي كمية تحرك كبيرة تساعد على استمرار دوران القرص الأعلى الذي توضع عليه قطعة الطين لتشكيلها بلمسات من يد الفخاري المدربة.
أما الدولاب الذي يدار بالرجل، فيتكون أيضاً من قرصين منفصلين، الأسفل منهما أكبر من الأعلى، ويربط بينهما عمود شبه راسي، لنقل الحركة، فيدار القرص الأسفل برجل الفخاري، بينما تعمل يده في تشكيل قطعة الطين التي توضع على مركز القرص الأعلى. وقد جاء وصف عمل الفخاري في سفر حكمة يشوع بن سيراخ: “وهكذا الخزاف الجالس على عمله المدير دولابه برجليه فإنه لا يزال مهتماً بعمله ويحصي جميع مصنوعاته. بذراعه يعرك الطين وأمام قدميه يحنى قوته. قلبه في إتقان الدهان وسهره في تنظيف الأتون” (سيراخ 38: 32 34).
وقد شاهد إرميا كيف يعمل الفخاري، ورأى كيف فسد الوعاء الذي كان يصنعه، وربما يرجع ذلك إلى عدم جودة قطعة الطين المستخدمة، أو ربما لكثرة ما بها من شوائب أو حصى، أو لنقص في خدمة عملية دوس الطين عند عجنه وإعداده، أو لعدم وضع قطعة الطين على مركز القرص تماماً. وإذا فسد الإناء فالفخاري يستطيع أن يعيد عجن قطعة الطين، وتشكيلها من جديد (إرميا 18: 1 6).
وكانت تصنع من الخزف باليد عرائس وأشكال حيوانات، كما كانت تصنع التماثيل الصغيرة لعشتاروث وغيرها. وقد وجد من عصر إيزابل تمثال لعشتاروث رأسه مصنوعة بطريقة “القالب”، أما جسمه فباليد ثم لحمت الرأس بالجسم. كما استخدمت الأختام لطبع أسماء أو علامات مسجلة على أيدي الجرار واواني الطبخ لإثبات الملكية، وكانت هذه الأختام تصنع أحياناً من الخزف أيضاً.
رابعاً: حرق الفخار: تتوقف جودة الفخار أيضاً على إتقان عملية الحرق ومهارة من يقوم بها في مراقبة درجات حرارة القمينة طوال الوقت. ولا نجد في العهد القديم شيئاً عن كيفية إجراء هذه العملية، ولا عجب في ذلك إذ كانت مثل هذه العمليات تعتبر من أسرار الصناعة.
وقد تكون عبارة “برج التنانير” (نح 3: 11، 12: 38) إشارة إلى قمائن الفخار حيث أن “باب الفخار” (إرميا 19: 2) كان أهم معالم المنطقة. وكانت الأواني التي تكسر أو تتلف أو تتفحم تلقى في مكان معين بالقرب من القمائن. وبعد أن بدا إنشاء أحواض المياه، كانت هذه البقايا تطحن وتضاف إلى الجص وتطلى بها أرضيات الأحواض وجدرانها لتسد مسامها وتجعلها صالحة لخزن المياه.
خامساً: الأنواع والأسماء المختلفة: يقول “كيلسو” (Kilso) إنه توجد في العهد القديم نحو أربعة وثلاثين كلمة عبرية وأرامية للدلالة على مختلف الأواني الخزفية، منها عشر كلمات للدلالة على الأواني الكبيرة المتسعة مثل الطسوس التي كان الواحد منها يسع نصف دم الثيران المذبوحة (خر 12: 22، 24: 6 8، 2 صم 17: 28، 1 مل 7: 50، 2 مل 12: 13، إش 22: 24، إرميا 52: 19). والأطباق الكبيرة والمنضحة (عدد 7: 13 و19 و25… إلخ.)، والقصعة التي عثر فيها جدعون الجزة (قض 6: 38). وكان عشاء الأسرة يقدم في صحن كبير (انظر 2 مل 21: 13). وكذلك المعاجن التي حمل فيها بنو إسرائيل عجينهم عند خروجهم من مصر (خر 12: 34).
وهناك نوع آخر يشمل أواني الطبخ “القدور” وكانت متسعة وقليلة العمق، كما كانت في البداية بلا أيدي، ثم أضيفت إليها فيما بعد يدان، وكانت تستخدم للطبخ (2 مل 4: 38 41)، وكذلك للاغتسال: “موآب مرحضتيى” (مز 60: 8). كما تذكر أيضاً “المقلاة” (2 صم 13: 9).
كما كانت هناك القوارير أو أوعية لحفظ الزيت مثلما كان لدى الأرملة التي صرخت لأليشع النبي (2مل 4: 2 6). وكان لمثل هذه الأوعية مزراب ليسكب منه الزيت حسب الحاجة.
كما كان هناك نوع من الجرار متسع الفوهة يسمح بإدخال قبضة اليد لحفظ المواد الجافة مثل الدقيق والحبوب، والسوائل أيضاً، مثل الجرة التي كانت تحملها رفقة عند البئر (تك 24: 15 20)، وكذلك الكوار الذي كانت تحتفظ فيه أرملة صرفة صيدا بالدقيق (1 مل 17: 12 16).
وصنع الإسرائيليون أيضاً الأقداح والطاسات لشرب الخمر أو الماء كتلك التي جعلها إرميا أمام الركابيين (إرميا 35: 5)، والكاسات (2 صم 12: 3، 1 مل 7: 26… إلخ.).
وكانت “الأباريق” من أدق أنواع الأواني الخزفية في زمن إرميا النبي، وكان الماء عند خروجه من الفتحة الضيقة يحدث صوتاً معيناً (كركرة) ومن مميزاته أنه بذلك يعمل على إذابة الهواء في الماء (انظر إرميا 19: 1 و10، مراثي 4: 2). كما كان هناك الكوز للماء والسوائل (1 صم 26: 11 16، 1 مل 17: 12 16).
وكانت هناك القنينة لحفظ الأطياب والعطور (1 صم 10: 1، 2 مل 9: 1 و3). كما كانت المسارج (المصابيح) تصنع من الخزف، وكانت عبارة عن طبق صغير له نتوء جانبي ذو شفة توضع به الفتيلة لتستمد زيتها من الزيت الموضوع في الطبق وكان نور السراج من أهو لوازم الحياة (إرميا 25: 10).
أما في العهد الجديد فهناك “الجرن” (وهو في اليونانية “هودريا” أي وعاء الماء يو 2: 6 و7 وهي نفس الكلمة المترجمة “جرة ” (يو 4: 28). وآنية الزيت في مثل العذارى (مت 25: 1 13) كانت شبيهة بآنية الأطياب في العهد القديم ولكن أكثر استدارة. وكانت هناك أشكال متعددة من المصابيح الخزفية (مت 25: 1 8، أع 2: 8، رؤ 4: 5، 8: 10).
وكان ما يصنع في اليونان من أفضل أنواع الخزف، وكان يصدر للخارج بكثرة وكذلك كان الخزف الروماني.
سادساً: الاستخدام المجازي: كثيراً ما تستخدم كلمة “إناء” مجازياً للدلالة على ضعف الإنسان، فالأشرار “مثل إناء خزاف تكسرهم” (مز 2: 9)، وى. ويقول الرب عن بولس الرسول أنه “إناء مختار ليحمل اسمي أمام أمم وملوك…” (أع 9: 15). كما أن الذين يرفضون الإنجيل هم “آنية غضب مهيأة للهلاك” (رو 9: 22) وفي البيت الكبير “ليس آنية من ذهب وفضة فقط بل من خشب وخزف أيضاً، وتلك للكرامة وهذه للهوان. فإن طهر أحد نفسه من هذه يكون إناء الكرامة مقدساً نافعاً للسيد مستعداً لكل عمل صالح” (2 تي 2: 20 و21). كما يوصي الرسول: “أن تمتنعوا عن الزنى. أن يعرف كل واحد منكم أن يقتني إنائه بقداسة وكرامة” (1 تس 4: 3 و4). كما يوصي الرسول بطرس الرجال أن يكونوا “ساكنين بحسب الفطنة مع الإناء النسائي كالأضعف معطين إياهن كرامة..” (1 بط 3: 7).
سابعاً: أهمية الأثرية: تعتبر المخلفات الخزفية التي يكشف عنها الأثريون من أهم عناصر تحديد تواريخ الطبقات التي يكشفون عنها ويعثرون فيها على أنواع من الأوعية الخزفية، ومن طريقة صناعتها والمواد المستخدمة في صناعتها والأشكال والدقة والمهارة البادية فيها، يستطيعون معرفة العصر الذي صنعت فيه وجهة صناعتها. كما أن الشقف (الخزف المكسور) استخدم على نطاق واسع للكتابة عليه، وقد وجد الكثير من أحداث التاريخ مسجلة على هذه القطعة الخزفية التي تذخر بها دور الآثار.
أرض الخزف
بقعة من الأرض في غور الأردن بين سكوت وصرتان حيث سبك رجال حيرام ملك صور آنية النحاس للملك سليمان لبيت الرب (1 مل 7: 46).
الخِزامَة | الخزائم
(2 مل 19: 28 وحز 29: 4) وهي حلقة كانت تدخل في أنوف الحيوانات أو الناس لكي يجرها معذبوها. وما زالت تستعمل حتى اليوم للثيران الهائجة في بعض الخزائم تشبه الصنانير التي تستعمل لصيد الأسماك. وهذه كانت تمر بخياشيم السمك بعد صيده ويربط بها خيط بحيث تترك السمكة في الماء مربوطة بوتد على أن يستحسن الصياد أخذها (ايوب 41: 2 وحز 29: 4). وكانت تستعمل أحيانًا لجر الأسود وغيرها من الحيوانات المفترسة (2 مل 19: 28 وحز 19: 4) كما كانت توضع في شفاه الأسرى (2 أخبار 33: 11).
خَزائم الأنف
(اش 3: 21) وهي حلقات من الذهب أو معدن آخر، تعلق عادة في المنخر الأيمن للزينة. وقد استعمل عامة المصريين هذه الخزائم.
خَزانة | خزائن
(يو 8: 20 و1 أخبار 9: 26) مكان داخل الهيكل كانت تودع فيه العطايا.
بَيت خزائن
(عز 5: 17) كانت بيوت خزائن ملوك يهوذا في المدن والقرى والحصون، والبرية (1 أخبار 27: 25).
خَزائن الخمر
(1 أخبار 27: 27) أماكن لحفظ الخمر، ربما كانت أقبية أو كهوفًا. وقد جرت العادة بين العبرانيين واليونانيين أن يطمروا جرار الخمر إلى العنق.
خازن
هي كلمة مترجمة عن ثلاث كلمات عبرية وثلاث كلمات يونانية، والكلمات العبرية هي:
(1) “أسار” وتعني “يخزن” واسم الفاعل منها هو “الخازن”: وأقمت خَزَنَة (جمع خازن) على الخزائن (نح 13: 13) وترجمت أيضاً “تخزن” (إش 23: 18).
(2) “جدابار” وهي كلمة أرامية حيث وردت كلمة “الخَزَنَة” بين فئات كبار رجال الدولة الذين استدعاهم نبوخذنصر لتدشين التمثال الذهبي الذي نصبه في بقعة دورا في ولاية بابل (دانيال 3: 2 و3).
(3) “جزبار” وقد وردت في موضعين:
(أ) في الأمر الذي صدر من ارتحشستا الملك “إلى كل الخَزَنَِة الذين في عبر النهر” (عز 7: 21).
(ب) في وصف مثرداث “الخازن” (عز 1: 8).
كما أن الكلمة المترجمة “الذي على البيت” (إش 22: 15) وهي في العبرية “سخان” تعني “الذي يدير” أو “الخازن”.
أما الكلمات اليونانية فهي:
(1) “أيكونوموس” (oikomos): “يسلم عليكم إراستس خازن المدينة” (رو 16: 23).
(2) “سيسوريزو” (thesaurizo)، وتترجم “خازناً” في عبارة “خازناً عنده ما تيسر” (1 كو 16: 2) وهي نفسها المترجمة بكلمة “مخزونة” في القول: “وأما السموات والأرض الكائنة الآن في مخزونة بتلك الكلمة عينها محفوظة للنار إلى يوم الدين وهلاك الناس الفجار” (2 بط 3: 7).
(3) أما كلمة “مخزن” (لو 12: 24) فهي في اليونانية “تاميون” (tameion) وتعني “مكاناً منعزلاً”.
خزانة الهيكل
نشأة خزانة الهيكل:
نشأ الاحتياج إلى خزانة بيت الرب في وقت مبكر، وذلك لاستقبال تقدمات الشعب وعشورهم وغنائم الجرب التي كانت تقدس للرب “” وكل الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد تكون قدساً للرب وتدخل في خزانة الرب “..” وإنما الفضة والذهب وآنية النحاس والحديد جعلوها في خزانة بيت الرب “(يش 19: 6 و24).
ويعطي داود الملك أهمية كبرى لخزائن الهيكل في تخطيطه للهيكل. كما يذكر سفر أخبار الأيام الأول أسماء من كانوا “على خزائن بيت الرب” (1أخ 20: 26 – 27)، التي امتلأت بالغنائم التي قدسوها للرب.
(1) خزانة هيكل سليمان:
“وأعطى داود سليمان ابنه مثال الرواق وبيوته وخزائنه وعلاليه ومخادعه الداخلية وبيت الغطاء ومثال كل ما كان عنده بالروح لديار بيت الرب ولجميع المخادع حواليه ولخزائن بيت الله وخزائن الأقداس” (1أخ 11: 28 و12).
وتذكر هنا “خزائن بيت الله” (هيكل سليمان) و “خزائن الأقداس” مما يدل على وجود نوعين من الخزائن، ولعل المقصود “بخزائن الأقداس” الخزائن التي كان يضع فيها الملوك كل ما يقدسونه للرب قبل أن يدخل إلى خزائن الرب. وفي القصص المتكررة عن سلب الهيكل ونهبه مراراً، نقراً عن “أخذ خزائن بيت الرب وخزائن بيت الملك” (1مل 26: 14، 15: 15 و18 2مل 18: 12، 14: 14، 8: 16، 15: 18، 13: 24).
وفي ملحمة إصلاح “يهوآش” للهيكل نجد لمحة عن وجود “خزائن بيت الرب” واستخدامها، إلا أن هذا الضوء لا يلبث أن يخفت ثانية (2مل 12، 2أخ 24)، ونعرف من سفر إرميا أن “بيت الملك” كان “إلى أسفل المخزن” (إرميا 11: 38)، أي في مستوى تحت السور الجنوبي.
(2) خزانة الهيكل الثاني:
نرى في سفر نحميا، أنه كان في الهيكل الثاني مخدع عظيم “حيث كانوا سابقاً يضعون التقدمات والبخور والآنية وعشر القمح والخمر والزيت” (نح 4: 13 و5، انظر أيضاً ملاخي 10: 3)، كما نقرأ أن مشلام رمم سور المدينة مقابل مخدعه “(نح 30: 3)، وكان هو واللاويون معه” حارسين الحراسة عند مخازن الأبواب “(نح 25: 12)، وربما كانت تلك الأبواب بوابات للخروج من الجانب الجنوبي كما كان في هيكل هيرودس.
(3) خزانة هيكل هيرودس في العهد الجديد:
أطلق اسم “الخزانة” في هيكل هيرودس على ساحة النساء حيث كان يوجد ثلاثة عشر صندوقاً على شكل البوق لتلقي فيها تقدمات العابدين. وفي ذلك المكان “جلس يسوع تجاه الخزانة ونظر كيف يلقي الجمع نحاساً في الخزانة… فجاءت أرملة فقيرة وألقت فلسين قيمتهما ربع” (مر 41: 12 – 44، لو 1: 21 – 4).
وقد أطلق على هذا القسم من الهيكل صراحة “الخزانة” حيث نقرأ: “هذا الكلام قاله يسوع في الخزانة وهو يعلم في الهيكل” (يو 20: 8). ولا نعدو الحقيقة إذا استنتجنا من هنا أن هذه الساحة كانت هي المكان المعتاد الذي كان يجلس فيه الرب في الهيكل ليعلِّم.
الجمع والأغنياء الكثيرون المتبرعون بالنحاس في الخزانة في أحد المرات جلس السيد المسيح مع تلاميذه “تُجَاهَ الْخِزَانَةِ، وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاسًا فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيرًا”. فكانوا يتبرَّعون بالنحاس والقرابين لخزانة الهيكل. ففي الأغلب كانت فوهة الخزانة على شكل بوق حتى ترن العملات لدى دخولها ويعلو الصوت كلما ثقلت العملة (1). فربما كان هؤلاء الأغنياء يتبرَّعون لكي يستمع الناس إلى ما يلقونه. وفي حين لم يتعرَّض السيد المسيح لهم بالسَّلب، كان ينظر لنقطة: ليس ما يدفعهُ المرء، ولكن ما يتركه لنفسه، وذلك كقول القديس أمبروسيوس: “كانت هذه الأرملة غنية، لأنها ألقت فلسين في الخزانة، وقد قال عنها المسيح: هذه الأرملة الفقيرة ألقت أكثر من الجميع؛ لأن الله يطلب الإيمان لا المال” (2). وفي هذا امتدح الرب الأرملة الفقيرة التي أعطت فلسين (قيمتهُما ربع)، وكانت قيمتهما بالنسبة لها أكثر مما تبرَّع به “الْجَمِيع” (مر 12: 41 – 44؛ لو 21: 1 – 4).
. خزي
ترتبط كلمة “يخزي” ومشتقاتها، عادة بالشعور بالخطيئة أو بالذنب. ويرمز للخزي بحيوان مفترس كما يقول إرميا: “قد أكل الخزي تعب آبائنا منذ صبانا، غنمهم وبقرهم بنيهم وبناتهم” (إرميا 24: 3). وبثوب: “نضجع في خزينا ويغطينا خجلنا لأننا إلى الرب إلهنا أخطأنا” (إرميا 25: 3). وبآفة مفسدة: “لماذا خرجت من الرحم لأرى تعباً وحزناً فتفنى بالخزي أيامي” (إرميا 18: 20). وخطية ضد النفس: “تآمرت الخزي لبيتك. إبادة شعوب كثيرة وأنت مخطئ لنفسك” (حبقوق 10: 2). وكعبادة البعل، رمز الرجس في نظر العبرانيين: “أما هم فجاءوا إلى بعل فغور ونذروا أنفسهم للخزي وصاروا رجساً” (هوشع 10: 9، إرميا 13: 11). ويقترن الخزي بالهزيمة: “فيصير لكم حصن فرعون خجلاً والاحتماء بظل مصر خزياً” (إش 3: 30)، وبالعار: “لأني من أجلك احتملت العار، غطى الخجل (الخزي) وجهي” (مز 7: 69، انظر أيضاً إش 4: 54، ميخا 6: 2). وبالعري: “اعبري يا ساكنة شافير عريانة وخجلة” (ميخا 1: 1، إش 3: 47). والازدراء الأبدي: “وكثيرون من الراقدين في تراب الأرض يستيقظون هؤلاء الى الحياة الأبدية، وهؤلاء الى العار للازدراء الأبدي” (دانيال 2: 12). “ومن يجيب على أمر قبل أن يسمعه فله حماقة وعار” (أم 13: 18). كما قيل عن الرب أنه: “احتمل الصليب مستهيناً بالخزي” (عب 2: 12، انظر إش 6: 50). وسيخزي كل القائمين على شعب الله: “قد حملوا خزيهم مع الهابطين في الجب” (حزقيال 25: 32).
ويظهر الخزي في هذه الشواهد الكتابية ملازماً للخطية والإثم. كما أن عدم الحياء صفة تميز المنغمسين في الشر: “الذين نهايتهم الهلاك، الذين إلههم بطنهم ومجدهم في خزيهم الذين يفتكرون في الأرضيات” (فيلبي19: 3، وانظر يهوذا 13). كما أن الخزي يلازم الدينونة الإلهية للخطية، وأسوأ ما كان يتمناه اليهودي لعدو له أن يكتسي بالخزي: “ليلبس خصمائي خجلاً وليتغطوا بخزيهم كالرداء” (مز 29: 109). ولقد أخزيت موآب لأن إسرائيل “كان ضحكة لها” (إرميا 27: 48 و39)، كما أصاب الخزى أدوم من أجل ظلمه لأخيه يعقوب (عبوديا 10). ولكن الخزي أيضاً يصيب الاسرائيليين غير الأمناء الذين ينكرون الله ويتبعون آلهة غريبة: “ينطقون بالمسح ويغشاهم رعب وعلى جميع الوجوه خزي” (حزقيال 18: 7، وانظر أيضاً هوشع 6: 10، ميخا 10: 7).
كما سيغطي الخزي جميع الذين يتعظمون على الله ويتكلون على القوة الأرضية (2أخ 21: 32، إش 3: 30)، ويلبس مبغضو الرب خزياً (أيوب 22: 8، انظر أيضاً مز 26: 35، 18: 132).
“أما الظالم فلا يعرف الخزي” (صفنيا 5: 3، انظر هوشع 18: 4، في 19: 3، يهوذا 13). ولكن بالتوبة يغفر الله الإثم وينزع الخزي: “لا تخافي لأنك لا تخزين ولا تخجلى لأنك لا تستحين. فإنك تنسين خزي صباك وعار ترملك لا تذكرينه بعد” (إش 4: 54، 7: 61).
والخطية هي مصدر الخزي والعار، لأن “البر يرفع شأن الأمة، وعار الشعوب الخطية” (أم 34: 14). والشعور بالذنب والإحساس بالخزي هما جزء من عقاب الخطية، لتنبيه ضمير الغافل، ولكن “إن اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهر من كل إثم” (1يو 9: 1)، ولا خلاص من ماضي الإنسان المخزي إلا بتبكيت الروح القدس ونعمة الله وغفرانه في دم المسيح.
أما عار الصليب الذي احتمله الرب “مستهيناً بالخزي” (عب 2: 12) فكان يشمل اللعنة على من حسب مجرماً يستحق الموت على خشبة (انظر غل 13: 3، مع تث 21: 23، في 8: 2)، واتهامه بالتجديف (إش 6: 5، مت 65: 26 – 67)، وخزي العري على الصليب رمزاً لترك الله له (إش 3: 53 و4، مز 6: 22 – 8 و16 و17، مت 35: 27 و41 – 46)، وعار الموت خارج المحلة تتميماً لرمز ذبيحة الخطيئة (عب 12: 13 و13، لا 11: 4 و12)، علاوة على كل ما احتمله من إهانات (انظر مت 67: 26 و74، 26: 27 و27 – 31 و39 – 43… إلخ.).
الخشب | الأخشاب
الخشب هو نسيج ليفي قوي موجود في كثير من الأشجار، ومن آلاف السنين وهو يتم استخدامه في أغراض الوقود والبناء وخلافه. بل أيضًا كان التعليق على خشبة هو نوعًا من القصاص (بالصلب) (سفر التكوين 40: 19؛ سفر التثنية 21: 22؛ سفر يشوع 8: 29؛ سفر أستير 2: 23؛ سفر أعمال الرسل 5: 30). وقد ذُكِرَ الخشب في الكتاب المقدس في الكثير من المواضع، مع بضعة أنواع منه..
فبِخلاف ذِكر الأشجار عمومًا في كتاب الله، رأينا ذِكرًا لبعض أنواع الخشب..
أنواع الخشب:
خشب الجفر: في قصة نوح كيف أمر الله أن يبني فلكًا من خشب الجفر (سفر التكوين 6: 14؛ سفر الحكمة 10: 4).
خشب السنط: تقدمة للرب كان من بينها خشب السنط (سفر الخروج 25: 5؛ 35: 7، 24)، يُصنَع منها تابوت (سفر الخروج 25: 10؛ 37: 1؛ التثنية 10: 3)، ويُغشيان بالذهب (سفر الخروج 37: 15)، أو بالنحاس (سفر الخروج 38: 6). وكذلك المائدة والعصوين (سفر الخروج 25: 23؛ 37: 10)، وألواح المسكن وعوارضه (سفر الخروج 26: 15؛ 36: 20)، والمذبح وعصويه (سفر الخروج 27: 1)، ومذبح البخور (سفر الخروج 30: 1).
خشب الأرز: رأينا استخدامه مع العصفوران والقرمز والزوفا في شريعة التطهير (سفر اللاويين 14: 4)، وفي شريعة البقرة الحمراء (سفر العدد 19).
خشب السرو: ذُكر مع خشب الأرز عند إحضاره من لبنان لبناء بيت الرب (سفر الملوك الأول 5: 18؛ 6: 15).
خشب الزيتون: (سفر الملوك الأول 6: 23).
خشب الصندل: (سفر الملوك الأول 10: 11؛ سفر أخبار الأيام الثاني 9: 10)، وقد استُخْدِم درابزينًا لبيت الرب وبيت الملك.
وقد ذُكِرَ الخشب أحيانًا مقرونًا بأماكن معينة أو بأسماء بلاد:
خشب لبنان: (سفر الملوك الأول 5: 18؛ 6: 15؛ سفر أخبار الأيام الثاني 2: 8؛ سفر نشيد الأنشاد 3: 9).
خشب الرامة: (سفر أخبار الأيام الثاني 16: 6).
خشب الأردن: (سفر الملوك الثاني 6: 2).
خشب الصيدونيين والصوريين: (سفر أخبار الأيام الأول 22: 4).
All the people working in rebuilding the wall of Jerusalem (Nehemiah 3: 1 – 32).
ومن جهة استخدام الخشب:
السفن: (سفر التكوين 6: 14؛ سفر الحكمة 10: 4).
التابوت: (سفر الخروج 25: 10؛ 37: 1؛ التثنية 10: 3).
المائدة والعصوين: (سفر الخروج 25: 23؛ 37: 10).
ألواح المسكن وعوارضه (سفر الخروج 26: 15؛ 36: 20).
المذابح (سفر الخروج 27: 1؛ 30: 1).
أغراض البناء والأسقف: (سفر الملوك الأول 5: 18؛ 6: 15).
المنابر: (سفر نحميا 8: 4).
درابزين للبيت: (سفر الملوك الأول 10: 11؛ سفر أخبار الأيام الثاني 9: 10).
الصلب: (سفر التكوين 40: 19؛ سفر التثنية 21: 22؛ سفر يشوع 8: 29؛ سفر أستير 2: 23؛ سفر أعمال الرسل 5: 30).
التخت: (سفر نشيد الأنشاد 3: 9).
صناعة الأوثان والآلهة للأمم الوثنية: (سفر التثنية 4: 28؛ 28: 36، 64؛ 29: 17؛ سفر الحكمة 13: 13؛ سفر إشعياء 37: 19؛ سفر باروخ 6: 3؛ سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي 9: 20).
أنيار الخشب (النير): (سفر إرميا 28: 13).
ألواح الخشب: (سفر حزقيال 41: 16).
غشاء من الخشب على وجه الرقوق والكتب: (سفر حزقيال 41: 25).
الأبراج الحصينة: (سفر المكابيين الأول 6: 37).
آنية الخشب: (رسالة بولس الرسول الثانية إلى تيموثاوس 2: 20؛ سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي 18: 12).
الأوتاد الخشبية: (تث 23: 13؛ قض 16: 14؛ خر 27: 19؛ قض 4: 21؛ اش 22: 23؛ 33: 20).
هناك أيضًا صفات للخشب:
الخشب الجديد: (سفر عزرا 6: 4).
الخشب اليابس: (سفر يشوع بن سيراخ 6: 3؛ سفر مراثي إرميا 4: 8).
خشب لا يُسَوِّس: (سفر إشعياء 40: 20).
والخشب الذي يمسّه الميت يكون نجسًا (سفر اللاويين 11: 32)، أو ذو السيل (سفر اللاويين 15: 12)، وتطهير كل متاع من الخشب يتنجس (سفر العدد 31: 20؛ سفر المكابيين الثاني 1: 21)، ويتم هدم البيت الذي ضربه البرص بكل محتواه (سفر اللاويين 14: 45).
ورأينا في نفس السياق الحديث عن مِهنة النجارة والنقوش الخشبية والرسومات (سفر الخروج 31: 5؛ 35: 33؛ سفر صموئيل الثاني 5: 11؛ (سفر الملوك الأول 6: 32، وأدوات النجارة وقطع الحطب (سفر التثنية 19: 5)، وكان النحاتين بخلاف النجارين ويعملون معهم (سفر عزرا 3: 7). وعرض الكتاب لعبادة الأصنام وصنع آلهة من خشب وحجر (سفر التثنية 4: 28؛ 28: 36، 64؛ 29: 17؛ سفر الحكمة 13: 13؛ سفر إشعياء 37: 19؛ سفر باروخ 6: 3؛ سفر رؤيا يوحنا اللاهوتي 9: 20).. وفي ضرب الدم وصل الدم حتى إلى عُصارة الأخشاب نفسها (سفر الخروج 7: 19).
God talks to Noah about making the ark (Genesis 6: 14 – 16).
وفي العهد الجديد قال رب المجد مثلًا: “لِمَاذَا تَنْظُرُ الْقَذَى الَّذِي فِي عَيْنِ أَخِيكَ، وَأَمَّا الْخَشَبَةُ الَّتِي فِي عَيْنِكَ فَلاَ تَفْطَنُ لَهَا؟ أَمْ كَيْفَ تَقُولُ لأَخِيكَ: دَعْني أُخْرِجِ الْقَذَى مِنْ عَيْنِكَ، وَهَا الْخَشَبَةُ فِي عَيْنِكَ؟ يَا مُرَائِي، أَخْرِجْ أَوَّلًا الْخَشَبَةَ مِنْ عَيْنِكَ، وَحِينَئِذٍ تُبْصِرُ جَيِّدًا أَنْ تُخْرِجَ الْقَذَى مِنْ عَيْنِ أَخِيكَ!” (إنجيل متى 7: 3 – 5؛ إنجيل لوقا 6: 41، 42).
* انظر أيضًا: القلم، الفلكة، المفتاح، المغزل، العود الثيني، المعصرة، العجلة، الصناعة، شجرة زيت، السوط، السنطير، الأسلحة، المساكن، السرير، الزراعة، الرحى، الدفة، الدف، الدرس، المنجانيق، شجر الجميز، الجرة، العود الثيني، الأتراس، الأبنوس، حازمون.
خَشَبَة الصليب
المقصود بها خشب الصليب، أي تعليق المطلوب القصاص منه على خشبة.
خَشَب جُفْر
هو الخشب الذي بني به فلك نوح (تك 6: 14) ولا بد أنه كان خشبًا متينًا. ويرّجح بعضهم أنه صنف من أصناف السرو لصلاحيته لبناء السفن وعدم قابليته للنخر والسوس. ويعتقد أن الاسم العبري “جوفر” يقابل الاسم العربي “كافور”.
الخشخش
الخشخشة هي صوت السلاح وكل شيء يابس إذ حك ببعض. ويصف إشعياء بنات صهيون بأنهن: “يتشامخن ويمشين ممدودات الأعناق وغامزات بعيونهن وخاطرات في مشيهن ويخشخشن بأرجلهن” (إش 16: 3)، فقد كن يتحلين بالخلاخيل في أرجلهن فتحدث صوتًا كصوت الجرس عند مشيهن خاطرات (إش 18: 3) لاستلفات الأنظار.
خشف
الخشف هو ولد الظبي أول ما يولد أو عند أول مشيه. ويصف عريس النشيد عروسه بالقول “ثدياك كخشفتي ظبية توأمين يرعيان بين السوسن” (تش 5: 4، 3: 7).
خاصرة
الخصر هو وسط الإنسان، والخاصرة من الإنسان أو الحيوان هي ما بين رأس الورك وأسفل الأضلاع، وهما خاصرتان. ويقول المرنم: “لأن خاصرتي قد امتلأتا احتراقاً وليس في جسدي صحة” (مز 7: 38).
والكلمة في العبرية هي “ِكسْل” وترجمت “بالخاصرتين” (لا 4: 3، 9: 4، 4: 7) كما ترجمت “كليتيه” في وصف أليفاز التيماني للشرير: “لأنه قد كسا وجهه سمناً وربى شحماً على كليتيه” (أي خاصرتيه – أيوب 27: 15).
الخُصَاصة
هي بقايا الحنطة بعد حصادها، أو العنب بعد قطفه. وقد أمر بنو إسرائيل أن يبقوا على الكرمة علالة، وعلى الزيتونة حصاصة، أي بعض الثمر للفقراء والغرباء واليتامى (راعوث 2: 2 و16 واش 17: ولا 19: 9 و10 و23: 22 وتث 24: 19). ولما أراد جدعون أن يُلجم الافراميين الذين تشكوا منه قال: “أليست خصاصة أفرايم خير من قطاف ابيعزر” (قض 8: 2). وما تزال عادة ترك بقايا الحصاد للفقراء مرعية حتى اليوم في بعض بلدان الشرق الأدنى.
خصل | خصلة شعر
الخصلة الشعر المجتمع وطرف الشعر المتدلي، وكان على من ينتذِر للرب أن “يربي خصل شعر رأسه” (عد 5: 6)، بينما يقول حزقيال إن الكهنة اللاويين أبناء صادوق الذين لم يضلوا حين ضل بنو إسرائيل: “لا يحلقون رؤوسهم ولا يربون خصلاً بل يجزون رؤوسهم جزّاً” (حز 15: 44 و20).
وقد كان شمشون نذيراً للرب، لم يعل موسى رأسه، ومن هنا جاء كلامه عن “سبع خصل رأسه” التي استدعت دليلة رجلاً فحلقها، وبدأت بعد ذلك في إذلاله (قض 13: 16 و19).
أما الكلمة المترجمة “بالخصل” في نشيد الأنشاد في القول: “ملك قد أُسر بالخصل” (نش 5: 7) فهي كلمة “راحات” في العبرية، وقد ترجمت “بالأجران” (تك 38: 30، خر 16: 2)، كما ترجمت “جوائز” (أي عوارض – نش 17: 1). ويبدو أن استخدامها في نشيد الأنشاد استخدام مجازي تدل عليه القرينة فيما سبق من الآية: “رأسك عليك مثل الكرمل وشعر رأسك كأرجوان. ملك قد أسر بالخصل”.
. الخَصيّ | الخصيان
تعني الكلمة الشخص الذي جرّد أو حرم من قواه الجنسية، وكانوا يستخدمون الخصيان في بلدان الشرق قديمًا في الدور الداخلية (اش 56: 3 ومتى 19: 12). وكثيرًا ما كان أولئك الخصيان يحتلون المراكز الرفيعة ومراتب السلطان والجاه. ورئيس الخبازين كانوا كلهم خصيانًا (تك 37: 36 و40: 2 و7). وقد خدم الخصيان بلاط ملوك بابل (دانيال 1: 3) وفارس وكانوا حرسًا على أبواب قصورهم (أستير 1: 10 و2: 21). وكان خصي يشرف على دار حريم الملك في فارس (استير 2: 3 و14). وانتدب خصي ليرافق الملكة (استير 4: 5). كما خدم الخصيان في بلاط الملك آخاب وابنه وخدموا إيزابل الملكة أيضًا (1 مل 22: 9 و2 مل 8: 6 و9: 32) كما استخدمهم داود في بلاطه (1 أي 28: 1) وغيره من الملوك اللاحقين في مملكة يهوذا. وكان حامل كاس الملك هيرودس ومقدم طعامه، ورفيقه إلى غرفة النوم من الخصيان، كما كان خادم زوجته الحبيبة ماريمنا خصيًّا أيضًا، على ما يقول يوسيفوس المؤرخ اليهودي.
The Baptism of the Ethiopian Eunuch Minister by Saint Philip, By TasonySawsan.
وقد نصت الشريعة الموسوية على أن لا يدخل خصي أو مجبوب في جماعة الرب (تثنية 23: 1). ولكن الله يِعد في أشعياء 56: 4 و5 بأن يكون لهؤلاء مكان في بيت الرب.
والكلمة في العبرية هي סריס “ساريس” وقد تعني “ضابطًا أو موظفًا”، وتستخدم عادة للدلالة على الموظف المنوط به الإشراف على أجنحة النساء في قصور الملوك أو الملوك أو الولاة في الشرق (تك 2: 40، أس 10: 1، 8: 2 و14 و15، دانيال 3: 1 و8 و9). وثمة خصيان كانت لهم زوجات لهم زوجات مثل فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط (تك 36: 37، 1: 39 و7 – 20). وكان أغلب الخصيان من أسرى الحروب. وكان محرمًا حسب الشريعة على كل رجل من نسل هرون فيه عيب أن يتقدم لخدمة الرب، وكان ذلك يشمل “مرضوض الخصي” (لا 16: 21 و19)، بل إن الحيوان “مرضوض الخصي” كان لا يقبل ذبيحة للرب (لا 24: 22). وكان النهي واضحًا وقاطعًا أن “لا يدخل مخصي بالرض أو مجبوب في جماعة الرب” (تث 1: 23). ولكن تنبأ إشعياء أنه في ملك الميسا: “لا يقل الخصي ها أنا شجرة يابسة، لأنه هكذا قال الرب للخصيان الذين يحفظون سبوتي ويختارون ما يسرني ويتمسكون بعهدي. إني أعطيهم في بيتي وأسواري نصبًا واسمًا أفضل من البنين والبنات. أعطيهم اسمًا أبديًا لا ينقطع” (إش 3: 56 – 5).
ويذكر العهد القديم أنه كان لداود الملك خصيان (أخ 1: 28)، كما أن هناك خصيان في بلاط أخآب ملك إسرائيل (1مل 9: 22، انظر أيضًا 2مل 6: 8)، وفي قصر إيزابل في يزرعيل (2مل 32: 9). وكذلك كان ليهوياكين وصدقيا ملكي يهوذا (2مل 12: 24 و15، إرميا 2: 29، 19: 34)، ولجدليا بن أخيقام الذي أقامه نبو خذ نصر ملك بابل واليًا على يهوذا (إرميا 16: 41). وقد أنذر إشعياء النبي حزقيا الملك بأنه: “هوذا تأتي أيام يحمل فيها كل ما في بيتك وما خزنه آباؤك إلى هذا اليوم، إلى بابل.. ومن بنيك الذين يخرجون منك الذين تلدهم يأخذون فيكونون خصيانًا في قصر ملك بابل” (إش 6: 39 و7).
وقد اطلقت الكلمة على بعض أشخاص شغلوا مراكز مرموقة مثل فوطيفار رئيس شرطة فرعون (تك 36: 37)، ورئيسي السقاة والخبازين في قصر فرعون (تك 2: 40 و7)، ونثنملك الخصي الذي كان له مخدع عند مدخل بيت الرب (2مل 11: 23)، وعبد ملك الكوشي الخصي الذي كلم الملك صدقيا لإنقاذ إرميا النبي من الجب (إرميا 7: 38 – 13)، والخصي الذي كان وكيلًا على رجال الحرب في أورشليم (إرميا 25: 52).
وعندما جاء الفريسيون الى الرب يسوع ليخربوه في موضوع الطلاق، ذكر أن ليس الجميع يقبلون كلامه: “لأنه يوجد خصيان ولدوا هذا من بطون أمهاتهم. ويوجد خصيان خصاهم الناس. ويوجد خصيان خصوا أنفسهم لأجل ملكوت السموات. من استطاع أن يقبل فليقبل” (مت 3: 19 – 12)، وليس المقصود أنهم خصوا أنفسهم حرفيًا (وهو ما ظنه البعض، كم فعل أوريجانوس، ثم عاد وأدرك خطأه)، ولكن المعنى والمقصود هو أنهم امتنعوا عن كل شهوة جنسية تحارب النفس (1بط 11: 2)، ليتفرغوا بكل طاقاتهم وأوقاتهم لخدمة الرب كما فعل الرسول بولس (1كو 5: 9، انظر أيضًا 1كو 25: 7 – 33) وهذه النصرة الناتجة عن ضبط النفس أعظم بما لا يقاس من الحالة السلبية وغير الإنسانية… في الخصي الحرفي.
. الخصيّ الحبشي | الوزير الحبشي
← اللغة الإنجليزية: Ethiopian eunuch – اللغة اللاتينية: Æthiops eunuchus – اللغة العبرية: הסריס הכושי – اللغة اليونانية: Αἰθίοψ εὐνοῦχος – اللغة الأمهرية: አዛዥና ጃንደረባ.
الخصي الحبشي الوزير: كان هذا الرجل وزيرًا لكنداكة ملكة الحبشة، وقد أقيم على جميع خزائنها (أع 8: 27) ويرّجح أنه دخل اليهودية وقبل تلك الديانة. وعندما كان راجعًا من أورشليم التقى بفيلبس الذي بشره فقبل المسيح واعتمد على يديه (أع 8: 26 – 39).
The Baptism of the Ethiopian Eunuch Minister by Saint Philip, By TasonySawsan.
لم يُذكَر اسمه، ولكن أنه كان وزيرًا لـ “كنداكة” (وهو لقب كان يطلق على ملكات بلاد النوبة والحبشة من 300 ق. م. إلى 300م) ملكة الحبشة كان جميع خزائنها، “وقد جاء إلى أورشليم ليسجد”. وفي عودته من أورشليم إلى الحبشة في الطريق إلى غزة، كان على مركبته وهو يقرأ النبي إشعياء. فقال الروح القدس لفيلبس أن يتقدم ويرافق هذه المركبة. ولما سأله فيلبس عما إذا كان يفهم ما يقرأ، طلب من فيلبس أن يصعد ويجلس معه. وكان الحبشي يقرأ الأصحاح الثالث والخمسين من إشعياء، وسأله: “عن من يقول النبي هذا. عن نفسه أم عن واحد آخر؟ ففتح فيلبس فاه وابتدأ من هذا الكتاب فبشره بيسوع”. فآمن الخصي واعتمد وذهب في طريقه فرحًا (أع 26: 8 – 39).
ويقول التقليد الحبشي إن هذا الخصي هو الذي أدخل المسيحية إلى إثيوبيا، والأرجح أنه لم يكن “خصيًا” حقيقية بل “مركزًا” إذ إن الكلمة قد تدل على مَنْ يشغل أحد المراكز الرفيعة في بلاط الملكة، إذ لو كان “خصيًا” لما جاز له أن يسجد في الهيكل في أورشليم (تث 1: 23)، ولا شك في أنه لم يكن يهوديًا أصلًا بل كان “دخيلًا” (مت 15: 23، أع 10: 2، 5: 6، 43: 13).
ونجد في سؤال الخصي: “عن من يقول النبي هذا. عن نفسه أم عن واحد؟” أن المفهوم العام عند اليهود في القرن الأول المسيحي، عن العبد المتألم الذي يتكلم عنه إشعياء، لم يكن هو الأمة الإسرائيلية، كما يظن البعض، بل كان المقصود به شخصًا معينًا.. وقد بيَّن فيلبس أن موضوع النبوة هو “الرب يسوع المسيح” الذي أسلم نفسه للموت على الصليب من أجل خطايانا وأقيم لأجل تبريرنا. فآمن الخصي واعتمد.
رئيس الخصيان
والكلمة في الأصل هي “ربساريس” وهى كلمة أكادية تعنى “رئيس الخصيان” وهى مكونة من كلمتين “رب” بمعنى “سيد” أو “رئيس”، و “ساريس” סריס أي “خصيان” وكان من عادة ملوك الشرق أن يحيطوا أنفسهم بعدد من الخصيان يقومون بمختلف الخدمات، سواء حقيرة أو عظيمة، وكان الخصيان يشرفون عادة على جناح الحريم. وكان بعضهم يشغل مراكز رفيعة في البلاط الملكي، كما كانوا يتولون – في أغلب الأحيان – الإشراف على تربية الأولاد في القصور الملكية، وتعليمهم. كما كانت هذه الكلمة تُطْلَق أحيانًا على الأشخاص موضع الثقة دون أن يكونوا خصيانًا.
وترد كلمة “ربساريس” ثلاث مرات في العهد القديم في العبرية، وذكرت مرة واحدة في الترجمة العربية بنفس اللفظ الأكادي على أنها اسم علم، حيث نقرأ: “وأرسا ماك أشور ترتان وربساريس وربشاقى من لخيش إلى الملك حزقيا” (2 مل 18: 17) طالبًا منه الاستسلام. وكان يجب أن تترجم كلمة “ربساريس” هنا إلى “رئيس الخصيان” كما ترجمت هكذا في الموضعين الآخرين: ودخل كل رؤساء ملك بابل وجلسوا في الباب الأوسط نرجل شراصر وسمجر نبو وسرسخيم رئيس الخصيان (ربساريس) ونرجل شراصر رئيس المجوس… “(إرميا 39: 3)،” فأرسل نبوزردان رئيس الشرط ونبوشزيان رئيس الخصيان (ربساريس) ونرجل شراصر رئيس المجوس.. أرسلوا فأخذوا إرميا من دار السجن وأسلموه لجدليا بن أخيقام بن شافان.. “(إرميا 39: 13 و14).
الخَطيئة | الخطية
الخطية هي التعدي على شريعة الله وأحكامه. وكل من يفعل الخطية يفعل التعدي أيضًا. وخطية الترك هي إهمال ما تفرضه شريعة الله. أما خطية الفعل فهي ارتكاب ما نهت عنه تلك الشريعة (تك 4: 7 ومتى 25: 45 و1 يو 5: 17 وغلبا 3: 10 – 12 ورمية 3: 23 و1 يو 3: 4).
(1) مفهوم الخطية:
لا يوجد في الكتاب المقدس تعريف محدد للخطية، ولكن هناك عدة أوصاف لها، ومن ثم يجب الجمع بين مختلف الجوانب. فالخطية عمل إرادي أخلاقي (تك 2: 3 – 6، رو 18: 1 و28). ولا ينطوي المفهوم الأخلاقي المجرد عن التعدي الإرادي على الشريعة – في الكتاب المقدس – تحت مفهوم ديني أشمل عن السلوك الخاطئ تجاه أوامر الله ووصاياه المحددة (تك 3: 3) وناموسة (رو 19: 3 و20) فحسب، لكنه ينطبق أيضًا على رفض الإنسان الانقياد – في حياته – لتأثير معرفة قوة الله الموجهة المرشدة والضابطة الملزم (رو 18: 1 و28)، ورفضه معرفة طبيعة الله (يو 19: 3) ورفضه محبة الله المعلنة في شخص ابنه (يو 3: 36).
Sin word in Arabic صورة: كلمة الخطية باللغة العربية.
Sin word in Arabic.
وتأتي معرفة الله – لكل الناس – من طبيعتهم ذاتها (رو 2: 14 و15)، ومن الخليقة (رو 1: 20)، ومن روح الله (يو 1: 9، تك 6: 3، أع 7: 51، 14: 17)، فالتعدي علي ناموس معروف هو خطية. بل ويعتبر الموقف الخاطئ والرغبات الخاطئة والاتجاه الخاطئ للإرادة أو “الذات” (كالعصيان والانحراف والتشويش) خطية أيضا (1يو 4: 3، مت 22: 5 و28، رو 8: 7 – 13، 21: 5. فالخطية إذًا هي عدم الإيمان (عب 12: 3 و19)، وتركيز الذات حول شيء ما أو شخص ما، غير الله ذاته (تك 6: 3، رو 1: 28، 7: 8).
(2) تعريف الخطية:
الخطية هي أي موقف من مواقف عدم المبالاة أو عدم الإيمان، أو العصيان لإرادة الله المعلنة في الضمير أو في الناموس أو في الإنجيل، سواء ظهر هذا الموقف في الفكر أوفي القول أو في الفعل أو الاتجاه أو السلوك.
(3) نتائج الخطية وآثارها:
فللخطية طبقًا للكتاب المقدس تأثير مباشر حسب القوانين الراسخة للخليفة، كما أنها تجلب علي البشر عقاب الله. وبحسب القانون السيكولوجي، تمتد الخطية إلى كل النفس في حرمان الإنسان من أسمي إمكاناته، وفي إظلام العقل وإلهاب العواطف، وتقسية الإرادة ضد الله وضد كل صلاح (رو 21: 1 32، غل 19: 5 21).
والخطية بحسب قانون الوراثة تنقل النزعة الشريرة والإثم إلى نسل الخاطئ (مز 51: 5، أف 3: 2). وهكذا شملت الخطية الأولي كل الجنس البشري، وتميل الخطية بطبيعتها إلى التكاثر الذاتي الكثيف الشامل، كما تجلب الخطية علي الخاطئ عقاب الله المباشر في هذا الزمان (مز 11: 51، رو 28: 1، 23: 6) وفي الزمان الآتي (رو 8: 2 و9).
وعلي هذه الحقائق تقوم النظم اللاهوتية المختلفة، بمفاهيمها المتباينة عن الخطية، وعن توارث الخطية الأولي، وعن الدينونة الأخيرة عقابا أو ثوابا.
(4) قصة السقوط:
يقر كل العلماء تقريبا بأن قصة السقوط (تك 1: 3 6) تعطينا وصفا سيكولوجيا رائعا عن كيف بدأت الخطبة. فقد عصي آدم وحواء بإرادتهم وصية واضحة من الله، خالقهما ومن كانت لهما معه شركة فريدة. ولم يكن العصيان بأي حال ضرورة تستلزمها طبيعتهما أو حالتهما.. فقد تخيل أبوانا الأولان أن النهي عن الأكل من الشجرة، أمرا غير مفهوم تماما وأن العقاب ليس أكيدا، واعتبرا أن الأكل من الشجرة امتياز يحق لهما التمتع به، وما حرمانهما منه إلا تعسف. وجاءت الغواية لتفتح شهية بريئة في ذاتها. فثار خيال المرأة بمنظر المتعة المأمولة والقوة، وهاجت فيها الرغبة، وتبع ذلك الفعل الاختياري.
وينطبق كل ذلك بطريقة مذهلة علي الاختيار الفعلي للتجربة والخطية في حياتنا.
Sin VS Sinner, Sin is using the sinner.
وهناك عناصر في القصة جديرة بالملاحظة بصورة خاصة، فهي من جهة امتحان أخلاقي، لكنها بالأكثر امتحان ديني، فقد كانت التجربة لبيان مدى إيمانهما بالله وثقتهما فيه. وكان النهي عن الأكل امتحانا لهما: هل الله هو مركز وهدف حياتهما، أم أن أغراضهما الخاصة هي المركز والهدف، وهو الاختبار الديني الذي لا مفر لنا جميعا من مواجهته إن أجلا أو عاجلا. لاحظ أيضا أن الخطية تنشأ أولا داخليا، وأن السقوط تم في البداية في خيال الإنسان وعواطفه وفكره، ثم بعد ذلك في الفعل. ولابد أن نري الخطية في ضوء حقيقة أنهما عرفا الله ووصيته الواضحة، وفي ضوء حقيقة أن محبة الله لم تتركهما، بل سعت إليهما بعد ارتكابهما الخطية. ومن ثم كان الامتحان ضرورة لطبيعة الإنسان ولقصد الله، ولأدراك الإنسان لذاته في علاقة سليمة مع الله. وقد قدم سفر التكوين القصة – ليس باعتبارها صادقة من الناحية السيكولوجية فحسب، بل باعتبارها أيضًا حقيقة فعلية وبداية تاريخية للخطية، وهو الأمر الواضح في سائر أسفار الكتاب المقدس (يو 44: 8، رو 12: 5 – 14، 1كو 21: 15 و22).
وواضح تمامًا أن القصة ليست أسطورة أو مجازية، ولكن بها بعض العناصر الرمزية مثل “الحية” كرمز للشيطان في دهائه وخبثه وتغيير هيئته. إن حقيقة خلق الإنسان صالحًا، وحياته في الصلاح فترة من الزمن، وسقوطه، وبداية الخطية تاريخيًا، تبدو جميعها واضحة. أما المغزى الدقيق للتفاصيل، فمسألة تتعلق بتفسير الكتاب المقدس.
(5) الخطية والحرية:
يثير موضوع الخطية ونتائجها بالضرورة قضية الخطية والحرية. وليس ثمة صعوبة من وجهة نظر الكتاب المقدس في حالة آدم وحواء، فقد كانا خاليين من الميل للخطية، ولهما حرية الاختيار. ويقول الرسول بولس: “إنه بإنسان واحد دخلت الخطية إلى العالم، وبالخطية الموت، وهكذا اجتاز الموت إلى جميع الناس إذ أخطأ الجميع” (رو 5: 12)، وإن الإنسان الطبيعي لا يمكنه أن يحفظ الناموس “فالذين هم في الجسد لا يستطيعون أن يرضوا الله” (رو 8: 3 8)، كما يؤكد أن الجميع “بالطبيعة أبناء الغضب” (أف 2: 3)، وأنه لا يمكننا أن “نتمم الناموس” إلا بالروح ووجودنا “في المسيح”.
ويجزم الرسول بولس بأن الخطية هي مقاومة الله ورفض السلوك في النور (رو 1: 21 و28 و32)، حتى عندما يؤكد عجز الناموس كطريق للخلاص “لأنه بأعمال الناموس كل ذي جسد لا يتبرر أمامه” (رو 3: 20) وأنه مصدر للتعدي: “أما الناموس فدخل لكي تكثر الخطية” (رو 5: 20). ونجد أن الرب يسوع نفسه يؤكد أن الخطية هي اختيار حر واعٍ (لو 15: 13، يو15: 22، 9: 41، 8: 11)، كم يؤكد في نفس الوقت وجوب التغيير الشامل للعواطف التي تتحكم في الإنسان الطبيعي وذلك بالتحديد (يو 3: 3 و6، مت 7: 18، 12: 33). وإلى جانب هذه الحقيقة عن النزعة الموروثة للشر في الإنسان، والخطية المحسوبة عليه، يجب إضافة الحقيقة التي ينبني عليها التعليم اللاهوتي عن النعمة الشاملة، وهي أن الله بروحه يكبح جماح الخطية المدمرة في الفرد وفي المجتمع، فلكل إنسان ضمير وإحساس بالناموس الإلهي، وبالله وبالفضائل الأخلاقية (تك 6: 3، يو 1: 9، أع 7: 51، 14: 17، رو 1: 14 و15). وتقدم هذه الحقائق مجتمعة تعليم الكتاب المقدس عن الإنسان الطبيعي كمولود بطبيعة فاسدة خاطئة بذاتها، وكمولود بالإثم مذنبًا، إلا أن الروح لم يتركه قط بدون نور، فكل شخص يبلغ سن التمييز يصبح حرًا، بمعنى أنه يملك قراره، فهو حر في أن يختار الشر طريقًا له.
(6) الطبيعة الأصلية: يعد التساؤل عن كنه الطبيعة التي يولد بها الطفل، أخطر وأوسع الموضوعات في القرن العشرين، وتتفق النتائج بشكل عام مع تعاليم الكتاب التي عرضناها فيما سبق، فالكل متفقون على طبيعة الشر الموروثة في الإنسان، والنزوع إلى الشر الكامن في الذات البشرية، وضرورة تهذيب الطفل أخلاقيًا، وحتمية النضال لتحقيق المواقف الأدبية والتضامن الأخلاقي للمجتمع، وخطورة الانحراف الأخلاقي المطلق، والتحكم في عواطف ومشاعر الإنسان. ويتفق علماء التربية المسيحية على أن النزعات الشريرة الوراثية لا يمكن التحكم فيها بالتربية إلا عن طريق عمل النعمة الفائقة، وأن ما تصبو إليه التربية المسيحية هو أن تصبح أداة لحفظ الطفل على صلة بالقوة الإلهية.
(7) إدانة الخطية الفعلية:
يوضح الكتاب المقدس بكل جلاء أن خطية الفرد تدان بحسب استنارة الفرد الشخصية، وأن على الفرد أن يجتهد ضد كل ما يعرفه أنه شر، وهذا واضح من أقوال الرب يسوع (يو 15: 22، مت11: 20 24)، ومن أقوال الرسول بولس (أع 17: 30، رو 14: 5، 1كو8: 7، 1 تي1: 13). ولا يعني هذا أن الخاطئ يعرف تمامًا مرارة الخطية قبل ارتكابها، فالخطية التي ترتكب تحت توبيخ الضمير وتحت الخوف من غضب الله، وفي ضوء بعض نتائجها المخيفة، تختلف تمامًا عن الخطية التي ترتكب عمدًا وبعد تفكير وتدبير. وحقيقة إدانة الفرد على خطيته بحسب ما عنده من نور، معناها فقط أن الكتاب المقدس يأخذ في اعتباره حقيقة هامة هي أن الضمير يتأثر في أحكامه المادية على الحقائق الفعلية، تأثرًا كبيرًا بالتراث الاجتماعي والمعايير السائدة في المجتمع، وهذا هو السبب في ضرورة الحكم على رجال البلدان الأخرى والأزمنة السابقة مثل شخصيات الكتاب المقدس في ضوء ما كان لهم من نور في زمانهم من حيث مدى مذنوبيتهم أو استحقاقهم.
(8) جوهر الفضيلة الحقيقية والدين الصحيح:
Ezekiel lies on His left side (Ezekiel 4: 4 – 8).
يعرض الكتاب المقدس تقدمًا مذهلًا من مجرد مراعاة طقوس شكلية، إلى الجوهر الحقيقي للأخلاق والدين. وغاية الإعلان الإلهي الذي بدأ بأكثر من مجرد النهي والتحريم، هو الديانة السامية النبيلة كما أوضحهما ميخا النبي: “قد أخبرك أيها الإنسان ما هو صالح. أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعًا مع إلهك” (ميخا 6: 8) وكما أوضحها الرب يسوع في الموعظة على الجبل (مت 5: 1 7: 27)، وبولس الرسول (رو8: 4، 1كو10: 31، غل5: 22 26).
أ ناموس موسى: هناك بعض عناصر في الشريعة كتحريم بعض الأنواع من الأطعمة وبعض أشكال الذبائح ليس لها أهمية أخلاقية في حد ذاتها. ويجب ألا ننسى أن تلك النواهي كانت كنواهي جنة عدن، ذات أهمية دينية فقط بإثارة موضوع الطاعة للرب، ومن ثم فإن الناموس يفترض مسبقًا تطور التعليم الديني والرمزية، ليفسح المجال أمام النمو الروحي للديانة الحقيقية والفضيلة، فلم يكن الناموس طبقًا لكلمة الله خاليًا أبدًا من مثل هذا التفسير.
ب الأنبياء: كانت رسالة الأنبياء هي تعليم الناس أمور الدين، ولذلك كان عليهم أن يكونوا ضمائر متجسدة، أو تجسيدًا للديانة الحقيقية، ولذلك تزايد تأكيدهم للمعنى الأخلاقي والقصد الروحي من الطقوس. وتبدو العبادة في زمن إيليا وأليشع أحيانًا كما لو كانت مجرد طقوس قديمة وعبادة قومية. مع أن رسالتيهما اشتملتا على الكثير من الديانة الحقيقة والفضائل العملية، إلا أن الهدف المقصود جاء في قول إشعياء: “إليس هذا صومًا أختاره، حل قيود الشر، فك عقد النير واطلاق المسحوقين أحرارًا وقطع كل نير؟..” (إش 58: 6 و7). وهكذا كان إصرار الأنبياء على توكيد المعنى الحقيقي للدين والفضيلة والأخلاق، كالهدف الحقيقي للوصايا والشعائر والطقوس المفروضة على الشعب اليهودي (هوشع 6، مي 6)، حتى استنتج البعض من ذلك أن الأنبياء كانوا ضد الناموس وكل طقوسه. والأصوب أن نقول إن الأنبياء قد علمهم الله طبيعة الدين والفضيلة كالهدف الحقيقي للناموس والطقوس والموعد، حتى أنهم عارضوا فهم الناموس والذبائح كمجرد طقوس بلا روح حقيقية. وما زال هذا الميل للاكتفاء بالشكليات والشعائر الخارجية حتى يومنا هذا يشوه باستمرار كل النواميس والعبادات. نحن نلجأ إلى الطقس لنعبر عن الروح، فنفقد الروح ونحتفظ بالشكل فقط، وبذلك نقضي على الهدف ونسقط في خطايا أشر.
ج الرسول بولس: للناموس أحد تأثيرين على الطبيعة البشرية الأثيمة، فهو إما أن يؤدي إلى السطحية والمظهرية، مما يؤدي بدوره إلى خطية أكبر وأشنع في نظر الله، وإما أن يدفع إذا أخذ بجدية إلى اليأس التام من إدراك الإنسان للبر، كما حدث مع بولس، إذ يقول: “كنت أتقدم في الديانة اليهودية على كثيرين من أترابي في جنسي إذ كنت أوفر غيرة في تقليدات آبائي” (غل 1: 14)، ومع ذلك فقد وجد أن الناموس كان السبب في يأسه طالما كان ينهي، ليس عن الأعمال الخاطئة فحسب، بل عن الرغبة الخاطئة أيضًا (رومية 7)، كما اكتشف بولس أن الناموس قد كشف طبيعته الجسدانية الخاطئة، وأنه كان أداة لعمل الموت فيه، ولذلك فقد رأى أن الناموس “دخل لكي تكثر الخطية” (رو5: 20)، وهكذا صار الناموس “مؤدبنا إلى المسيح” (غل3: 24) حتى نموت بالناموس للناموس لنحيا لله (غل 2: 19). فالشرائع كوسيلة للخلاص هي وسيلة ميتة، فهو يعرف الجوهي الحقيقي للناموس ولب الديانة الحقيقية، وهو أن يصبح “تحت ناموس المسيح” (1كو 9: 20 و21)، وهكذا يكون الناموس في معناه الحقيقي هو “ناموس روح الحياة في المسيح يسوع” (رو8: 2).
د الرب يسوع: يبين الرسول بولس في كتاباته كيف استوعب تمامًا روح تعليم الرب يسوع، فقد أكرم المسيح الناموس: “لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل، فإني الحق أقول لكم إلى أن تزول السماء والأرض لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس حتى يكون الكل” (مت5: 17 و18). لكن الرب يسوع كان يعلم أن الطريق الوحيد لحفظ الناموس هو حفظه من القلب بالروح، فالرغبة والقصد والسلوك هي كل شىء. فالزنا والقتل والانتقام خطايا بالطبع، إلا أن الشهوة والغضب وروح الانتقاب هي مسببات هذه الأفعال والخطايا، وهي المصدر الحقيقي للخطية الذي يجب علاجه. ومن ثم فإن حفظ الناموس معناه الطهارة والمحبة وروح الصفح. وفي الواقع إذا انتقلنا إلى المبدأ الذي نادى به الرب يسوع: “كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل” (مت5: 48)، فإن الرب يسوع يتخذ نفس الموقف الذي اتخذه وأعلنه فيما بعد الرسول بولس. فكما أن الخطية ليست مسألة أخلاق فحسب، بل هي مسألة موقف خاطئ من نحو الله والإنسان، فهكذا أيضًا الفضيلة والديانة هما في الواقع مسألة موقف روحي سليم من نحو الله والإنسان (مت 22: 35 39، لو18: 22). فكل تعبير أو تقنين للناموس الأدبي، إنما هو محاولة جزئية ناقصة وغير ناجحة لتجسيد الروح الحقيقية للناموس (رو 7: 6، 2كو3: 6). إلا أنه يجب عدم الانتقاص من شأن الناموس، رغم أنها لا يمكن أن تعبر عن، أو تخلق الروح الحقيقية للمواطن الصالح أو المواطن المسيحي.
(9) قوة الخطية ونموها:
يرجع هذا العجز في الناموس إلى حقيقة أن الخطية هي قوة في ذاتها، ولها قانون تطور خاص بها. ليس للخطية وجود مستقل سواء كان هذا الوجود ماديًا أو روحيًا، بل الخطية هي صفة للبشر يجب ألا تكون فيهم، بدلًا من صفة أخرى يجب أن تتوفر فيهم. فالخطية لذلك ليست أمرًا سلبيًا ولكنها علة الانحراف، وعلى الإنسان أن يعرف إرادة الله وأن يحبه ويطيعه اختيارًا، فهذه هي الفضيلة وهذا هو الدين.
The Sacrifice Lamb on the alter (in the Old Testament) is a symbol for the sacrifice of Jesus Christ on the Cross.
فليست الخطية هي مجرد غياب ما يجب أن يكون، بل هي استبدال ذلك بمعرفة أخرى ومحبة أخرى واختيار آخر. إن قانون الشخصية البشرية هو العلاقة بين العقل والعاطفة والإرادة في وحدة النفس، مع الميل إلى تثبيت الأفعال والأمزجة في مواقف ثابتة للشخصية. وكما ينمو الإنسان الصالح نحو معرفة أكمل واصدق، ونحو محبة أنقى واطهر، ونحو عادة ثابتة من فعل الصلاح، فكذلك ينمو الإنسان الشرير في المعرفة الكاذبة، وفي محبة الدنس، وفي كراهية العدل والبر، وفي عادات ثابتة من فعل الشر. فقوة الخطية إذًا هي قبل كل شيء قوة ناموس الشخصية المنحرفة، وهو أمر واضح تمامًا في الأسفار المقدسة، إذ يعلن الرسول بولس بكل جلاء أن الخطاة “حمقوا في أفكارهم وأظلم قلبهم الغبي وبينما هم يزعمون أنهم حكماء صاروا جهلاء” (رو 1: 21 و22)، ثم يتبع ذلك انحراف المحبة واشتعال الشهوات (رو 1: 24 27) والذهن “المرفوض” المصمم على فعل “ما لا يليق” (رو 1: 28 32)، إلى أن يصبحوا “مظلمي الفكر متجنبين عن حياة الله.. الذين إذ هم قد فقدوا الحس، أسلموا نفوسهم للدعارة ليعملوا كل نجاسة في الطمع (أف 4: 17 19).
هذا هو المفهوم الكتابي لقوة الخطية، وقد اصبح كل ذلك اكثر وضوحًا أمام أفهامنا من خلال علم النفس المعاصر بتأكيده على العاطفة والرغبة ومكونات الشخصية في اللاوعي، وقوة العقد اللاشعورية. فتأثير الخطية هو الحرمان من تحقيق الشخصية، وجعل الفرد لعبة في يد الشهوة والدوافع النفسية والإغراءات الخارجية بما في ذلك انفصام الذات. وقد يكمن تأثير الخطية في تركيز قوى الفرد في طموح جامح ضد إرادة الله، مما ينتج عنه شخصية قوية تكره الله وتحب الشر.
(10) الوراثة للخطية:
من المتوقع أن يكون لقوى مدمرة مثل هذه عند الفرد تأثير سيئ على نسله، ومع ذلك لا يذكر الكتاب المقدس – عمليًا – شيء عن الوراثة بمفهومها السيكولوجي أو البيولوجي، ولكنه يؤكد الحقيقة الكبرى وهي أنه بخطية آدم الأول صار كل جسد أي الإنسان الطبيعي خاطئًا، ولا يذكر شيئًا آخر عن الميول الأثيمة الخاطئة الموروثة عن خطايا معينة من الوالدين، لكن العلم الحديث يؤيد هذا الرأي، فهناك أطفال ولدوا غير أسوياء في قواهم العقلية، وغير مستقري العواطف، أو معدوميها، ولدى بعضهم شهوات أكثر جموحًا من الآخرين، ومع ذلك فقد تم إحراز تقدم ضئيل في ربط ذلك بالصفات الشخصية الخاصة في حياة الوالدين. فقد يرث بعض الناس الجنون ويبدو أن ذلك متعلق بالعائلة أو بفصيلة الدم لكن من الصعب الربط بينه وبين خطايا شخصية خاصة في الوالدين.
(11) الوراثة الاجتماعية للخطية:
يوجد في الكتاب المقدس الكثير عما نسميه اليوم بالوراثة الاجتماعية للخطية، أي انتقال الخطية للآخرين عن طريق القدوة والتعليم والإيحاء بكل أشكاله، وآراء الجماعة والأذواق والقيم والمعايير والأعراف، وبالاختصار عن طريق الاتصالات بكل معانيها الاجتماعية. والكتاب المقدس مليء بالتحذيرات من المعاشرات الرديئة، ومن قوة القدوة الشريرة، ومن سطوة العادات الخاطئة والأعراف الاجتماعية غير السليمة، ومن قوة خميرة التعاليم الشريرة والعقائد الخاطئة، ولم يؤكد كتاب بأقوى مما أكد الكتاب المقدس، على واجب تربية الأطفال وتنشئتهم على التقوى، وتهذيبهم في الحق، وتدريبهم بالقدوة على الممارسة الفعلية للأعمال الصالحة. وتتجه كل تحريضات الكتاب المقدس إلى الأتقياء في عائلات وجماعات لها فكرها ومعاييرها وقيمها وولاؤها، وفصل هذه الجماعات عن كل صلة بالشر. وتتفق جميع الصور التي يقدمها الكتاب المقدس لمدينة “سدوم” وللعالم قبل الطوفان ولعالم الكنعانيين الذي كان لابد من القضاء عليه قبل استقرار شعب الله في أرض الموعد، أو للمجتمع الروماني كما رآه الرسول بولس، اتفاقا تامًا، ليس مع الحق فحسب، بل أيضًا مع ما توصل إليه علم الاجتماع الحديث عن القانون الاجتماعي. وتلقي هذه الحقيقة المرعبة عن قوة الخطية القاتلة من خلال شمول تأثيرها في كل قوانين الوراثة الاجتماعية المعترف بها الضوء على الأمر الإلهي بالقضاء على الكنعانيين، وعلى تحريض المؤمنين على أن يعيشوا بالانفصال عن العالم. ويجمع الكتاب المقدس كل قوى الشر عن طريق الوراثة الاجتماعية، تحت تعبير واحد هو “العالم” أي جموع الناس البعيدين عن الله والمعادين للمسيح، وكل دائرة الممتلكات الأرضية والعقارات والثروات واللذات، التي رغم أنها جوفاء ضعيفة وعابرة، إلا أنها تثير الرغبة وتغري بالبعد عن الله، وتعتبر عقبات في طريق ملكوت المسيح. إن كلمة “العالم” بهذا المفهوم شائعة في إنجيل يوحنا ورسائل يوحنا وسائر رسائل العهد الجديد (يو7: 7، 1يو2: 15 17، 1كو1: 21، غل6: 14، يع1: 27). والقوانين الاجتماعية – كما في حالة قوة الخطية في حياة الفرد ليست شرًا في ذاتها، كما أن قوانين التطور الفردي ليست أيضًا شرًا في ذاتها، فهي قوانين الله الكامنة في المجتمع، ولكنها بسبب فساد الخطية تحولت ضد الله وضد الإنسان. وفي المجتمع المسيحي يجب أن تكون هذه القوانين بركة لامتداد ملكوت الله. ويسعى علم الاجتماع المسيحي لاستخدام هذه القوانين لإتمام مقاصد الله. ومن هنا نشأت فكرة العائلة المسيحية، والمجتمع المسيحي والتربية المسيحية، والأدب والفن والصناعة… المسيحية. وتتفق هذه الفكرة مع العهد القديم في النظر إلى شرور المجتمع كما لو كانت خطية فرد نظرًا لتضامن البشرية كلها (دانيال9: 5 11)، وإن كان هناك تصحيح للاستخدام الخاطئ لهذا المبدأ: “كل إنسان بخطيته يقتل” (تث24: 16)، والتأكيد بأن الفرد سوف يعامل طبقًا لما فعله: “النفس التي تخطيء هي تموت”، “بر البار عليه يكون وشر الشرير عليه يكون” (حز18: 1 33). ويتفق هذا المبدأ مع ما يميل إليه علماء الاجتماع من تقسيم وتوزيع المسئولية بين الفرد والجماعة، مع اعتبار الفرد مسئولًا عن نفسه.
(12) الكفارة من الخطية:
إن المفهوم الصحيح للخطية ضروري لو أردنا أن نفهم رأي الكتاب المقدس في كيفية خلاص الإنسان، فحياة الإنسان والمجتمع تقوم على العلاقة الصحيحة مع الله: “هذه هي الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك، ويسوع المسيح الذي أرسلته” (يو17: 3). والخطية هي قطع الصلة بالله، ورفض مقاصد محبة الله من نحو خليقته، كما أنها علاقة خاطئة مع الآخرين، ومقاومة الناموس الذي أعطاه الله لخليقته، وانحراف قوى الإنسان الشخصية مما يؤدي إلي الموت الروحي والأدبي. وهي أي الخطية، على أحسن الفروض قناعة طائشة بمستوى أخلاقي هابط من الانغماس في اللذات، المنطوي في أعماقه على تأليه الذات دون اعتبار لله ولا لأخيه الإنسان. ومن هنا تظهر الفكرة الكتابية بأن الله نفسه هو الذي يرفع الذنب، والمحرك الأول في تحقيق انسجام الإنسان معه، ومن هنا نشأت فكرة الكفارة والتبرير والفداء، ثم الفكرة الكتابية عن الحمل الملقى على الضمير، حتى إنه لا يمكن للإنسان أن يتمتع بالسلام إلا إذا نال الغفران: “فإذ قد تبررنا بالإيمان لنا سلام مع الله بربنا يسوع المسيح” (رو5: 1). وفي الواقع، فإن كل مفهوم الخلاص سواء باعتباره تغييرًا لموقف الإنسان أمام الله، أو تغييرًا داخلًا شاملًا في الخاطئ قبل كل شيء، أو استمرار حياته الجديدة كل ذلك مرتبط بمفهوم الطبيعة الحقيقية للخطية وميل الإنسان لارتكابها.
(13) الخلاص في المسيح:
تتركز كل عملية خلاص الخطاة النابعة من محبة الله، في المسيح: “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16)، فبحياته وبموته بخاصة تمت الكفارة والمصالحة من غضب على الخاطئ، ومن خوف الخاطئ من الله (رو5: 1 11)، كما أنه يمنح المعرفة الجديدة عن الله للعقول التي أظلمتها الخطية: “لأن الله لم يراه أحد قط، الابن الوحيد الذي هو في حضن الآب هو خَّبر” (يو1: 18)، ويخلق في الإرادة الدوافع الجديدة للتوبة والإيمان والمحبة (غل2: 19 و20، رو5: 11)، كما يمنح القوة للحياة الأبدية للابتعاد عن الخطية (رو 8: 12 15)، كما يمنح قوة وإرشادًا بالروح القدس (رو8: 5 و26).
وفي الواقع، إن المسيح الحي، المائت، المقام من الأموات ليحيا إلى الأبد هو الذي يعطي الروح، حتى بالتجديد يجعل الحياة الجديدة ممكنة بداية واستمرارًا وختامًا (مت 3: 11، أع 2: 33، رو 6: 4 14)، ولذلك “ففي المسيح” أي بالاتحاد معه يمكن الغلبة على الخطية في الفرد (رو8: 2، 2 كو 5: 17، أف2: 10، كو3: 4)، وبالاتحاد معه ينتج اتحاد المؤمنين معًا وشركتهم في الملكوت (1كو10: 17، 1يو1: 3).
(14) التجديد بعد الخلاص من الخطية:
وبقبول الفرد للخلاص واختباره له، فإن طبيعة الخطية في الفرد تستلزم اختبار التجديد الذي يتضمن التوبة والإيمان، وهو ما تستغله سيكولوجية الدين كثيرًا، إنه تغيير واعٍ لكل النفس فيمن وصلوا إلى سن الرشد والتمييز. إنه تغيير للنفس من التمركز حول الذات، إلى حياة لا تهتم بالآخرين فحسب، بل إلى حياة مركزها هو المسيح، مما يعني تغييرًا في الأحكام المادية والقيم والمعايير والعواطف والمواقف. ويتجلى كل ذلك واضحًا في كل أقوال الكتاب المقدس التي تصف هذا التغيير الداخلي. إن التبكيت يعني إلقاء نور جديد على حياتنا الخاصة في ضوء حكم الله. أما التوبة فتعني قبول هذا الحكم الإلهي، فيصبح لنا “فكر جديد” يحزن على الخطية. أما التجديد فيعني البعد عن الخطية والتحول نحو الله. أما الإيمان فيعني الاتكال على الله والثقة فيه والمحبة له.
هذا هو بالضبط التغيير في موقف النفس جميعها، وهو على العكس تمامًا مما تفعله الخطية في الإنسان. ولا شك في أن درجة حرارة العواطف تتوقف على مدى انحراف الفرد فيما مضى، وعلى المعايير الاجتماعية السائدة لما يعتبر تجديدًا صحيحًا، ويعتبره الرأي الكتابي تغييرًا واعيًا وانفصالًا عن الخطية. ولهذا يقدم الكتابي المقدس التوبة والتجديد كواجب ملزم يجب أن تتجاوب معه كل النفس. وما الإنجيل إلا أداة التغيير، ولكن العامل الحقيقي للتغيير هو الله نفسه (يو 1: 13).
(15) التقديس بعد التجديد:
إن طبيعة الشخصية لكل من الخطية والخلاص، لا تجعل من المحتم اختبار التجديد فحسب، بل واختبار التقديس أيضًا. إن التقديس كحالة من التغيير والتطهر الداخلي، وكقوة وإرشاد بالروح القدس الساكن فينا إنما هو عطية من الله. أما كاختبار شخصي فهو يعني امتلاك طبيعة ذات ميل مثالي دائم للبلوغ إلى حياة مطابقة تمامًا لإرادة الله. وهو يتضمن الاستفادة الشخصية بكل وسائط النمو الروحي، التي أعطاها لنا الله. فعلى المؤمنين أن ينموا “في النعمة وفي معرفة ربنا ومخلصنا يسوع المسيح” (2 بط 3: 18)، وأن يكونوا “مواظبين على الصلاة” (رو 12: 12) “غير تاركين اجتماعهم معًا” (عب 10: 25)، و “أن يسلكوا في جدة الحياة بالروح” (رو 6: 4، غل5: 16، أف 5: 2)، “وان يميتوا أعمال الجسد” (رو 8: 13) مطهرين ذواتهم “من كل دنس الجسد والروح مكملين القداسة في خوف الله” (2 كو 7: 1)، وأن يضعوا كل مواهبهم في خدمة المسيح والإخوة. فهذا ما يكتبه الرسول بولس راسمًا منهجًا للسلوك الكامل الذي يجب أن يكون هدف كل سعيهم ودراستهم. وهو يثبت أن الكتاب المقدس يضع الحياة المفدية المخلصة على النقيض تمامًا من الخطية (رو12: 1 و2).
(16) غفران الخطية:
إن العمل السامي للفداء هو غفران الخطية وشفاء الخاطئ منها، وتقديس الحياة الجديدة في المسيح يسوع، فلأن الله قدوس ويحكم العالم بالقداسة، ولأنه قد طبع ناموسه على خليقته وعلى طبيعة الإنسان ولأنه لابد أن يكون صادقًا مع نفسه في قداسته وفي محبته للبشر، فيجب ألا نعتبر الغفران مجرد مسألة بسيطة من التغاضي عن الماضي، كما قد يتصور البعض. فالانتصار على الخطية قد استلزم الكفارة إذ بذل ابن الله نفسه، ولا يتحقق ذلك إلا متى أصبح الإنسان بعمل الروح القدس خليقة جديدة في موقف سليم من الإيمان والمحبة والطاعة لله.
خطية لا تُغْفَر
هي خطية التجديف على الروح القدس، وقد قال الرب يسوع إن “كل خطية وتجديف يغفر للناس، وأما التجديف على الروح القدس فلن يغفر للناس. ومن قال كلمة على ابن الإنسان يغفر له، وأما من قال على الروح القدس فلن يغفر له لا في هذا العالم ولا في الآتي” (مت 12: 31 و32، انظر أيضاً مرقس 3: 22 30، لو 11: 15 20، 12: 10). وكان ذلك رداً على اتهام الفرنسيين له بأنه “لا يخرج الشياطين إلا ببعلزبول رئيس الشياطين” (مت 12: 24، انظر مرقس 3: 22، لو 11: 15)، وذلك لن الفرنسيين لم يستطيعوا أن يروا في المسيح المسيا الموعود به، بينما كان يجب لأن يعرفوا من أسفار العهد القديم أن الروح القدس وحده هو الذي يستطيع أن يطرد الشياطين، فكانت خطية إنكار ذلك، خطية عن عمد ومعرفة لا من سهو أو جهل. وفي العهد القديم كانت هناك ذبيحة خطية عمن يخطئ سهواً، “أما النفس التي تعمل بيد رفيعة.. فهي تزدري بالرب، فتقطع تلك النفس من بين شعبها” (عدد 15: 22 30).
ويرى البعض أن هذه الخطية حدثت في ظروف معينة في أثناء حياة الرب يسوع على الأرض إذ نسبوا أعماله إلى الشيطان، وكأن المسيح كان وسيطاً للشيطان، وهو الذي “مسحه الله بالروح القدس والقوة” (لو 4: 1 و14، أع 10: 38).
وقد جاء الروح القدس “ليبكت العالم على خطية وعلى بر وعلى دينونة، أما على خطية فلأنهم لا يؤمنون بي…” (يو 16: 8)، فمن لا يصغى لتبكيت الروح القدس، وينسب ذلك التبكيت لروح شرير، إنما يفقد الفرصة للخلاص ولا يبقى أمامه سبيل للنجاة (انظر عب 6: 4 و5).
إن التجديف على الروح القدس، هو الرفض الكامل الدائم لكل عمل للروح القدس في القلب.. رفض يستمر مدى الحياة. فإذا تابَ الإنسان قبل نهاية حياته، لا يُحْتَسَب السابق خطية..
خطية للموت
وردت هذه العبارة في رسالة يوحنا الأولى (5: 14 17) في الكلام عن الثقة في الصلاة، فالمؤمن ينتظر بثقة أن يستجيب الله صلاته من أجل مؤمن آخر يقترف خطية ليست للموت، طالما أن هذه الطلبة تتفق مع مشيئة الله، ولكن “توجد خطية للموت. ليس لأجل هذه أقوال أن يطلب” (5: 16)، والمقصود بهذه الخطية التي للموت، الخطية التي يستمر المؤمن في اقترافها رغم كل تحذير وإنذار، فتسوء شهادة حياته، فلا يرى الرب بدَّا من إنهاء حياته على الأرض، فالموت هنا هو موت الجسد كما حدث مع بعض أعضاء الكنيسة في كورنثوس الذين استهانوا بعشاء الرب ولم يحكموا على أنفسهم، حتى قال لهم الرسول: “من اجل هذا فيكم كثيرون ضعفاء ومرضى وكثيرون يرقدون. لأننا لو حكمنا على أنفسنا لَمَا حكم علينا (1كو 11: 30 و31).
المرأة الخاطئة، صاحبة قارورة الطيب
Woman Who Was a Sinner ذُكِرَت قصة تلك المرأة جنبًا إلى جنب مع سمعان الفريسي صاحب المنزل في (لو 7: 36 – 50). فقد طلب سمعان الفريسي من السيد المسيح أن يأكل معه، فدخل بيته وجلس، ولكن حينما سمعت “امْرَأَةٌ فِي الْمَدِينَةِ كَانَتْ خَاطِئَةً” بوجوده، أسرعت فأحضرت “قَارُورَةِ طِيبٍ، وَوَقَفَتْ عِنْدَ قَدَمَيْهِ مِنْ وَرَائِهِ بَاكِيَةً، وَابْتَدَأَتْ تَبُلُّ قَدَمَيْهِ بِالدُّمُوعِ، وَكَانَتْ تَمْسَحُهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا، وَتُقَبِّلُ قَدَمَيْهِ وَتَدْهَنُهُمَا بِالطِّيبِ”. إلى أن سمعان عندما رأى الموقف اندهش كثيرًا وتأكَّد في نفسه أن هذا الرجل – يسوع – ليس بنبي، لأنه “لَوْ كَانَ هذَا نَبِيًّا، لَعَلِمَ مَنْ هذِهِ الامَرْأَةُ الَّتِي تَلْمِسُهُ وَمَا هِيَ! إِنَّهَا خَاطِئَةٌ” (أي امرأة سيئة السمعة).
وعندما علم يسوع بأفكاره حكى له مثل المدينان، وكيف أن محبة المدين زادت حينما سامَح شخصًا مدين له بأموال أكثر من شخص آخر. وفي هذا وضع الرب سمعان في مستوى واحد مع المرأة الخاطئة، بأن كليهما مديونان لله، في حين أن محبتها هي بالأكثر، لأنه “إِنِّي دَخَلْتُ بَيْتَكَ، وَمَاءً لأَجْلِ رِجْلَيَّ لَمْ تُعْطِ. وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ غَسَلَتْ رِجْلَيَّ بِالدُّمُوعِ وَمَسَحَتْهُمَا بِشَعْرِ رَأْسِهَا. قُبْلَةً لَمْ تُقَبِّلْنِي، وَأَمَّا هِيَ فَمُنْذُ دَخَلْتُ لَمْ تَكُفَّ عَنْ تَقْبِيلِ رِجْلَيَّ. بِزَيْتٍ لَمْ تَدْهُنْ رَأْسِي، وَأَمَّا هِيَ فَقَدْ دَهَنَتْ بِالطِّيبِ رِجْلَيَّ”.
لم يكن الأمر مجرد بكاء وطيب مسكوب، ولكنه ندم وشعور بالخطية وتوبة وطلب للغفران.. وانتهت القصة بغفران خطايا المرأة ومُسامحتها بقوله: “مَغْفُورَةٌ لَكِ خَطَايَاكِ.. إِيمَانُكِ قَدْ خَلَّصَكِ، اِذْهَبِي بِسَلاَمٍ”. وفي هذا إثبات لسلطان المسيح الإلهي بغفران الخطايا.
الخطبة | الخطوبة
كانت الخطبة تسبق الزواج، وكانت تعتبر رباطًا لا يسهل فصمه، فهي خطوة إلى الزواج (انظر تث 20: 7، 22: 23 و25 و27 و28، هو 2: 19 و20، لو1: 27، 2: 5)، وهذا ما يفسر اهتمام يوسف الشديد بالعذراء مريم ورغبته في تخليتها سرًا (مت1: 18 و19). وكان يطلق على الخاطب أحيانًا لفظ “رجل” أي زوج (تث 22: 23، مت 1: 19)، كما كان يطلق على المخطوبة أحيانًا، لفظ امرأة (تك 29: 21، تث22: 24، مت1: 20).
وكان يصحب الخطبة في غالب الأحيان – تقديم مهر مع هدايا ثمينة للعروس ولوالديها وإخوتها (تك 22: 24 و53، 12: 34، خر 16: 22 و17، هوشع 19: 2 و20)، أو القيام بخدمة معينة (تك 18: 29 و27) أو بأعمال خارقة (يش 16: 15، قض 12: 1، 1صم 25: 18).
وكان والد العروس – في بعض الأحيان – يدفع مهرًا قد يكون أرضًا عند زواجها كما حدث عند زواج عكسه ابنة كالب (قض 15: 1)، وكما حدث عند سليمان الملك من ابنة فرعون مصر (1مل 16: 9)، أو إهداء جارية كما حدث مع رفقة (تك 61: 24)، ومع ليئة وراحيل (تك 24: 29 و29).
وقد جاء في شريعة حمورابي أنه إذا فك رجل خطبته لفتاة، فلوالد الفتاة الحق في الاحتفاظ بجميع الهدايا التي قدمت للعروس، أما إذا فك أبو الفتاة خطبتها، فكان يجب عليه أن يدفع ضعف ثمن الهدايا التي أهديت للعروس. وما أشبه اليوم بالبارحة!
وقد استخدمت الكلمة مجازيًا في تصوير علاقة إسرائيل بالرب، حيث يقول الرب: “قد ذكرت لك غيرة صباك، محبة خطبتك، ذهابك ورائي في البرية في أرض غير مزروعة” (إرميا 2: 2 – انظر أيضًا حزقيال 8: 16)، ولكن بعبادة أمة إسرائيل للأوثان، صارت زوجة زانية فيرفضها الرب، ولكنه سيعود أخيرًا ويلتصق بها (هو 2: 2 و16 – 23).
كما يقول الرسول بولس للكنيسة في كورنثوس: “لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدام عذراء عفيفة للمسيح” (2كو 2: 11، انظر أف 25: 5 – 32، رؤ 6: 19 – 8).
الخَطِيب
ورد هذا الوصف مرة واحدة في العهد الجديد حيث أطلق على ترتلوس الذي استخدمه رئيس الكهنة والشيوخ ليعرض اتهامهم لبولس أمام فيلكس الوالي في قيصرية (أع 1: 24). ويظن البعض أنه من حيث أنها كانت قضية قانونية أمام محكمة رومانية، فلا بد أنها كانت تعرض باللغة اللاتينية، ولهذا لزم لليهود أن يستعينوا بمحام يتكلم اللاتينية، ولكن يبدو أن ترتلس كان يهوديًا، وأن المرافعات كانت باليونانية، التي يبدو أن بولس دافع بها عن نفسه (أع 10: 24).
خاطرات
خطر في مشيه خطراً وخَطَراناً اهتز وتبختر، وهكذا وصف الرب بنات صهيون اللواتي “يتشامخن ويمشين ويخشخشن بأرجلهن” (إش 16: 3)، أي أنهن بنات خليعات يمشين متبخترات ليستلفتن أنظار الرجال.
مخطوطة
تطلق كلمة مخطوطة على أي نسخة مكتوبة باليد، وقد كانت كل الوثائق والرسائل والكتب تكتب باليد بواسطة نسَّاخ محترفين، وذلك قبل اختراع “جوتنبرج” Gutenberg للطباعة في القرن الخامس عشر ميلادي.
وكانت تصنع المخطوطات من مواد مختلفة مثل ألواح الخزف والشمع والجلود وقطع الفخار والقماش ولحاء الشجر. وكان اليهود عادة يستخدمون لفائف من الجلود لمخطوطات الأسفار المقدسة. وظلت الأوراق المصنوعة من بنات البردي أهم مواد الكتابة طيلة أربعة آلاف عام. ثم استبدلت اللفائف بالكتب منذ أوائل العصر المسيحي، كما حلت الرقوق محل الأوراق المصنوعة من البردي منذ أوائل القرن الرابع الميلادي. ثم دخلت صناعة الورق نقلاً عن الصين إلى العالم الغربي عن طريق العرب في نحو القرن الثاني عشر الميلادي.
وتزيد مخطوطات الكتاب المقدس في أعدادها عن مخطوطات أي كتاب آخر، حيث أن الكثير من كتب التراث لا يوجد إلا في مخطوطة واحدة أو في عدد قليل من المخطوطات، أما مخطوطات الكتاب المقدس القديمة فتبلغ بضعة آلاف يوجد بعضها في شكل قصاصات والبعض الآخر في نسخ كاملة سواء في لغاتها الأصلية أو في ترجمات قديمة مختلفة.
مخطوطات العهد القديم
أولاً الموقف الحالي: يبدو أن الأبحاث في تاريخ نصوص العهد القديم قد وصلت في أوائل القرن العشرين إلى طريق مسدود في اتجاهين هامين. فمن ناحية نجد أن الدراسة المقارنة التي قام بها كل من “كينيكت” (Kennicott) و “دي روسي” (D e Rossi) ونشرها في أواخر القرن الثامن عشر بعد مقارنة مئات المخطوطات أظهرت أن الاختلافات التي بينها قليلة ولا أهمية لها بالنسبة للنصوص العهد القديم، ومن ثمَّ كانت هناك ثقة كاملة بصحة نصوص العهد القديم وأنها لم تتغير منذ مئات السنين.
ومن ناحية أخرى يبدو أنه لم تكن هناك طريقة لتقصي الأمر بكل يقين الى زمن أسبق من تاريخ المخطوطات التي كانت متاحة في ذلك الوقت وكانت ترجع في غالبيتها إلى ما بعد عام 1100م، وكان القليل منها يرجع إلى ما قبل هذا التاريخ، ولكن لم تكن هناك مخطوطة ترجع إلى ما قبل عام 900م، فكان تاريخ النصوص العبرية قبل هذا التاريخ مسألة تخمين إلى حد كبير مع قليل من الأمل في أن يلقي عليها المستقبل ضوءاً أكثر.
ولكن هذا الموقف قد تغير الآن إلى حد بعيد فإن مخطوطات البحر الميت التي بدأ اكتشافها في عام 1947م تعتبر مجموعة ضخمة من مادة غزيرة من الماضي البعيد تلقي ضوءاً ساطعاً على تاريخ نصوص العهد القديم، كما تم أيضاً اكتشاف مادة جديدة، اكتشف بعضها قبل مخطوطات البحر الميت، لكنها لم تدرس من قبل دراسة كافية. فقد قام إبراهيم فيركوفيتش (Virkovitch) في القرن التاسع عشر بجمع عدد ضخم من مخطوطات العهد في مكتبة ليننجراد، ولكن لم يعرف العالم الغربي سوى القليل عن نتائج دراستها، كما اكتشف في خزانة معبد اليهود بالقاهرة (Cairo Geniza) ما يقرب من مائتي ألف قصاصة وقطعة من المخطوطات العبرية والأرامية مختلفة الأشكال، نقلت إلى المتاحف والمكتبات الغربية، ولكن تأخرت دراستها دراسة شاملة.
كما أن هناك مصدراً آخر لمعلومات جديدة لم يكن متاحاً من قبل، وهو مخطوطة العهد القديم التي كانت محفوظة في مجمع السفارديم (الكتبة) في حلب. وكان العلماء – في أوائل القرن العشرين – يعتقدون أن هذه المخطوطة كتبها “هارون بن أشير” أحد علماء اليهود البارزين، ومن ثم فهي تعتبر أهم دليل على سلامة النص الماسوري، إلا أنه لم يكن من الميسور الحصول عليها لدراستها، لأن من كانت في حوزتهم لم يسمحوا لأحد بدراستها أو تصويرها. ولكن بعد احتراق مجمع حلب في مظاهرات 1948م، خُشي أن تكون هذه النسخة – التي لا يمكن أن تعوض – قد تعرضت للضياع أو ذهبت طعمة للنيران، ولكن ظهر فيما بعد أنه قد تم انقاذ ثلاثة أرباعها ونقلت الى أورشليم حيث تدرس الآن بعناية فائقة.
ثانياً: مسح موجز لتاريخ النص العبري:
(أ) الفترة بين كتابة الأسفار المقدسة حتى خراب أورشليم في عام 70م: لم يكن هناك – قبل اكتشاف مخطوطات البحر الميت – مرجع أكيد مباشر سوى ما يمكن تجميعه من مقارنة النصوص بأسفار موسى الخمسة في النسخة السامرية، أو بمقارنتها بالترجمة السبعينية، وهو ما سيتم تناوله تحت عنوان “الترجمات”. ويكفينا هنا أن نذكر أننا لا نعالج هنا تاريخاً لكتب عادية بل تاريخ كتب على أكبر قدر من الأهمية، فالمسيحيون يؤمنون أن هذه الكتب كتب مقدسة منذ كتابتها، فقد أوحى الله بها إلى كاتبها وحفظهم من الخطأ فيما كتبوه، وقد اختارهم أناساً ذوي خبرات وخلفيات خاصة وشخصيات قوية تؤهلهم لتدوين ما يريده هو. كما أرشدهم أيضاً إلى ما يكتبون وأعلن لهم الكثير من الحقائق والأفكار الجديدة، ووجه نشاطهم وعملهم حتى لا يخطئوا في اختيار الكلمات الدقيقة للتعبير عن هذه الحقائق والتعاليم والأحكام. وهذه الكتب – حسب العقيدة المسيحية – قد سلَّمها كَّتابها لشعب الله باعتبارها كتباً إلهيه لا بد من المحافظة عليها جيداً ودراستها بعناية.
وهذا ما نجده مسطوراً في أسفار الناموس التي أمر موسى أن يحفظ نسخة منها في قدس الأقداس (تث 26: 31)، كما أوجب أن تكون هناك نسخة منها أمام الملك على الدوام ليدرسها بعناية ويسلك بمقتضاها في كل أوجه نشاطه (تث 18: 7 و19).
ونظراً للمكانة السامية المقدسة لهذه الكتب، فلا بد أنها حفظت بعناية فائقة، ولكن ليس معنى ذلك أنه لم يتسرب إلى النصوص أي خطأ، فالكتاب المقدس ظل ينسخ باليد من نسَّاخ مختلفين مراراً بلا عدد على مدى قرون طويلة، ومن المستحيل أن يقوم إنسان بنسخ أي كتاب دون أن يقع منه أي خطأ، فمهما كانت الدقة والمراجعة، لابد أن تفلت بعض الأخطاء وتجد طريقها الى المخطوطات الرسمية التي تحتفظ بها قادة الأمة. ولكن مما لا شك فيه أن هذه النسخ الرسمية التي أُعدت وروجعت بعناية فائقة، تكاد تخلوا من الأخطاء أو لم يتسرب إليها سوى أقل القليل من الأخطاء، ولا بد من وجود بعض الاختلافات بين النسخ المعدة للأفراد والمنتشرة على نطاق واسع في طول البلاد وعرضها. ومع أنه لا يوجد ثمة دليل صريح معاصر، إلا أن اكتشافات خرائب قمران (فيما بين 1947 – 1956) بالقرب من البحر الميت – حيث وجدت غرفة لحفظ مخطوطات أسفار الكتاب المقدس، وحيث كانت تنسخ هذه المخطوطات باستمرار لأعضاء هذه الجماعة المتنسكة – تبين مدى انتشار الكتب المقدسة في القرون التي سبقت ولادة المسيح مباشرة، ولا بد أنها كانت قد انتشرت على هذا المنوال في القرون السابقة. وكانت هذه النسخ غالية الثمن جداً، فكان غالبية سكان الجهات النائية – بدلاً من السفر إلى أورشليم وتكبدهم للنفقات الباهظة للحصول على نسخة منقولة عن نسخة رسمية – يكتفون بشراء نسخة منقولة عن نسخة محلية، مما كان لا بد معه من تسرب الأخطاء بمرور الوقت، وهكذا نشأت مجموعات (مدارس) مختلفة من المخطوطات، كما حدث مع أسفار العهد الجديد.
لكن فبل اكتشاف مخطوطات وادي القمران، لم يكن هناك أي دليل عبري على حدوث مثل هذه التطورات، ولكن الاختلافات بين النصوص في الترجمة السبعينية والتوراة السامرية، أوضحت احتمال وجود مثل هذه المجموعات (المدارس) من النصوص في الأجزاء المختلفة من البلاد، ومما لاشك فيه أن الأخطاء في النص الرسمي الذي كان محفوظاً في أورشليم، كانت أقل ما يمكن.
(أ) الفترة من خراب أورشليم حتى 900م: ظهرت في تلك الحقبة الأهمية القصوى للأسفار المقدسة، فقد كان من الممكن أن يفقد اليهود هويتهم تماماً بعد تدمير الهيكل وخراب أورشليم، لولا اهتمامهم الشديد بوحدتهم الدينية وبأسفار العهد القديم كأساس لهذه الوحدة. فاجتمعت فرق من الربيين (المعلمين اليهود) في مختلف مناطق فلسطين لدراسة المشاكل المتعلقة بالعهد القديم، وللوصول إلى نتائج يستطيعون الدفاع عنها في علاقاتهم باليهود الآخرين وغيرهم. وكان أحد أهدافهم الأساسية هو المحافظة على سلامة الأسفار المقدسة.
وفي خلال القرون السابقة وخلال شطر كبير من هذه الفترة، كان يطلق على القائمين بهذا العمل اسم “السوفريم” أي “الكتبة” ثم أطلق عليهم أخيراً اسم “الماسوريين” (masoretes) أي “أساتذة التقليد”.
وقد أكد أكيبا (Akiba) – أحد قادة الربيين في بداية هذه الحقبة أهمية استخدام التقليد “كسور حول الشريعة” لحفظ سلامتها. ولكي يحققوا ذلك، أخذ الكتبة في إحصاء عدد الحروف وعدد الكلمات وعدد الآيات في كل جزء مع تحديد الحرف الأوسط والكلمة الوسطى في كل جزء أيضاً، وتسجيل كل الملحوظات والحقائق المرتبطة بهذا الغرض، ولا نعلم سوى القليل جداً عن جهودهم الشاقة في هذا السبيل رغم أن بعض مناقشاتهم مسجلة في التلمود، والكثير من العلامات التي وضعها الكتبة في مواضع مختلفة من الأسفار وبعض الحواشي قد أدمجت في النسخ الماسورية المتأخرة، رغم أن معاني البعض منها وكذلك الهدف منها كانت قد نسيت في ذلك الوقت.
ولسنا نعلم متى بدأ استخدام لقب “ماسوري”. ولكن في نحو 800م أطلق هذا اللقب – بدلاً من لقب “الكتبة” – الذين كرسوا أنفسهم للمحافظة على الأسفار المقدسة. وكانت أمامهم مسائل كثيرة تقتضي المعادلة، ومن أهمها الاهتمام بالنطق السليم للكلمات، وطريقة تلاوتها في أثناء الخدمة، وبخاصة إذا علمنا أنه لم تكن تكتب سوى الحروف الساكنة، ولقد بذلت مجهودات عظيمة في ذلك العمل فيما بين 800، 900م. وقد لقيت النتيجة التي توصلوا إليها قبولاً واسعاً، فحلت محل غالبية المخطوطات السابقة. ونظراً لأنهم (الماسوريين) قد قاموا بعملهم على أكمل وجه، لم يعد يطلق هذا اللقب على أحد فيما بعد ذلك، وأصبح هذا النص العبري يعرف باسم “النص الماسوري”.
وأطلق فيما بعد على العلماء الذين اهتموا بدراسة أعمال الماسوريين والمحافظة على سلامة النصوص، لقب “النحويين” أو “المرقمين” (أي واضعي علامات الترقيم). وفي القرون التالية تم نسخ العديد من المخطوطات نقلاً عن النص الماسوري، وهي متناسقة إلى أبعد حد رغم كتابتها في مناطق متباعدة من العالم. ولقد وضع دارسوا العهد القديم والمخطوطات نظريات عديدة عن علاقة النص الماسوري بالنص الأصلي للأسفار، سنعرض لها فيما بعد.
ثالثاً: الكتابة بالحروف الساكنة وأهمية الحروف المتحركة:
إن الكتابة تقصر بعض الشيء عن نقل ألفاظ المتحدث ونبراته، فالتعبير الشفوي فيه عدة ملامح لا يمكن تسجيلها كتابة، وقد أدخلت في اللغات الحديثة علامات الترقيم لتعطي فكرة أدق للتعبير عن نبرات صوت المتحدث. وهذه العلامات لم تكن معروفة في اللغة العبرية القديمة، بالإضافة إلى أن للكتابة في اللغات السامية القديمة لم تكن تعبر عن كل الفكرة كما تعبر عنها اللغات الحديثة، نظراً لأنه في غالبية الأحوال لم تكن تكتب من الكلمة سوى الحروف الساكنة (فيما عدا الخط المسماري)، ولم يكن ثمة سوى القليل من الحروف المتحركة، أو لم يكن هناك شيء منها على الإطلاق. ولم يكن هذا عيباً كبيرًا فيها، كما هو الحال في معظم اللغات الحديثة، وذلك لأن جذور الكلمات في اللغة السامية كانت تتكون من حروف ساكنة، ولم تكن وظيفة الحروف المتحركة إلا تسهيل نطق الحروف الساكنة، ونقل فكرة عن صورة الحديث وزمنه وصيغته وأُسلوبه وكل ما يتعلق به، بل حتى اللغات الهندوأوربية لا تصعب قراءتها بدون حروف متحركة.
ولكن الكلمة المكتوبة بالحروف الساكنة فقط بدون حروف متحركة يمكن النطق بها بطرق مختلفة، ولكن من سياق الكلام يمكن أن نتبين نطقها الصحيح.
وبعد السبي البابلي حلت اللغة الأرامية تدريجياً محل اللغة العبرية، حتى صار استعمال العبرية في النهاية قاصراً على الأغراض الدينية والأدبية فقط. واستمر استخدامها في خدمة المجمع، كما كان الناس يقرأون أسفار العهد القديم في بيوتهم بالعبرية. وقد سمع الأطفال ذلك النص مراراً وأصبح هناك ميل إلى الحفاظ على هذا التقليد شفوياً حيث كانت تنطق الحروف المتحركة في مواضع محددة. ومن الطبيعي جداً أن يتغير نطق الحروف الساكنة والمتحركة عبر القرون الطويلة، متأثرة في ذلك باللغة العامية المستخدمة في الحديث، سواء في الأرامية أو اليونانية أو العبرية. وأخيراً تبين لحراس الكتب المقدسة، ضرورة إيجاد طريقة أفضل لإحكام نطق الحروف المتحركة بدلاً من مجرد وجود هذه الحروف أو عدم وجودها، فاهتدت مراكز العلم اليهودية في بابل، إلى نظام وضع النقط أو بعض العلامات الأخرى فوق حروف معينة لتدل على الحرف المتحرك التالي ونشأ في فلسطين نظام آخر شبيه إلى حد ما بالسابق. ثم نشأ نظام ثالث في طبرية في فلسطين، استبدلت فيه العلامات التي كانت توضع تحت الحروف الساكنة في النظام السابق، بعلامات توضع فوقها، وسرعان ما ساد هذا النظام، واستخدم فيما بعد ذلك في نسخ المخطوطات ثم في طباعة الكتب العبرية.
رابعاً: أنواع المخطوطات: هناك نموذجان للمخطوطات العبرية، أولهما كان للاستخدام في المجمع، والثاني للاستخدام الفردي. وكانت مخطوطات المجمع تشمل أحياناً على الأجزاء المختارة من العهد القديم للقراءة في العبادة المنتظمة في المجمع. أما أسفار موسى الخمسة فكانت في مخطوطة واحدة لأنها كانت تقرأ بانتظام كل يوم سبت. ومع القراءة الأسبوعية المنتظمة من أسفار الناموس، أصبح من المعتاد قراءة فقرات مناسبة من القسم الثاني من التوراة العبرية الذي يعرف باسم “هفتاروث” (Haphtaroth)، سبق إختيارها منذ وقت مبكر. وكانت هذه المختارات تدون أحياناً في درج واحد. فمثلاً سفر أستير الذي يقرأ في عيد الفوريم والكتب الأربعة الأخرى والتي تقرأ في أعياد معينة، جمعت في أدراج مستقلة عرفت باسم “مجلوت” أي “الأدراج”.
ويذكر التلمود القواعد الدقيقة التي كانت تنسخ بموجبها مخطوطات المجمع، التي كانت تكتب على شكل أدراج أو لفائف وليس على شكل الكتب الحديثة، وكانت تستخدم لكتابتها رقوق من جلود حيوانات طاهرة، وكان لابد لكتابة النص بعناية فائقة، باستخدام الحبر الأسود الذي يمكن إزالته، وبدون كتابة حروف متحركة أو علامات التشكيل. ولم يكن الناسخ يكتب حرفاً واحداً دون الرجوع الى الأصل الذي ينقل عنه. أما الكلمات الغربية والنقط الشاذة والحروف غير العادية في حجمها أو موضعها أو شكلها، فكان يلزم كتابتها بعناية بالغة، وكان يجب أن تراجع المخطوطة في غضون ثلاثين يوماً من كتابتها، وتعدم الصفحة إذا وجد بها أربع أخطاء.
والنسخ المتاحة الآن للدراسة من مخطوطات المجامع قليلة، فلخوفهم عليها من انتهاك قدسيتها، كانوا يعدمونها إذا ما تهرأت من كثرة الاستعمال.
أما النسخ الخاصة بالأفراد سواء للدراسة أو القراءات العائلية، فكانت غالية الثمن لأنها منسوخة باليد. أما علية القوم فكانوا يستأجرون كتبة ممتازين ينسخوا لهم الأدراج ويراجعوها بدقة فائقة. وهناك نسخ تبدو العجلة في كتابتها. وعدد النسخ الخاصة أكبر بكثير من نسخ المجامع، لأن اليهودية كانت تفرض على كل يهودي أن تكون عنده نسخة واحدة – على الأقل – من الشريعة.
وكانت النسخ الخاصة تشتمل على كل العهد القديم أحياناً، ولكنها في أغلب الأحوال كانت تضم جزءاً منها أو سفراً واحداً. ورغم وجود هذه المخطوطات – في بعض الأحيان – على شكل لفائف، لكنها كانت عادة على شكل كتب من مختلف الأحجام. وكانت المخطوطة أحياناً من رقوق أو جلود، ولكنها كانت في الغالب من نسيج من القطن، كما كانت الكتابة عليها بالحبر الأسود وبالحروف المتحركة وعلامات التشكيل. كما كانت حواشيها العليا والسفلى والجانبية تشتمل على تعليقات “ماسورية” وقراءات مختلفة. ونجد – أحياناً – بجوار النص شرحاً لأحد الربيين البارزين. كما كانت كثيراً ما تشتمل على ترجمة للنص إما بالأرامية (الترجوم) أو بالعربية أو بلغة أخرى. وكانت الحروف الساكنة تكتب أولاً – عادة – أما الحروف المتحركة وعلامات التشكيل فتضاف في مرحلة تالية بمعرفة شخص آخر غير الناسخ الأصلي – في أغلب الأحيان – وبقلم وحبر مختلفين أيضاً.
وكثيراً ما كانت تتداول المخطوطة الواحدة أياد كثيرة في أثناء إعدادها، فواحد يكتب الحروف الساكنة، وثاني يضيف الحروف المتحركة، ثم يأتي ثالث لمراجعتها، ورابع يضيف الحواشي، وخامس يعيد ما انطمس بفعل الزمن أو لكثرة الاستعمال. وكثيراً ما كانت تزخرف الكلمات أو الحروف الأساسية، بالإضافة إلى تزيين الهوامش بصور الأزهار أو الأشجار أو الحيوانات. وكثيراً ما كانت المخطوطة تشتمل في ختامها على حاشية بأسماء من قام بالعمل فيها مع بعض معلومات أخرى عن المخطوطة.
ويعسر كثيراً تحديد عمر المخطوطة العبرية وذلك لأن المخطوطات كانت تنسخ في أماكن عديدة، بالإضافة الى اختلاف شكل الكتابة باختلاف الأماكن، فليس من السهل تحديد عمر المخطوطة بدراسة طريقة الكتابة. ولكن كانت الحاشية الأخيرة – في بعض المخطوطات – تحدد زمن كتابة المخطوطة، ولكن كثيراً ما كانت تغفل كتابة ذلك، أو تكتب في صورة يصعب فهمها، فقد تكون السنة المذكورة منسوبة الى بدء الخليقة – على حسب زعمهم – أو إلى خراب الهيكل الثاني، أو حسب التقويم الهجري في بعض المخطوطات المكتوبة في البلاد العربية، أو بالنسبة لعصر السلوقيين، وهو ما كان يحدث كثيراً.
وكثيراً ما كانت تغفل كتابة رقم الالاف للسنين، بل وأحياناً رقم المئات أيضاً، كما يحدث أحياناً الآن. كما أن الحاشية الأخيرة قد تكون منقولة – كما هي – عن نسخة أقدم. ولحسن الحظ نجد بعضها يسجل تاريخين أو ثلاثة تواريخ أو أكثر مما يساعد كثيراً على تحديد التاريخ المقصود. فعلى سبيل المثال، نجد في حاشية مخطوطة ليننجراد> B19a <أنه قد تم إعداد هذه المخطوطة في: (1) سنة 4770من خلق العالم، (2) في سنة 1444من سبي يهوياكين، (3) في سنة 319من الإمبراطورية اليونانية، (4) في سنة 940من تدمير الهيكل الثاني، (5) في سنة 399من حكم القرن الصغير.
وطبقاً للتقدير اليهودي لتاريخ خلق العالم فإن أول هذه التواريخ يوافق عام 1010م، أما التاريخ الثالث – إذا اعتبرنا رقم الآلاف محذوفاً – فإنه يوافق 1008م (1319سنة بعد سنة 312ق. م.). أما التاريخ الرابع فيوافق سنة 1009م. أما الخامس والخاص بتاريخ القرن الصغير، فيوافق – حسب التقويم الهجري لأنها كتبت في طبرية في أثناء حكم العرب – 1008م. أما التاريخ المحسوب من سبي الملك يهوياكين فلا يتفق مع التواريخ الأخرى، ولعل السبب في ذلك هو خطأ العبارة الواردة في الترجوم بأن العصر الفارسي (الذي امتد من 539ق. م. حتى 331ق. م) لم يدم سوى جيل واحد. واتفاق أربعة تواريخ يجعل الرأي المقبول لتاريخ هذه المخطوطة هو 1008م.
خامساً: أقسام الأسفار الإلهية: إن تقسيم الكتاب المقدس إلى أصحاحات وأعداد (آيات) لم يكن معروفاً حتى القرن السادس عشر الميلادي. فقد كتبت الأسفار المقدسة أصلاً بغير أقسام فرعية، بل وبلا عناوين عادة. وكان يطلق على السفر قديماً الكلمات الافتتاحية له.
وأول تقسيم للنص العبري كان تقسيمه إلى آيات غير مرقمة، ولعل ذلك قد تم في زمن مبكر جداً. وقد اكتشفت مؤخراً مخطوطة يرجع تاريخها إلى ما قبل ميلاد المسيح بقليل، مقسمة إلى آيات، تكاد تتفق مع ما في النسخ العبرية الحديثة للعهد القديم، دون أي إشارة إلى ترقيم، وبدون التقسيم إلى أصحاحات. وبينما نجد التقسيم إلى آيات محكماً على وجه العموم، إلا أن هذا لا يتوفر في كل الحالات، فقد نجد الآية الواحدة تضم جملتين مستقلتين، بينما لا تشتمل آية أخرى إلا على جزء صغير من جملة. ولعل أوضح مثال لذلك هو مز 19: 4 حيث تضم هذه الآية الكلمات القليلة الأخيرة من جملة (في الآية السابقة) والكلمات القليلة الأولى من الجملة التالية.
وكانت الخطوة التالية هي تقسيم كل أسفار العهد القديم (ما عدا سفر المزامير الذي كان مقسماً بطبيعته) إلى 452 قسماً تسمى “سداريم” أي “الترتيب” منها 154 قسماً للأسفار الخمسة الأولى. ويقال أن يهود فلسطين اعتادوا أن يقرأوا بالتتابع جزءاً منها كل أسبوع في خدمات المجمع إلى أن ينتهوا من أسفار موسى في ثلاث سنوات. وظلوا هكذا حتى نهاية القرن الخامس عشر عند طرد اليهود من أسبانيا، فتغيرت هذه العادة إلى قراءة كل الأسفار الخمسة في خلال عام واحد فقط.
ثم قسمت أسفار موسى الخمسة بعد ذلك إلى أربعة وخمسين جزءاً حتى يمكن قراءتها في أيام السبوت في خلال عام واحد تقريباً. وتتفق نهايات هذه الأقسام الكبيرة مع نهايات كل ثلاثة من الأقسام الصغيرة. وما زالت هذه الأقسام مستخدمة في التوراة العبرية.
أما التقسيم إلى أصحاحات فلم يتم إلا في القرن الثالث عشر الميلادي، ويرجح أن الذي قام به رئيس أساقفة إنجليزي، قام به أولاً في الكتاب المقدس في اللاتينية، ولم يلبث اليهود أن أدركوا قيمة هذه التقسيمات فعملوا بها في كتبهم بنفس التقسيم الذي قام به ذلك الأسقف مع بعض التعديلات القليلة.
ولقد كان سفر صموئيل الأول والثاني في الأصل سفرًا واحدًا ولكن تم تقسيمه إلى سفرين مستقلين عند طباعة الكتاب المقدس في القرن السادس عشر، وهو ما حدث أيضاً بالنسبة لسفري الملوك الأول والثاني، وسفري أخبار الأيام الأول والثاني.
سادساً: عمل الكتبة: إن الرجال الذين كرسوا أنفسهم للمحافظة على الأسفار المقدسة ونقلها، منذ زمن عزرا الى زمن “الماسوريين”، يطلق عليهم في المخطوطات العبرية اسم “السوفريم” (Sopherim) أي “الكتبة”. وقد يوحي هذا الاسم بأنهم لم يكونوا سوى “نسَّاخ” والكلمة العبرية التي تعني “يكتب” هي “كَتَبَ” (كما في العربية)، وترد أكثر من مائتي مرة في العهد القديم، أما كلمة “سافار” (التي جاء منها الاسم “السوفريم”) فمعناها “يحصى”. وقد جاء في التلمود بأن حافظي الكتب يدعون “سوفريم” لأنهم يحصون الحروف والكلمات في كل قسم من أقسام الكتاب المقدس. وفي الواقع لم يكن “السوفر” مجرد ناسخ بل كان يعد القوائم ويتابع التفاصيل ويشرف على مختلف أوجه العمل. وأصبح الاسم أخيراً يطلق على كل من يكرس نفسه لكل عمل شرعي أو أدبي.
وفي أثناء تلك الحقبة الطويلة التي سبقت زمن “الماسوريين” لم تسجل سوى معلومات قليلة عن أنشطة الكتبة فيما يتعلق بالأسفار المقدسة، ولكن يمكن استنتاج الكثير من المعلومات عن نشاطهم مما سجلوه على شكل علامات أو حواشٍ.
ومن الواضح أنهم في سعيهم للمحافظة على سلامة النص من التغيير أو الإضافة كانوا يحصون عدد الكلمات في كل قسم وعدد الآيات والفقرات، وى. وكانوا يكتبون أحياناً ملحوظات في الهوامش أو يكتبون حروفاً معينة بطريقة غير مألوفة، أو يضعون نقطاً أو غيرها من العلامات في أماكن مختلفة. وكانت هذه الملحوظات الغريبة تنسخ في المخطوطات الجديدة، وهكذا احتفظت بها مخطوطات الماسوريين ولو أن القصد من البعض منها قد طواه النسيان.
سابعاً: أعمال الماسوريين: إن أصل كلمة “ماسوري” غير معروف على وجه الدقة، ولكن المعتقد بصفة عامة أنها مشتقة من الأصل العبري “مازار” والتي تعني “ُيسلِّم” ومنه اشتق الاسم “ماسورا” للدلالة على التقليد المُسلَّم من جيل الى آخر من أجل المحافظة على الناموس. ومن غير المعروف متى أطلق على حفظة الناموس اسم “الماسوريين”، ولكن بحلول عام 920م، اعتبروا أن “الماسوريين” قد أتموا عملهم ولم يعد هذا الاسم يستخدم بعد ذلك.
كانت هناك مجموعات نشطة من الماسوريين في بابل وفي فلسطين، ومع أنه كان للتلمود والترجوم اللذين صدر في بابل، أفضلية عند كل اليهود عن نظيريهما اللذين صدر في فلسطين، إلا أن الوضع اختلف فيما يختص “بالماسوريين”، فعلى الرغم من أن “الماسوريين” البابليين أنجزوا الكثير، إلا أن ما قامت به جماعة الماسوريين في طبرية، حاز القبول عند كل اليهود وأصبح معتمداً لدى الجميع. وقد وصلت إلينا أسماء الكثيرين من الماسوريين في طبرية، وكان أبرزهم أفراد عائلتي “ابن أشير وابن نفتالي”. ولقد استمر نشاط أسرة “ابن أشير” على مدى خمسة أجيال من 780م الى نحو 920م.
ويمكن وضع المهام التي أنجزها “الماسوريون” تحت أربعة عناوين رئيسية:
الأولى: وهي الأهم، هي مواصلة العمل الذي كرس الكتبة له أنفسهم، وهو العمل على الحفاظ على سلامة نصوص الأسفار المقدسة، ولأجل هذا أحصوا عدد الحروف والكلمات والآيات والأقسام في كل سفر، وحددوا الكلمة التي تقع في منتصف كل منها. كما أشاروا إلى الصيغ الغريبة أو غير المألوفة، ومرات تكرارها. وما من سبيل لمعرفة كل ما أنجزوه وما أنجزه من سبقوهم من الكتبة. فالكثير من إشارات الترقيم والعلامات الخاصة التي وضعها الكتبة، قام الماسوريون بنقلها كما هي، حتى وإن كانوا لم يدركوا – أحياناً – الغرض منها.
ولقد قام الماسوريون بتجميع قدر هائل من المواد من هذا النوع، أصبحت تعرف باسم “الماسوراه”، والملاحظات التي وضعوها على الهوامش الجانبية تعرف باسم “الماسوراه الصغيرة”، أما الملاحظات المسجلة في أعلى الصفحة وأسفلها فتعرف باسم “الماسوراه الكبيرة”، ويطلق نفس الاسم – أحياناً – على الملاحظات المسجلة في نهاية كل سفر والتي كثيراً ما تسمى “بالماسوراه النهائية”. والكثير من هذه المادة مكتوب بلغة موجزة، ونصفها تقريباً بالعبرية والباقي بالأرامية، وتعد كلتاهما من اللغات الميتة منذ القرن التاسع الميلادي.
أما المهمة الثانية للماسوريين فكانت توحيد نطق الكلمات العبرية في العهد القديم، فبمرور الزمن نشأ ميل لإغفال الحروف المتحركة التي يجب نطقها مع الحروف الساكنة المكتوبة، وبدأ نطق الكلمات يختلف بإختلاف طريقة الحديث في الأقاليم المختلفة، بل إن القواعد النحوية نفسها شابها بعض الخلط، نتيجة لما حدث في نطق الكلام، ولذلك تصدى الماسوريون لهذه المهمة الخطيرة والمعقدة، ووضعوا ثلاثة نظم للنطق، ولكن تفوَّق منها نظام طبرية، والدراسة المتأنية لقواعد النحو، والبحث عن تقاليد النطق السليم أديا في بعض النقاط إلى العودة الواعية إلى الصور والممارسات التي كانت في القرون السابقة، ولكنها كادت تختفي. ويقول “بول كال” (Paul Kahle) إن الماسوريين قد نقلوا عن السريانية بعض القواعد مثل الحروف المشددة النطق. ولما أتموا ذلك العمل الضخم في تقنين قواعد اللغة مع الحفاظ على التقليد المؤكد، وتحقيق طريقة النطق السليم لكل كلمة، وضعوا علامات على كل كلمة لنطق الحروف المتحركة في التوراة العبرية.
وتضمن الجزء الثالث من عمل الماسوريين تقديم الإرشادات للقارئ عن الحالات التي تفضل فيها التقاليد الأكيدة قراءة كلمة بطريقة تبدو غير مناسبة لنص الحروف الساكنة. ويبدو من الواضح أن الماسوريين أصروا على عدم إحداث أي تغيير في النص الذي تسلموه. ومع ذلك فهناك بعض الحالات التي اعتادوا فيها القراءة بطريقة مغايرة. فقد اعتادوا – على مدى قرون – إلا ينطقوا لفظ الجلالة “يهوه”، بل كانوا يستعيضون عنه بكلمة “الاسم”. وقبل ميلاد المسيح أصبح من المعتاد استبدال لفظ الجلالة بكلمة “أدوناي” (السيد أو الرب) ما لم يكن هذا الاسم قد سبق وروده مرتبطاً بلفظ الجلالة، وفي هذه الحالة كانوا يستبدلونه بكلمة “إلوهيم” (الله). وفي مثل هذه الحالات كان الماسوريون يضعون الحروف المتحركة في كلمتي “أدوناي” و “إلوهيم” على الحروف الساكنة الموجودة بالمتن، وهكذا أصبحت هذه القراءة الدائمة.
أما العمل الرابع للماسوريين، فلعله كان أكثر المهام استنفاداً للوقت، ولكنه أقلها أهمية بالنسبة للدارسين، ألا وهو العلامات اللازمة للمنشدين. فقد استقر الأمر – على مدى قرون – أن ينشد جزء على الأقل مما يتلى من الأسفار الإلهية في المجمع. ولكي يضع الماسوريون معياراً دقيقاً، اخترعوا نظاماً معقداً من علامات التنغيم، وأهمها علامة الوقف.
إنه لأمر يسير أن نتبين أنه بإضافة علامات التشكيل والحروف المتحركة، تزايدت الصعوبة في الحفاظ على النص، فمع أن كل المخطوطات الماسورية متفقة تماماً في الحروف الساكنة، إلا أنه من الطبيعي أن تنشأ أساليب عديدة للحفاظ على هذه الصور الجديدة.
وتتضمن “الماسوراه الكبيرة” إشارات الى عدد من المخطوطات التي لها اعتبارها الكبير، ولكن للأسف ضاعت كل هذه المخطوطات التي سبقت المخطوطات الماسورية. وتعد “المخطوطات الهليلية” – التي تنسب إلى “هليل” أحد الربيين الذي عاش في نحو 600م – من أعظم هذه المخطوطات. وهناك مخطوطات أخرى عرفت بأسماء مواطنها مثل مخطوطات أريحا وأورشليم وسينا وبابل.
استطاع ماسوريو طبرية بوضع النظام الجديد لحركات التشكيل والحروف المتحركة أن يبتكروا نموذجاً من المخطوطات أصبح هو الصورة المعتمدة في كل العالم اليهودي. ومع ذلك لم يكن كل ماسوري طبرية على اتفاق تام في كل تفاصيل هذا العمل. ومع بداية القرن العاشر، تمثلت هذه الاختلافات في منهجين، أحدهما ينتسب إلى ابن أشير، والآخر إلى ابن نفتالي. ولذلك فالمخطوطات التي كتبت في القرنين التاليين، دونت في حواشيها إشارات متكررة إلى القراءات المختلفة في كل منهما. ولم يلبث الكتَّاب أن شرعوا في عمل قوائم بهذه الاختلافات، وللأسف اختفت معظم هذه القوائم، ولكن اكتشفت مؤخراً قصاصات من عدة نسخ من كتاب يعالج هذا الموضوع، أمكن بتجميعها الوصول إلى القائمة كاملة، والكتاب بقلم كاتب اسمه “ميخائيل بن عزيئيل” وعنوانه “كتاب الخلاف”، وفيه يسجل 875 اختلافاً بين المنهجين. وتتعلق كل هذه الاختلافات من الناحية العملية بأمور التشكيل والتنغيم، وتهتم تسعة أعشارها بعلامة “الوقف”. أما فيما يختص بالحروف الساكنة فلا يوجد أي اختلاف له قيمته، بين المنهجين.
لقد عاش كلا هذين المنهجين جنباً إلى جنب لفترة من الزمن، لكن تدريجياً مال غالبية النحويين والدارسين إلى تفضيل قراءة ابن أشير، مع قبول بعض قراءات ابن نفتالي. ثم أعلن الفيلسوف اليهودي الشهير موسى ابن ميمون (1135 – 1204) – عرضاً في كتابته عن بعض الموضوعات الكتابية التي لا تتعلق بالاختلاف بين المنهجين – أنه يعتبر مخطوطة العهد القديم التي في مصر، والتي شكلها وراجعها وعلق عليها ابن أشير هي المخطوطة الصحيحة. ولما كان لهذا الفيلسوف مكانة عظيمة في العلم اليهودي، فان عبارته السابقة كانت سبباً في أفول نجم منهج ابن نفتالي.
أما تلك النسخة التي تحدث عنها ابن ميمون، ويبدوا أنها نقلت إلى حلب حيث حفظت في مجمع “السوفريم” (الكتبة) هناك.
ثامناً: المخطوطات الماسورية الهامة: فيما بين عصر النهضة وعام 1800م، تمكنت الجامعات والمكتبات المختلفة من جمع عدد لا بأس به من المخطوطات العبرية وإن كان الموجود منها الآن يزيد على ثلاثة أضعاف ما جمع حتى 1800م. وترجع هذه الزيادة – في جانب منها – إلى الأبحاث الجادة التي قام بها “ابراهام فيركوفتش” (Firkovitch) الذي تمكن من جمع ما يزيد على ألفي مخطوطة لأجزاء من العهد القديم ووضعها في مكتبة لننجراد، كما ترجع أيضاً إلى العدد الكبير من المخطوطات الكتابية التي تم اكتشافها في خزانة المعبد اليهودي بالقاهرة. ومن الصعب المقارنة بين العديد من المخطوطات في مختلف المتاحف والمكتبات، فبعض المخطوطات تضم كل أسفار العهد القديم بينما قد لا تحتوي إحدى المخطوطات إلا على بضع صفحات. وتستلزم دراسة هذه المخطوطات بذل الكثير من الجهد. وبفضل الجهود المضنية التي بذلها “كال” (Kahle) وآخرون في النصف الأول من هذا القرن، أمكن التوصل إلى نتائج هامة.
كانت أول مجموعة من المخطوطات التي جمعها بنيامين كينيكوت (Kennicott) – فيما بين 1776، 1780م، والتي نشرتها جامعة إكسفورد – تضم 615مخطوطة للعهد القديم. بعد ذلك نشر جيوفاني دي روسي (De Rosse – 1784 – 1788) قائمة تضم 731 مخطوطة أخرى – وأهم الاكتشافات التي تمت في العصور الحديثة هي مجموعة خزانة المعبد اليهودي بالقاهرة (ابتداء من 1890م)، وفي مخطوطات البحر الميت (ابتداء من 1947م). ففي الخزانة العليا من معبد القاهرة اكتشفت نحو 200. 000 (مائتي ألف) مخطوطة وجذاذة، منه نحو 10. 000 (عشرة آلاف) مخطوطة لأجزاء من الكتاب المقدس كما يذكر ج. ت. ميليك (Milik) أنه قد اكتشفت نحو 600 (ست مائة) مخطوطة وجذاذة في كهوف البحر الميت. ويقدر “جو تشتين” (Gottstein) عدد مخطوطات وجذاذات العهد القديم باللغة العبرية، التي اكتشفت حتى الآن بعشرات الآلاف من المخطوطات.
وأكبر مجموعة منها تتكون من 10. 000 جذاذة من أسفار العهد القديم مما وجد في خزانة معبد القاهرة، وهي محفوظة الآن في مكتبة جامعة كمبردج، ويلي ذلك في العدد المجموعة الثانية “لفير كوفتش” (Firkovitch) المحفوظة في لننجراد، وتشمل على 1. 582 جذاذة من أسفار العهد القديم و “الماسوراه” مكتوبة على رقوق، 725 مكتوبة على ورق، علاوة على 1. 200 (ألف ومائتي) جذاذة من مخطوطات غير عبرية. ويحوي فهرس المتحف البريطاني 161 مخطوطة عبرية للعهد القديم، كما يحتوي فهرس مكتبة بودلين (Bodlian) على 146 مخطوطة من العهد القديم منها عدد كبير عبارة عن جذاذات. ويقدر “جو تشتين” عدد المخطوطات السامية الموجودة في الولايات المتحدة وحدها بعشرات الآلاف من المخطوطات الكالمة أو الجذاذات، 5% منها من أسفار الكتاب المقدس.
والمخطوطات التالية مرتبة حسب التواريخ المرجحة لكتابتها، وتعتبر أفضل المصادر لنصوص “ابن أشير”:
(1) مخطوطة القاهرة لأسفار الأنبياء: ويشار إليها أحياناً بالحرف (C)، ويرجع تاريخها إلى 895م، وتحتوي على كل القسم الثاني من العهد القديم، وكاتبها هو موسى بن أشير، وهو آخر المشهورين من عائلة ابن أشير، وقد أهداها إلى جماعة “القرّائين” في أورشليم، ثم استولى عليها الصليبيون في عام 1099م، ثم عادت إلى اليهود ووصلت إلى جماعة “القرّائين” بالقاهرة. وهي مكتوبة على ثلاثة أعمدة بالتشكيل والحروف المتحركة حسب الأسلوب الطبري.
(2) مخطوطة ليننجراد العبرية (B. 3) ويشار إليها بالحرف “P” نسبة إلى مدينة “بتروجراد” (الاسم السابق لمدينة لينينجراد). ولا تضم هذه المخطوطة التي يرجع تاريخها إلى 916 م إلا أسفار الأنبياء المتأخرين وظلت تعتبر أقدم مخطوطة زمناً طويلاً إلى أن تم اكتشاف المخطوطات الأقدم ويستخدم فبها النظام البابلي من وضع علامات النطق فوق السطور، وفي نفس الوقت تتبع أسلوب مدرسة طبرية في علامات التشكيل والحواشي. وفي بعض الصفحات استبدلت بعض العلامات الطبرية بالعلامات البابلية.
(3) مخطوطة حلب، وتعرف أحياناً “باسم المخطوطة A”:
ويذكر في الملحوظة الختامية فيها أن هارون بن أشير (ابن موسى بن أشير) المتوفى في نحو 940م هو الذي أضاف إليها الحروف المتحركة والحواشي. وهذه المخطوطة مكتوبة على رقوق على ثلاثة أعمدة. وكانت هذه المخطوطة أصلاً في أورشليم ثم نقلت إلى القاهرة، وأخيراً استقرت في حلب. وتعتبر بوجه عام أنها المخطوطة التي ذكر موسى بن ميمون أنها أصح النسخ، وكانت أصلاً تضم كل العهد القديم ولكن التلف أصاب ما يقرب من ربعها (وسنتناولها بشيء من التفصيل في البند الحادي عشر).
(4) مخطوطة المتحف البريطاني أو المخطوطة رقم 4445:
والأرجح أنها كتبت في منتصف القرن العاشر الميلادي، ولا تحتوي إلا على جزء من التوراة (من تك 39: 20 تث 1: 33). ويتكرر ذكر اسم ابن أشير عدة مرات في حواشيها.
(5) مخطوطة لينينجراد “L” (B. 19A). وهي تشمل على كل العهد القديم وقد أحضرها “فير كوفتش” من “كريميا” (Crimea) وسبق الكلام عنها في “أنواع المخطوطات”، ومسجل بها أنها نسخت بعناية فائقة في عام 1008 عن مخطوطة أعدها هارون بن موسى بن أشير. وهي مكتوبة على ثلاثة أعمدة بأسلوب طبرية في تشكيل الكلمات. بالإضافة إلى ذلك، وجد “كال” (kahle) في خريف 1926 م في ليننجراد بين المخطوطات التي جمعها “فير كوفتش” في المجموعة الثانية، أربع عشرة مخطوطة عبرية يرجع تاريخها إلى ما بين 929 م، 1121 م، وجميعها تطابق نص ابن أشير.
ورغم الدليل الجديد حول تفاصيل نص ابن نفتالي، فإنه لا يوجد دليل قاطع على اكتشاف أي مخطوطات خاصة لها في صورة نقية، فيذكرون بين هذه المخطوطات مخطوطة “روخلن” (Codex Reuchlinianus) المحفوظة في “كارلسروه” (Karlsruhe) في ألمانيا، وثلاث مخطوطات، كانت محفوظة سابقاً في ارفورت. ولو أن بعض العلماء يقولون أن “مخطوطة روخلن” تمثل نقطة الانتقال بين المخطوطات الماسورية البابلية والطبرية.
وبعد عام 1100م تم نسخ عدد كبير من المخطوطات، ولم تلبث المخطوطات أن أصبحت مركبة، اعتمدت أساساً على نسخة ابن أشير مع وجود عدد من الاختلافات، التي نقل أكثرها عن ابن نفتالي. وخلال هذه القرون لم تعد “للماسوراه” أهميتها الكبيرة، وأصبحت معظم الحواشي مجرد صور للحواشي أو غيرها من الأشكال الخزفية.
وبمجرد اختراع الطباعة، بادر اليهود إلى إنتاج عدد من الكتب العبرية، فطبعت أجزاء من الكتاب المقدس بالعبرية قبل عام 1500م، وهاجر “دانيال بومبرج” (Daniel Bombreg) من “أنتورب” إلى “فينسيا”، وهناك أسس مطبعة وأصدر عدد من الكتب العبرية الهامة فيما بين عامي 1516، 1549م. وقد صدرت الطبعة الأولى من العهد القديم في 1516 / 1517م، وتولى مراجعتها فيلكس براتنسيس (Felix Pratensis)، وكانت تشتمل على النص العبري مع الترجمة الأرامية وتعليقات هامة في أعمدة متوازية. ثم حلت محل هذه الطبعة، طبعة ثانية لبومبرج، قام بمراجعتها “يعقوب بن حاييم” من تونس، وفيها ضم “ابن حاييم” مختارات كثيرة من “الماسوراه”. وظلت الطبعة مستخدمة في العالم الغربي حتى 1937م. أما الطبعات الأخرى للتلمود والطبعات الأولى للعهد القديم بأكمله أو أجزاء منها، فكانت تعتبر أقل أهمية.
وفي القرن الثامن عشر تحولت الأنظار إلى الاختلافات الموجودة في المخطوطات المتاحة، ويتعلق معظمها بالحروف المتحركة. وقام بنيامين كينيكوت (Kennicott) فيما بين 1776، 1780م بطبع العهد القديم في اكسفورد، وحصر فيها الاختلافات الموجودة فيما يزيد على ستمائة مخطوطة عبرية. أما ج. ب. دي روسي (De Rossi) فقد اصدر فيما بين 1784 / 1788م في مدينة “بارما” (Parma) الإيطالية قائمة اختلافات مطولة بمختارات لأهم القراءات في 1417 مخطوطة ومطبوعة. ولكن معظم المراجع التي استخدمها كل من كينيكوت ودي روسي كانت ترجع إلى عصور متأخرة نسبياً.
وفي عام 1869م أخذ “س. باير” (S. Baer) على عاتقه أن يطبع أجزاء من العهد القديم، على أمل أن يقدم نصاً علمياً دقيقاً، ولكن هذا العمل لم يكتمل، كما أن أسلوبه لاقى انتقادات شديدة. ثم في 1908 – 1926م أصدر كريستيان جينسبرج (Ginsburg) طبعة للعهد القديم بمقدمة قوية عن الاختلافات، ولكنه التزم أساساً بنص “يعقوب بن حاييم”. وفي 1906م أصدر “رودلف كيتل” (Rudolph Kittel) التوراة العبرية (Biblia Hebraica)، ثم أعاد طبعها في عام 1912م مستخدماً نص “ابن حاييم” مع العديد من الهوامش غير الدقيقة. وفي 1928م أعلن “س. س. توري” (Torrey) من جامعة ييل (Yale) “أن طريقة (كيتل) في التوراة العبرية تتضمن قراءات كثيرة زعم خطأ أنها روجعت على الترجمة اليونانية، إذ أنها جمعت عشوائياً من شروحات مختلفة”.
وعندما اقترح البعض إصدار طبعة ثالثة من “التوراة العبرية” رأى “بول كال” (Paul Kahle) أن يستخدم نص ابن أشير بدلاً من نص ابن حاييم، وبذلت محاولات كثيرة لتصوير المخطوطة الموجودة في مجمع “السوفريم” وفي حلب، ولكن حراسها لم يسمحوا لا بتصويرها ولا بدراستها، ولذلك اقترح “كال” طبع مخطوطة ليننجراد (B. 19 A) فأعارتها سلطات ليننجراد لجامعة بون، فقام “كال” بتصويرها ومراجعة النص والماسوراه للتوراة العبرية (الطبعة الثالثة). وعندما تم طبعها في عام 1937 م، سرعان ما أصبحت النسخة المعتمدة عند علماء الغرب، ولكن للأسف احتفظت هذه الطبعة بحواشي الطبعة الثانية، وقد نقل عنها عدد من الترجمات الإنجليزية الحديثة. ولكن عدداً من العلماء البارزين انتقدوا هذه الحواشي لعدم دقتها، ولأنها تضم مختارات من الترجمات القديمة التي لم يتم تحقيقها علمياً.
وفي عام 1958 م أصدرت جمعية التوراة البريطانية والأجنبية توراة عبرية قام بإعدادها “نورمان. ه. سنيث”. (Norman H. Snaith) الذي اعتمد إلى حد بعيد على الملحوظات النقدية على المخطوطة الأسبانية التي أصدرها الربي “سليمان نورزي” (Solomon Norzi) في عام 1626 م. كما أعلن “سنيث” أن النص الذي أعده يشبه تماماً ما وجده “كال” في مخطوطة لينينجراد.
تاسعاً: لفائف البحر الميت:
اهتز العالم المسيحي فرحاً عندما أعلن في عام 1948 م عن اكتشاف عدد من اللفائف في العام السابق، ترجع إلى عصر المسيح وما قبله. وقد توقع كثيرون من العلماء أن تختلف هذه اللفائف اختلافاً جذرياً عن النص العبري الموجود في المخطوطات المكتوبة بعد ذلك بألف عام.
وكان أهم ما في هذه اللفائف بالنسبة لعلماء الكتاب , الدرج الذي يطلق عليه الآن الرمز “1QIS ”، وهو عبارة عن نسخة من سفر إشعياء مكتوبه بخط جميل. وكان واضحاً – مما أصابه من بلى – أنه قد استخدم كثيراً، فقد كادت بعض الحروف تختفي تماماً واعيدت كتابتها. وظهر عند دراسته أنه يتفق بوجه عام مع النص الماسوري رغم وجود بعض الاختلافات. كما أن نسخه لم يتم بالعناية الكافية، فقد حدث خطأ في بعض الكلمات في بعض الأماكن، فمحيت أو شطبت ثم صوبت. كما توجد تغييرات في حروف أو كلمات كتبت بنفس الخط المدونة به المخطوطة ككل. بالاضافه إلى بعض التصويبات بخط مختلف. أما الحروف والكلمات التي سقطت من الناسخ، فكثيراً ما كتبت فوق السطر كما نجد أحياناً، الإضافات قد كتبت على الهامش الأيسر.
وبالإضافة إلى أخطاء النسخ الواضحة، فهناك بعض المواضع التي يتفق فيها النص مع الترجمة السبعينية أكثر مما يتفق مع النص الماسوري، الأمر الذي يستدل منه بعض العلماء على أن الترجمة السبعينية تقدم لنا نصاً أدق للعهد القديم كما كان منذ ألفي سنة. وبإجراء المزيد من الدراسات المتأنية اتضح أنه وإن كانت هذه المخطوطات تتفق في بعض المواضع مع الترجمة السبعينية أكثر مما مع الماسورية، إلا أنها في غالبية المواضع تتفق مع الماسورية أكثر مما مع السبعينية.
ومما يدعو للدهشة أن مخطوطة سفر إشعياء (1Q ISa) تستخدم الحروف المتحركة أكثر مما تستخدمها المخطوطات الماسورية. ويبدو أن الناسخ نفسه، أو ناسخ المخطوطة المنقول عنها، قد أدرج هذه الحروف المتحركة ليعين القارئ على فهم النص، فنجد أحياناً أن طريقة النطق التي تتبعها تلك الرقوق، تختلف في النص الماسوري، فالنص الماسوري يذكر اسم “تارتان” (لقب أحد قواد أشور – إش 1: 20)، بينما تضيف إليهم رقوق البحر الميت حرف “الواو” ليصبح “تورتان”. وقد أظهر اكتشاف أحد السجلات الآشورية القديمة، أن الصيغة الآشورية للاسم هي “تورتانو” (Tur tannu). لقد تغير – عبر القرون – الحرف المتحرك الأول من هذه الكلمة الأجنبية غير المألوفة، لكن الحروف الساكنة ظلت كما هي.
وهناك درج آخر لسفر إشعياء يرمز له بالرمز “IQ Isb “ وجد في الكهف الأول أيضاً، كان من الصعب فضه. وعندما تم ذلك بسلام، ظهر أنه في حالة سيئة، فقد فقدت منه أجزاء كثيرة. وعندما تبين للعلماء انه قريب جداً من النص الماسوري، وجهوا معظم اهتمامهم إلى المخطوطة الأولى> IQ Iss <.
وفي عام 1952 تم اكتشاف عدد من المخطوطات في بعض كهوف “وادي المربعات” الواقع على بعد أحد عشر ميلاً إلى الجنوب من وادي قمران. والكثير من هذه المخطوطات عبارة عن خطابات أمكن تحديد أنها ترجع إلى القرن الثاني بعد الميلاد. كما وجدت أيضاً عدة نسخ لكثير من الأجزاء من العهد القديم تتفق تماماً مع النصوص الماسورية.
وفي منطقة قمران، وفي أكثر من عشرة كهوف من بين نحو ثلثمائة كهف تم كشفها، وجدت مخطوطات أو أجزاء من مخطوطات، وجد أكثرها في الكهوف 1، 4، 11 إلا أنه لم تظهر حتى الآن أي مخطوطة لها أهمية المخطوطة “IQ Isa “ سواء في الحجم أو اكتمال النص. وقد وجدت بعض المخطوطات الكبيرة نوعاً في الكهف الحادي عشر. كما وجدت في الكهف الرابع آلاف القصاصات من ماّت المخطوطات. وكان من الصعوبة في البداية معرفة ما تتضمنه هذه القصاصات, إذ كان يجب ترطيبها أولاً بعناية حتى لا تتفتت عند لمسها , ثم تبسط بعد ذلك وتدرس بدقة الكلمات القليلة المسجلة عليها لمعرفة ما إذا كانت جزءاً من الكتاب المقدس أم ليست منه , وإذا كانت منه فما هو هذا الجزء. وقد تم التعرف على ما يقرب من مائة مخطوطة من العهد القديم تمثل كل الأسفار ماعدا سفر أستير. ويرجح أن قصاصة من سفر صموئيل ترجع إلى القرن الرابع قبل الميلاد.
ورغم الاتفاق الكبير بين معظم المواد المكتشفة في كهوف قمران مع النص الماسوري, فإن القليل منها يتفق مع الترجمة السبعينية أو مع التوراة السامرية أكثر مما مع المخطوطات الماسورية وبخاصة سفر صموئيل الذي يبدو أنه كان أقل الأسفار عناية به في المخطوطات الماسورية. وقد ضمت إحدى المخطوطات من الكهف الرابع نصاً لسفر صموئيل قريباً جداً من الترجمة السبعينية. كما وجدت مخطوطة أخرى لعلها تفوق الماسورية والسبعينية أيضاً.
وتمثل مخطوطات وادي المربعات جماعة من اليهود الذين كان لهم نشاط ملموس في ثورة باركوكبا (فيما بين 132 – 135م) وهى تطابق تماماً النص الرسمي الذي أخذ عنه النص الماسوري , والجزء الأكبر من مخطوطات قمران منقول عن هذا النص , والقليل منه يختلف , وهو أمر طبيعي لاختلاف جماعات قمران الذين جاءوا من أماكن مختلفة من البلاد حاملين معهم مخطوطات نسخت في أوطانهم التي جاءوا منها , وهي كثيراً ما كانت تنسخ على عجل وبغير عناية كافية , فحدثت أخطاء في النسخ نتج عنها بعض التغييرات في النصوص , ومن ثم انتقلت هكذا إلى الكثير من المخطوطات التي نقلت عنها (الرجا الرجوع إلى مخطوطات البحر الميت في باب الباء من المجلد الثاني من دائرة المعارف الكتابية).
عاشراً: خزانة القاهرة: في ضوء العدد الكبير من مخطوطات العهد الجديد , ووجود الترجمة السبعينية منذ قرون طويلة , قد يبدوا غريباً أنه فيما قبل مخطوطات البحر الميت , لم تكن بين أيدينا مخطوطة عبرية للعهد القديم يرجع تاريخها إلى ما قبل 895م. فقد تعرض اليهود في العصور الوسطى كثيراً لاضطهادات عنيفة , وأجبروا على الرحيل من مكان لاّخر, بينما نعمت بعض الأديرة المسيحية في الشرق بالهدوء لما يقرب من ألف وخمسمائة عام , ومع هذا فمن الصعب تعليل عدم وجود مخطوطات عبرية للعهد القديم ترجع في تاريخها إلى ما قبل عصر الماسوريين, إلا أن يكون ذلك نتيجة للعادة اليهودية المتأصلة من حماية آية كتابات يذكر فيها أسم الله , من التدنيس , فإذا بليت أو وجد فيها خطأ, كانت تستبعد فوراً من التداول وكان في كل مجمع يهودي مخبأ سري أو خزانة, عبارة عن غرفة تحت قبو المجمع أو في علبته, يحفظ فيها المجمع المحفوظات والوثائق التي لم تعد تستخدم إلى أن يحين الوقت المناسب لدفنها في أرض مقدسة, وكانت المخطوطات البالية تدفن عادةً مع أحد العلماء عند دفنه.
وكان “ابراهام فيركوفتش” ((Firkovitch خبيراً في التنقيب في مجامع اليهود ومخابئهم , وكان يتكتم تماماً مصدر مكتشفته من المخطوطات , إلا أن “بول كال” (Paul kahle) كان متيقنا ًللغاية من أن العديد منها وجده “فيركوفتش” في خزانة المجمع اليهودي بالقاهرة.
وتوجد هذه الخزانة في مجمع لليهود أنشئ في 882م في مبنى كان أصله كنيسة مسيحية , ثم أستعمل فيما بعد لما يزيد عن ألف عام مجمعاً لليهود. وعلى مدى قرون عديدة كانت الوثائق المهملة تودع في تلك الخزانة. ثم حدث أن دخل هذا المخبأ عالم النسيان , بل أقيم جدار سد الغرفة ذاتها فترة من الزمان , وعندما أعيد اكتشافها في القرن التاسع عشر , كانت بعض المخطوطات قد دفنت , ولكن لم يستمر الأمر هكذا طويلاً حيث أن تجار العاديات أبدوا استعدادهم لدفع مبالغ طائلة ثمناً لهذه الوثائق القديمة. وقد نقل الكثير من هذه المخطوطات والجذاذات من هذه الخزانة إلى العديد من المتاحف والمكتبات في أوروبا وأمريكا. وفي عام 1896م أرسلت مكتبة جامعة كمبردج “السيد / سليمان سشتر” (Solomon Sehechter) ومعه تفويض في الحصول على أكبر قدر من هذه المخطوطات, فتمكن من شحن الكثير من القصاصات. وبلغ عدد القصاصات التي نقلت من هذه الخزانة ما يربو على مائتي ألف قصاصة تشمل على وثائق من مختلف الأنواع , لأن عقود العمل العادية , متى كانت تحمل أسم الله في تحية أو تاريخ أو غير ذلك , كانت تحفظ في هذه الخزانة. ودراستنا لهذه الوثائق لابد أن تثري معرفتنا عن الحياة الثقافية بالقاهرة في تلك العصور الوسطى. ولقد أصبحت المئات من المخطوطات الكتابية المأخوذة من خزانة القاهرة متاحة الآن، وقد قام “بول كال” بدراسة العديد منها , ومن ثم خرج بنظرياته عن مجموعتين مختلفتين للما سوريين, إحداهما من بابل والأخرى من إسرائيل. ووضع عدة فروض عن تاريخ النص العبري. لقد حصلنا على الكثير من دراسة هذه المخطوطات , ولكن مازال هناك الكثير أيضاً مما يمكن تحصيله بمزيد من الدراسة لهذه الوثائق.
حادي عشر: مخطوطة حلب: لقد كان العلماء يعتقدون – كما ذكرنا سابقاً أن مخطوطة حلب هي أقدم مخطوطة كاملة باقية للعهد القديم , وأن هارون أبن أشير ذاته هو الذي وضع تشكيلها وكيفية النطق بها “والماسوراه” فيها, ومن ثم خاب أمل “بول كال” عندما لم يتمكن من استخدام هذه المخطوطة أساساً “للتوراة العبرية” في طبعتها الثالثة. وفي عام 1948م، هاجم الرعاع مجمع “السوفريم” (الكتبة) في حلب وأحرقوه فخشى الناس على مدى بضع سنوات أن يكون الدمار قد أصاب المخطوطة، إلا أن الرئيس الإسرائيلي آنذاك “اسحق بن زيفي” لم يفقد الأمل في إمكانية العثور عليها وإنقاذها، وظل طويلاً يحاول معرفة مكانها، وتناقش مراراً مع قادة المجمع عن الطرق والوسائل التي يمكن بها اكتشاف هذه المخطوطة الثمينة ونقلها بسلام إلى أورشليم. وأخيراً تكللت جهوده بالنجاح، وأعلن في عام 1960م – على العالم كله – بأنه تم العثور عليها وأودعت في مكتبة الجامعة العبرية في أورشليم. لكن للأسف كان قد أصابها تلف كبير على أيدي الرعاع، فقد كانت قبل 1948م كاملة، أما الآن فقد فقد نحو ربعها بما في ذلك 90% من أسفار موسى.
ورغم أن سلطات “السوفريم” (الكتبة) في حلب لم تسمح مطلقاً للعلماء اليهود بتصوير أي جزء من المخطوطة، إلا أنها سمحت ذات مرة للعالم الإنجليزي “وليم ويكس” (Wickes) بتصوير صفحة منها (تشمل على تك 26: 17 27: 30)، فنشرها في 1887م في صدر كتابه عن حركات التشكيل العبرية. وفي عام 1966م أعلن “م. ه. جوشن خوتشتين” (M. H. Goshen Gottsteien) من الجامعة العبرية أنه اكتشف أنه قد سمح في مرة أخرى لمسيحي آخر بتصوير بضع صفحات من مخطوطة حلب. وقد نشر القس “ج. سيجول” (J. Segall أحد المرسلين، وقد قضي في دمشق عدة سنوات) في عام 1910م كتاباً بعنوان “رحلات في شمالي سورية” ضمَّنه صورة لبضع صفحات من مخطوطة حلب (تشمل على تث 4: 38 6: 3). ولما كانت هذه الأجزاء قد تلفت ضمن ما تلف من المخطوطة، فإن وجود هذه الصور كان الصور كان مصدر فرح كثير، ولكن للأسف كانت الصور التي التقطها “سيجول” غير واضحة تماماً لدرجة تكفي لمعرفة كل تفاصيل الحروف المتحركة وعلامات الترقيم والماسوراه، ولو أنه أمكن قراءة الحروف الساكنة بوضوح. ولا يكاد يوجد أي شك في أصالة المخطوطة وعلاقتها المباشرة بهارون بن أشير. وسوف يلقى المزيد من الدراسة لهذه المخطوطة كثيراً من الضوء في المستقبل القريب على تفاصيل كثيرة لنصوص هذه المخطوطة الثمينة.
ثاني عشر: أنماط الخطأ: عند نسخ المخطوطات العبرية، كان من الطبيعي أن تتكرر أنماط الخطأ كما يحدث في كل أنواع المخطوطات. ويمكن تصنيف هذه الأخطاء إلى: (1) أخطاء البصر، (2) أخطاء السمع، (3) أخطاء الذاكرة.
فمن المعروف أن المخطوطات كثيراً ما كانت تنسخ عن طريق الإملاء، حيث يقوم رجل واحد بإملاء عدد من الكتبة في وقت واحد، كما كان يحدث كثيراً في المخطوطات اليونانية والرومانية. ولعل هذا ما حدث في مخطوطات وادي قمران وفي غيره من الأماكن وبخاصة عند النسخ الشعبية من الأسفار المقدسة. ولكن كان محظوراً تماماً أن تعمل النسخ الرسمية للأسفار المقدسة بهذا الأسلوب، إذ كان على الكاتب أن يمعن النظر مراراً فيما يقوم بنسخه، وبناء عليه، يجب ألا توجد أخطاء السمع في المخطوطات الرسمية. أما أخطاء الذاكرة فقليلة جداً، لكنها موجودة حيث لأن الكاتب كان معرضاً أن يختلط عليه الأمر في تذكرة كلمة فيكتب بطريق الخطأ غير ما رأى.
أما أخطاء البصر فمردها تشابه أشكال الحروف، فقد يخطئ الكاتب في قراءة حرف غير واضح في النسخة التي ينقل عنها، فيكتبه على غير حقيقته. وكثيراً ما نجد مثل هذه الأخطاء في المخطوطات الكتابية. وأكثر الأخطاء شيوعاً هو اللبس بين حرفي “الدال والراء” فهما قريبان جداً في رسمهما حتى ليصعب التمييز بينهما في كل حالة. والدليل الواضح على ذلك نراه في أسماء الأعلام وبخاصة في أسفار الملوك وأخبار الأيام حيث يكتب الاسم مرة “بالدال” ومرة أخرى “بالراء”. كما أن هناك حالات نجد فيها كلمة في الترجمة السبعينية يبدو أن لا علاقة لها بنظيرتها في النص العبري، ولكن بافتراض أن النص الماسوري الذي نقلت عنه الترجمة السبعينية. قرأت فيه “الدال” عوضاً عن “الراء” فإذا صوبت الكلمة على هذا الأساس، لاتفق المعنى في الحالتين.
وهناك أنواع أخرى شائعة من أخطاء البصر تنتج عما يعرف “بالهابلوجرافي” (haplography أي كتابة حرف أو مجموعة حروف مرة واحدة بدلاً من وجوب كتابتها مرتين). وهناك أيضاً “الدتوجرافي” (dittography أي تكرار الحرف أو مجموعة حروف عن غير قصد)، وأيضاً الحذف بسبب تشابه النهايات أو “الهوميوتليوتون” (homoeoteleuton) حيث تقفز العين من كلمة إلى أخرى تماثلها مسقطة بذلك جملة أو أكثر. ويعلم كل كاتب كم يتكرر مثل هذا الخطأ عند النسخ.
ثالث عشر: الدليل من الترجمات: نظراً لأننا تناولنا موضوع ترجمات العهد القديم مثل الترجمة السبعينية والترجوم والسريانية (البشيطة) والفولجاتا في موضوعها (عند الكلام عن ترجمات الكتاب المقدس في المجلد الثاني من دائرة المعرف الكتابية)، لذلك سنقصر كلامنا هنا على بعض الأمور العامة، عن العلاقة بين هذه الترجمات ونصوص العهد القديم.
عند تحديد أهمية ترجمة من الترجمات، فمن الطبيعي أن يكون الاعتبار الأول هو عمر الترجمة. فترجمة العهد القديم إلى اللغة الهندية مثلاً هي ترجمة حديثة لا أهمية لها في تحقيق نصوص العهد القديم، ولكنها تعد دليلاً أو شهادة للنص الذي نقلت عنه الترجمة. فلكي تكون للترجمة أي قيمة، يجب أن يكون قد تمت في عصور قديمة.
أما الاعتبار الثاني فهو مدى أصالتها. فعند ترجمة نص ما من لغة إلى أخرى، لابد أن يفقد النص كثيراً من قوته ودقته، فالكلمات لا تتطابق تماماً بين لغتين مختلفتين، كما يحدث كثير من الالتباس بين الكلمات المختلفة المستعملة، كما تختلف أنماط التعبير وصيغ الأفعال وقواعد بناء الجمل اختلافاً جذرياً في اللغات المختلفة، ومن ثم فإن كل ما تستطيعه الترجمة هو أن تنقل صورة عامة للمعنى الأصلي. أما عند الترجمة عن نص مترجم عن لغة ثالثة، فلابد أن تتسع الفجوة بين الترجمة الأخيرة والنص الأصلي، وعلى هذا فإن أحد العوامل الهامة التي تضفي قيمة على الترجمة، هو موضوع نقلها مباشرة عن النص الأصلي. فالفوجتا مثلاً قام بترجمتها القديس جيروم عن اللغة العبرية مباشرة في 400م، لذلك كان لها أهمية كبير في تحديد النص العبري في ذلك التاريخ. ولكن الأمر يختلف في حالة الترجمة اللاتينية القديمة، فمع أنها أقدم من الفولجاتا ببضعة قرون، لكنها لم تترجم عن العبرية مباشرة بل عن الترجمة السبعينية، وتقتصر قيمتها على تحقيق نص الترجمة السبعينية في ذلك التاريخ، أما قيمتها في تحديد الأصل العبري فأقل بكثير من الفولجاتا.
وهناك أربع ترجمات قديمة مباشرة هي: الترجمة السبعينية التي بدأت في نحو 280ق. م. والترجمة السريانية (البشيطة) ولعلها تمت في القرن الخامس الميلادي رغم أن بعض أجزائها قد تكون أقدم من ذلك. والفولجاتا اللاتينية التي تمت في 400م، ثم الترجمات الأرامية (الترجوم) التي تمت في أزمنة مختلفة.
وهناك اعتبار آخر يجب ألا نغفله، وهو مدى الجهد الذي بذل في الحفاظ على نقاء وسلامة النص. وفي هذا الصدد نجد أن العناية التي بذلت في الحفاظ على النصوص الماسورية تفوق مثيلتها في أي كتاب آخر بما في ذلك مختلف ترجمات العهد القديم. ولقد تشعبت الاتجاهات في المخطوطات المختلفة للترجمة السبعينية، وقد قضى بعض العلماء ساعات بلا عدد في دراستها ومقارنة بعضها ببعض، ولكنهم لم يصلوا إلى نظام متكامل من حيث تقسيمها إلى مجموعات (أو مدارس) وعمل خرائط أنساب لها شبيهة بتلك التي عملت لمخطوطات العهد الجديد اليونانية. ولا يحتمل أن مشروعاً كهذا يمكن أن يتم بنجاح نظراً للكم الهائل الذي تلزم دراسته، وأيضاً لأن الأسفار المختلفة ترجمت أو نسخت في أزمنة مختلفة.
وللترجمة السبعينية أهمية كبرى في قسم مثل سفر صموئيل، لأن النص العبري في هذا القسم تعرض للاختلاف أكثر من أي جزء آخر. وللسبعينية أهمية خاصة أيضاً حينما يمكن تفسير قراءتها على أساس حدوث اختلاف في حركات التشكيل، أو بافتراض أن الأصل العبري الذي نقلت عنه، استبدلت فيه “الدال” “بالراء” أو العكس كما سبق القول. وهناك مثال واضح لذلك في نبوة عاموس (9: 12) حيث ذكر النص الماسوري: “لكي يرثوا بقية أدوم”، بينما تقول الترجمة السبعينية: “لكي يطلب الباقون من الناس الرب”، ويمكن تفسير هذا الاختلاف على أساس افتراض اختلاف تشكيل إحدى الكلمات واستبدال الراء بالدال في كلمة أخرى، وقد اقتبس يعقوب الرسول هذا النص في سفر الأعمال (15: 17) كحجة قاطعة في مجمع أورشليم، وكان بين الحاضرين فيه البعض من خيرة المتعلمين، فلو كان اقتباسه غير صحيح، لفندوا كلامه بسهولة. ومن هنا نستطيع أن نتيقن أنه في عصر الرسل كان الأصل العبري مطابقاً الترجمة السبعينية أكثر مما مع النص الماسوري.
ومما هو جدير بالذكر أن مختلف الترجمات القديمة والمباشرة قد تأثرت كثيراً بالترجمة السبعينية، ومن ثم فإن تلك الترجمات ليست حجة قوية على النص العبري، بقدر ما لو كانت على خلاف ذلك. إن دراسة الترجمات لها قيمة بالغة لمعرفة التأويل الذي كان شائعاً لمختلف الأجزاء في الوقت الذي تمت فيه الترجمة، بل وأيضاً لتحديد النص البديل الممكن أن يكون في أحوال معينة هو النص الأصيل. والنص الماسوري في معظم الحالات هو النص الذي يعتمد عليه اكثر مما على أي ترجمة.
رابع عشر: الخلاصة: يجب ملاحظة أن المادة المتاحة لتحقيق نصوص العهد القديم، تفوق أضعافاً مضاعفة ما هو متاح لتحقيق نصوص أي وثيقة قديمة أخرى، فيما عدا العهد الجديد. والتطابق بين الحروف الساكنة في مختلف المخطوطات لمما يدعو إلى الدهشة. كما أن الكم الهائل من المخطوطات التي تم اكتشافها، والتي ترجع إلى ما قبل الميلاد، تطابق إلى أبعد حدَّ في حروفها الساكنة النص الماسوري. كما أن قصاصات قليلة يمكن أن تقدم الدليل على وجود وثائق مختلفة في بعض نواحي أرض إسرائيل في تلك الفترة المبكرة، ولعل بعضها هو النص الذي نقلت عنه التوراة السامرية أو النص الذي ترجمت عنه الترجمة السبعينية.
وإنه لعمل فريد في التاريخ، أن يتم نسخ وإعادة نسخ النصوص منذ عصر قمران حتى عصر ابن أشير دون وقوع سوى هذه الاختلافات الطفيفة. ولقد أدى الماسوريين خدمة جليلة بتسجيلهم نظام وضع الحروف المتحركة وتقنينه. كما أن قصاصات خزانة المعبد اليهودي بالقاهرة ستعيننا إلى مدى أبعد مما سبق على معرفة تطور هذا النظام، وأين يمثل وضع الحروف المتحركة أو علامات التشكيل، الحفاظ على النصوص القديمة، وأين يمثل ذلك ما وصل إليه الماسوريين.
كما أن مخطوطة حلب ستمكننا من معرفة ما أسفرت عنه جهود الماسوريين بصورة أدق من ذي قبل.
وهكذا نعلم أن النص قد حفظ بدقة ملحوظة، كما يكشف لنا ذلك عن القصد الإلهي في أن تكون لنا ثقة في الكتاب المقدس وأصالته، أعظم مما في أي كتاب آخر، مع احتمال أن يقع خطأ في نسخ آية بذاتها متى أخذت على حدة. وهذه حقيقة هامة جداً حتى لا نبني أي عقيدة على آية بمفردها، فآية بمفردها يمكن أن تشتمل على خطأ ما، وحيث لا يوجد أي خلاف بين آيتين، فمعنى ذلك عدم احتمال حدوث أي تغيير في النص. إن الله يحذرنا ويأمرنا أن نقارن الروحيات بالروحيات، أي أجزاء الكتاب المقدس ببعضها البعض.
مخطوطات العهد الجديد
أولاً: مقدمة:
لم يتأثر العلم بكتاب من الكتب قدر تأثيره بالكتاب المقدس بعامة، والعهد الجديد بصفة خاصة، وليس ذلك فحسب، بل إن التاريخ لم يحتفظ لنا بقدر من المخطوطات القديمة لأي كتاب قدر ما احتفظ به من المخطوطات اليونانية للعهد الجديد. فمؤلفات بعض الأقدمين (على سبيل المثال: “حوليات تاسيتوس”) لم تصلنا منه سوى مخطوطة واحدة، كما لم يصلنا من بعض المؤلفات القديمة سوى بضع مخطوطات أو أكثر قليلاً، كما أن هناك مخطوطات لبعض المؤلفين مثل يوربيدس (Euripides) وشيشرون قد يصل عددها إلى مئات قليلة، أما العهد الجديد فهناك ما يقرب من 3000 مخطوطة باللغة اليونانية، بعضها قصاصات تضم بضع آيات، والبعض الغالب مخطوطات تضم العهد الجديد بأكمله، بالإضافة إلى ما يقرب 2,000 مخطوطة يونانية مرتبة حسب القراءات الكنسية اليومية، إلى جانب نحو 8,000 مخطوطة باللغة اللاتينية، وما يزيد عن 2,000 مخطوطة من الترجمات القديمة في لغات عديدة غير ما يكتشف بين وقت وآخر.
ومن ناحية أخرى، نجد أن سلامة نصوص مخطوطات العهد الجديد، تفوق – بما لا يُقاس – سلامة أي كتاب قديم آخر. ويرجع تاريخ أقدم مخطوطة معروفة من أعمال بعض المؤلفين القدامى إلى نحو ألف عام أو أكثر بعد موت الكاتب، وليس من النادر أن يكون الفرق الزمني بضع مئات من السنين أو على الأقل ثلاثمائة عام كما في حالة فرجيل (Virgil). ولكن على النقيض من ذلك، نجد أن اثنين من أهم المخطوطات التي وصلت إلينا للعهد الجديد ترجع إلى أقل من ثلاثمائة عام من عصر الرسل.
بل إن جزءاً كبيراً من العهد الجديد باقٍ في مخطوطات بردية ترجع كتابتها إلى مائة أو مائتي عام بعد حياة كاتبيها من الرسل. ولما كان علماء الكلاسيكيات يفترضون الثقة – عموماً – في الكتابات الدنيوية حتى لو كان الفاصل الزمني بين وقت كتابتها أصلاً وبين وقت تدوين المخطوطة كبيراً، ولو لم يوجد منها سوى العدد القليل من المخطوطات، فواضح أنه جدير بدارس العهد الجديد أن يثق بأن نص العهد الجديد الذي بين يديه هو نفس ما دونه كاتبوه أصلاً.
وفي نفس الوقت، فإن استنساخ عمل أدبي قبل عصر الطباعة يختلف عنه بعد اختراعها، فمن الممكن الآن طباعة أي عدد من النسخ المتطابقة تماماً، أما قديماً فكانت كل نسخة تكتب على حدتها باليد. وفي مثل تلك الأحوال، كان لابد ألا تتطابق تماماً أي مخطوطتين من أي كتاب وبخاصة إذا كان كبيراً نوعاً. ويغطي عصر الكتابة اليدوية للمخطوطات فترة من الزمن يبلغ ثلاثة أرباع الزمن منذ إتمام كتابة العهد الجديد حتى الآن. ونظراً للأعداد الهائلة التي تم نسخها من مخطوطات بعض أو كل العهد الجديد، خلال القرون الأولى، فإن معنى هذا أن العديد من الاختلافات قد وجدت طريقها إلى المخطوطات. وقد فقدت أصول أسفار العهد الجديد – بلا شك – في زمن مبكر جداً. ومعنى هذا أنه ليس من الممكن أن نحدد بدقة كاملة كل كلمة من الكلمات الأصلية للعهد الجديد على أساس أي مخطوطة بذاتها، ولا سبيل إلى ذلك إلا بمقارنة العديد من المخطوطات ووضع أسس تحديد الشكل الدقيق – بقدر الإمكان – للنص الأصلي. وتعرف دراسة مخطوطات الأعمال الأدبية – التي فقدت أصولها – بهدف تحديد النص الأصلي، باسم “نقد النصوص” (texual criticsim). ومع أن العهد الجديد هو أكبر وأهم مجال لهذه الدراسة، فإن الدراسة النقدية للنصوص أمر ضروري لكل عمل أدبي قديم، إذ يندر جداً وجود النص الأصلي بخط يد الكاتب القديم نفسه.
إن نقد النصوص أمر جوهري ومطلب ضروري لدراسة العهد الجديد، لأنه يجب أن يسبق تحديد النص الأصلي محاولة تفسيره.
عند نسخ أي كتاب بخط اليد، لا بُد أن تحدث أخطاء عند النقل سواء سهواً أو عمداً – في بعض الأحيان – وعند استنساخ هذه النسخة تنتقل أخطاء النسخة المنقول عنها إلى النسخة الجديدة علاوة على ما يحدث من الناسخ الجديد من أخطاء واختلافات عند النقل. وهكذا كلما زاد عدد مرات النسخ بين مخطوطة أصلية إلى أن نصل إلى مخطوطة من عصر متأخر، زاد عدد الأخطاء والاختلافات في المخطوطة الأخيرة، فمخطوطة من القرون المتأخرة يكون قد مر بينها وبين المخطوطة الأصلية أجيال من المخطوطات، أكثر مما لو كانت من قرون مبكرة. ولكن قد ترجع مخطوطة إلى القرن الحادي عشر ولكنها نقلت مباشرة عن مخطوطة من القرن الرابع، التي لم يفصلها عن المخطوطة الأصلية إلا أجيال قليلة من المخطوطات، بينما قد تنقل مخطوطة من القرن الثامن عن مخطوطة من القرن السابع يفصل بينها وبين المخطوطة الأصلية عشرون جيلاً مثلاً – من المخطوطات.
وفيما يختص بمخطوطات العهد الجديد، فإن العدد الكبير نسبياً المعروف لنا الآن، لا يمثل – بدون شك – إلا نسبة ضئيلة من العدد الضخم الذي تم إنجازه في القرون الأولى. وفي الحقيقة لا يمكننا بأي حال أن نثبت أن مخطوطة معينة هي الأصل الذي نقلت عنه مخطوطة أخرى، كما لا يمكننا أن نحدد عدد الأجيال من المخطوطات التي تفصل بين أي مخطوطة والمخطوطة الأصلية، ولذلك يفترض العلماء – بعامة – أن مخطوطة من عصر متأخر يفصل بينها وبين المخطوطة الأصلية عدد من أجيال المخطوطات أكثر مما يفصل بين مخطوطة من عصر مبكر والمخطوطة الأصلية، أقل قيمة من الثانية، مع اعترافهم بوجود بعض الاستثناءات لهذه القاعدة.
ويجب ألا يخطر على بالنا أن نصوص العهد الجديد مبنية على أسس مشكوك في صحتها بسبب العدد الكبير من أجيال المخطوطات، أو بسبب العدد الضخم من الاختلافات الموجودة في المخطوطات، ففي الواقع لا يحوم أدنى شك حول الجزء الأكبر من كلمات العهد الجديد. ولم يسترع انتباه ناقدي النصوص سوى جزء صغير جداً نسبياً من كلمات العهد الجديد، فكل مخطوطات العهد الجديد في واقع الأمر متطابقة ولا يوجد أدنى شك في سبعة أثمان كلمات العهد الجديد، ولو غضضنا الطرف عن الاختلافات عديمة القيمة، فإن 1 / 60 (نحو 1,67%) فقط من كلمات العهد الجديد يمكن أن تكون موضع تساؤل، وما لا يزيد عن كلمة واحدة من كل ألف كلمة (0,1%) يمكن أن يدور تساؤل جوهري حول النص الأصلي لها، إلا أنه ما من عقيدة من عقائد المسيحية مبنية على نص غير محقق أو يحوم حوله أدنى شك.
ثانياً: علم الكتابة القديم (الباليوجرافيا Paleography):
(أ) أشكال الكتابة:
(1) لفائف البردي:
في القرن المسيحي الأول الذي كتبت فيه أسفار العهد الجديد كان الشكل المألوف للمخطوطات هو لفائف البردي. والبردي ينمو على شكل أعواد طويلة من البوص على ضفاف النيل، ولا يكاد ينمو في غير ذلك من الأماكن. ولإعداده للكتابة كانت تقشر سيقان النبات ويشق اللب (نخاع السيقان) إلى شرائح رقيقة توضع جنباً إلى جنب في طبقة واحدة ثم توضع فوق هذه الطبقة، طبقة أخرى متعامدة عليها، ثم يطرق فوقها طرقاً خفيفاً حتى تلتصقا معاً، وتترك في الشمس، وبذلك تصبح الصحيفة الرقيقة الناتجة من هذه العملية، صالحة للكتابة عليها بالطول، وكان يستعمل لهذا الغرض قلم خاص من البوص. وكانت تتراوح مساحة هذه الصحائف بين ست بوصات عرضاً وتسع بوصات طولاً، إلى اثنتي عشرة بوصة عرضاً وخمسة عشر بوصة طولاً. وكان يوضع طرف صحيفة فوق طرف صحيفة أخرى ويلصقا معاً، وهكذا حتى تتكون لفافة من عشرين صحيفة في العادة، ومتى لزم الأمر كانت تلتصق عدة لفائف معاً. ولكن كان هناك عمليًّا حد معين لطول البردية، وقد يتطلب المؤلَّف الأدبي الكبير أكثر من درج أو لفافة من البردي. وكانت البردية عادة تطوى حول نفسها. وكانت أعمدة الكتابة عادة ضيقة حتى لا تستلزم قراءة البردية بسط جزء كبير منها. وكانت الكتابة تدون على الوجه الداخلي للبردية، ولذلك كانت ترص شرائح البردي في هذا الوجه أفقياً. ولم يكن يكتب عادة على السطح الخارجي للبردية لعدم سهولة القراءة على ذلك الوجه، ولصعوبة الكتابة على الشرائح الرأسية، ولكن كانت هناك بعض الاستثناءات، فقد رأى يوحنا في رؤياه “سفراً مكتوباً من داخل ومن وراء” (رؤ5: 1).
والدرج (أو اللفافة) كأحد أشكال الكتاب، له عيوب محددة، مثلما يحدث عند نقله على شرائط الميكروفيلم، كما يجب إعادة لف الدرج عقب استعماله في كل مرة، وقد يهمل أحد القراء ذلك ليتولاه من يليه، بالإضافة إلى أن الرجوع إلى مواضع مختلفة من الدرج كان – ولا شك – يشكّل صعوبة أكبر مما في الكتب المألوفة لنا الآن، فكانت هذه هي الأسباب الرئيسية التي أدت – بعد بداية العصر المسيحي بقليل – إلى استبدال هذه اللفائف بالكتب.
(2) مخطوطات البردي:
استخدمت الألواح الشمعية – منذ القديم – في التمارين المدرسية وفي الكتابات الوقتية، وكانت هذه الألواح إلى حد ما – شبيهه بألواح الأردواز التي يستخدمها الأطفال ولكن كان سطوحها تغطى بالشمع بدلاً من الأردواز، وكان يكتب عليها بقلم معدني وكان يكتب عليها بقلم معدني وبمرور الوقت تتطور الأمر إلى ربط عدة ألواح منها بأشرطة جلدية تمر من خلال ثقوب على هامش الألواح. وقد أدى هذا الأمر – قبل العصر المسيحي – إلى عمل الكراسات المكونة من صفحات مطوية. وقد استخدمت هذه الكراسات في أغراض غير رسمية، وفي غير الكتابات الأدبية، ثم أصبح الكاتب يستخدمها كمسودة لأعماله، التي تنسخ بعد ذلك في صورتها النهائية على لفائف من البردي.
(3) الرقوق الجلدية:
كما استخدمت جلود الحيوانات – منذ القديم – في الكتابة. وقبل العصر المسيحي بنحو مائتي عام ابتكرت طريقة جديدة لمعالجة الجلد، حيث كانت تكشط الجلود وتنقع في الجير الحي، وتبعث بالطباشير وحجر الخفاف، فينتج سطح رقيق متماسك قوي الاحتمال صالح للكتابة عليه بريشة طائر أو بقلم لين من البوص. وعرفت تلك الصحائف بالرقوق، ثم استعملت لتدوين المذكرات على هيئة مخطوطات. وفي زمن تدوين أسفار العهد الجديد أصبحت المخطوطة على شكل كتاب، سواء من البردي أو الرقوق، أمراً مألوفاً، لكن ظل الشكل الغالب لتسجيل الأعمال الأدبية هو لفائف البردي على مدى بضعة قرون. ولكن أقدم مخطوطات العهد الجديد على شكل الكتب، وليست على شكل الأدراج أو اللفائف. كما أدى تدوين العهد الجديد إلى استخدام الرقوق عوضاً عن البردي، فبعد أن كان العهد الجديد يكتب على أوراق البردي في بداية العصر المسيحي، حلت الرقوق الجلدية محل البردي تماماً منذ بداية القرن الرابع، وسواء كانت المخطوطات. الأصلية للعهد الجديد على شكل لفائف أو مجلدات، فإنه لم يمض وقت طويل حتى صارت المجلدات هي الشكل الوحيد لمخطوطات العهد الجديد، ولعل رجوع المسيحيين الأوائل دائماً إلى الأسفار المقدسة، كان هو السبب في تعميم استخدام المجلد عوضاً عن الدرج، وكما سبق القول، إن أقدم المخطوطات الموجودة الآن هي من مجلدات البردي ثم تحولت من القرن الرابع إلى مجلدات من الرقوق الجلدية. وقبل اختراع الطباعة بوقت قصير أفسحت الرقوق الجلدية المكان للورق في العالم الغربي.
والخلاصة أن الأسفار الأصلية كانت على شكل لفائف أو مجلدات من البردي، وفي القرنين الثاني والثالث كانت على شكل مجلدات من البردي، أما في القرن الرابع فأصبحت على شكل مجلدات من الرقوق مع بعض المجلدات من البردي التي ظلت مستخدمة حتى القرن السابع.
(4) أشكال أخرى:
تم تدوين بعض أجزاء صغيرة من العهد الجديد على صورتين أخريين يصعب أن يعتبرا ضمن المخطوطات، فأكثر من عشرين جزءاً من العهد الجديد (تمثل ستة أسفار) نجدها مكتوبة على قطع مكسورة من الفخار الذي كان يستعمله الفقراء مادة للكتابة.
وبالإضافة إلى ذك كانت تكتب بعض كلمات قليلة من العهد الجديد على أنواع مختلفة من المواد، لتستخدم كطلاسم أو تعاويذ، رغم تحريم الكنيسة لذلك، وقد وصلتنا بعض هذه الطلاسم.
(ب) الخطوط:
(1) الخط الكبير المنفصل الحروف (Uncial):
منذ ما قبل العصر المسيحي، كان هناك نمطان من الخط اليوناني، أحدهما يستخدم في الرسائل والأعمال التجارية والموضوعات غير الأدبية ويكتب بحروف متصلة (Cursive). والآخر للأغراض الأدبية ويكتب بحروف كبيرة منفصلة (Uncial – شبيهه بالحروف الإنجليزية الكبيرة في أول الجمل). فإذا أخذنا في الاعتبار الاستخدامات الخاصة لهذين الأسلوبين للكتابة، نستطيع أن نفترض أن مخطوطات العهد الجديد التي كانت تُعدّ للنشر – مثل الأناجيل – كانت تكتب عادة بالحروف الكبيرة المنفصلة (Uncial)، بينما الكتابات الشخصية – كرسائل الرسول بولس – كانت تكتب بالحروف المتصلة، ولكن عندما نسخت هذه الرسائل لنشرها، كتبت أيضاً بالحروف الكبيرة المنفصلة. وكل المخطوطات القديمة وصلت إلينا، سواء من رسائل الرسول بولس أو غيرها من أسفار العهد الجديد، مكتوبة بالحروف الكبيرة المنفصلة، حتى ليمكن القول بأن العهد الجديد قد نشر منذ البداية مكتوباً بالحروف الكبيرة المنفصلة (Uncial).
(2) الخط الصغير (minuscule):
استمرت طريقتا الكتابة جنباً إلى جنب لعدة مئات من السنين، ثم حدث في أوائل القرن التاسع تطويراً لأسلوب الكتابة بالحروف المتصلة، باستحداث طريقة أرق وأسهل، (هي أشبه بخط الرقعة في العربية)، وقد ساعدت هذه الطريقة للكتابة على إخراج مخطوطات رائعة، علاوة على أن الكتابة بها أسرع من الكتابة بالحروف الكبيرة المنفصلة. وترجع أقدم مخطوطة معروفة للعهد الجديد بالخط الصغير المتصل إلى 835م، كما أنها أقدم مخطوطة للعهد الجديد تحمل تاريخاً. وبنهاية القرن العاشر الميلادي كانت الكتابة بالحروف الصغيرة المتصلة هي المعمول بها وحلت محل الكتابة بالحروف الكبيرة المنفصلة. وبهذا نستطيع أن نقسم تاريخ مخطوطات العهد الجديد، ففي القرون الأولى نجد المخطوطات مكتوبة بحروف كبيرة منفصلة، كما نجد مخطوطات مكتوبة بالأسلوبين من الخطوط في أواخر القرن التاسع والقرن العاشر كله. أما بعد ذلك فالمخطوطات جميعها بالحروف الصغيرة المتصلة.
وفيما بين عصري الكتابة بالحروف الكبيرة المنفصلة والكتابة بالحروف الصغيرة المتصلة، توجد بعض الملامح التي تساعد على تحديد تاريخ المخطوطات بوجه التقريب، فأقدم المخطوطات بالحروف الكبيرة المنفصلة على ورق من البردي نجدها خالية من الزخرفة، ولا يشار إلى الفصل الجديد بأكثر من نقطة كعلامة ترقيم، أو بمسافة صغيرة على السطر. كما أن أقدم هذه المخطوطات على الرقوق، لا تحتوي على زخارف ولكن بها القليل من الفواصل وعلامات الترقيم، أما الفصل الجديد بقد يبدأ بسطر جديد أو بحرف كبير نوعاً على الهامش الأيسر للصفحة. وبمرور الوقت أضيفت الحركات والوقفات وعلامات الترقيم الأخرى. أما الحروف التي يبدأ بها فصل جديد فكانت تكتب مزخرفة وكبيرة مع بعض الصور والزخارف، على أن الكتابة ذاتها أسوأ مما كانت قبلاً وحروفها ثقيلة وأقل دقة.
ولقد مرت مخطوطات الخط الصغير ذي الحروف المتصلة في نفس المراحل تقريباً، فعلى الرغم من وجود الفواصل وعلامات الترقيم بها منذ البداية، فإن المخطوطات الأولى منها كانت جميلة الخط وواضحة والزخرفة فيها قليلة نسبياً، ولكنها أصبحت – فيما بعد – أقل دقة وجمالاً مع الإسراف في الزخرفة. وإحدى سمات المخطوطات اليونانية، عدم وجود فواصل بين الكلمات، سواء في الخط الكبير المنفصل الحروف، أو في الخط الصغير المتصل الحروف، وإذا لم تنتهي الكلمة بنهاية السطر. فإنها تستكمل في السطر التالي حسب قواعد محددة في تقسيم المقاطع.
(ج) إعادة استعمال الرقوق بعد محو الكتابة التي عليها (Palimpests):
مع أن البردي كان خامة جيدة للكتابة عليه، الا أنه لا يتحمل محو الكتابة وإعادة استخدامه مراراً للكتابة، أما الرقوق فعلى العكس من ذلك، فهي تحتمل محو الكتابة وإعادة الكتابة عليها، وذلك متى لم تعد هناك حاجة إلى ما هو مسجل على الرقوق، أو إذا حدث تلف أو تمزق في الصحائف، فكان في الإمكان نزع الصحائف التالفة من المخطوط، ثم يمحى النص الأصلي المكتوب على الصحائف الباقية ويعاد تنظيمها على شكل ملازم جديدة لكتابة نص آخر عليها. حتى مخطوطات العهد الجديد لم تسلم من هذا المحو، حتى اضطرت السلطات الكنسية إلى تحريم هذا العمل، ويطلق على المخطوطة التي تمحى كتابتها الأصلية وتعاد الكتابة عليها بالوصف اليوناني “باليمبست” (palimpest) أي “المحو ثانية”. ولحسن الحظ لم يكن هذا المحو كاملاً عادة حيث أمكن قراءة الكثير من النصوص الممحوة، من خلال الكتابة الجديدة. ومن أهم هذه الرقوق من مخطوطات العهد الجديد، المخطوطة> C <المعروفة باسم “المخطوطة الأفرايمية”، فلقد أزيلت نصوص العهد الجديد التي كانت مكتوبة عليها أصلاً، لتكتب عليها مقالات لمار أفرآم السرياني، أحد آباء الكنيسة السريانية. ومجموع هذه الرقوق التي وصلتنا، لا يتجاوز خمسين مخطوطاً كانت عليها أصلاً نصوص العهد الجديد بالحروف الكبيرة المنفصلة.
(د) الاختصارات:
كانت الاختصارات – في أقدم مخطوطات العهد الجديد – مقصورة تماماً على نحو خمس عشرة كلمة فقط، مثل “الله” و “الرب” و “السماء” وبعض الكلمات الأخرى التي لها صبغة مقدسة، وكانت هذه الاختصارات عبارة عن الحرفين الأول والأخير من الكلمة مع وضع خط أفقي فوق السطر للدلالة على الاختصار. علاوة على ذلك كان إذا حدث أن جاء حرف النون (nu) في نهاية السطر، كُتب نيابة عنه خط أفقي مرتفع للدلالة عليه. وفي عصر الكتابة بالحروف الصغيرة المتصلة، امتد الاختصار إلى كلمات كثيرة بكتابة المقطع الأول فقط من الكلمة. كما حدث أيضاً دمج حرفين أو أكثر معاً في وحدة واحدة، إلى جانب الرموز التي كانت نوعاً من الاختزال الذي يمثل كلمات معينة أو نهايات معينة.
(ه) أقسام النص:
يوجد بالعديد من المخطوطات اليونانية للعهد الجديد، أرقام (يشار إليها بالحروف اليونانية) في الهوامش تشير إلى تقسيمات آمونيوس والجداول اليوسابية. ولقد قسمت الأناجيل الأربعة في زمن مبكر جداً إلى أقسام مختلفة. وتعزى هذه الأقسام إلى شخص اسمه أمونيوس (Ammonius). وفي القرن الرابع الميلادي قام يوسابيوس – أحد آباء الكنيسة – بترتيب الإنجيل على أساس تقسيمات أمونيوس، وباستخدام الأرقام التي قسم بها أمنيوس الأناجيل. كما أعد يوسابيوس جداول سجل فيها الفقرات المتناظرة في الأناجيل الأربعة، والفقرات التي يتفق فيها ثلاثة أناجيل، والفقرات التي يتفق فيها إنجيلان، وكذلك الفقرات التي لم ترد إلا في إنجيل واحد. ثم أضاف بعد ذلك رقم الجدول إلى رقم كل قسم من تقسيمات أمونيوس في كل الأناجيل، وقد سهَّل هذا النظام على القارئ معرفة الأجزاء المتناظرة في الأناجيل. وقد استخدمت هذه الأرقام أيضاً في بعض طبعات العهد الجديد في اليونانية.
(و) سلسلة مقتطفات من كتابات آباء الكنيسة:
بالإضافة إلى مخطوطات العهد الجديد المتواترة، هناك نوعان آخران من المخطوطات: أحدهما المخطوطات الملحق بالنص الكتابي بها مختارات من كتابات آباء الكنيسة شرحاً نصوص العهد الجديد. وقد اتخذت مخطوطات العهد الجديد المصحوبة بتعليقات الآباء عدة أشكال ل: فقد يكتب شرح الآباء على الهوامش الخارجية حيث يشغل النص الكتابي حيزاً صغيراً من الصفحة. وقد يكتب الشرح مع النص الكتابي في فقرات بالتبادل، أو أن يدون النص الكتابي والشرح في أعمدة متوازية. وكان يكتب اسم صاحب الشرح في المخطوطات الأقدام عهداً، أما في المخطوطات المتأخرة، فكان اسم الشارح يكتب مختصراً أو يرمز إليه أو يغفل تماماً. كما كان يوضع رمزاً أو رقم في بداية الفصل في مسلسل شروح الآباء وفي صلب نصوص العهد الجديد للدلالة على الفقرة الكتابية التي يرتبط بها الشرح.
(ز) القراءات الكتابية: وهناك مخطوطات أخرى تختلف عن مخطوطات نصوص الكتاب، هي مخطوطات القراءات الكتابية، وفيها ترتب أجزاء من العهد الجديد بنظام معين لتقرأ في الخدمة الكنسية على مدار السنة. ونجد انعكاساً لهذه القراءات اليومية في العديد من المخطوطات العادية للعهد الجديد، حيث نجد كلمتيّ: “البداية والنهاية” أو مختصراً يدل عليهما.
ثالثاً: الأدلة على صحة النصوص:
لقد وصلتنا نصوص العهد الجديد عن ثلاثة مصادر هي:
(أ) المخطوطات اليونانية،.
(ب) الترجمات القديمة،.
(ج) اقتباسات الكتَّاب القدامى.
(أ) المخطوطات اليونانية:
كان الكتَّاب الأقدمون – عندما يستشهدون بالمخطوطات اليونانية، يشيرون إليها بطرق مختلفة: إما بالاسم أو برمز يربط بين المخطوطة وصاحبها، أو بالمكتبة التي تحتفظ بها. ولما كثر الاستشهاد بإعداد متزايدة من المخطوطات، أصبح من الضروري استخدام نظام أبسط. ولقد بذلت محاولات عديدة في هذا المضمار، قبل أن يستكمل النظام المستخدم حالياً، حيث يشار إلى المخطوطات – البردية – وكلها بالحروف الكبيرة المنفصلة – بحرف> P <يعلوه رقم لكل مخطوطة. وتضم هذه المجموعة من البرديات ستاً وسبعين بردية. أما المخطوطات المكتوبة على رقوق جلدية بالحروف الكبيرة المنفصلة، فيشار إلى بعضها بحروف كبيرة من الأبجدية الإنجليزية واليونانية، مع ذكر رقم مسبوق بالصفر ( “مثل02. 065”) بسبب قصور ومحدودية الحروف الأبجدية. أما المخطوطات المكتوبة بالخط الصغير المتصل، فيشار إليها بالأرقام (مثل 33. 565. 2065). أما القراءات الكتابية فيشار إليها برقم يسبقه المقطع الأول من كلمة “قراءات” في اليونانية “lect” أو الحرف الأول منها “L” (مثل lect 22. L1301).
(1) المخطوطات البردية:
جميع ما وصلنا من أقدم المخطوطات اليونانية للعهد الجديد، مسجل على ورق البردي، ويرجع تاريخها إلى الفترة من منتصف القرن الثاني الميلادي حتى القرن الرابع، ولكن بردية واحد (برقم p74) ترجع إلى القرن السابع. ورغم أن البرديات عبارة عن أجزاء غير كاملة إلا أنها في مجموعها تشكل قدراً كبيراً من العهد الجديد، ورغم أنها ترجع إلى زمن مبكر إلا أنها فقدت الكثير من أهميتها لأنها مكتوبة بخط كتبة غير مؤهلين، ويبدو فيها عدم الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة.
وهناك مجموعتان هامتان من المخطوطات البردية، هما:
1 – مجموعة تشستر بيتي (Chester) في دبلن بأيرلندا، التي حصل عليها في 1930 / 1931، وتضم البرديات الآتية:
أ بردية “p45” وتحوي 1 / 7 الأناجيل الأربعة تقريباً مع سفر الأعمال. وترجع إلى أوائل القرن الثالث الميلادي.
ب بردية “p46” وتحوي جزءاً كبيراً من رسائل الرسول بولس (ما عدا الرسائل الرعوية) بالإضافة إلى الرسالة إلى العبرانيين، وترجع أيضاً إلى أوائل القرن الثالث الميلادي.
ج بردية “p47” وتحتوي على 1 / 3 سفر الرؤيا تقريباً وترجع إلى القرن الثالث أيضاً.
ومعظم أوراق برديات مجموعة “تشستر بيتي” موجود في “دبلن” ولو أن ثلاثين ورقة من الأوراق الستة والثمانين للبردية “P46” موجود في مجموعة جامعة “متشجن”. كما توجد بعض قصاصات من ورقة واحدة من أوراق البردية “P 45” في “فيينا”. وقد نشر السير “فريدريك كنيون” (Frederic Kenyon) هذه المخطوطات في كتيبات تضم صوراً فوتوغرافية لها إلى جانب النص المطبوع.
2 – والمجموعة الثانية من المخطوطات البردية للعهد الجديد – ولعلها الأهم – هي مجموعة “مكتبة بودمر (Bodmer) في جنيف بسويسرا. ولا نعرف سوى القليل عن المصدر الحقيقي لهذه البرديات، وهي تضم:
أ – البردية> P 66 < وتشمل على قسم كبير من إنجيل يوحنا، ويرجع بعض العلماء بتاريخها إلى منتصف القرن الثاني الميلادي، وهي بذلك تعتبر أقدم مخطوطة لأي جزء من العهد الجديد.
ب – البردية> P 72 < وتشتمل على رسالة يهوذا ورسالتي بطرس الرسول، بالإضافة إلى العديد من كتابات أخرى. ويرجع تاريخها إلى القرن الثالث الميلادي.
ج – البردية> P 73 < وتشمل على جزء صغير من إنجيل متى.
د – البردية> P 74 < والجدير بالملاحظة هو أنها مخطوطة بردية رغم أنها كتبت في القرن السابع الميلادي، وتضم سفر أعمال الرسل والرسائل الجامعة في صور قصاصات.
ه – البردية> P 75 < وتضم جزءاً كبيراً من إنجيلي لوقا ويوحنا. وترجع إلى أواخر القرن الثاني أو بعد ذلك بقليل.
وقد تم نشر برديات بودمر – ما عدا البردية> P73 < – مع صور فوتوغرافية لها.
و – وأقدم قصاصة معروفة من المخطوطات اليونانية للعهد الجديد – بل لعلها أقدم من البردية> P66 <، هي قصاصة صغيرة يرمز إليها بالرمز> P52 < وتوجد في مكتبة “جون ريلاندز” (Rylands) في مدينة منشستر بإنجلترا، وهي تضم سطوراً قليلة من الأصحاح الثامن عشر من إنجيل يوحنا. ويرجع تاريخ هذه البردية إلى النصف الأول من القرن الثاني الميلادي، كما سجل ذلك محررها، وكذلك حسب تقدير علماء الكتابات القديمة. وتقدم هذه البردية الدليل على خطأ “نقاد توبنجن” (Tubingen)، في زعمهم أن الإنجيل الرابع كتب في نحو 160م، فهذه البردية تثبت أن الإنجيل الرابع كان متداولاً قبل ذلك بوقت طويل حتى أنه وصل في أوائل القرن الثاني إلى أعماق مصر حيث وجدت هذه البردية.
وهناك برديات أخرى موجودة إما فرادى أو في مجموعات في المكتبات في أجزاء مختلفة من أوروبا والولايات المتحدة والشرق الأوسط.
(1) المخطوطات بالحروف الكبيرة المنفصلة:
يبلغ عدد المخطوطات المكتوبة بالحروف الكبيرة المنفصلة على رقوق من الجلد، نحو مائتين وخمسين مخطوطة تتفاوت أحجامها من قصاصة تضم بضعة آيات إلى مخطوطة تضم العهد الجديد كله وقد كتبت في فترات بين القرن الرابع حتى القرن العاشر الميلادي، ولذلك هي أحدث عهداً من معظم البرديات. ولكن قيمة هذه المخطوطات أكبر من قيمة البرديات لأنها أشمل منها في محتواها، بالإضافة إلى أنه في خلال فترة الكتابة بالحروف الكبيرة المنفصلة، حصلت المسيحية على الاعتراف الرسمي بها في أوائل القرن الرابع، وبالتالي فان معظم هذه المخطوطات تدل على أنها كتبت بيد كتبة مؤهلين. وفيما يلي أهم هذه المخطوطات:
أ – مخطوطة “ألف” (01) أو المخطوطة السينائية، وترجع إلى القرن الرابع الميلادي وتضم العهدين القديم والجديد كاملين، وهي محفوظة في المتحف البريطاني بلندن. وقصة اكتشاف هذه المخطوطة في دير سانت كاترين في سيناء (ومن هنا اكتسبت اسمها)، على يد قسطنطين تيشندروف (Tischendorf) قصة مثيرة. وتعد هذه المخطوطة من أهم مخطوطات العهد الجديد التي وصلت إلينا، وهي مكتوبة بخط جميل مع بعض الزخرفة، على أربعة أعمدة في كل صفحة. ويبلغ طول كل صفحة خمس عشرة بوصة، وعرضها ثلاث عشرة بوصة، وى. وقد نقلها تيشندورف من سيناء إلى روسيا في 1859م حتى إنه أبى أن يسجلها تحت رقم مبهم في القائمة الأبجدية للمخطوطات بل سجلها تحت أول حرف من حروف الأبجدية العبرية “الألف”. وفي 1933م قامت الحكومة البريطانية بشراء هذه المخطوطة من الحكومة السوفيتية بمبلغ مائة ألف جنيه إسترليني.
ب – المخطوطة المرموز لها بالرمز “A (02) ” أو المخطوطة الإسكندرية (Codex Alexandrinus). وهي مخطوطة من القرن الخامس وتشمل معظم العهدين (ولكن ينقصها من العهد الجديد إنجيل متى كله تقريباً وجزء من إنجيل يوحنا، ومعظم الرسالة الثانية إلى كورنثوس)، وهي معروضة في المتحف البريطاني بجانب المخطوطة السينائية. وبعد أن حصل بطريرك القسطنطينية على هذه المخطوطة من الإسكندرية أهداها في 1627م إلى الملك شارل الأول ملك إنجلترا. ويبلغ طول الصفحة فيها ثلاث عشرة بوصة وعرضها عشر بوصات، ومكتوبة على عمودين في كل صفحة، وبها من الزخارف أكثر مما بالمخطوطة السينائية.
ج – المخطوطة الفاتيكانية> B (03) <: وقد كتبت في منتصف القرن الرابع الميلادي تقريباً، وهي موجودة في مكتبة الفاتيكان منذ القرن الخامس عشر أو قبل ذلك. ولعلها أهم مخطوطة باقية للعهد الجديد، وكانت أصلاً تضم العهدين كليهما وجزءاً من أسفار الأبو كريفا، أما الآن فينقصها معظم سفر التكوين وجزء من المزامير في العهد القديم، وجزء من الرسالة إلى العبرانيين وكل رسائل تيموثاوس الأولى والثانية وتيطس وفليمون وسفر الرؤيا في العهد الجديد. وطول الصفحة مثل عرضها ويبلغ نحو إحدى عشر بوصة. أم النص فمكتوب بخط جميل أنيق بدون زخرفة، وعلى ثلاثة أعمدة في كل صفحة.
د – المخطوطة الأفريقية> C (04) <: وهي أهم مخطوطة باللغة اليونانية للعهد الجديد على رقوق أعيد استعمالها بعد محو الكتابة التي كانت عليها قبلاً. وتوجد هذه المخطوطة في المكتبة القومية في باريس، ويرجع تاريخها إلى القرن الخامس الميلادي، وكانت أصلاً تضم كلا العهدين القديم والجديد، وفي القرن الثاني عشر تم محو النص الكتابي من عليها فنزعت معظم أوراقها، وما بقي منها كتبت عليه بعض أقوال أفرام السرياني. وقد تمكن تيشندورف من قراءة النص الكتابي ونشره، إلا أنه استخدام الكيماويات في محاولة إظهار الكتابة الأصلية، قد شوه المخطوطة بدرجة كبيرة. وتضم الأجزاء المتبقية من المخطوطة أجزاء من كل أسفار العهد الجديد تقريباً.
ه المخطوطة البيزية (Codex Bezae) ويرمز لها بالرمز> D (05) <: وهي مخطوطة من القرن السادس وتضم الأناجيل الأربعة وسفر الأعمال، وهي محفوظة في مكتبة جامعة كمبردج منذ أن أهداها إليها تيودوربيزا في 1581م. وقد كتب النص على عمود واحد لكل صفحة مع اختلاف في أطوال السطور. والنص فيهما مدون بلغتين هما اليونانية واللاتينية على صفحتين متقابلتين. وترتيب الأناجيل فيها يبدأ بإنجيل متى ثم يوحنا فلوقا ثم مرقس. وتعد الممثل الرئيسي لما يعرف “بالنص الغربي” (Western text). ولنصوصها بعض الظواهر المميزة، كما أن سفر الأعمال فيها يزيد بمقدار العشر عن النص المألوف.
والمخطوطة الكلارومونتانية (Codex claromontantanus) ويرمز لها بالرمز “(06) D Paul”. وهي محفوظة في المكتبة القومية في باريس، ويرجع تاريخها إلى القرن السادس وتضم كل رسائل الرسول بولس إلى جانب الرسالة إلى العبرانيين، ومن الملفت للنظر أن المخطوطتين المسجلتين تحت الرمز> D <مدونتان بلغتين هما اليونانية واللاتينية على صفحتين متقابلين (اليونانية على الصفحة اليسرى). وقد كتب النص في كلتا المخطوطتين بحيث يكون لكل سطر معنى مستقل، لذلك اختلفت أطوال السطور. وتمثل كلتا المخطوطتين النص الغربي.
ز المخطوطة الأرجوانية البتروبوليتانية (Codex Purpureus.. Petropolitanus) ويرمز لها> N (022) < وهي مكتوبة بحروف فضية على رقوق أرجوانية، ومثلها في ذلك> Q (023) Codex، (042) <،> (043) <. وترجع هذه المخطوطات الأربع إلى القرن السادس الميلادي. ويوجد معظم المخطوطة الأرجوانية> N (022) <في ليننجراد، كما توجد أجزاء منها في أماكن أخرى عديدة.
ح – المخطوطة الفريريانية أو الواشنطينية (Codex Freerianus) وترجع إلى القرن الرابع أو القرن الخامس الميلادي، وهي محفوظة في قسم فرير للفن في معهد سيمشسونيان في واشنطن ويرمز لها بالرمز “W (032)” وهي مثل المخطوطة “D” تضم الأناجيل الأربعة بالترتيب الغربي (أي متى يوحنا لوقا مرقس).
ط – المخطوطة الزاكينيثية (Codex Zacynthius) ويرمز لها بالرمز> 14 (040) < وهي محفوظة في مكتبة جمعية التوراة البريطانية في لندن، وهي عبارة عن رقوق مكتوبة بعد محو كتابة سابقة، وترجع إلى القرن الثامن، وتحوي إنجيل لوقا، وهي أقدم مخطوطة معروفة للعهد الجديد، كتب فيها النص الكتابي مع شروحات الآباء، كما أنها المخطوطة الوحيدة الباقية التي كتب فيها النص وتفاسير الآباء بالحروف الكبيرة المنفصلة.
(2) المخطوطات بحروف صغيرة متصلة: والمخطوطات المكتوبة بهذه الطريقة تزيد عدداً عن المخطوطات المكتوبة بالحروف الكبيرة المنفصلة بنسبة عشرة إلى واحد، مع احتمال فقدان نسبة كبيرة من المخطوطات بالحروف الكبيرة المنفصلة أكثر مما فقد من المخطوطات بالحروف الصغيرة وذلك لأن المخطوطات الأولى أقدم من الثانية، كما يدل التفاوت الكبير بين أعداد المخطوطات المتبقية من النوعين، على أن عملية الكتابة بالحروف الصغيرة كانت أسرع وأيسر وأقل تكلفة من الكتابة بالحروف الكبيرة المنفصلة. وأهم المخطوطات المكتوبة بحروف صغيرة هي:
(أ) المخطوطة المرقومة> I <: وهي مخطوطة من القرن الثاني عشر وتضم كل العهد الجديد ما عدا سفر الرؤيا، وهي محفوظة في بازل في سويسرا. وكانت إحدى المخطوطات التي استخدمها “إرازمس” في إعداد أول نسخة مطبوعة من العهد الجديد باليونانية، ويطلق مصطلح العائلة رقم (1) على مجموعة من هذه المخطوطات المكتوبة بحروف صغيرة، وهي المخطوطات: 1، 118، 131، 209، 1582، وترجع جميعها إلى ما بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر، وهي متشابهة جداً في نصوصها، وتختلف إلى حد ما عن نمط النص السائد في سائر المخطوطات المكتوبة بالخط الصغير بصفة عامة.
(ب) المخطوطة المرقومة برقم> 2 <: وهي من القرن الثاني عشر الميلادي وتضم كل الأناجيل وهي محفوظة في بازل في سويسرا، وقد استخدمها إرازمس أيضاً.
(ج) المخطوطة المرقومة برقم> 13 <: وترجع إلى القرن الثالث عشر وتضم كل الأناجيل، وهي محفوظة الآن في باريس. وعائلة هذه المخطوطة مكتوبة بالحروف الصغيرة، وشديدة التشابه، وتضم المخطوطات> 828,826,788,543,346,124,69,13 < وبضع مخطوطات أخرى، وتتميز هذه المجموعة بأن قصة “المرأة التي أمسكت في زنا” وردت بعد “لوقا 21: 38، وليس بعد يو 7: 52”. كما أن هناك علاقة وثيقة بين عائلة المخطوطة> 13 < وعائلة المخطوطة> I <.
(د) المخطوطة المرقومة برقم> 33 <: وتسمى “ملكة المخطوطات المكتوبة بالخط الصغير”، وذلك بسبب نصها الرائع، وترجع إلى القرن التاسع أو العاشر الميلادي وتضم العهد الجديد كله ما عدا سفر الرؤيا، وهي محفوظة في باريس.
(ه) المخطوطة المرموقة برقم> 81 <: وهي واحدة من المخطوطات القليلة التي سجل عليها تاريخ تدوينها، وهو 1044م. وتضم سفر الأعمال في نص رائع. وهي محفوظة في لندن.
(و) المخطوطة المرقومة برقم> 565 <: وترجع إلى القرن التاسع أو العاشر الميلادي، وتشتمل على الأناجيل الأربعة، وهي محفوظة في لينينجراد، وهي مكتوبة بحروف ذهبية على رقوق أرجوانية، وتعد من اجمل مخطوطات العهد الجديد، ويختلف النص فيها بعض الشيء عن نص المخطوطات العادية المكتوبة بخط صغير، ولكنها تنتمي إلى عائلتي المخطوطات> 1 <،> 13 <.
(ز) المخطوطة المرقومة برقم> 700 <: وترجع إلى القرن الحادي عشر أو الثاني عشر الميلادي، وتختلف بعض الشيء عن النص الشائع في المخطوطات المكتوبة بالحروف الصغيرة، ولكنها تشبه المخطوطة> 565 < وعائلتي المخطوطتين> I <،> 13 <. وتشترك المخطوطة “700” مع المخطوطة “162” في تسجيل عبارة “ليأت روحك القدوس علينا ويطهرنا” محل عبارة “ليأت ملكوتك” (لو 11: 2).
(ح) المخطوطة رقم> 1424 <: ويرجع تاريخها إلى القرن التاسع أو العاشر، وتملكها كلية اللاهوات اللوثرية في “ماي وود” في ولاية إيلينوي الأمريكية، وهي تحتوي على العهد الجديد كله، كما تضم شرحاً لكل أسفار العهد الجديد ما عدا سفر الرؤيا. وتشكل هذه المخطوطة مع المخطوطات المرموز لها بحرف> M < وهي نحو خمس وعشرين مخطوطة، مجموعة أو عائلة من المخطوطات برقم> 1424 <.
(3) القراءات الكتابية (Lectionaries):
ومع أن مخطوطات القراءات الكتابية بدأت أصلاً في فترة الكتابة بالحروف الكبيرة المنفصلة، إلا أن معظم المخطوطات التي وصلتنا منها، مكتوبة بالحروف الصغيرة، ولم تتم سوى دراسات قليلة حول مخطوطات القراءات الكتابية، حتى قامت جامعة شيكاغو في السنوات الأخيرة بدراستها. ففي الأزمنة المبكرة جداً، تم تحديد بعض الفصول الكتابية لقراءتها في كل يوم من أيام السنة، وفي الخدمات الخاصة والمناسبات الخاصة. كما يوجد في عدة مخطوطات للعهد الجديد داخل النص ذاته إشارات إلى بداية بعض القراءات ونهايتها. ومع بداية القرن الرابع، أعدت مخطوطات خاصة كتب فيها العهد الجديد بترتيب خاص ليستخدم في القراءات اليومية، أو للقراءة في السبوت والآحاد، بدءاً بعيد القيامة. ويعرف هذا النوع من كتب القراءات الكتابية اليومية باسم “السنكسار” (synaxarion). وهناك نوع آخر فيه قراءات لمناسبات خاصة، ويعرف باسم “مينولوجيون” (menologion) أو “القراءات الشهرية”. وتشمل دروس القراءات الكتابية كل أسفار العهد الجديد ما عدا سفر الرؤيا. أما كتاب القراءات الكتابية الذي يضم دروساً من الأناجيل فيعرف باسم “إيفانجلستريون” (Evangelistarion) أي “الإنجيل”. أما الكتاب الذي يضم دروساً من باقي أسفار العهد الجديد، فيعرف باسم “أبوستوليكون” (Apostolicon) أي “الرسائل”.
وعلاوة على تقديم النص بترتيب مختلف، فإن أولى كلمات درس الكتاب المقدس في كتب القراءات، كانت تعدَّل أحياناَ، لتجنب عدم الترابط أو لتوضيح المقصود (مثل تغيير كلمة “هو” بكلمة “يسوع”). كما أن بعض القراءات كثيراً ما تذكر مسبوقة بعبارة مثل: “وقال الرب لتلاميذه”، أو “وفي ذلك الوقت” أو “وقال الرب لهم هذا المثل” وغيرها.
وقد وصلتنا نحو ألف وثمانمائة مخطوطة للقراءات الكتابية، يتراوح حجمها بين قصاصات صغيرة إلى مخطوطات كاملة. ويضم نحو ثلثي هذه المخطوطات قراءات الأناجيل، ونحو الثلث قراءات من الرسائل. أما الكمية الضئيلة الباقية فتضم مزيجاً من النوعين.
(ب) الترجمات القديمة:
لم تكن ترجمة الأعمال الأدبية من لغة إلى أخرى أمراً مألوفاً في الأزمنة القديمة. وفي الأحوال التي تم فيها ذلك، لم تكن الترجمة من الدقة بحيث يمكن تحديد كلمات النص الأصلي. والترجمة اليونانية للعهد القديم والمعروفة بالسبعينية هي في الحقيقة الترجمة الوحيدة التي يمكن الاعتماد عليها بصفة عامة.
وبانتشار رسالة الإيمان المسيحي، بدأ المرسلون في ترجمة الكتاب المقدس إلى لغة الشعوب التي يخدمون بينها، ولأن هذه الترجمات كانت بعامة ترجمات أمينة للغة الأصلية، فإنها تقدم لنا أدلة مؤيدة لصحة نصوص العهد الجديد.
ويجب مراعاة بعض الحذر عند استخدام أي ترجمة دليلاً على النص اليوناني الأصلي الذي ترجمت عنه، فإن امتلاك المترجم لناصية اللغة اليونانية واللغة التي يترجم إليها، له أثره في سلامة ترجمته. ولكن لا بد من احتمال وجود بعض الأخطاء في الترجمة. كما ينبغي إدراك أن هناك خصائص لغوية لا نظير لها في اللغة الأخرى، فمثلاً ليس في اللاتينية أداة تعريف، ومن ثم فالكلمة في اللاتينية قد تكون منقولة عن كلمة يونانية معرفة أو نكرة. وعند الترجمة من لغة إلى أخرى، يعتمد المعنى إلى حد بعيد على ترتيب الكلمات، ومن ثم لا يمكن الاعتماد عليها في معرفة ما حدث من تغيير في ترتيب الكلمات الأصلية في اليونانية. علاوة على ذلك لم تصل إلينا المخطوطة الأصلية لأي ترجمة قديمة، ولا بد لدارس النصوص أن يبني دراسته على نسخ قد تتضمن أخطاء النقل إلى جانب ما حدث من تغييرات في الترجمة في تاريخ لاحق، ومن ثم فلا بد أن تخضع الترجمة ذاتها للنقد لتحقيق النص الأصلي للترجمة بقدر المستطاع، وذلك قبل استخدام هذه الترجمة في تحقيق النص الكتابي.
وليس للترجمة في حد ذاتها أهمية كبيرة في نقد النصوص، ولكن أهميتها تتوقف على ما تتيحه هذه الترجمة من معرفة النص اليوناني الذي نقلت عنه، ولو عرفنا تاريخ الترجمة بالتقريب، لأمكن الاستدلال على النص الذي كان مستخدماً في ذلك التاريخ في المنطقة الجغرافية التي تمت فيها الترجمة.
ونعرض فيما يلي لأهم الترجمات القديمة للعهد الجديد:
1 الترجمات السريانية: رغم أن السريانية كانت لهجة من لهجات اللغة الأرامية التي كانت مستخدمة في فلسطين في أيام الرب يسوع على الأرض، فإن الترجمات السريانية التي وصلتنا مترجمة جميعها عن أصول يونانية، ومن ثم فهي أقل قيمة من المخطوطات اليونانية. وأهم الترجمات السريانية:
(أ) الدياطسرون (Diatesseron):
رغم أنه ليس معروفاً تماماً إن هذا الكتاب قد كتب أصلاً باللغة السريانية أو باليونانية، إلا أنه يمكن اعتباره من النسخ السريانية، وذلك بسبب تأثيره الكبير على الكنيسة السريانية.
قام بكتابة الدياطسرون (ومعناه: “من خلال الأربعة”) في منتصف القرن الثاني الميلادي، رجل اسمه تاتيان (Tatian) كقصة واحدة متصلة تجمع بين مواد مأخوذة من الأناجيل الأربعة. وقد عثر في منطقة الشرق الأوسط في 1933م على قصاصة باللغة اليونانية من الدياطسرون يعتقد أنها ترجمت عن السريانية. والأرجح أن الدياطسرون قد ترجم إلى اللاتينية في حياة تاتيان. ولا توجد مخطوطة للدياطسرون بصورته الأصلية في السريانية، ولكن وصلنا جزء من شرح له في السريانية بقلم أفرايم السرياني (378م)، ويعتبر أهم مصادر معرفتنا بالدياطسرون. وقد احتفظت لنا ترجمة أرمينية بكل شرح أفرايم له. كما توجد جملة مخطوطات له في العربية وكذلك في الفارسية: وقد ترك الدياطسرون تأثيراً كبيراً في الشرق وبخاصة في الكنائس السريانية والآرمينية والجورجيانية. كما يظهر تأثير الدياطسرون في التوفيقات بين الأناجيل الأربعة، التي كتبت بعد ذلك في لغات أخرى. وتم رفض الدياتسرون من الكنيسة بسبب عدم اتفاقه مع قصد الوحي الإلهي.
(ب) السريانية القديمة:
وبالإضافة إلى الدياطسرون، تمت ترجمة بعض أجزاء من العهد الجديد أو تجميعها إلى السريانية في بداية القرن الثالث أو قبل ذلك. وقد وصلت إلينا هذه الترجمة المبكرة في مخطوطتين للأناجيل: إحداهما مخطوطة من القرن الخامس قام بنشرها “وليم كورتون” في 1858م وتعرف باسم مخطوطة “كورتون السريانية” ويرمز لها بالرمز “Syr c”. والثانية هي مخطوطة من القرن الرابع كتبت فوق كتابة سابقة تم محوها اكتشفت في دير سانت كاترين على جبل سيناء في 1892م وتعرف باسم مخطوطة “سيناء السريانية” ويرمز لها بالرمز “Syr s”. والأختلاف بين هاتين المخطوطتين يزيد عن مجرد اختلاف عادي بين أي مخطوطتين لنفس النص. ولعل مخطوطة سيناء السريانية أقدم تاريخاً، وما مخطوطة “كورتون السريانية” إلا تنقيح لاحق لها.
(ج) البشيطة أو البسيطة (Peshita):
في أواخر القرن الرابع تمت ترجمة جديدة للعهد الجديد إلى اللغة السريانية. ولم تشمل هذه الترجمة رسالة بطرس الرسول الثانية وكذلك رسالتي يوحنا الثانية الثالثة ورسالة يهوذا وسفر الرؤيا. ويرمز لهذه الترجمة بالرمز “Syr p”. وحيث أن الكنيسة السريانية بقسميها تقبل هذه الترجمة، فلا بد أنها كانت مستخدمة قبل انقسام الكنيسة السريانية أي قبل 431م. وما زالت “الترجمة البشيطة” مستخدمة (وقد أضيفت إليها الأسفار التي تنقصها، نقلاً عن ترجمة “فيلو كسينيوس”). وتوجد منها أكثر من ثلاثمائة مخطوطة، يرجع بعضها إلى القرنين الخامس والسادس بعد الميلاد.
(د) ترجمة فيلوكسينوس:
في 508 م قام شخص اسمه “بوليكاربوس” (Polycarp) بترجمة كاملة للعهد الجديد إلى اللغة السريانية ليقدمها إلى “فيلوكسينيوس” (Philoxenius) أسقف “مابوج” (Mabug) في سوريا. ويرمز لهذه الترجمة بالرمز “Syrph”. ولعل الجزء الوحيد الذي وصلنا من هذه المخطوطة هو ترجمة رسائل بطرس الثانية ويوحنا الثانية والثالثة ويهوذا وسفر الرؤيا غير الموجودة في البشيطة).
(ه) الترجمة الهركلية:
لا نعلم بالضبط ما إذا كان توماس الهركلي أسقف مابوج الذي خلف فيلو كسينيوس قد أعاد إصدار ترجمة فيلو كسينيوس في 616 م. مع إضافة بعض الملحوظات الهامشية نقلاً عن بعض المخطوطات اليونانية، أو أنه قام بتنقيح شامل لها مع إضافة بعض القراءات في هوامشها، اعتقد هو بأهميتها، لكنه لم يجد مبرراً لوضعها في المتن. ولو صح هذا الغرض لكان الأثر الوحيد الباقي من ترجمة فيلو كسينيوس هو المخطوطة المشار إليها آنفاً، ويرمز لها بالرمز> Syr h <. ولهذه القراءات الهامشية في الترجمة الهركلية أهمية خاصة في نقد النصوص وبخاصة في سفر أعمال الرسل.
(و) الترجمة الفلسطينية:
يرجح أنه في القرن الخامس تمت ترجمة سريانية أخرى ليس لها ارتباط وثيق بالترجمات السريانية الأخرى، وتعرف باسم “الترجمة الفلسطينية” ويرمز لها بالرمز “Syr pal”. وتنفرد هذه الترجمة بأنها مدونة على صورة قراءات كتابية، وقد وصلت إلينا في ثلاث مخطوطات من القرنين الحادي عشر والثاني عشر، ولعلها ترجمت أصلاً عن كتاب قراءات كتابية باللغة اليونانية.
2 الترجمات اللاتينية:
(أ) الترجمة اللاتينية القديمة (إيطالا Itala):
رغم أن اللغة اليونانية كانت هي اللغة الشائعة في الحديث والكتابة في معظم أرجاء الإمبراطورية الرومانية إبان القرنين الأولين أو القرون الثلاثة الأولى من العصر المسيحي، إلا أنه سرعان ما ظهرت الحاجة إلى ترجمة لاتينية للكتاب المقدس. وفي نهاية القرن الثاني أصبحت الأناجيل وربما العهد الجديد كله متداولة باللغة اللاتينية في شمالي أفريقيا، وسرعان ما انتشرت هذه الترجمة في سائر أجزاء الإمبراطورية. وتختلف مخطوطات الترجمة اللاتينية القديمة (التي يرمز لها بالرمز OL أو IT من Itala) فيما بينهما اختلافاً كبيراً حتى ليبدو أن الترجمة اللاتينية لم تكن ترجمة واحدة بل ترجمات عديدة، مما يتفق مع قول أوغسطينوس من أنه في الأيام الأولى من العصر المسيحي، حاول كل من لديه مخطوطة يونانية، وعلى دراية باللغتين اليونانية واللاتينية، أن يترجم الأسفار المقدسة إلى اللاتينية. وما بهذه الترجمات من ألفاظ دارجة وتعبيرات بسيطة، يؤيد النظرية القائلة بأنها قد ظهرت أصلاً بين عامة الشعب. وليس بين المخطوطات الخمسين أو نحو ذلك المعروفة لهذه الترجمة، مخطوطة تحوي العهد الجديد كاملًا، وإن كانت في مجموعها تحوي الجزء الأكبر منه. ويرجع تاريخ هذه المخطوطات إلى مابين القرن الرابع والقرن الثالث عشر، مما يدل على أن الترجمة اللاتينية القديمة “OL” ظلت مستخدمة زمناً طويلاً بعد أن حلت “الفولجاتا” محلها رسمياً.
(ب) ترجمة جيروم أو الفولجاتا:
وبمرور الوقت اتضحت الاختلافات الكبيرة فيما بين الترجمات اللاتينية القديمة، وأصبحت غير مقبولة. وفي عام 382 م.، قام البابا “داماسوس” (Damasus) بتكليف “جيروم” أنبغ علماء الكتاب المقدس في عصره بأن يعكف على تنقيح الترجمة اللاتينية لتكون مطابقة لليونانية. ومن خلال عامين استطاع جيروم أن ينتهي من مراجعة الأناجيل الأربعة معلناً أنه لم يغيَّر من الكلمات اللاتينية إلا ما شعر بلزوم تغييره. كما انتهى بعد ذلك من مراجعة بقية العهد الجديد، ولو أنها كانت مراجعة سريعة. ويشك البعض في قيام جيروم بمراجعة ما يزيد عن الأناجيل الأربعة.
والتنقيح الذي أجراه جيروم والمعروف باسم “الفولجاتا” أو الترجمة الدارجة وقد أعيد تنقيحها عدة مرات على مدى القرون هو أساس الترجمة الرسمية في الكنيسة الكاثوليكية الرومانية. وقد وصلنا نحو ثمانية آلاف مخطوطة من الفولجاتا اللاتينية، وهو ضعف عدد المخطوطات اليونانية، مما يرجح أن الفولجاتا كانت أكثر الكتب القديمة شيوعاً.
3 الترجمات القبطية:
في العصور الأولى للمسيحية، تطورت الأبجدية المصرية القديمة باستخدام الحروف اليونانية مع بعض الحروف التي أخذت عن الكتابة الديموطيقية القديمة، التي اشتقت هي والهيراطيقية من الكتابة الهيروغليفية الأقدم عهداً. وانتشرت ست لهجات فيما بين دلتا النيل حتى جنوبي البلاد. وأهم هذه اللهجات بالنسبة لدراسة العهد الجديد هي:
(أ) الصعيدية:
بدأت ترجمة أجزاء من العهد الجديد إلى اللهجة الصعيدية التي كانت مستخدمة في منطقة طيبة وما وراءها في أوائل القرن الثالث، ولم يمض قرن من الزمان حتى كان كل العهد الجديد قد ترجم إلى اللهجة الصعيدية. والمخطوطات التي وصلتنا والتي ترجع إلى القرن الرابع والقرن السادس تحتفظ لنا بالعهد الجديد كله تقريباً مترجماً إلى هذه اللهجة.
(ب) البحيرية:
وكانت هذه هي اللهجة المستخدمة في الإسكندرية ومصر السفلى. ويبدو أن العهد الجديد قد ترجم إلى البحيرية في زمن متأخر عن زمن ترجمته إلى الصعيدية، ولعل هذا كان يرجع إلى أنه في الإسكندرية العاصمة الثقافية لم يشعروا بالحاجة إلى ترجمته إلا في زمن لاحق. وقد وصلنا ما يزيد عن مائة مخطوطة للعهد الجديد باللهجة البحيرية، ولكن أقدمها يعود تاريخ كتابتها إلى القرن الثاني عشر، مما دعا بعض العلماء إلى افتراض تاريخ متأخر جداً للترجمة الأصلية إلى اللهجة البحيرية، ولكن ظهور مخطوطة إنجيل يوحنا المكتوبة على ورق البردي باللهجة البحيرية والتي ترجع إلى القرن الرابع والموجودة في مجموعة مكتبة بودمر يدل على أن الترجمة إلى اللهجة البحيرية تعود أصلاً إلى القرن الرابع أو إلى ما قبله.
(ج) لهجات مصر الوسطى:
وما بين المنطقتين السابقتين (الصعيدية والبحيرية)، قد ترجمت ولابد أجزاء من العهد الجديد إلى لهجات أخرى من لهجات اللغة القبطية، فقد وصلتنا مخطوطات لإنجيل يوحنا باللهجة الفيومية واللهجات الاخميمية. كما توجد مخطوطات بالاخميمية تحتوي على أجزاء من الأناجيل والرسائل الجامعة ترجع إلى القرن الرابع أو القرن الخامس.
4 الترجمة القوطية: ترجم العهد الجديد إلى اللغة القوطية في منتصف القرن الرابع الميلادي بواسطة “أولفيلاس” (Ulfilas) الذي ينسب إليه “متزجر” (Metzger) وآخرون فضل تطويع اللغة القوطية لتصبح لغة كتابة أيضاً. وقد وصلتنا هذه الترجمة في نحو ست مخطوطات ترجع إلى القرنين الخامس والسادس، وجميعها على هيئة قصاصات. وما زالت هناك مخطوطة في مكتبة جامعة أوبسالا في السويد، وتسمى بالمخطوطة الفضية لأنها مكتوبة بحبر فضي على رقوق جلدية أرجوانية، وتضم أجزاء من الأناجيل. أما بقية المخطوطات القوطية فمكتوبة على ورق أعيد استخدامها بعد محو الكتابة القديمة من عليها.
5 الترجمة الأرمينية:
ترجم العهد الجديد من اليونانية إلى اللغة الأرمينية مباشرة في النصف الأول من القرن الخامس بواسطة القديس “مصروب” (Mesrop) الذي ابتكر الأبجدية الأرمينية أيضاً بمساعدة القديس “اسحق” (Sahake). وهناك تقليد آخر يقول إن الذي قام بالترجمة هو القديس اسحق عن السريانية. وتم تنقيح هذه الترجمة فيما بعد لتصبح في القرن الثامن هي الترجمة السائدة، ولتصبح أساس الكتاب المقدس في اللغة الأرمينية، الذي ما زال مستخدماً حتى الآن. ولا تعتبر هذه الترجمة الأرمينية جميلة ودقيقة فحسب، بل يوجد أيضاً من مخطوطاتها أكثر من 1500 مخطوطة وهو ما يزيد عن مخطوطات أي ترجمة أخرى للعهد الجديد. ويرجع معظم هذه المخطوطات إلى القرن التاسع وما بعده، وهي تمثل الصورة المنقحة للترجمة الأصلية.
6 الترجمة الجورجانية: (Georgian):
دخلت المسيحية في القرن الرابع إلى جورجيا الواقعة بين البحر السود وبحر قزوين. أما أصل هذه الترجمة الجورجانية فليس مؤكداً. ولكن البعض ينسبونها إلى القديس “مصروب” الذي ارتبط اسمه بالترجمة الأرمينية. كما أنها ترجع إلى القرن الرابع أو أوائل القرن الخامس. ومن الواضح أنها ترجمت عن الأرمينية أو على الأقل تأثرت بها إلى حد بعيد. وقد تم آخر تنقيح لها في نحو القرن الحادي عشر، وهذا التنقيح هو أساس الترجمة الجورجانية التي ما زالت مستخدمة حتى الآن. وتوجد منها مخطوطات كثيرة، ولكن ثلاث مخطوطات منها ترجع إلى القرنين التاسع والعاشر تحتفظ بالكثير من عناصر الترجمة الجورجانية القديمة.
7 الترجمة الإثيوبية:
هناك نحو مائة مخطوطة معروفة للترجمة الإثيوبية، لكن ليس فيها ما يرجع إلى ما قبل القرن الثالث عشر، مما يزيد من مشاكل تحديد اصل الترجمة الإثيوبية، مع وجود رأيين متطرفين، يرجع بها أحدهما إلى القرن الثاني، والآخر إلى القرن الرابع عشر، إلا أن الأرجح أنها ترجع إلى القرن السادس تقريباً، ويحتمل أنها ترجع إلى ما قبل ذلك. وقد ترجمت عن السريانية أو لعلها ترجمت عن اليونانية مباشرة.
8 الترجمة السلافية:
يرجع الفضل في ترجمة العهد الجديد إلى اللغة السلافية إلى القديس كيرلس وأخيه ميثوديوس، ويبدو أنهما قد ابتكرا صورتي الأبجدية السلافية “الكيرلسية” و “الجلاجوليتية”. وقد ترجم هذان الخوان اللذان كرزا للسلافيين العهد الجديد إلى اللغة السلافية في النصف الثاني من القرن التاسع، ولعلها كانت أصلاً على شكل قراءات كتابية، وهي الصورة الموجودة في معظم المخطوطات السلافية الموجودة بين أيدينا.
(9) ترجمات أخرى: ترجم العهد الجديد إلى اللغة العربية في بضع ترجمات بعد القرن السابع الميلادي وانتشار اللغة العربية في بلاد الشرق الوسط، وكانت إحدى هذه الترجمات بأسلوب النثر المسجوع، وتمت هذه الترجمات نقلاً عن ترجمات في لغات أخرى وليس عن الأصل اليوناني. كما توجد بضع مخطوطات من ترجمة إلى اللغة الفارسية ترجع إلى القرن الرابع عشر وما بعده. وقد ظهرت منذ القرن الثامن ترجمة باللغة الفرنكية (Frankish) وهي اللغة التي كانت منتشرة في غربي ووسط أوروبا. وهناك مخطوطة لجزء من إنجيل متى باللغتين الفرنكية واللاتينية. كما توجد قصاصات باللغة السوجدانية وهي لغة التجارة في جنوبي وسط أسيا ترجع إلى القرن العاشر الميلادي. كما يوجد جزء من مخطوطة لبعض القراءات الكتابية ترجع بها إلى القرن العاشر بلغة نوبية وهي اللغة التي كان يتحدث بها أهل المنطقة الواقعة بين مصر وإثيوبيا. كما توجد تسع مخطوطات باللغة الأنجلوسكسونية ترجع إلى ما بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر.
ورغم أن بعض ترجمات العهد الجديد كانت موضع دراسة جادة بذل فيها جهد يستحق التقدير، إلا أن هناك الكثير الذي يجب القيام به فيما يختص بهذه الترجمات المختلفة ليصبح لها إسهامها الواضح في دراسة نصوص العهد الجديد.
(ج) اقتباسات الآباء:
بالإضافة إلى المخطوطات اليونانية للعهد الجديد وغيرها من الترجمات القديمة إلى اللغات الأخرى، فإن اقتباسات آباء الكنيسة الأولين من الكتاب المقدس، تمثل مصدراً هاماً من مصادر معرفة نصوص العهد الجديد، وقد دونت معظم أعمال أولئك الآباء باليونانية أو باللاتينية، والقليل منها بالسريانية وبعض اللغات الأخرى. وهذه الاقتباسات من الوفرة بحيث يمكن في الحقيقة إعادة تجميع نصوص العهد الجديد منها وحدها.
وكما هو الحال في الترجمات، هناك حدود لاستخدام كتابات الآباء كمصدر يساعدنا على تحقيق نصوص العهد الجديد، فأصول هذه الكتابات لم تصل إلينا، ولذلك كان لزاماً على من يقوم بدراسة هذه الكتابات أن يفحص نصوصها فحصاً نقدياً ليحقق بقدر الإمكان كلماتها الأصلية، وبخاصة ما فيها من اقتباسات من العهد الجديد. حيث أن هذه الاقتباسات من العهد الجديد التي تضمنها كتابات الآباء هي بذاتها الأجزاء التي قد يغيرها الكاتب عمداً، متى كان النص المقتبس مثلاً لا يتفق مع النص المألوف للكاتب. وحتى إذا أمكن تحقيق الصورة الأصلية للاقتباس في كتابات الآباء، فقد يكون الكاتب قد أعطى المعنى العام للفقرة بدلاً من نقلها حرفياً، أو إذا كان الكاتب (أو من يملي عليه) يكتب الاقتباس من الذاكرة وليس نقلاً عن مخطوطة للعهد الجديد، وبذلك تصبح قيمة هذه الفقرة محدودة فيما يختص بنقد النصوص. ففي القرن الرابع مثلاً، بنى كيرلس الأورشليمي تعليماً خاصاً بالعشاء الرباني على ما يقول هو إنه نقل لعبارات الرسول بولس، مع أن اقتباساته لم تكن مأخوذة عما جاء عن العشاء الرباني في 1كو 11: 23 25 ولا في أي جزء مقابل لها في الأناجيل، بل بالحري دمج عدداً من الفقرات المختلفة نقلاً عن الذاكرة كما هو واضح في أقواله. والأرجح أن الاقتباسات الطويلة كانت تنقل مباشرة عن مخطوطة أكثر مما في حالة الاقتباسات القصيرة.
وكما في الترجمات، فإن لاقتباسات الآباء أهميتها لِما تقدمة لنا من المعلومات عن نصوص العهد الجديد، ويمكن عن طريقها تحديد صورة النص الذي استخدمه كل واحد منهم، ولابد أنه كان النص الشائع في المنطقة التي كان يقيم فيها وفي العصر الذي عاش فيه، وبعبارة أخرى: إن اقتباسات الكاتب تشكل مخطوطة لجزء من العهد الجديد الذي كان مستخدماً في تلك المنطقة وفي ذلك العصر. كما أن الكتَّاب القدامى كانوا يشيرون – أحياناً – إلى القراءات المختلفة التي كانوا يعلمون بوجودها في مخطوطات العهد الجديد، وقد يدلون بآرائهم في هذه القراءات. وإليك قائمة بأسماء قليلة من أشهر آباء الكنيسة:
إيريناوس (حوالي 140 210) أسقف ليون.
ترتليانوس (حوالي 150 240) من قرطاجنة ويعد من أغزر الآباء اللاتينين إنتاجاً.
أوريجانوس (حوالي 185 254) من الإسكندرية ثم عاش في قيصرية، وهو صاحب مؤلفات تفسيرية هامة وغيرها من الكتب.
يوسابيوس البامفيلي أسقف قيصرية (حوالي 313 340) مؤلف تاريخ الكنيسة وغيره من الكتب.
أثناسيوس الرسولي أسقف الإسكندرية (من 328 373) ومؤلف كتب للدفاع عن العقيدة المسيحية وتفنيداً لآراء الأريوسيين وهو بطل مجمع نيقية المسكوني.
غريغوريوس النزنيزي من كبادوكية (حوالي 330 389)، وله 45 عظة مكتوبة مع أعمال أخرى.
غريغوريوس أسقف نصيص في كبادوكية (المتوفي في 394) صاحب مؤلفات تفسيرية وعقائدية وتنسكية.
أمبروزيوس أسقف ميلان (374 397) كتب تفسيراً لإنجيل لوقا، وله مؤلفات أخرى.
يوحنا فم الذهب (حوالي 344 407) بطريرك القسطنطينية ومن أشهر الوعاظ (ومن هنا جاء اسمه “فم الذهب”) وكتاباته الباقية أكثر مما لأي كاتب آخر من الآباء.
جيروم أو إيرونيموس (حوالي 331 420) وهو الذي قام بترجمة الكتاب المقدس إلى اللاتينية، الترجمة المعروفة باسم “الفولجاتا”، كما كتب الكثير من التفاسير باللاتينية.
أوغسطينوس (354 430) أسقف هبو في شمالي أفريقيا، وصاحب مؤلفات فلسفية وعقائدية وتفسيرية عديدة.
كيرلس أسقف الإسكندرية (412 444) صاحب كتب دفاعية وتفسيرية كثيرة.
ورغم الأهمية الكبيرة لاقتباسات الآباء في تحقيق نصوص العهد الجديد، فما زال هناك الكثير مما يجب عمله سواء في تحقيق هذه الكتابات أو تحليل اقتباساتهم من العهد الجديد.
رابعاً: نقل نصوص العهد الجديد:
(أ) قبل اختراع الطباعة:
(1) ظهور اختلافات في النصوص:
عندما كتبت أسفار العهد الجديد كانت أصلاً عملاً خاصاً أكثر منه عملاً أدبياً بالمعنى المفهوم، وكان هذا صحيحاً بالنسبة لمعظم رسائل العهد الجديد بخاصة فقد كانت رسائل موجهة لأفراد وجماعات، بل إن الأناجيل نفسها قد كتبت لهدف يختلف عن هدف أي عمل أدبي عادي. ولهذا فعند نسخ أي سفر من أسفار العهد الجديد في تلك الفترة المبكرة كان ينسخ للاستعمال الشخصي بواسطة كاتب غير متخصص، وعلاوة على ذلك، فإنه لما كان فحوى السفر أو الرسالة هو أهم شيء، لم يكن الناسخ يحس بالضرورة أنه ملزم بنقل النص بنفس ترتيب الكلمات أو التفاصيل التي لا تؤثر في المعنى. أما في حالة الأسفار التاريخية، فكان النسَّاخ على ما يبدو يشعرون أحياناً بحرية إضافة بعض التفصيلات الصغيرة للتوضيح. وفضلاً عن ذلك، لم تكن للديانة المسيحية في الفترة المبكرة للعهد الجديد لدى السلطات السياسية مكانة تشجع على القيام بمقارنة واسعة لمخطوطات العهد الجديد في ذلك العصر، كما أنه من العسير تحاشي الاختلافات والأخطاء حتى مع افتراض أفضل النوايا في الدقة عند الناسخ، ومن ثم تجمعت كل هذه العوامل فنتج عنها وجود بعض الاختلافات بين المخطوطات في الفترة الأولى بعد أن تمت كتابة كل أسفار العهد الجديد. واستمرت هذه الفترة إلى أن حصلت المسيحية على اعتراف السلطات بها رسمياً في أوائل القرن الرابع، وإن يكن معظم هذه الاختلافات التي لها أهميتها في تحقيق النصوص قد ظهرت في النصف الأول من تلك الفترة.
وفي نفس الوقت يجب عدم المغالاة في أهمية هذه الاختلافات، فمما لا شك فيه أن أسفار العهد الجديد حاليًا بدأ تداولها أصبحت تعتبر أعمالاً أدبية، وأصبح لزاماً على ناسخيها أن يحرصوا أشد الحرص في نقلها لسببين، هما: الحفاظ تماماً على نفس كلمات النص المقدس، علاوة على الالتزام العام عند نسخ أي عمل أدبي.
وقد أدت الاختلافات التي حدثت بين المخطوطات نتيجة لتكرار النسخ إلى ظهور “عائلات” أو “مجموعات” من المخطوطات أو ما يعرف باسم “النصوص المحلية”. وقد حمل المسيحيون نسخ العهد الجديد بخصائصها واختلافاتها إلى مختلف البلاد والمناطق. ومع تكرار نسخ كل مخطوطة، كانت النسخ الجديدة تشتمل على مجموعة الاختلافات في المخطوطة المنقول عنها، أي المخطوطة الأم، كما كانت تختلف بدرجة أكبر عن النسخ المنقولة عن مخطوطات أخرى في الأماكن المختلفة. وعلى هذا فإن الخصائص المشتركة بين مجموعة من المخطوطات تدل على مصدرها المشترك، كما تميزها عن المجموعات الأخرى. وفي بعض الأحيان، يمكن أن تنسب مجموعة من المخطوطات إلى منطقة معينة وزمن معين من خلال ما فيها من اختلافات مميزة لكتابات أحد آباء الكنيسة أو تلك الموجودة في إحدى الترجمات في زمن محدد ومكان معين.
وعندما حصلت المسيحية على الاعتراف الرسمي بها في عهد الإمبراطور قسطنطين، لم تعد هناك حاجة لإخفاء مخطوطات العهد الجديد، بل سرعان ما أصدر الإمبراطور نفسه أمراً بعمل نسخ من الكتاب المقدس لكنائس القسطنطينية. والواضح أنه لم يمض وقت طويل حتى عُمِلَت مقارنة بين المخطوطات، واكتشفت الاختلافات التي بينها، وبخاصة المخطوطات الموجودة في البلاد المختلفة. وفي غضون القرون الثلاثة التالية، حدث تقارب بين المخطوطات، سواء كان ذلك عن قصد وبطريقة رسمية، أو عن غير قصد وبطريقة غير رسمية، وازدادت المخطوطات المستنسخة خلال هذه الفترة تطابقاً لتكون على صورة واحدة. وقد أصبح ميسوراً الحفاظ على هذه الصورة لأن عملية نسخ المخطوطات أصبح يقوم بها في الغالب نسَّاخ متخصصون ومدربون.
بالإضافة إلى ذلك كان هناك نوع من التنقيح مما نتج عنه إلى حد ما توافق بين العبارات ووصف الأحداث المتناظرة في الأناجيل، وكذلك تصويب الأخطاء النحوية، فأصبح النص سلساً تسهل قراءته.
إن أكثر من تسعين في المائة من مخطوطات العهد الجديد الموجودة بين أيدينا الآن، ترجع إلى هذه الفترة أو بعدها، وعليه فإن نسبة مئوية صغيرة من المخطوطات هي التي احتفظت بصورة للنص ترجع إلى ما قبل النص الموحَّد. ومع أن نسخ المخطوطات باليد يعني أنه لا يمكن أن توجد فعلياً مخطوطتان متطابقتان تماماً، إلا أن كل المخطوطات تقريباً بداية من القرن الثامن فصاعداً تمثل الصورة الموحَّدة. وقد استمرت هذه الصورة للنص إلى أن أحدث اختراع الطباعة ثورة في عالم الكتب.
(2) أنماط من الاختلافات:
كان الناسخون سبباً في وقوع أنواع من الاختلافات في مخطوطات العهد الجديد يمكن تصنيفها كالآتي:
(1) اختلافات عفوية:
(أو عن غير عمد) أو أقل تكراراً، وتشمل هذه الاختلافات العفوية أخطاء النظر والسمع والذاكرة والكتابة والاجتهاد.
أما أخطاء النظر فتشمل الالتباس بين الحروف المتشابهة وبخاصة في الكتابة بالحروف الكبيرة المنفصلة، أو الخلط بين أحد الاختصارات وكلمة معينة قريبة الشبه به، وقد تنتقل عين الناسخ من كلمة إلى الكلمة نفسها ولكن في موضع لاحق فيسقط بذلك الكلمات المتوسطة بينهما. وقد يقرأ الكلمة الواحدة أو العبارة الواحدة مرتين، أو قد يخلط بين كلمتين متقاربتين في الحروف.
وقد تنشأ أخطاء السمع عندما تكتب جماعة من النسَّاخ المخطوطات عن طريق الإملاء، وبخاصة لتشابه بعض الحروف في نطقها، كما قد يخطئ الناسخ في هجاء بعض الكلمات.
أما أخطاء الذاكرة فقد ينتج عنها تغيير موضع الكلمة في الجملة، أو استبدال كلمة بما يرادفها، أو أن تدخل كلمة أو عبارة عفواً نقلاً عن فترة مماثلة تحويها الذاكرة.
أما أخطاء الكتابة فقد تشمل إضافة أو حذف حرف أو عدة حروف أو حذف علامات الاختصار، أو تكرار كلمة أو عبارة أو حرف.
أما أخطاء الاجتهاد بالإضافة إلى الأخطاء السابقة فقد تدفع الناسخ إلى تسجيل ملحوظة هامشية باعتبارها جزءاً من النص نفسه، ويجد البعض في هذا تفسيراً لما ورد في إنجيل يوحنا (5: 3 و4) عن تحريك الماء، حيث يغلب أنها كانت عبارة هامشية أدخلها الناسخ في النص.
(2) اختلافات مقصودة:
أما حول نقطة آية “الَّذِينَ يَشْهَدُونَ فِي السَّمَاءِ هُمْ ثَلاَثَةٌ” (1 يو 5: 7) (وهي تُسَمَّى الفاصلة اليوحناوية Comma Johanneum أو Johannine Comma / Heavenly Witnesses)، فستجد عرضًا عامًا عن هذه الآية في مقال عن “إنكار عقيدة الثالوث”، ومقال “هل غيرت بعض الترجمات في العقيدة المسيحية”. مع إيضاح أنها لا توجد في نسخ يونانية قبل القرن الخامس عشر الميلادي، ولكنها موجودة في مخطوطة الفلجاتا Vulgate (القرن التاسع الميلادي).
وقد عرض القديس كبريانوس (200 – 258 م.) عن موضوع “وحدة الكنيسة” (في منتصف القرن الثالث الميلادي تقريبًا) قائلًا:
“The Lord says,” I and the Father are one; “and again it is written of the Father, and of the Son, and of the Holy Spirit,” And these three are one. “.. He who does not hold this unity does not hold God’s law, does not hold the faith of the Father and the Son, does not hold life and salvation”.
مع إيضاح نقطة أن تلك الآية مازالت تخضع لكثير من المناقشات حولها، مما يوضح أن الأدلة التي تقول بعدم وجودها الأصلي ليست دامغة، بعكس مثلًا أمورًا أخرى في قانونية الأسفار وغيرها حُسِمً الجدل حولها منذ القِدَم. وأن تقريبًا جميع أفكار رسالة يوحنا الأولى تم عرضها في إنجيل يوحنا بالتفصيل، فكرة فكرة، فلا يوجد أي تعارُض بين الاثنين. وهذا أيضًا بخلاف عرض معنى الآية من آباء القرن الثالث والرابع وما بعدهم، وربما نتعرَّض لهذه الآيات بالتفصيل أثناء عرضنا لسلسلة مدارس النقد والتشكيك في الكتاب المقدس والرد عليها، والتي تتناول سِفرًا سِفرًا.
كما عرضنا في المقال السابق الذكر لشرح نقطة الاختلافات في المخطوطات من الجوانب التالية:
أولًا: اختلافات في الهجاء وأخطاء ليس لها معنى.
ثانيًا: اختلافات ثانوية لا تؤثر في المعنى.
ثالثًا: اختلافات تؤثر في معنى النص وغير قابلة للتطبيق.
رابعًا: اختلافات تؤثر في معنى النص وقابلة للتطبيق.
(ب) طبع العهد الجديد باليونانية:
كان لاختراع يوحنا جوتنبرج الطباعة في منتصف القرن الخامس عشر أعمق النتائج في عالم الأدب والثقافة، فقد أمكن لأول مرة إصدار كتب أرخص تكلفة عن ذي قبل، إلى جانب إمكانية إنتاج أي عدد من النسخ المتطابقة تماماً من الكتاب الواحد. ومنذ ذلك الوقت أصبح الورق أكثر أدوات الكتابة استعمالاً وانتشاراً في العالم إذ حل محل الجلود والرقوق منذ بداية القرن الخامس عشر، ورغم استمرار نسخ المخطوطات باليد لمدة قرن آخر من الزمان، إلا أن اختراع الطباعة قد أنهى عصر المخطوطات تماماً.
وكان أول عمل ضخم يصدر عن مطبعة جوتنبرج هو طبعة جميلة “للفولجاتا” اللاتينية وذلك في عام 1456 م، وقد عرفت فيما بعد “بطبعة جوتنبرج”، وما زالت هناك سبع وأربعون نسخة فقط باقية منها. وبعد نحو نصف قرن تم طبع العهد الجديد باللغة اليونانية. والسبب الأول في هذا التأخير هو أن العلماء في ذلك العصر كانوا يهتمون بدراسة الكتاب المقدس باللغة اللاتينية أكثر مما باللغة اليونانية. أما السبب الثاني فهو مسألة التكلفة ومشاكل إعداد الحروف اليونانية للطباعة حسب الخط الذي كان شائعاً وقتئذ وهو الحروف الصغيرة المتصلة، والتي كانت تكتب فيها الحروف بأشكال متعددة.
وفي عام 1502 بدأ الإعداد لطبع الكتاب المقدس باللغة اليونانية تحت إشراف الكاردينال “أكسيمنس” (Ximenes) أسقف أسبانيا، وأعده للطباعة مجموعة من العلماء، فطبع العهد الجديد باللاتينية واليونانية، وطبع العهد القديم بالعبرية والفولجاتا والترجمة السبعينية اليونانية في أعمدة متوازية. وقد تم هذا المشروع الضخم في مدينة “ألكالا” (Alcala أي “القلعة” المعروفة باللاتينية باسم كومبلوتم “Complutum”)، ومن ثم عرفت هذه الطبقة باسم “الكتاب المقدس الكومبلوتي متعدد اللغات”. وأكمل العهد الجديد في عام 1514 م ومجلدات العهد القديم في 1517م إلا أن البابا لم يمنح موافقته إلا في عام 1520 م.، ولكن لبعض الأسباب تأخر طبع الكتاب المقدس حتى عام 1522 م.
وفي تلك الأثناء سمع “فروبن” (Froben) السويسري صاحب إحدى المطابع، بمشروع الكاردينال الأسباني، فحث العالم “إرازمس” على أن يتولى الإشراف على طبع العهد الجديد باليونانية. وفي يوليو 1515م حصل إرازمس على وجه السرعة على بضع مخطوطات يونانية للعهد الجديد هي التي أمكنه الحصول عليها في مدينة بازل السويسرية، ولم يكن أي منها يحتوي على العهد الجديد كاملاً. كما أن المخطوطة الوحيدة التي كانت تحتوي على سفر الرؤيا كان ينقصها الآيات الست الأخيرة. كما أن النص الكتابي في تلك المخطوطة أختلط في بعض المواضع بتعليقات الآباء الهامشية، فاضطر إرازمس إلى ترجمة هذه الأجزاء إلى اليونانية نقلاً عن اللاتينية مما أدى إلى ظهور نص يوناني فيه بعض الفقرات التي لا تتفق مع أي مخطوطة يونانية معروفة. وقد نشرت هذه الطبعة المصحوبة بترجمة إرازمس اللاتينية (التي اختلفت في مواضع كثيرة عن الفولجاتا) في مارس 1516 م.، وقد نتج عن العجلة في إنجاز هذا العمل ظهور الكثير من الأخطاء المطبعية فيها. وهكذا بينما كانت النسخة الكومبلوتينية قد أعدت لتكون أول كتاب يطبع للعهد الجديد باليونانية، سبقتها طبعة إرازمس فكانت أول عهد جديد باليونانية، أي أول كتاب يطرح في السوق مطبوعاً.
وقد نشر روبرت اشتين (الملقب باستفانوس Roberty Estienne) أربع طبعات للعهد الجديد فيما بين 1546 1551م. ولعل الطبعة الثالثة التي أشارت إلى قراءات مختلفة عن عدد من المخطوطات، كانت أول طبعة للعهد الجديد باليونانية تضم ما يشبه عملية النقد، وقد أصبحت هذه الطبعة الثالثة أكثر صور النص قبولاً وبخاصة في بريطانيا والولايات المتحدة. وفي الطبعة الرابعة أدخل استفانوس نظام ترقيم الآيات الذي ما زال معمولاً به حتى الآن.
أما تيودور بيزا العالم البروتستنتي وخليفة جون كالفن في جنيف فقد نشر تسع طبعات للعهد الجديد باليونانية فيما بين عامي 1565، 1604م، وقد ساعدت شهرة بيزا على انتشار النص المنقول عن إرازمس واستفانوس.
وقام أخوان من عائلة “إلزفير” (Elzeveir) بنشر سبع طبعات للعهد الجديد باليونانية فيما بين 1624 1678م، مستهدفين أساساً الكسب التجاري. وقد جاء في مقدمة باللاتينية في الطبعة الثانية في 1633م تأكيد للقارئ: “النص الذي بين يديك الآن هو النص المقبول لدى الجميع” وأصبحت عبارة “النص المقبول” (Textum receptum) شائعة الاستعمال وأطلقت على النص الذي نشره إرازمس. كما أصبحت طبعة “إلزفير” هي النص المقبول في أوربا، بينما أصبحت الطبعة الثالثة لاستفانوس هي النص المقبول في بريطانيا وأمريكا.
وقد توالت طبعات الكتاب المقدس وتحقيق النصوص بمقارنة مختلف المخطوطات. ولعل أشهر اسم في مجال تحقيق النصوص هو قسطنطين تشندروف (مكتشف المخطوطة السينائية في دير سانت كاترين).
وقد وصلت نصوص العهد الجديد إلى القمة في الطبعة التي أصدرها في 1881 / 1882م عالمان من جامعة كامبردج هما “بروك فوس وستكوت” (Brooke Foss Westcott) و “فنتون جون أنتوني هورت” (Fenton John Antony Hort).
وتوالى ظهور مخطوطات للكتاب المقدس ترجع إلى عصور مختلفة ابتداء من القرن الثاني الميلادي، واستمرت مراجعة النصوص وتحقيقها على أسس النقد العلمية، وطبعها ونشرها وترجمتها إلى الغالبية العظمى من لغات العالم بل وإلى لهجاتها المختلفة.
خامساً: المخطوطات وتحقيق النصوص.
قسَّم وستكوت وهورت المخطوطات إلى أربع مجموعات رئيسية، أو أربعة أنماط من النصوص، هي:
(1) النص السرياني وهو أحدثها:
ويظهر في المخطوطات المتأخرة، ويمثل هذا النص نصاً تم تحقيقه في سوريا (ومن هنا جاء الاسم) في نحو القرن الرابع، ويتميز بتصويب القواعد النحوية وسلاسة العبارات وترابطها وإيضاح الغامض منها، والتجانس بين الفقرات المتناظرة، فهو بصفة عامة نص سلس واضح وسليم من الناحية اللاهوتية.
(2) النص الغربي:
ويرجع هذا النص إلى القرن الثاني وقد اشتهر بإعادة صياغة العبارات مع بعض الإضافات في سفر الأعمال)، واستخدامه للمترادفات مع وجود الكثير من القراءات القصيرة الواضحة. ومن أهم مخطوطاته المخطوطات المرقومة بالرموز D، D paul (05، 06)، OL.
(3) النص السكندري:
ظهر هذا النص في الإسكندرية، مركز الدراسات النقدية في الآداب اليونانية الكلاسيكية في ذلك العصر. وأهم مخطوطاته المخطوطات المرقومة بالرموز 33، L، C، والترجمات القبطية وبعض كتابات آباء الإسكندرية. ويعتقد وستكوت وهورت أن هذه المجموعة من المخطوطات لا تتميز باختلاف في المضمون أو الجوهر، لكنها تتميز بالتصويبات النحوية وتركيب الجمل لغوياً، مع خلوها من الأساليب المعقدة، وهو ما نتوقعه من البيئة العلمية التي كانت تتميز بها الإسكندرية في ذلك العصر.
(4) النص المحايد:
وتمثله المخطوطات التي يرمز لها بحرف “ألف” العبري (المخطوطة السينائية)، والمخطوطة> B <، ويرى وستكوت وهورت أنه يمثل النص الأصلي بأقل التغييرات، كما يعتقد أن القراءات التي تتفق فيها هاتان المخطوطتان يندر أن يوجد من يرفضها أو يعترض عليها، وأن المخطوطة> B < (المخطوطة الفاتيكانية) تنفرد بالاحتفاظ بالنص الأصلي في أكثر المواضع.
ومنذ زمن وستكوت وهورت ظهر العديد من المخطوطات التي ثبت أنها على اتفاق كافٍ في نصوصها مما يمكن معه جمعها معاً كأحد أنماط النصوص (على الأقل في الأناجيل). وتعرف هذه المجموعة بالنص القيصري (نسبة إلى قيصرية) إذ يبدو أن أوريجانوس قد استخدمه إبان وجوده في قيصرية. وخصائص هذه المجموعة تضعها في منتصف الطريق بين النص السكندري والنص الغربي، وإن كانت أقرب كثيراً للنص الغربي.
سادساً:
الخاتمة:
إن الاختلافات الموجودة بين المخطوطات العديدة تعتبر من الناحية العملية تافهة ولا تأثير لها على المضمون إطلاقاً، وبذلك يمكن أن نقول مع سير “فردريك كينيون” (Sir Fredrick Kenyon) إن ما بين أيدينا هو النص السليم لكلمة الله الحقيقية.
خطف
خطف الشيء خطفاً جذبه وأخذه بسرعة واستلبه واختلسه، ويقال خطف البرق البصر أي ذهب به، وخطف السمع أي استرقه. فالخاطف هو من يأخذ شيئاً ليس له قسراً وبسرعة بدافع من الطمع والجشع والظلم، مثلما يخطف الأسد الفريسة (حز 22: 25، انظر عاموس 3: 4) أو يخطف الذئب الخراف (يو 10: 12) والأشبال تزمجر لتخطف (مز 104: 21). ويقول أيوب: “هشمت أضراس الظالم، ومن بين أسنانه خطفت الفريسة،” (أيوب 29: 17) أي أنقذ المساكين من يد ظالميهم.
وكان العشارون يعتبرون “خاطفين” كما نرى في قول الفريسي في صلاته: “أنا أشكرك أني لست مثل باقي الناس الخاطفين الظالمين.. ولا مثل هذا العشار” (لو18: 11). وينذر الرب يسوع الكتبة والفريسيين المرائين قائلاً: “ويل لكم… لأنكم تنقون خارج الكأس والصحفة وهما من داخل مملوءان اختطافاً ودعارة” (مت 23: 25، لو 11: 39). ويضع الرسول بولس “الخاطفين” بين أشر الخطاة، مع الزناة وعبدة الوثان (1كو 5: 10 و11)، ولا طماعون.. ولا خاطفون يرثون ملكوت السموات “(1كو6: 9 و10).
والخطف لا يفيد صاحبه، فيقول المرنم: “لا تتكلوا على الظلم ولا تصيروا باطلاً في الخطف. إن زاد الغني فلا تضعوا عليه قلباً” (مز62: 10) كما ينذر النبي إرميا قائلاً: “ويل لمن يبني بيته بغير عدل وعلاليه بغير حق… لأن عينيك وقلبك ليست إلا على خطفك وعلى الدم الزكي لتسفكه وعلى الاغتصاب والظلم لتعملهما” (إرميا 22: 13 17، انظر أيضاً حزقيال 22: 13). ويقول ناحوم النبي لنينوى: “ويل لمدينة الدماء. كلها ملآنة كذباً وخطفاً” (ناحوم 3: 1).
ويعد الرب لأتقياءة بأنه: “من الظلم والخطف يفدي أنفسهم ويكرم دمهم في عينيه” (مز72: 14).
ويقول الرب بروح النبوة: “حينئذ رددت الذي لم أخطفه” (مز69: 4) لأنه قدم نفسه كفارة عن خطايا الآخرين لأنه هو نفسه كان طاهراً قدوساً بلا خطية، ولكن الله “جعل الذي لم يعرف خطية خطية لأجلنا لنصير نحن بر الله فيه” (2كو5: 21).
ويقول الرب كالراعي الصالح مؤكدا ضمان المؤمن ضماناً أبدياً: “خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها فتتبعني. وأنا أعطيها حياة أبدية ولن تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي. أبي الذي أعطاني إياها هو أعظم من الكل ولا يقدر أحد أن يخطف من يد أبي. أنا والآب واحد” (يو10: 27 30).
الاختطاف
يكتب الرسول بولس في رسالته الأولى إلى الكنيسة في تسالونيكي: “إننا نقول لكم هذا بكلمة الرب: إننا نحن الأحياء الباقين إلى مجيء الرب لا نسبق الراقدين. لأن الرب نفسه بهتاف وبصوت رئيس ملائكة وبوق الله سوف ينزل من السماء والأموات في المسيح سيقومون أولاً. ثم نحن الأحياء الباقين سنخطف جميعاً معهم في السحب لملاقاة الرب في الهواء. وهكذا نكون كل حين مع الرب. لذلك عزوا بعضكم بعضاً بهذا الكلام” (1 تس4: 15 – 17).
فالاختطاف Rapture هو أخذ المسيح للمؤمنين الذين ما زالوا أحياء من الأرض في لحظة المجيء الثاني، وذلك لملاقاته في الهواء، وفي إطار ذلك تتغيَّر أجسادهم المادية إلى أجساد روحانية سماوية (1 كو 15: 44، 49) (1). حيث أن الموتى يقومون (يو 5: 29)، ويُختطف الأبرار من الأحياء الأبرار الذين على الأرض لحظة المجيء إلى السماء.
إذن، نهاية العالم – القيامة – المجيء الثاني – الاختطاف: كل هذا يتم في وقت واحد (2).
وهذا بالطبع يختلف عن الاختطاف الذي حدث مع بولس الرسول، عندما “سمع كلمات لا ينطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها” (2كو 12: 4).
خطاف | خطاطيف
الخطَّاف كل حديدة حجناء (منحنية أو معقوفة) تجتذب بها الأشياء. ومخالب السباع هي خطاطيفها، وخطاطيف الأسد هي براثنة لأنها تشبه الحديدة الحجناء. وخطاف البكرة هو الحديدة الحجناء في جانبي البكرة فيها المحور. وكان لكل قاعدة من قواعد البحر المسبوك الذي عمله سليمان في الهيكل، “أربع بكر من نحاس… والبكر الأربع تحت الأتراس وخطاطيف البكر في القاعدة” (1مل7: 30 و32).
خطم
الخطم من الدابة هو أنفها أو مقدم أنفها وفمها. والخطام كل ما وضع في أنف البعير ليقاد به. ويقول الرب لأيوب عن “لوياثان” لبيان عظمة خليقته: “أتضع أسلة في خطمة، أم تثقب فكه بخزامة؟” (أيوب 41: 2). والأسل نبات ذو أغصان كثيرة شائكة الأطراف. والمقصود هو أن أيوب لا يستطيع أن يمسك بلوياثان ويثقب أنفه ليضع فيها خزامة أو خطافاً.
مخافتة
+ خفت صوته انخفض، وخافت صوته خفَّضه. ويقول إشعياء النبي: “سكبوا مخافتة عند تأديبك إياهم” (إش 26: 16) أي رفعوا تضرعاتهم بصوت خفيض عند تأديب الرب لهم.
خفارة
(1) مال أو بضاعة أو خدمة تقدم من أمة أو من فرد لأمة أو الملك علامة الخضوع وقيامًا بالنفقة (تكوين 49: 15 وقضاة 1: 28 وعزرا 4: 13 واشعياء 31: 8 ومتى 17: 25) ولما أراد الفريسيون أن يصطادوا المسيح ليجربوه فسألوه عن جواز دفع الجزية لقيصر فأجابهم بقوله المشهور “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله” مبينًا بهذه الإجابة التمييز بين واجبين في دائرتين مختلفتين.
(2) جزية حسب الشريعة الموسوية عبارة عن درهمين كانت تفرض على كل نفس فوق سن العشرين ومقدارها نصف شاقل ينفق في سبيل خدمة خيمة الاجتماع (خروج 30: 13) ثم في أيام نحميا كان كل إسرائيلي يدفع جزية اختياريًا هو (ثلث) شاقل لنفقة الخدمة في الهيكل (نحميا 10: 32 و33) ثم صار فيما بعد نصف شاقل كضريبة سنوية تجمع من كل يهودي جاوز العشرين من عمره في كل أنحاء العالم، وأما محاورة المسيح وبطرس في أمر الجزية التي دفعها المسيح في كفرناحوم فكان المقحوم فكان المقصود بها أن يوضح المسيح لبطرس أنه كان ممكنًا أن يعفي (المسيح) من دفع الجزية لو شاء، لأنه ابن الله الذي كانت تدفع تلك الضرائب لخدمة بيته لكنه دفع الاستار لكي لا يعثر الشعب (متى 17: 24 – 27) وقد جعل الملك سليمان على الشعب جزية ثقيلة (1 ملو 12: 4) ويقول يوسيفوس المؤرخ أنه بعد خراب أورشليم ألزم الإمبراطور فاسيسيان جميع اليهود في أنحاء الإمبراطورية أن يدفعوا لهيكل جوبيتر في رومية، الدرهمين اللذين كانوا يدفعونهما سابقًا للهيكل.
خَفّاش
من الحيوانات النجسة التي حرم أكلها (لا 11: 19 وتث 14: 11 و12 و18). والخفاش ليس طائرًا، بل هو حيوان من ذوات الثدي واللبونة، وهو لا يشبه الطيور إلا من حيث قوة الطيران، وجسمه مغطى بالشعر لا بالريش، وله أسنان بدلًا من المنقار. وأعضاء الطيران تختلف فيه عن الطيور الأخرى، وهو يسكن غالبًا في الكهوف والأماكن المقفرة القذرة (اش 2: 20).
والخفاش حيوان ثديي قادر على الطيران، ولكنه لا يطير إلا ليلًا، ويقضي النهار في الكهوف والأماكن المظلمة معلقًا من رجليه ورأسه إلى أسفل. وقد كشف العلم الحديث عن وجود عدد مذهل من أنواع الخفافيش، ويصل عدد أنواعها في فلسطين وحدها إلى عشرين نوعًا، منها الخفَّاش آكل الفاكهة، والخفاش آكل الحشرات وهو نوع صغير الحجم. وقد ورد اسم الخفاش في آخر قائمة الطيور النجسة (لا 11: 19، تث14: 18).
ويعتبر خفاش الفاكهة آفة مؤذية للبساتين لأنه يأكل الثمار (وبخاصة المشمش) قبل أن تنضج تمامًا (أي قبل جمعها)، ولهذا يقوم المزارعون بتغطية الثمار وهي على أغصانها بأكياس، أو تغطية الشجرة كلها بشبكة كبيرة، لتمنع عنها الخفافيش. ويخطف الخفاش عادة الثمرة ويحملها معه ليأكلها في مكان معيشته في الكهوف والأماكن المظلمة، فنجد في هذه الأماكن الكثير من بذور هذه الثمار مع فضلات الخفاش، ويجمع بعض الفلاحين هذه الفضلات لاستخدامها سمادًا للأرض.
أما خفاش الحشرات فينقض بسرعة خاطفة على فريسته من البعوض وغيره من الحشرات، ولذلك فهو يعتبر نافعًا للإنسان.
ويقول إشعياء النبي: “في ذلك اليوم يطرح الإنسان أوثانه الفضية وأوثانه الذهبية التي عملوها له للسجود للجرذان والخفافيش” (إش 2: 20). ولعل في ذلك إشارة إلى أن هذه الحيوانات تعيش في الظلمة والأماكن المهجورة، فهي رمز للأشرار الذين أحبوا الظلمة أكثر من النور لأن أعمالهم كانت شريرة (يو3: 19). كما جاءت إشارة في رسالة إرميا (وهي رسالة أبو كريفية) بأن الأوثان التي كان يعبدها بنو إسرائيل في ارتدادهم عن الله الحي، كانت تزين أجسادها ويوضع فوق رؤوسها أشكال الخفافيش، فكانوا يتعبدون لها أيضًا، ولكنهم سيطر حونها عنهم عندما “تزول الأوثان بتمامها” (إش 2: 18).
خفق
خفق الشيء خفوقاً وخفقاناً اضطرب وتحرك، والخفقان اضطراب القلب وشدة نبضه، والقلب قد يخفق حزناً وهلعاً أو طرباً وفرحاً. ويقول “أليهو” فلهذا اضطراب قلبي وخفق من موضعه “(أيوب37: 1). كما يقول داود:” قلبي خافق. قوتي فارقتني ونور عيني أيضاً ليس معي “(مز38: 10). ويقول إشعياء النبي:” قومي استنيري لأنه قد جاء نورك ومجد الرب أشرق عليك… حينئذ تنظرين ويخفق قلبك ويتسع لأنه تتحول إليك ثروة البحر ويأتي إليك غني الأمم (إش 60: 1 و5).
. خوافي
الخوافي ريشات في جناحي الطائر، فإذا ضم جناحيه خفيت، أو هي الأربع اللواتي بعد المناكب، أو هي سبع ريشات بعد السبع المقدمات. أما القوادم فهي ريشات مقدم الجناح. ويقول المرنم: “أقول للرب ملجأي… لأنه ينجيك من فخ الصياد ومن الوبأ الخطر. بخوافيه يظللك وتحت أجنحته تحتمي” (مز91: 2 – 4).
خلب
خلبه خلباً وخلابة خدعه وفتن قلبه. ويقول هوشع النبي: “الزنى والخمر والسلافة تخلب القلب” (هوشع4: 11) أي تفتنه وتشده بعيداً عن الحق.
تختلج
اختلج الشيء تحرك واضطرب، واختلجت العين أي تحركت جيئة وذهاباً حركة مضطربة قلقة. ويقول أليفاز التيماني لأيوب: “لماذا يأخذك قلبك ولماذا تختلج عيناك” (أيوب 15: 12)، وكأنه يقول له: لولا أنك رجل خاطئ لَمَا اضطراب قلبك واختلجت عيناك.
خَلخال
ذكرت الخلاخيل في اش 3: 16 و18 وهي حلي تلبس في الأرجل كما تلبس الاساور في الذراع، وتصنع من المواد التي تصنع منها الاساور كالذهب أو الفضة أو المعادن الرخيصة. ويقصد بلبسها الجلجلة اثناء المشي. وزعم بعضهم أن السلاسل التي كانت توضع في أرجل النساء بقصد الزينة، هي التي كانت تجعلهن يتخطرن في مشيتهن كما جاء في اش 3: 16 وما تزال هذه الحلي تستعمل في الشرق عند بعض الطبقات.
خالد | خلود
أولاً (1) تمهيد: لعل موضوع الخلود من أهم المواضيع الكتابية التي تتطلب الدقة في التعبير وتحديد المعاني، فكثيراً ما تستخدم كلمة “خلود” للتعبير عن بقاء النفس أو العنصر الروحي في الإنسان بعد موت الجسد، تأكيداً لحقيقة أن الموت ليس نهاية كل شيء، فالنفس باقية، وهو المقصود بصفة عامة عند الحديث عن الحياة الأخرى أو الآخرة.
ولا يحتاج الأمر إلى تأكيد أن الكثير من الشعوب تفتقر إلى معرفة المفهوم الصحيح لخلود “الروح” بالمعنى المعروف الآن، فقدماء المصريين على سبيل المثال قد ميزوا بين عناصر الحياة في الإنسان، مثل “الكا” و “البا” وغيرهما، وهي عناصر لا تموت، وكانت في اعتقادهم أطيافاً شبيهة بالذات الأرضية، أو أنها “قرين” للإنسان، فلم تكن في حاجة إلى أن تتغذى بالأطعمة أو أن تقدم لها القرابين.
ولكن ثمة أمراً أكثر أهمية، وهو أن حالة “العنصر” الباقي من الإنسان بعد موته، لا يمكن أن يسمى “حياة” أو “خلوداً”. إنها حالة مختلفة عن الموت ولكنها في معظم الأحوال حسب عقيدة تلك الشعوب حالة من الغموض والخمود والضعف والاكتئاب، فهي حالة يخشاها الإنسان ويرتعب منها لا أن يرجوها.
ولكن بعض الشعوب الوثنية الأرقى حضارة، تفهم “الخلود” على أنه حالة من السعادة لأنها تخلصت من ثقل الجسد وقيوده. وقد أدى هذا المفهوم إلى فكرة تغلغلت في كثير من الأفكار الحديثة عن “خلود النفس” وعدم فناء العنصر الروحاني. وينسحب هذا المفهوم لدى البعض على الماضي والمستقبل، باعتبار هذا العنصر بطبيعته غير قابل للفناء.
(2) المفهوم الكتابي: يختلف المفهوم الكتابي عن الخلود اختلافا كبيراً عن سائر المفاهيم الأخرى، فالنفس تبقى حقاً بعد الجسد، إلا أن هذه الحالة من التحرر من الجسد لا ينظر إليها مطلقاً على أنها “حياة” كاملة، لأن “الخلود” في الكتاب المقدس ليس هو مجرد بقاء النفس أو الدخول إلى عالم الموتى: “شئول” أو “هادز”، فهذه الحالة في حد ذاتها ليست “حياة” أو “سعادة”.
إن “الخلود” الذي يعنيه الكتاب المقدس هو خلود الإنسان ككل روحاً وجسداً معاً، فهو يتضمن الخلاص من حالة الموت، فهو ليس مجرد حالة من الوجود في المستقبل، مهما طال ذلك، لكنه حالة من السعادة نتيجة للفداء وامتلاك الحياة الأبدية، فهو يشمل القيامة والحياة المكمَّلة في الروح والجسد معاً، وسنتناول الموضوع في مختلف وجوهه.
ثانياً الاعتقاد الطبيعي:
(أ) أصل هذا الاعتقاد: إن الاعتقاد ببقاء الروح بعد الموت ظاهرة عالمية. ولكن إلى أي شيء يرجع هذا الاعتقاد؟
يفترض علماء الأنثروبولوجيا أن أصل هذا الاعتقاد يرجع إلى الأحلام أو الرؤى التي توحي باستمرار وجود الموتى. ولكن قبل أن نقول إن الحلم يوحي ببقاء الروح، يجب أن يكون هناك اعتقاد بوجود الروح، وهو ما لم يتوفر دائماً. لكن يبدو أن هناك تفسيراً بسيطاً يكمن في “الوعي”، فحتى الإنسان البدائي، في داخله شيء ما، يجعله يفكر ويحس ويريد، وهذا الشيء يختلف عن الأعضاء الجسدية. وعند الموت يزول التفكير والإحساس بينما الجسد ما زال موجوداً. إذاً أليس من الطبيعي افتراض أن هذا الشيء يستمر موجوداً في حالة أخرى بعيداً عن الجسد؟ قد تساعد الأحلام على هذا الاعتقاد، لكنها لا تخلقه. وبغير افتراض وجود مثل هذا الأصل الأعمق لهذا الاعتقاد، لا يمكن تعليل انتشاره في كل العالم واستمراره.
وحتى هذا الافتراض الفطري الغريزي لا يمكن أن يؤخذ برهاناً على البقاء بعد الموت، أو أن يؤدي إلى فكرة الخلود بصورة كافية، فهو في أفضل الأحوال كما سبق القول ليس إلا صورة طيفية للحياة على الأرض.
(ب) براهين فلسفية:
(1) النفس روحانية: ليست جميع الحجج الفلسفية لإثبات خلود النفس (أو بقائها) على نفس الدرجة من القوة. والحجة المبنية على أساس الجوهر الميتافيزيقي للنفس (كما يقول أفلاطون) لم تعد مقنعة الآن، ومن جهة أخرى يمكن استخدامها ضد النظرية المادية للروح على أسس لا يمكن دحضها، لإثبات أن النفس أو الروح العاقلة المفكرة في الإنسان ليست مادية في طبيعتها. ومتى قبلنا هذا الرأي، فليس ثمة دليل ولا يمكن أن يكون على أن الموت أو التحلل الجسدي، يمكنه أن يقضي على هذه الروح الواعية. فالافتراض يجب أن يكون على العكس من ذلك تماماً. وقديماً قال “شيشرون” إن الموت ليس بالضرورة تعطيل لقوى الروح. واستخدم “بتلر” (Butler) التشبيه للبرهنة على ذلك. ويسلم العلماء الحديثون مثل “مل” (J. S. Mill) و “هكسلي” (Huxley) ووليم جيمس (James) بحقيقة أن الخلود لا يمكن دحضه أو إنكاره، وعليه فإنكار الخلود الذي نسمع عنه من جهات متعددة ليس له ما يبرره. ولكن الاحتمالات تختلف عن اليقين، وحتى الآن لا يوجد ما يثبت أن الروح في بقائها بعد الموت توجد في حالتها الجديدة في حالة من السعادة مرغوبة.
ويقال إن اليونانيين القدماء قد استخدموا الحجج الميتافيزيقية للبرهنة على عدم فناء النفس وعلى خلودها بمعنى أنه ليس لها بداية ولا نهاية. ولكن هذه ليست العقيدة المسيحية، فليس للنفس في ذاتها طبيعة عدم الفناء، بل هي مثل باقي الكائنات وكل الأشياء تعتمد في استمرار وجودها على الله، فإذا استرد الله قوته الحافظة، تفنى جميعها على الفور. فاستمرار بقاء النفس أمر لا شك فيه، ولكن يلزم إثبات ذلك على أسس أخرى.
(2) طاقات الطبيعة البشرية: توجد أدلة أقرب للعقل على الخلود أو بتدقيق أكثر على الحالة المستقبلية للوجود، وهذه الأدلة مستمدة من القدرات الكبيرة للطبيعة البشرية وإمكاناتها التي لا تستطيع الحياة الأرضية القصيرة أن تتيح لها المجال الكافي لممارستها، إذ من سمات الروح وجود عنصر اللانهائية بها، لذلك فهي تتطلع إلى إللانهائي، فلا يمكن لأفضل ما يقدمه العالم أن يشبعها. كما أن في الروح إمكانية التقدم بلا حدود، ولا يمكن أن يشبعها شيء.
هذه الاعتبارات هي التي جعلت “كانط” (Kant) يضع الخلود ضمن ما يؤمن به من عقائد رغم شكوكه النظرية في كل شيء. كما دفعت “ج. س. مل” (Mill) إلى الحديث عن الخلود كالرجاء الوحيد الذي يمنح مجالاً كافياً للقدرات والعواطف الإنسانية، لأن الطموح للأسمى لم يعد يخمده الإحساس بتفاهة الحياة الإنسانية أو الشعور المدمر بأنها لا تساوي شيئاً.
غير أننا إذا تأملنا هذه الحجج بهدوء، نجد أنها لا تزيد عن كونها دليلاً على أن الإنسان مخلوق للخلود، لكنها لا تمنح ضماناً لعدم فقدان هذا المصير، وحتى إذا منحت هذا الضمان للصالحين، فإنها لا يمكن أن تمنحه للأشرار، فالإيمان في حالتهم يجب أن يعتمد على اعتبارات أخرى.
(3) الدليل الأخلاقي: وكما أدرك “كانط” (Kant)، أننا متى دخلنا إلى المجال الأخلاقي نجد أن الخلود أو استمرار بقاء الروح يصبح يقينا ملموساً للعقلية الجادة، فالشخصية الأخلاقية ترتبط بفكرة القانون الأخلاقي والمسئولية الأخلاقية التي بدورها تستوجب فكرة العالم كنظام أخلاقي، والله كحاكم أخلاقي. والعالم كما نعرفه هو بدون شك، عالم الإدارة الأخلاقية بما فيه من اختبار وتأديب وثواب وعقاب وإن كان من الواضح أنها إدارة أخلاقية غير كاملة، حيث أن الأمور شديدة التعقيد في هذه الحياة بحيث لا يحس معها المرء بالعدل، فالخير يعاني بينما الشر ظاهرياً ينتصر. ولكن ضمير فاعل الشر يدينه ويؤنبه بالدينونة في المستقبل، فلابد من تقويم نهائي لكل ما هو خطأ هنا. ولكن بينما يبدو أن هذا يستلزم وجوداً في المستقبل، إلا أنه لا يضمن في ذاته البقاء الأبدي للشرير، ولا يمكن أن يعد مثل هذا البقاء خلوداً بالمعنى الإيجابي، فأمام سر الخطية تضعف استنارة العقل، لذلك يلزمنا أن نلجأ إلى الإعلان الإلهي (كلمة الله) طلباً للنور.
ثالثا العقيدة الكتابية في العهد القديم:
(1) نقطة البداية علاقة الإنسان بالله: تبدأ العقيدة الكتابية عن الخلود بعلاقة الإنسان بالله، فالإنسان وقد خلق على صورة الله (تك1: 27)، خلق مؤهلاً لمعرفة الله والشركة معه. وهذا يعني أن الإنسان أكثر من مجرد حيوان، وأن حياته تتخطى حاجز الزمن، ففي حياته يكمن ضمان الخلود إن هو أطاع الله.
طبيعة الإنسان: وهذه الحقيقة ترتبط بقصة خلق الإنسان وحالته الأصلية. فالإنسان يتكون من جسم وروح، وكلاهما جزء أساسي من شخصيته، وقد خلقه الله لا للموت بل للحياة. ويتضمن تحذير الرب لإنسان عن الأكل من شجرة معرفة الخير والشر: “يوم تأكل منها موتاً تموت” (تك2: 17) أن الإنسان لن يموت إن هو ظل طائعا لله. وليس هذا بالطبع خلوداً للروح فقط، بل حياة في الجسد أيضاً (تك3: 22)، والمثال على ذلك أخنوخ وإيليا (تك 5: 24، 2مل2: 11 و12، انظر مز49: 15، 73: 24).
(2) الخطية والموت: لقد غيرت الخطية مصير الإنسان، لأن “أجرة الخطية هي موت” (رو6: 23). فالموت في مظهره المادي هو الانفصال بين الروح والجسد، وهدم وحدة شخصية الإنسان فهو بهذا المعنى هدم للخلود الذي كان مصير الإنسان أصلاً، إلا أن ذلك لا يعني فناء الروح، فالروح تبقى وإنما في حالة لا يمكن أن نطلق عليها كلمة “حياة”، فهي تذهب إلى “شئول” (الهاوية) حيث يقيم الموتى في حزن وبؤس، وحيث لا يوجد فرح أو نشاط أو معرفة بشئون الأرض ولا ذكر لله أو حمد لصلاحه، (الرجا الرجوع إلى مادة الآخرة (اسخاتولوجي) في مكانها من المجلد الأول من دائرة المعارف الكتابية “) وهذه بالطبع ليست حياة الآخرة وليست خلوداً.
(3) النعمة والفداء والخلود الحقيقي: إن عمل النعمة والفداء هو أن يعيدا للإنسان الخلود بمعناه الحقيقي، فلو أن العالم ترك ليحيا في الخطية، لَمَا كان هناك رجاء في المستقبل، ولازدادت “شئول” (الهاوية) ظلاماً كلما قويت فكرة المجازاة، ولأصبح من المستحيل أن يشرق فيها النور، لكن تدخلت نعمة الله قائلة: “أطلقه عن الهبوط إلى الحفرة، قد وجدت فدية” (أيوب 33: 24)، وهكذا تغلبت رحمة الله على المصير البائس للإنسان، فأعطاه مواعيده، وقطع معه عهده، وقبله في شركته (تك3: 15، 4: 4، 5: 24، 6: 8 و9، 12: 1 3، 15… إلخ.). وبهذه الشركة ارتفعت نفس الإنسان مرة أخرى إلى حياتها الحقيقة حتى وهي على الأرض. كما تضمنت هذه الشركة رجاءً في المستقبل. فالمواعيد التي أعطيت مقدماً كدليل على أفضال الله ومراحمه، كانت في معظمها مواعيد وقتية، أي مواعيد لهذه الحياة، ولكن كانت تحوي في داخلها (كالنواة داخل القشرة) الامتلاك الاسمي لله نفسه (مز 4: 6 و7، 16: 2)، كما اشتملت على رجاء الفداء، أساس كل خير.
الخلاص من شئول (الهاوية): وهنا نصل إلى لب الرجاء في الخلود كما جاء في العهد القديم، لأن شركة المؤمن مع الله لا يمكن أن يفقدها حتى وهو في الهاوية، إذ يوجد وراء ذلك خلاص من الهاوية. وكان هذا الرجاء هو الذي أعان الآباء الأولين وكتبة المزامير والأنبياء، في أسمى لحظاتهم وهم يتطلعون إلى المستقبل. وربما ساور الشك أفكارهم، وربما جاءت عليهم أوقات مظلمة، بل ربما خيَّم عليهم اليأس، ولكن كان من المستحيل أن يعتقدوا وهم في لحظات الإيمان القوي أن الله سوف يتركهم لأن “الإله القديم (الأزلي) ملجأ والأذرع الأبدية من تحت” (تث 33: 27، انظر مز 90: 1).
لذلك لم يكن رجاؤهم في الخلود مجرد رجاء في “خلود الروح” فقط بل كان رجاء في القيامة أيضاً، أي في الخلاص الكامل من “شئول” (الهاوية). وهذا ما نراه بوضوح في صرخة أيوب القوية: “أما أنا فقد علمت أن وليَّي حيَّ والآخر على الأرض يقوم… وعيناي تنظران وليس آخر” (أيوب19: 25 27، انظر 14: 13). وفي كثير من المزامير، يظهر هذا الرجاء في صورة الخلاص الكامل من الهاوية. فنجد في المزمور السابع عشر أن الأشرار “نصيبهم في حياتهم… أما أنا فبالبر أنظر وجهك. أشبع إذا استيقظت بشبهك” (مز 17: 14) كما يقول المرنم أيضاً “إن الأشرار مثل الغنم للهاوية يساقون… إنما الله يفدي نفسي من يد الهاوية لأنه يأخذني” ((مز 49: 14 و15)، كما حدث مع أخنوخ لأن الله أخذه (تك 5: 14 انظر أيضاً مز 73: 24). ويجب أن نذكر أن الرب يسوع عندما شرح قول الله: “أنا إله إبراهيم وإله اسحق وغله يعقوب” أردف مؤكداً “ليس الله إله أموات بل إله أحياء” (مت 22: 31 و32) وفي هذا ضمان القيامة.
والتعبير الجازم لهذه الفكرة، جاء في إعلان دانيال عن قيامة الأبرار والأشرار (دانيال 12: 2 وللاستزادة يمكن الرجوع إلى مادة (الآخرة) في المجلد الأول من دائرة المعارف الكتابية “.
(4) الفكر اليهودي في العصور المتأخرة: وقد توسع اليهود فيما بعد في تفسير هذه الأفكار، واعتنقوا فكرة مستقبل سعيد ينتظر الأبرار، وربطوا هذا المستقبل بالتحديد بفكرة القيامة، كما قالوا إن الأشرار سيمكثون في الهاوية التي أصبحوا يعتبرونها مكاناً للعقاب، وسيلاقي الأمم نفس هذا المصير المظلم.
رابعاً الرجاء المسيحي: يتفق ما ورد في العهد الجديد عن الرجاء في الخلود مع ما أعلن جزئياً في العهد القديم.
(1) الخلود في المسيح: فنحن نسمع رنين هذا الرجاء المفرح في كل جزء من كتابات الرسل: فيقول الرسول بطرس: “مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة يسوع المسيح من الأموات لميراث لا يفني ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ في السموات لأجلكم” (1بط1: 3 و4). ويعلن الرسول بولس: “مخلصنا يسوع المسيح الذي أبطل الموت وأنار الحياة والخلود بواسطة الإنجيل” (1 تي1: 10)، ويتحدث في رسالته إلى الكنيسة في رومية عن مجازاة “الذين بصبر في العمل الصالح يطلبون المجد والكرامة والبقاء فبالحياة الأبدية” (رو 2: 7).
إذاً، فهذا الخلود كما نرى هو جزء من الحياة الأبدية الموهوبة للمؤمنين في يسوع المسيح، وضمان ذلك هو قيامة المسيح من الأموات. وسنتناول الآن بأكثر تفصيل، طبيعة هذا الرجاء:
(1) بقاء الروح: الروح تبقى بعد الجسد، وقد أعلن الرب يسوع بنفسه صراحة مصير الأبرار والأشرار عندما قال لمرثا: “من آمن بي ولو مات فسيحيا. وكل من كان حيَّا وآمن بي فلن يموت إلى الأبد” (يو 11: 25 و26). كما قال لتلاميذه: “وإن مضيت وأعددت لكم مكانَّا آتي أيضاً وآخذكم إلَّى حتى حيث أكون أنا تكونون أنتم أيضاً” (يو 14: 3)، وكذلك في كلمته للص التائب: “اليوم تكون معي في الفردوس” (لو 23: 24).
ويجيء خلود الأبرار والأشرار – ضمنا – في مثل الغني ولعازر (لو 16: 19 31) وفي مواضع أخرى كثيرة (انظر مت 5: 29 و30، 10: 28، 11: 21 24، 12: 41… إلخ.). ونجد نفس الشيء في الرسائل. فالتعليم عن انتظار دينونة في المستقبل، يفترض هذه الحقيقة ويتوقف عليها (رو 2: 5 11، 2كو5: 10… إلخ.).
(2) الاتحاد مع المسيح في عالم غير منظور: إن الموت بالنسبة للمفديين رغم أنه نتيجة الخطية لا يقطع علاقة الروح بالله وبالمسيح، إذ أن الحياة الخالدة المغروسة في الروح تزدهر ازدهاراً كاملاً في حياة الأبدية وسعادتها (رو8: 10 و11، في 1: 21، كو1: 27)، وستظل الروح في حالة غير كاملة حتى القيامة: “نحن الذين لنا باكورة الروح، نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقعين التبني فداء أجسادنا” (رو8: 23). ورغم أنها في حالة غير كاملة لكنها حالة سعيدة، فقد فقدت الهاوية كآبتها وأصبحت بالنسبة للروح فردوساً (لو23: 43)، فهي تسكن في منازل بيت الآب (يو 14: 2، 17: 21)، لأنها رغم وجودها في حالة عري (أي متغربة عن الجسد) لكنها مستوطنة عند الرب (2كو 5: 8) ولها اشتياق أن تكون مع المسيح في هذه الحالة بعد الموت (في 1: 21). والصور المرسومة في سفر الرؤيا رغم كتابتها في أسلوب مجازي رفيع تعبر عن حالة من السعادة العظيمة (رو 7: 917).
(3) القيامة: وتكمل سعادة الخلود بالقيامة، فالقيامة عنصر أساسي في تعليم المسيح (مت 22: 2932، يو 5: 2529، 11: 23 – 26). فهو نفسه رب الحياة ومانح الحياة وقد قال عن نفسه: “أنا هو القيامة والحياة” (يو 11: 25، وانظر أيضاً يو 5: 21 و25 و26). وقيامة الرب هي ضمان قيامة المؤمنين، فقد مات يسوع ولكنه قام ثانية من بين الأموات، وقيامته أساس اليقين الكامل في قيامة كل المؤمنين به، فهذا هو مضمون الأصحاح الخامس عشر من الرسالة الأولى إلى الكنيسة في كورنثوس. فكما أن المسيح حَّي، كذلك هم سيحيون (يو14: 19). والمؤمنون الأحياء عند مجيئه ثانية، سيتغيرون (1كو 15: 51، 1 تس4: 17) “والأموات في المسيح سيقومون أولً” (1تس4: 16) وسيكون جسد القيامة على صورة جسد المسيح (في 3: 21) أي سيكون جسداً غير قابل للفساد ممجداً قوياً روحانياً خالداً (1كو15: 4253). وستكون هناك علاقة قوية بين الجسد القديم والجسد الجديد، ولكن يجب ألا نخلط بين هذا وتشابه الجزئيات المادية (1كو15: 37 و38). هذا هو رجاء المؤمنين، الذي لولاه لما اكتمل الفداء (1كو15: 16 و17).
(4) الأشرار أيضاً سيقامون: سيقام الأشرار أيضاً ولكن ليس للمجد بل للدينونة (يو 5: 29، أع 24: 15، رؤ20: 1215)، وهذه الحقيقة تتحدث عنها كل الفصول التي تتحدث عن الدينونة الأخيرة، فسيحرم هؤلاء الأشرار من كل البركات التي سيستمتع بها الأبرار، كما أن مصيرهم كما يصفه الرب يسوع ورسله سيكون أتعس مصير من الضيق والعذاب (انظر مت 25: 46، مرقس 9: 43 50، رو2: 8 و9)، وليس هذا “خلوداً” أو “حياة” رغم الوجود المستمر.
(5) الحياة الأبدية: أما المؤمنون المباركون فسيخلدون في سعادة لا توصف، للروح وللجسد كليهما. ولا شك في أن هناك درجات في المجد، وقد ذكرت هذه الحقيقة بكل دقة في الكثير من الفصول الكتابية (انظر مت 25: 14 30، لو19: 12 24، 1كو3: 10 15، 15: 40 و41، في 3: 10 14، 2 تي4: 7 و8، 1يو2: 28)، إلا أن المؤمنين جميعهم سيكونون في حالة من الرضا الكامل والسعادة الفائقة والقداسة المطلقة (انظر مت 13: 43، 25: 34، رو 2: 7 و10، رؤ22: 3 5… إلخ.)، وتشمل سعادة الحياة الأبدية البركات التالية:
(أ) استعادة صورة الله، فسيلبس المؤمنون صورة المسيح (1كو 15: 49، 2كو3: 18، أف4: 24، كو3: 10، 1 يو3: 2).
(ب) القداسة الكاملة بعمل روح الله (2كو7: 1، في 1: 6، رؤ21: 27، 22: 4 و11).
(ج) رؤية مجد الله دون حجاب (رؤ22: 4، انظر مز 17: 15).
(د) التحرر من كل حزن وألم وموت (رؤ21: 3 و4).
(ه) القوة على الخدمة بلا كلل أو ملل (رؤ 22: 3).
خامساً الاختلافات: وهكذا يتضح الفرق بين تعليم الكتاب المقدس عن الخلود والآراء الوثنية والفلسفية. فليس الخلود هو مجرد الوجود المستقبلي، وليس هو الخلود المجرد للروح، بل هو ثمرة الفداء والتجديد بعمل روح الله، وهو يشمل كل الإنسان، الروح والجسد معاً، ولا نصيب فيه للدنسين، كما أنه يعني كمال السعادة العقلية والأدبية والروحية في جو مناسب لهذا الوجود المجيد، وهذا المجد هو الجعالة العليا التي دُعي كل مؤمن للسعي إليها (في 3: 13 و14).
. خَلْداي النطوفاتي
اسم عبري معناه “خالد أو باق”:
هو خلداي النطوفاتي (وليس النطوفاني) من بيت عثنيئيل، وكان رئيس الفرقة الثانية عشرة في جيش داود (1 أخبار 27: 15).
خَلْدة النبية
← اللغة الإنجليزية: Huldah – اللغة العبرية: חֻלְדָּה.
اسم عبري معناه “ابن عُرس” هي امرأة شالوم، وهي نبية شهيرة سكنت القسم الثاني من أورشليم (2 مل 22: 14). في عهد الملك يوشيا وتنبأت عن خراب أورشليم، ولكنها أضافت أنه نظرًا لتقوى الملك، فإنه سيموت قبل أن يشهد بعينيه هذه الكارثة (2 مل 22: 15 – 20 و2 أخبار 34: 20 – 28).
اختلس | خلسة
خلس الشيء واختلسه استلبه أو اختطفه بسرعة وعلى حين غفلة. والمراد بالقول على الرب يسوع إنه “لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله” (في 2: 6) أي أن مساواته لله لم تكن من قبيل السلب أو الخطف، بل كان معادلاً لله بالحق، فهو “والآب واحد” (يو 10: 30). ويتكلم الرسول بولس عن “الاخوة الكذبة المدخلين خفيه الذين دخلوا اختلاساً ليتجسسوا حريتنا التي لنا في المسيح” (غل 2: 4) أي الذين تسللوا خفية بطرق ملتوية دون أن يكون لهم الحق في ذلك، وفي نفس المعنى، يكتب يهوذا في رسالته: “لأنه دخل خلسة أناس قد كتبوا منذ القديم لهذه الدينونة، فجَّار يحولون نعمة إلهنا إلى الدعارة..” (يهوذا 4).
خَلاص
يراد بالخلاص في العهد القديم النجاة من الشر أو الخطر (خر 14: 13 ومز 106: 8 – 10). اما في العهد الجديد فقد خلع عليها معنى آخر، هو انقاذ الخطاة بالايمان بيسوع المسيح. وهذا هو المراد عينه بعبارات “يوم الخلاص” (2 كو 6: 2) و “انجيل الخلاص” (اف 1: 13) وعبارات أخرى غيرها. وينطوي تحت معنى الخلاص في العهد الجديد غفران الخطيئة والخلاص من ربقتها ونتائجها وتطهير النفس وافراح الازلي (مت 1: 21 وعب 5: 9).
مخلص
وهي “سوتر” (Soter) في اليونانية، وتعني “المخلص”، “المنقذ”، “الحافظ”. وقد استخدمت وصفاً للأبطال من الرجال والحكَّام والآلهة. ولكن أكثر استخدامها في الكتاب المقدس للرب يسوع المسيح (يو 42: 4، أف 23: 5) ونجد أن القاعدة الأساسية في العهد القديم هي أن الله هو مخلص شعبه، فلا يستطيع إنسان أن يخلص نفسه، “فباطل هو خلاص الإنسان”، فالله وحده هو المخلص (مز 3: 44 و7، 11: 60، إش 43: 11؛ 45: 21؛ 60: 16؛ إرميا 8: 14، هوشع 4: 13).
والكلمة في العبرية هي اسم فاعل (كما هي في العربية) من الفعل “يشوع” أي “يخلص”، فهي ليست علماً، ولكنها تستخدم وصفاً لعمل الله في إنقاذ شعبه، كما يوصف بها المسيا كمن سيأتي ليمنح الخلاص لكل الأمم (إش 6: 49 و8، زك 9: 9).
كما أطلق وصف “مخلص” على الرجال الأبطال الذين استخدمهم الله آلات لإنقاذ شعبه (انظر قض 9: 3 و15، 2مل 5: 13، نح 27: 9، عوبديا 21).
كما استخدم اليونانيون كلمة “سوتر” أي مخلص وصفاً للآلهة (مثل زيوس، وأسكلبيوس – كما وصف بها سرابيس وايزيس)، وللفلاسفة (مثل أبيقور) والملوك والحكام العظام (مثل بطليموس الأول). وقد استخدمها الرومان وصفاً لأباطرتهم منذ عهد نيرون.
أما في العهد الجديد فلا تستخدم الكلمة مطلقاً لوصف إنسان، بل يقتصر استخدامها على الله الآب وعلى ابنه الرب يسوع المسيح. فيوصف الله بأنه “مخلص” لأنه هو منشئ الخلاص الذي تممه ابنه يسوع المسيح بموته على الصليب (لو 47: 1، 1تي1: 1، 3: 2، 4: 10، تي3: 1، 10: 2، 4: 3، يهوذا 25). ولكن تستخدم كلمة “المخلص” أساساً في العهد الجديد وصفاً للرب يسوع المسيح، فمنذ البداية أعلن ملاك الرب للرعاة أنه قد ولد لهم “مخلص هو المسيح الرب” (لو 11: 2). ومع أن كلمة “مخلص” لا ترد في انجيل متى، إلا أنه يذكر يخلص شعبه من خطاياهم “(مت 21: 1).
وتستخدم الكلمة في العهد الجديد 24مرة، يرد ثلثاها في الأسفار المتأخرة، فترد عشر مرات في الرسائل الرعوية، وخمس مرات في رسالة بطرس الرسول الثانية، ومرة في كل من إنجيل يوحنا ورسالة يوحنا الأولى ورسالة يهوذا. ولكنها لا ترد في انجيل مرقس أو رسائل الرسول بولس المبكرة.
كما أن العبارات التي يوصف بها “المخلص” تلقي ضوءاً قوياً على المعنى المقصود، فيوصف يسوع عند حديثه مع السامرية بأنه “مخلص العالم” (يو 42: 4)، فهو ليس مخلص شعب بذاته، بل مخلص كل الشعوب. وفي الرسائل الرعوية نقرأ عن “ظهور مخلصنا يسوع المسيح” (2تي 10: 1، تي 13: 2) وهي شهادة عن شخصيه الإلهي ومجده الفائق. كما نقرأ في الرسالة إلى تيطس: “حين ظهر لطف مخلصنا الله واحسانه” (تي 4: 3).
وقد أوضح الرب يسوع نفسه أن رسالته هي رسالة خلاص بقوله: “لأن ابن الإنسان قد جاء لكي يطلب ويخلص ما قد هلك” (لو19: 10)، وهو ما يفترض وجود خطر داهم أو كارثة محققة تستلزم وجود مخلص يختطف من هذا الخطر. والكلمة سواء في العهد القديم (إشعياء 53) أو العهد الجديد تفترض الإنقاذ من أعظم الضيقات والمآزق التي عرفتها البشرية، ألا وهي “الخطية”. والرب يسوع لم يأت ليخلص الناس الأقوياء أو الأغنياء أو المثقفين، بل جاء لجميع الناس بمن فيهم من الرعاة والمساكين والمنبوذين.
ومن وجهة النظر اللاهوتية، يجب أن يكون “المخلص” إلهاً كاملاً وإنساناً كاملاً (رو1: 3 و4)، وأن يخلي نفسه (في 2: 6 و7) وأن يكون معصوماً من الخطية (2كو5: 21، عب4: 15).
إِخلاص
(2 كو 1: 12) ضد الرياء أو المكر، ومطابقة ما في القلب لما تنطق به الشفتان. وتشير الكلمة اليونانية في هذا الموضع إلى نور الشمس الساطع، وذلك لأن هذا النور الوهاج، إذا ما سطع على شيء ما، اظهر نقاوته خالية من كل زعل.
خَلق | خليقة
قد يكون معنى “الخليقة” كل المخلوقات (رو 8: 19) أو فعل الخلق ذاته (مر 10: 6). ومعنى الخلق هو إبداع الأشياء التي لم يكن لها وجود. والفاعل في الفعل “خلق” هو الله دائمًا. فالله خلق السموات والأرض (تك 1: 1) والحياة المائية والهوائية (عدد 21) والإنسان (عدد 27)، والكواكب (اش 40: 26) والريح (عاموس 4: 13) وهو الذي يخلق القلب النقي الطاهر (مز 51: 10). والرب أمر فخلقت السموات بكل أجنادها وملائكتها، والشمس والقمر والنجوم والمياه التي فوق السموات (مز 148: 5). لقد تكلم فصنع كل شيء، وهو القدير العزيز الحكيم. عليه تتوقف حياة كل المخلوقات، وبيده يرعاها ويصونها، واختفاء وجهه عنها يهلكها، ونسمته المبدعة تجدد الحياة على الأرض (مز 104: 27 – 30). وقد خلق الله العالمين “بالكلمة” الذي هو “الابن” (يو 1: 3 وافسس 3: 9 وكولو 1: 16 وعب 1: 2).
The LORD God formed man of the dust of the ground (Genesis 1: 26 – 28).
وتنقسم الخليقة إلى جزئين، يكمل أحدهما الآخر. ففي الجزء الأول (تك 1: 1 – 2: 3) يستعمل اسم الجلالة “الله”. وفي اليوم الثاني (تك 2: 4 – 25) “الرب الإله”. يشير الجزء الأول إلى خليقة كل الكون، أما الثاني فإلى خليقة الإنسان، وهو فاتحة قصة سقوط الإنسان وفدائه. وفي سائر الأحوال، الله هو المسيطر على شؤون العالم والبشر، وكل الأشياء مرتبة بحكمة، وتهدف إلى قصد حكيم في الكون ونحو الإنسان.
أما الأيام الستة، فتشير إلى ستة أعمال في مدد إلهية تنتهي بالراحة الإلهية (تك 2: 2 و3). وكان العمل الأول خلق النور المنتشر، والعمل الثاني تنظيم للسموات، وفصلها عن سطح الأرض بواسطة الجلد. والعمل الثالث فصل المياه عن اليابسة وخلق النبات والعمل الرابع إظهار نور الشمس والكواكب عن طريق تكسير الأبخرة. والعمل الخامس خلق الحياة الحيوانية الدنيا في الماء والهواء. والعمل السادس خلق الحيوانات البرية والإنسان الذي خلق على صورة الله. وفي اليوم السابع استراح الله من عمله وبدأ يمارس وظيفة “الحارس” المدبر فبارك ما خلقه، وعين للإنسان يوم راحة في الأسبوع لخير الجسد والنفس.
ويعتقد بعض المفسرين أن لفظة “يوم” لا تعتبر بالضرورة مدة أربع وعشرين ساعة، ويقولون أنها بالأرجح تشير إلى مدة جيولوجية طويلة الأمد. ولتأييد رأيهم يقولون أنه كثيرًا ما استعملت لفظة “يوم” في الكتاب المقدس للدلالة على مدة أكثر من يوم شمسي، كيوم الأشرار، ويوم النقمة، ويوم الدينونة، ويوم الخلاص وألف سنة في عيني الرب كيوم واحد (مز 90: 4 و2 بط 3: 8).
ومما هو جدير بالذكر في فهم قصة الخلق كما وردت في سفر التكوين هو أن الله خلق الكون ولم يتركه لذاته ولشأنه كما يزعم بعض الفلاسفة. إن قوته لا زالت عاملة في الكون خالقة مسيرة وحافظة.
ثم إن الكتاب المقدس يعلمنا شيئًا آخر عن عمل الله في الخلق، فمكانة الله في الخلق وفق تعليم الكتاب المقدس تختلف عن فكرة ارسطوطاليس الذي يتحدث عن العلة الأولى، وكأن لا اتصال بين الله وبين الخليقة سوى عن طريق سلسلة من العلل والمعلومات. فإن الكون وما فيه من صنع الباري اليوم كما يناقض تعليم ارسطوطاليس عن أزلية المادة إذ أن الكتاب المقدس يعلمنا بأن المادة بداية.. ثم إن الكتاب المقدس في تعليمه عن الخلق يناقض الحلوليين الذين لا يفرقون بين الخالق وخليقته بل يمزجون بينهما فالله ليس الخليقة وليست الخليقة الله. وقد خلق العالم بمحض حريته لا كما يقول الغنوسيون بأن الخلق عبارة عن انبثاق من الله يشبه التوالد الذاتي، فصدر عنه كضرورة لا محيص منها. أنه مبدع الكائنات وهي في وجودها وسيرها وبقائها وانتظامها تعتمد عليه بما أنه الخالق والمسير والحافظ والمدبر لها ولكل ما يتصل بها.
ومع أن مهمة الكتاب المقدس هو أن يعلمنا عن مكانة الله في الخلق والخليقة إلا أن ما يعلمنا إياه لا يتناقض مع العلم الصحيح الذي ثبتت صحته من غير شك.
ويظهر لنا الله في سفر التكوين “شخصًا” لا مجرد قوة كما يزعم البعض، ويتمثل لنا عاملًا في خلق العالم وكل ما فيه من لا شيء. وأسمى أعمال الله في الخلق هو الإنسان ذروة الخليقة، وهو يعمل في الكون وفق نواميس وشرائع ثابتة، وإيماننا بالله يتسامى فوق كل الفروض والنظريات العلمية. وتؤيد لنا القصة أن الخليقة لم تكن وليدة الصدفة، بل من تدبير إله حكيم، مدبر عاقل، قادر على كل شيء يتكلم فيطيعه الخلق.
وقد ثبت لدى العلماء أن بعض قصة الخليقة كما جاءت في سفر التكوين. وردت أيضًا في الآثار الأشورية في لوحات من الفخار. ولكن القصة الأشورية مضطربة ومفككة، حافلة بأساطير الأقدمين يصعب فهم معانيها في كثير من المواضع. أما قصة سفر التكوين فمسلسلة ومرتبة ترتيبًا محكمًا. فضلًا عن هذا فإن القصة الأشورية تذكر عديدا الأشورية تذكر عديدًا من الآلهة، أما قصة التكوين فتحدثنا عن إله واحد، هو خالق السموات والارض، ورب العالمين.
أخلاق
مقدمة: سيعالج هذا البحث:
(1) طبيعة ووظيفة علم الأخلاق بوجه عام مع بيان أوجه الاختلاف والاتفاق بينه وبين فروع المعرفة الشبيهة به.
(2) سنعرض باختصار لتاريخ علم الأخلاق في مراحل تطوره المختلفة التي مهدت الطريق أمام الأخلاق المسيحية.
(3) سنقدم موجزاً للأخلاق في الكتاب المقدس يتضمن المفاهيم الأخلاقية في العهد القديم ثم المبادئ العامة والصفات الرئيسية التي قام عليها التعليم الأخلاقي في العهد الجديد.
أولاً – طبيعة ووظيفة علم الأخلاق:
علم الأخلاق هو ذلك الفرع من الفلسفة الذي يختص بالسلوك البشري، فهو يتناول الإنسان كمصدر للفعل أكثر منه موضوعاً للمعرفة، فهو يتناول حياة الإنسان أو شخصيته في نزعاته الداخلية ومظاهره الخارجية وعلاقاته الاجتماعية. وكان أرسطو هو أول من أعطى هذا العلم اسمه وشكله النظامي، بحسب المفهوم اليوناني للكلمة، فهو علم العادات والسلوك. ونظراً لأن كلمة “العادات” لا تشير – كما يبدو – إلا للسلوك الخارجي أو الأعراف، فهي بهذا تحد من طبيعة البحث.
(1) نشأة علم الأخلاق:
تسبق حياة الإنسان تفكيره، كما أن أفعاله تسبق تمحيصه لأسباب الفعل. وطالما كان هناك توافق بين عادات الفرد أو الجماعة، ومتطلبات الحياة العملية، فليس ثمة مشاكل أخلاقية. ولكن ما أن تبرز إلى الوجود صعاب أو مشكلات جديدة تتعلق بالحقوق والواجبات، لا يمكن للتقاليد والعادات القائمة أن تحلها، حتى يثور الشك ومعه التفكير العميق في الأخلاقيات الفعلية التي تحكم الحياة. أي أن علم الأخلاق يبدأ في الظهور عندما يبدأ الناس في مناقشة تقاليدهم وأنماط سلوكهم وإعادة النظر في موقفهم من التقاليد القديمة واهتماماتهم الجديدة، فعلم الأخلاق ليس درساً في الأخلاق، بل هو التأمل العميق فيها. ولذلك عندما استخدم أرسطو كلمة “علم الأخلاق” – متبعاً في ذلك سقراط وأفلاطون – لم يقصد به أن يكون مجرد وصف للحياة الخارجية للإنسان، بل بالحري مصادر النشاط والأهداف التي يجب أن ترشد الإنسان إلى السلوك الصحيح في الحياة وهكذا تصبح “الفلسفة الأخلاقية” و “علم الأخلاق” مترادفين، فكلاهما يعني بوجه عام التفسير العقلاني لطبيعتنا وأفعالنا وعلاقاتنا ككائنات عاقلة مسئولة. فعلم الأخلاق إذاً يمكن تعريفه بأنه الدراسة النظامية للسلوك البشري، ووظيفته هي أن يبين كيف يجب أن تصاغ الحياة الإنسانية لكي تحقق غايتها وأهدافها.
(2) الأخلاق كعلم:
وإذا أخذنا بهذا التعريف العام، فقد نسأل كيف يمكن أن نتحدث عن علم يبحث في السلوك؟ ألا تبحث العلوم في الحقائق الأساسية لاستنباط النتائج من الأسباب ولصياغة القوانين العامة التي تعمل على أساسها هذه المسببات، ولاستخلاص النتائج الضرورية والحتمية؟ لكن أليست الشخصية الإنسانية أمراً لا يمكن فيه التكهن بنتائج محددة؟ أليس الشخصية الإنسانية أمراً لا يمكن فيه التكهن بنتائج محددة؟ أليس السلوك الذي يعتمد على الإرادة البشرية أمراً لا يمكن تفسيره كمحصلة لقوى محسوبة؟ فمتى كانت الإرادة حرة، فلا يمكن أن نحدد مسبقاً الاتجاه الذي سوف تسلكه، كما لا يمكن التكهن بالشكل الذي ستتخذه الشخصية. ومن المؤكد أن كل مفهوم الأخلاق كعلم سينهار إذا سمحنا بدخول عنصر ثابت ومحسوب في السلوك.
غير أن هذا الاعتراض مبني جزئياً على سوء فهم وظيفة العلم، وجزئياً على التصنيف الضيق للعلوم، حيث أن دور العلم لا يقتصر على البحث في العلة والمعلول والسبب والنتيجة والقوانين التي تجري على ساسها أساسها الظواهر، لكنه يعالج بطريقة نظامية كل الحقائق المعروضة أمامنا. وهناك مجموعة كبيرة من الحقائق لا تنتمي إلى عالم الأحداث الطبيعية والمادية التي يمكن دراستها والربط بينها. فعلم الأخلاق لا يتناول السلوك كحقيقة طبيعية تحدث نتيجة لأسباب ماضية تعقبها نتائج معينة في المستقبل، ولكنه يهتم بالحكم على السلوك، الحكم بصواب السلوك أو خطئه قياساً على معيار معين أو غاية معينة.
ومن هنا جاء التمييز بين العلوم الطبيعية والعلوم القياسية.
(3) العلم القياسي:
العلوم الطبيعية – ببساطة – هي العلوم التي تبحث في ظواهر الطبيعة أو الفكر والأحداث الواقعية التي يلزم تحليلها وتصنيفها. أما العلوم القياسية فهي العلوم التي لا تبحث في الحقائق المجردة للزمان أو المكان، بل في الأحكام على هذه الحقائق بمقاييس أو غايات معينة، وتقيم الحقائق بمقتضاها. ولا يمكن تفسير الإنسان بالقانون الطبيعي، فهو ليس مجرد جزء من العالم أو حلقة في سلسلة السببية، فحينما نتأمل في حياة الإنسان وعلاقته بالعالم نجد أنه واعِ لذاته كغاية، وأنه قادر على وضع أهداف، واقتراح غايات جديدة، كما أنه قادر على توجيه أفكاره وأعماله لتحقيق هذه الغايات، وتطويع الأشياء لخدمته. ومثل هذه الغاية، أو هذا الغرض يشكِّل قانوناً لتنظيم الحياة. والقوانين التي يجب مراعاتها لتحقيق مثل هذه الغاية هي موضوع العلم القياسي. إذاً فعلم الأخلاق يبحث في معايير أو مقاييس الصواب والخطأ، وهو قبل كل شيء يختص بالقوانين التي تنظم أحكامنا وتضبط أفعالنا.
(4) علاقة علم الأخلاق بالعلوم المشابهة:
ما من شك في أن الإنسان وحدة متكاملة، غير أنه يمكن النظر إلى وعيه بذاته من ثلاثة أوجه مختلفة، واعتبار شخصيته المكونة من عنصر عقلاني وعنصر حسي وعنصر إرادي. وهناك مقابل هذه الأوجه الثلاثة – التي هي في واقعها واحد، ولكنها منفصلة فكرياً – ثلاثة علوم عقلية متميزة لكنها مترابطة وهي:
(أ) علم الميتافيزيقا (أو ما وراء الطبيعة) الذي يتناول علاقة الإنسان بالكون، الذي هو جزء منه.
(ب) علم النفس (السيكولوجيا) الذي يبحث في طبيعة وتكوين وتطور قدراته ومشاعره ككائن نفساني.
(ج) علم الأخلاق الذي يتناول الإنسان بالبحث ككائن إرادي يملك الإرادة ويقرر وجوه نشاطه.
(أ) علم الأخلاق وعلم الميتافيزيقا:
يرتبط علم الأخلاق بعلم الميتافيزيقا من جهة وبعلم النفس من جهة أخرى ارتباطاً وثيقاً رغم تميزه عنهما. فإذا تناولنا علم الميتافيزيقا في أوسع معانيه بما يشمله من علم اللاهوت الطبيعي، وبما يفترضه من غاية عظمى يسعى النظام الكامل للعالم إلى تحقيقها، لأمكننا أن ندرك بسهولة أن الميتافيزيقا أساس ضروري لعلم الأخلاق. ولأن العالم مخلوق لأجل غرض عاقل ومحكوم به، ولأن الإنسان جزء من هذا العالم له مكانه ووظيفته في هذا الكون الغائي (المرتبط بغاية في نشأته)، فيعتبر العالم والإنسان من الفروض الأساسية للحياة الأخلاقية، ويجب قبولهما كأساس لأي دراسة في علم الأخلاق. ولم يظهر التمييز بين الميتافيزيقا وعلم الأخلاق منذ البداية، فقد كانا متحدين في الفلسفة اليونانية القديمة اتحاداً وثيقاً، بل حتى الآن لا يمكن الفصل بينهما تماماً.
ويعود أصل علم الأخلاق إلى الميتافيزيقا أو – على الأقل – إلى علم اللاهوت. وكل نظام فلسفي يعتبر أن للكون هدفاً أو غاية عظمى، وأن صالح الكائنات البشرية هو ذاته الصالح العام أو هو جزء منه.
(ب) علم الأخلاق وعلم النفس:
يرتبط علم الأخلاق بعلم النفس ارتباطاً وثيقاً رغم تميزهما. فالموضوعات التي تتعلق بالسلوك تؤدي حتماً إلى التساؤل عن حالات معينة لعقل الشخص موضوع البحث، إذ لا يمكننا الحكم على فعل ما بالصلاح أو الفساد من الوجهة الأخلاقية، إلا بتقصي خصائص النية والقصد والدافع والنزعة التي تشكَّل أساس هذا الفعل. لذلك يُجمع دارسو علم الأخلاق على أن الموضوع الرئيسي لأبحاثهم يجب أن يتعلق بالناحية النفسية لحياة الإنسان، سواء الذين تمسكوا بأن غاية الإنسان العظمى هي أن يوجد في محيط اللذة والمتعة، أو الذين دافعوا عن أن سعادة الإنسان تكمن في تحقيق الفضيلة. والموضوعات المتعلقة بوجود ونشوء وصلاحية قدرة أخلاقية، والموضوعات المرتبطة بعلاقة اللذة بالرغبة، وتلك المتعلقة بمعنى صلاحية العمل الإرادي، والمتعلقة بالتطور التاريخي للعادات والمثل الأخلاقية، وعلاقة الإنسان في كل مرحلة من مراحل وجوده بالمؤسسات الاجتماعية والسياسية والدينية، كل هذه الموضوعات تنتمي إلى علم الأخلاق، غير ان جذورها تمتد إلى علم النفس.
يتوقف كيان علم الأخلاق على الإجابات التي يقدمها علم النفس عن مثل هذه الأسئلة: مثلاً إذا قررنا أنه لا توجد عند الإنسان قدرة مثل الضمير، وأن الحاسة الأخلاقية ما هي إلا ظاهرة طبيعية نشأت مع التطور الطبيعي والاجتماعي للإنسان (كما يقول دارون وسبنسر)، وأن أنكرنا قدرة الإنسان على أن يقرر لنفسه، وافترضنا أن حرية الإرادة ليست إلا وهماً أو أنها عنصر يمكن إهماله، وتعاملنا مع الإنسان باعتباره ظاهرة من الظواهر الكثيرة في هذا الكون المادي، عندئذ يمكننا حقاً أن نستمر في الحديث عن علم الحياة الأخلاقية، كما يتحدث عنه بعض الكتَّاب الطبيعيين. غير أن هذا العلم لن يكون هو علم الأخلاق كما نفهمه.
ومهما يكن تفسيرنا للضمير والحرية، فيجب ألا تحط أي نظرية – عن هذه القدرات – من شخصية الإنسان. ويمكننا – بحق – أن نشك في صحة أي منهج سيكولوجي يقلل من تأثير الحاسة الأخلاقية أو يمهد الطريق إلى الشعور بعدم المسئولية.
(ج) الواجب: فعلم الأخلاق يقوم على افتراض أن الإنسان له حقوق وعليه واجبات، لذلك فهو مسئول عن نواياه كما هو مسئول عن أفعاله. ولا تشتمل فكرة الشخصية على الإحساس بالمسئولية فحسب، بل تشتمل أيضاً على الإحساس بوجود قانون يجب أن يخضع له الإنسان، ومثال أعلى يجب أن يهدف إليه. فغاية الحياة بكل مضامينها، تشكِّل موضوع علم الأخلاق، فهو لا يهتم بماهية الإنسان أو عمله فقط، بل يهتم بصفة خاصة بما يجب أن يكون عليه، وما يجب عليه عمله. لذلك تعتبر كلمة “يجب” أبرز الكلمات استخداما في علم الأخلاق، فواجب الحياة يشكل الغاية أو المثال والقانون للإنسان، فهو يشمل غاية وقاعدة ودافع الفعل ولذلك فموضوع علم الأخلاق هو البحث في الخير الأسمى للإنسان.
(5) علاقة علم الأخلاق المسيحي بالفلسفة الأخلاقية: إذا كان أساس علم الأخلاق بوجه عام، هو مسلمات علم الفلسفة وعلم النفس، وترتكز مبادئه في كل مراحل الوعي الإنساني، على وجهه نظر العالم والإنسان، فإن علم الأخلاق المسيحي يفترض مسبقاً وجه النظر المسيحية للحياة كما أعلنها المسيح وأنها متفقة مع المُثُل العليا المسيحية. فعلم الأخلاق المسيحي هو العلم الذي يتناول الأخلاق كما تشترطها المسيحية، وببحث في طبيعة وقوانين وواجبات الحياة الأخلاقية المحكومة بـ “الخير الأعظم” أي “الله”، والذي يؤمن المسيحيون باستعلانه في حياة يسوع المسيح وتعليمه. فعلم الأخلاق المسيحي فرع أو تطبيق خاص لعلم الأخلاق العام. وعلم الأخلاق المسيحي لا يتناقض مع الفلسفة الأخلاقية، لكنه نتيجة حتمية لتطور الفكر، لأننا إذا كنا نؤمن أن الله قد أعلن ذاته في المسيح، فإن هذا الاعتقاد هو أكبر عامل مؤثر في حياتنا ومصيرنا الذي يجب أن يحكم كل وجهة النظر الإنسان ويعطي قيمة جديدة لأهدافه وواجباته.
(أ) عدم التناقض: تواجهنا في المسيحية قوة دافعة لشخصية عظيمة دخلت تاريخ البشرية. وهذه القوة الروحية الفائقة، الشخصية الفريدة، توجه حياة الإنسان الأخلاقية، ومعنى هذا أن الحياة الأخلاقية لا يمكن إدراكها إلا بالرجوع إلى القوة الخلاَّقة لهذه الشخصية. فإذا كان هناك مكان لعلم متميز للأخلاق المسيحية، فيجب البدء من المثال الأخلاقي الأعلى الذي تجسد في شخص المسيح. ومن هذا المنطلق تنبع شريعة أخلاقية للهداية العملية في الحياة المسيحية. ولكن بينما تعطي هذه الحقيقة لعلم الأخلاق المسيحي شخصيته المتميزة وقيمته الفائقة، فإنها لا تنقض علم الأخلاق الفلسفي، كما أنها لا تفصل بين الاثنين فصلاً قاطعاً، فهناك الكثير من المجالات المشتركة بينهما، فكلاهما يغطي دائرة واسعة في السلوك. كما أن للفضائل الوثنية – كما يسمونها – أهميتها. فالكثير منها يتفق مع الفضائل المسيحية، فالإنسان حتى في حالته الطبيعية لا يخلو من معرفة الصواب والخطأ، لأنه مخلوق لحياة أخلاقية (رو 20: 1)، وليست إنجازات القدماء الأخلاقية “رذائل”، فقد يختلف “الواجب” في مضمونه لكنه يظل هو “الواجب” تحت أي نظام، فالطهارة هي الطهارة، وعمل الخير هو عمل الخير، وكلاهما فضيلة سواء في المسيحي أو في الوثني. وبينما يتخذ علم الأخلاق المسيحي نقطة انطلاقه من إعلان الله وظهور إمكانات الإنسان في المسيح، فإنه يتقبل نتائج الفلسفة الأخلاقية ويستخدمها، طالما أنها تلقي الضوء على الحقائق الأساسية للطبيعة البشرية.
إذاً فالمسيحية كنهج أخلاقي تعتبر شاملة لأنها تأخذ في الاعتبار كل المعلومات، وتعتبر الحقائق المؤكدة جزءاً منها وتكمِّل النقص الموجود في المناهج الأخرى طالما أن استنتاجاتها مبنية على نظرة غير شاملة للحقائق. وبالاختصار، فإن علم الأخلاق المسيحي يتناول الشخصية في أسمى درجات قوتها الأخلاقية ووعيها الروحي، ويسعى لتفسير الحياة بأعظم إمكاناتها وأرفع إنجازاتها، كما ظهرت في المسيح.
(ب) فروض فلسفية: لتوضيح ما سبق ذكره يمكننا أن نلاحظ خاصيتين متميزتين للأخلاق المسيحية، يغفلهما علم الأخلاق الفلسفي أو يقلل من شأنهما وهما:
1 – يفترض على الأخلاق المسيحي وجود قوة روحية كامنة في الإنسان تنتظر روح الله ليستنهضها. فيقول “نيومان سميث” إن الطبيعة البشرية تجد كيانها في دائرة أخلاقية تهدف إلى غايات أخلاقية حيث أنه توجد طاقة طبيعية للحياة الأخلاقية يدل عليها كل تكوين الإنسان، ويمكن أن يقال أن المادة ذاتها توجد من أجل الروح، كما أن الروح بدورها توجد من أجل الروح القدس. ولا يمكن لأي نظرية تتعلق بالنشأة المادية للإنسان أن تعترض افتراض وقوف الإنسان على مستوى أخلاقي، وأنه يقدر أن يعيش حياه تتشكل بحسب الغايات الروحية، ومهما يكن تاريخ الإنسان وتطوره، فقد خلقه الله منذ البداية على صورته وهو يحمل الطابع الإلهي في كل ملامح الجسد والنفس، ولا يمكن لسقطته أن تمحو أصله النبيل، كما يشهد فساده الفعلي بإمكانية قداسته، فليست الأخلاقيات المسيحية، إلا تلك الأخلاقيات المعدة منذ الأزل، كما أنها ليست سوى التحقيق الأسمى لكل ما كانت تسعى إليه الفضيلة الوثنية، فهذا هو رأي الرسول بولس بالنسبة للطبيعة البشرية، فهو يرى أن يسوع المسيح هو غاية الخليقة كلها وذروة كمالها، ففي كل مكان إمكانية للمسيح، والإنسان ليس ما هو عليه الآن، بل ما سيصير إليه (1كو 47: 15 – 49).
2 – تتصل بهذه الخاصية خاصية أخرى تبين الفرق بين علم الأخلاق المسيحي وعلم الأخلاق الفلسفي. وهي موضوع التجديد أو إعادة خلق الشخصية. فالنظريات الفلسفية لا تفعل أكثر من صياغة المطالب الأخلاقية، فهي تصف ما يجب عمله أو الامتناع عنه، أما المسيحية فتهتم قبل كل شيء بالسؤال: “بأي قوة أستطيع أن أفعل الصواب أو الصلاح؟”. فالمسيحية تعتبر أن الطبيعة البشرية في حاجة إلى تجديد، وتبين الطريقة التي يمكن بها تجديد وتغير الطبيعة البشرية مؤكدة أنها “قوة الله للخلاص لكل من يؤمن” (رو 16: 1).
وهكذا يفترض على الأخلاق المسيحي افتراضًا مزدوجًا معلناً بذلك اختلافه – في هذا الصدد – عن علم الأخلاق الفلسفي، وتلك الحقيقة المزدوجة هي أن المثل الأعلى للبشرية استعلن في شخص يسوع المسيح، وأن منه يستمد الإنسان قوة ليصبح على ما يجب أن يكون عليه، وكل ما يجعل حياته واعدة غالبة.
3 – الأسلوب: وإذا ما تركنا مدلول الأخلاق المسيحية وأتينا إلى الحديث عن الأسلوب، نجد أن هناك أموراً كثيرة مشتركة بين علم الفلسفة والأخلاقيات المسيحية، فالأسلوب في كليهما هو الأسلوب العقلاني، فالمثل الأعلى أو القدوة في المسيحية – رغم أنه يتمثل في المسيح – يلزم فحصه وتحليله وتطبيقه بنفس القدرات التي يستخدمها الإنسان بالنسبة للمسائل الفكرية. وكل علم يجب أن يعالج حقائق، وتكون وظيفته هي التفسير السليم لهذه الحقائق. وبينما يجد المفكر المتأمل الحقائق في دستور العالم الأخلاقي على اتساعه، فإن المسيحي يجدها في الأسفار المقدسة، وبخاصة في تعليم المسيح. ويكفي أن نقول أنه بينما تشغل الأمور الأخلاقية جانباً كبيراً من العهد الجديد، ليست هناك أي محاولة لصياغة تلك القواعد الأخلاقية صياغة علمية، ففيه المادة للمعالجة النظامية للمسائل الأخلاقية، ولكن واجب تنسيقها وتصنيفها يقع على عاتق المفسرين. فالمادة موجودة، ولكنها تحتاج إلى تفسيرها وتوحيدها وتطبيقها لتكون منهجاً نظامياً للأخلاق، وبالتالي يجب على مفسري الكتاب المقدس أن يستخدموا الأسلوب العلمي في تناولهم للحقائق، وهو أسلوب يعتمد على البحث العقلاني والمنهج الاستقرائي وهو الأسلوب المفترض في حل المشاكل العقلية بحكم طبيعة العقل ذاته. والمرجع الذي يستند إليه علم الأخلاق المسيحي ليس وحياً خارجياً يفرض أوامره بطريقة آلية، إنما هو مرجع مجسم في صور جلية يدركها العقل، وتحتكم إلى القدرات العقلية في الإنسان. فالأخلاق المسيحية ليست قانوناً روتينياً جاهزاً، بل لابد للإنسان أن يفكر فيها مالياً وأن يربطها بكل علاقات الحياة بواسطة قواه المفكرة. وليس علم الأخلاق خلاصة مركزة من القواعد المصبوبة في قوالب جامدة يقدمها الكتاب المقدس أو الكنيسة لتخلص الإنسان من متاعب التفكير. ونسيء تماماً فهم طبيعة الأسفار المقدسة والقصد من مثال المسيح وتعليمه، إذ افترضنا أنها تقدم لنا معايير آلية يجب النهج على منوالها وطاعتها طاعة عمياء، فالمسيح يتحدث إلى الطبيعة العقلانية في الإنسان، وكلمات المسيح روح وحياة طالما تُفهم بطريقة ذكية، لتصير بالاقتناع الداخلي والتقدير الشخصي مبادئ للتفكير وللعمل.
(6) علاقة علم الأخلاق المسيحي بالعقائد المختلفة: في مجال علم اللاهوت، هناك عنصران أساسيان في التعليم المسيحي هما: العقيدة والأخلاق. وإن كان من الأيسر أن نتناول كلاً منهما على حدة، إلا أنهما في الحقيقة وحدة واحدة ويمثلان وجهين لموضوع واحد، ومن العسير أن نعين حدودهما فنقول أين تنتهي العقيدة وأين تبدأ الأخلاق.
وقد نميز بينهما أحياناً، فنقول أن العقيدة علم نظري أما الأخلاق فعلم عملي، فالحقيقة أن الأخلاق أقرب إلى الحياة اليومية، وتعالج أساليب السلوك العملي، بينما تهتم العقيدة بالمعتقدات وأصولها وشرحها، إلا أن علم الأخلاق من جهة أخرى، يناقش الأفكار وكذلك الأفعال ويهتم بالأحكام الداخلية اهتماما لا يقل عن اهتمامه بالإنجازات الخارجية وفي كل عقيدة جانب عملي، كما أن هناك جانب نظري في كل الأخلاقيات. فإذا انفصل اللاهوت العقائدي عن السلوك العملي، فيخشى أن يصير مجرد سفسطة، فحتى العلوم التي تعتبر نظرية بحتة مثل الميتافيزيقا، لها ما يبرر في تأثيرها على الحياة. ومن جهة أخرى فإن علم الأخلاق يفقد قيمته العلمية ويصبح مجرد تعداد للوجبات، إن لم يكن له أساس عقائدي، وإن لم يستلهم الدوافع من المعتقدات، فالعبارة الشائعة التي تقول: إن العقيدة هي ما يجب أن نؤمن به، أما الأخلاق فهي ما يجب أن نفعله، عبارة غير صحيحة على علته، علاوة على أنها غير وافية، حيث أن القوانين والمبادئ الأخلاقية هي أيضاً من موضوعات الإيمان، كما أن ما نؤمن به له طابع أخلاقي والتزامات أخلاقية.
(أ) العلاقة: لطالما اتهم “شلاير ماخر” (Schleurmacher) بأنه يتجاهل الفرق بين الاثنين، إلا أنه اتهام غير عادل لأنه بينما هو يعتبر العلمين فرعين للعقيدة المسيحية، ويؤكد الصلة الوثيقة بينهما، فإنه لا يغفل الاختلاف بينهما. إلا أن بعض علماء علم الأخلاق المسيحي المحدثين (دورنر) (Dorner)، مارتنزن Martensen، ووطك Wittke، وهيرنج Haering، وليم Lemme) يميلون إلى تأكيد هذا التمييز مطالبين بمناقشة كلاً منهما على حده، إلا أن الصلة الأساسية بينهما لا يمكن تجاهلها بدون خسارة للناحيتين. فما يؤدي إلى الارتباك أن نتحدث عن أخلاقيات بدون عقيدة، إذ أن أي محاولة لتناول موضوعات أخلاقية بدون الإشارة إلى مضامينها العقيدية، لن يجرد علم الأخلاق المسيحي من طبيعته المتميزة وتبرير وجوده فحسب، بل يهبط به إلى مجرد نظام من الانفعالات العاطفية. وعليه يمكن اعتبار العقائد والأخلاق علمين متلازمين يخدم أحدهما الأخر، فعلم الأخلاق يحفظ العقيدة من أن تتحول إلى مجرد حالة من التأمل الخيالي، ويجعل لها أساساً راسخاً من الحقيقة عن طريق تقديم اختبارات الحياة وإمكانية الاستفادة منها. ومن جهة أخرى فإن العقائد تمد علم الأخلاق بالمبادئ الفعَّالة والمقاييس العيارية، وتحفظ الحياة الأخلاقية من الانحطاط إلى حالات من أوهام التعصب أو تبلد الاستسلام للقدرية.
(ب) التمييز: بينما يشكّل علم الأخلاق والعقيدة الجانبين المتكاملين لعلم اللاهوت ويخدم أحدهما الآخر إلا أن علم الأخلاق يفترض مسبقاً وجود العقيدة بل ويقوم على أساس مسلماتها، فالعقيدة تقدم جوهر الوعي الديني ومضامينه وهدفه، أما علم الأخلاق فيقدم هذا الوعي كقوة تحدد الإرادة البشرية، فتنظر العقائد إلى الحياة المسيحية من جهة اعتمادها على الله أما علم الأخلاق فينظر إليها من وجهة نظر الحرية الإنسانية. وتتناول العقائد الإيمان في علاقته بالله باعتباره وسيلة قبول النعمة الإلهية، أما علم الأخلاق فيتناول الإيمان من حيث علاقته بالإنسان، كنشاط بشري وبصفته العامل في السلوك. فالعقيدة تبين لنا أن اختيارنا لملكوت الله هو عمل المحبة الإلهية، أما علم الأخلاق فيبين كيف أن معرفتنا للإخلاص تظهر في محبة الله ومحبة القريب ويجب أن تعمل في كل علاقات الحياة.
(ج) الافتراضات اللاهوتية: ومن وجهة النظر هذه نجد أن العقائد تزود علم الأخلاق ببعض الافتراضات التي يمكن أن نوجزها هنا:
(1) علم الأخلاق والفكرة المسيحية عن الله: فالله ليس مجرد قوة أو خالق كما تقدمه الفلسفة، إذ أن القوة الإلهية يجب أن تتصف بما يمكن أن نطلق عليه صفات الله الأدبية، فنحن لا ننكر أنه كلي القدرة ولكن ننظر إلى محبته التي تسمو فوق القوة، أي أننا ننظر إلى الله في المسيح، كما ندرك أن هناك ترابطاً بين صفات الله الأدبية:
1 – الإحسان والرحمة.
2 – ويقابل ذلك صفة أخلاقية دقيقة وهي العدل الإلهي، إذ أن رحمة الله ليست رحمة عمياء لكنها رحمة حكيمة ومميزة.
3 – وعلى قمة الصفات الإلهية تأتي المحبة الإلهية أو النعمة الإلهية التي تجمع بين الرحمة والعدل في صفة شاملة. فالله الذي تقدمه العقيدة إلى علم الأخلاق هو الله في المسيح.
(2) علم الأخلاق يفترض ما تنادي به العقيدة المسيحية عن الخطية: وليس من اختصاص علم الأخلاق أن يبحث في منشأ الشر، أو أن يضع نظرية عن الخطية، ولكن لابد أن يكون المنهج الذي ينتهجه متفقاً مع حقائق الإعلان الإلهي ومنسجماً مع حقائق الحياة. فأي مفهوم زائف أو غير وافيِ عن الخطية، يسيء إلى علم الأخلاق كما يسيء إلى العقيدة. ويتوقف على مفهومنا للشر – إلى حد كبير – نظرتنا للحياة من حيث مشاكلها وغايتها وتجاربها وانتصاراتها. وتوجد ثلاثة أراء في الخطية: فبالنسبة للبعض (كاليونانيين القدماء) ليست الخطية إلا نقصاً أو تقصيراً أو أن يخطأ الإنسان الهدف. وبالنسبة للبعض الآخر هي مرض أو شيء كامن في تكوين الإنسان، أو على الأقل هي ضعف أو قصور كامن في الجسد ناتج عن الوراثة والبيئة.
وبينما هناك شيء من الصواب في كلا الرأيين إلا أن كليهما به نقص لأنهما لا يأخذان في الاعتبار – بدرجة كافية – عنصراً هاماً هو عنصر الإرادة الذاتية، فالخطية – بهذا المفهوم – هي سوء حظ أو قضاء وقدر مما ينتفي معه الإحساس بالذنب. والنظرة المسيحية تتضمن هذه المفاهيم مع إضافة فكرة مميزة تعطي لهذه الأفكار قيمتها، فليست الخطية مجرد فعل سلبي، بل هي فعل إيجابي وقوة باطنية مسيطرة، كما أنها ليست مجرد نقص، بل هي تعدٍ، وليست مجرد مرض موروث متأصل، بل هي انحراف اختياري وهي ليست غريزة كامنة في الجسد أو مجرد دوافع حيوانية أو عواطف جسدانية، بل هي بالحري تختص بالعقل والإرادة، وأساسها الأنانية. فهي الاختيار الإرادي للذات وتفضيلها على الله. وهي عصيان شخصي متعمد. وعلى ذلك يجب للتغلب عليها، ليس قمع الجسد أو استئصال الأهِواء، بل قبول مبدأ جديد في الحياة وتغيير الإنسان تغيراً كليًا. وهناك – بالتأكيد – درجات ومراحل من عمل الشر، كما أن هناك ظروفاً تقابل ذلك يجب أخذها في الاعتبار عند تقييم أهمية الشر، إلا أنه في النهاية يفترض علم الأخلاق المسيحي حقيقة الخطية باعتبارها عصياناً شخصياً ضد قداسة الله، كاختيار مقصود للذات، وكانحراف متعمد من كل قوى الإنسان نحو وسائل الشر.
(3) يفترض علم الأخلاق المسيحي مسئولية الإنسان: كنتيجة للفكر المسيحي عن الله وعن الخطية. فعلم الأخلاق المسيحي يعتبر كل إنسان مسئولاً عن أفكاره وعن أفعاله، ومن ثم فهو قادر على اختيار الصلاح كما هو معلن في المسيح. والمسيحية رغم أنها لا تنكر سيادة الله المطلقة، أو تقلل من غموض الشر، بل وتعترف بأن الخطية قد عمت العالم، فإنها تؤكد بكل قوة مبدأ حرية الإنسان ومسئوليته، فالأخلاق تصبح مستحيلة لو افترضنا ضرورة الخطية من جانب، وأن عمل النعمة لا يقاوم، من الجانب الآخر، إذا كان فعل الشر محتماً. ومهما تكن عقيدتنا في هذه الأمور، فعلم الأخلاق يؤكد حرية الإرادة.
وهنا يبرز سؤال هام، وهو: هل يمكن اختيار الصلاح بدون معرفة المسيح؟ ورغم صعوبة هذا السؤال، ورغم إجابة أوغسطينوس وكثيرين من الآباء الأولين عليه، بالنفي، فإن النظرة الحديثة – ولعلها أكثر النظرات إنصافاً – هي أنه لا يمكن اعتبار الناس مسئولين ما لم نمنحهم أكبر قسط من الحرية. فلو كان قد قُدِّر لغير المسيحيين أن يعملوا الشر، فلا يمكن أن يحسب عليهم ذنباً، لكن التاريخ يثبت أنه كان هناك نوع من حب الخير في بعض الأحيان، كما حدثت حالات متفرقة من الطهارة والرحمة بين أناس لم يعرفوا شيئاً عن المسيح. والعهد الجديد يعترف بوجود درجات من الفاسدين الأمم والأفراد، وكذلك بوجود قدر من التطلع نحو السمو والسعي الجاد نحو الصلاح في الطبيعة البشرية العادية. ويعلن الرسول بولس بوضوح وجود بعض المعرفة والأعمال الصالحة بين الوثنيين، ورغم أنه يوبخ فسادهم بعبارات قاسية، إلا أنه لا يؤكد أن المجتمع الوثني قد فسد تماماً لدرجة أنه فقد كل معرفة للصلاح الأدبي. (انظر رومية 15: 2).
ثانياً – عرض تاريخي لعلم الأخلاق:
من الطبيعي أن تشمل المعالجة الشاملة لموضوع الأخلاق، تاريخ علم الأخلاق منذ العصور الأولى حتى الوقت الحاضر، لأن علم الأخلاق كفرع من الأبحاث الفلسفية قد شارك في التطور التاريخي للفكر الإنساني. وما يعرضه علم الأخلاق اليوم من موضوعات يمكن تقييمه تقييماً صائباً في ضوء مفاهيم ومعايير معينة مثل الغاية والصلاح والفضيلة والواجب واللذة وحب الذات والإيثار، والتي تطورت في المراحل المتعاقبة من حركة الأفكار في علم الأخلاق. وكل ما سنحاوله هنا هو عرض موجز بسيط للأحقاب المختلفة للفكر الأخلاقي، للدلالة على المراحل التمهيدية لاكتشاف تطور علم الأخلاق.
(أ) الفلسفة اليونانية:
(1) السفسطائية: كل الديانات الكبرى في العالم، التي ظهرت في الهند وفي فارس وفي مصر، كانت لها مفاهيمها الأخلاقية وكانت هذه المفاهيم تتكون في غالبيتها من وصايا أو مأثورات غير مترابطة، ولم يكن هناك علم للأخلاق بالمعنى الدقيق قبل العصر الذهبي للفلسفة اليونانية. وقد نشأ الوعي الأخلاقي لدي اليونانيين على يد السفسطائيين – وبخاصة سقراط – الذين كانوا أول من احتج ضد العادات العتيقة والتقاليد القديمة في بلادهم. وكان الناس المدعوون “حكماء” علماء في الأخلاق – إلى حد ما – إلا أن أقوالهم وحكمتهم لم تكن إلا أمثالاً متفرقة لا تشكل وحدة ولا تربط بينها صلة، فقد انشغلت الفلسفة الخاصة أساساً بالمسائل الميتافيزيقية البحتة، أو بالموضوعات الوجودية الصرفة، مثل طبيعة الكائنات وشكل وأصل عناصر العالم الأولية، ولم تتناول الفلسفة الموضوعات الأخرى مثل معنى الحياة أو السلوك، إلا بعد أن فقدت الديانة اليونانية والشعر الإغريقي سيطرتهما على المثقفين، وداخل الناس الشك في معتقداتهم الماضية.
(2) سقراط: وجه السفسطائيون النظر إلى الغموض والتناقض في الرأي العام، وبدأوا في تعليم الناس فن السلوك، غير أن سقراط هو الذي – كما يقال – جذب الفلسفة من السماء إلى الأرض، وحوَّل عقول الناس من التفكير في الأمور الميتافيزيقية البحتة، إلى الحياة البشرية، فكان بحق أول فيلسوف أخلاقي، لأنه بينما تكلم السفسطائيون عن العدل والقانون والاعتدال وضبط النفس، إلا أنه لم يمكنهم – عند مناقشتهم – أن يعرِّفوا كنه هذه الأمور. كانت أول مهمة لسقراط هي أن يكشف جهل الإنسان فيقول سقراط أن كل التخبط والمجادلات الدائرة حول “الخير” تنبع من الحاجة إلى المعرفة الواضحة. مستهدفاً بذلك “المعرفة” – ليس سعياً وراء المعرفة في حد ذاتها – بل لأنه كان يعتقد أنها أساس كل سلوك قويم، فما من إنسان يفعل الشر طواعية وبإرادته. ويضيف سقراط قائلاً: “علَّم الإنسان ما هو صالح، أي ما هو نافع حقاً، وهو يفعله”. ومن هنا جاءت المقولة الشهيرة لسقراط: “الفضيلة معرفة، والرذيلة جهل” ورغم عقلانية سقراط، إلا أنه كان من المؤمنين بمذهب اللذة، أي أن اللذة هي الغاية العظمى. للحياة.
فيجب ألا نتصور أنه اعتقد أن معرفة الفضيلة أمر متميز على المنفعة، فكل إنسان يسعى نحو الخير لأن الخير مرتبط بسعادته، فالرجل الحكيم هو بالضرورة الرجل السعيد، من ثم فإن معرفة الإنسان لنفسه هي معرفته لسر السعادة.
(3) أفلاطون: بينما كان سقراط أول من وجه النظر إلى طبيعة الفضيلة، إلا أن مفهومه للفضيلة، القاصر والمتحيز، كان موضع معالجة متسعة من جانب أفلاطون الذي حاول أن يعرف طبيعة الإنسان وغايته من خلال موقعه من الكون، ولهذا ربط أفلاطون ما بين علم الأخلاق وبين الميتافيزيقا (ما وراء الطبيعة) وافترض عالماً مثالياً يضم نموذجاً أصلياً لكل ما هو أرضي وبشري، فالنفس الإنسانية مأخوذة من عالم النفس وهي مثله خليط من عنصرين، فهي – من جهة بفضل العقل – تشارك في عالم الأفكار أو حياة الله، ومن جهة أخرى – بسبب الدوافع الحيوانية – تشارك في عالم الفناء أو العالم الجسداني. ويرتبط هذان الجزءان المتباينان من النفس مع بعضهما البعض بعنصر وثيق، دعاه أفلاطون باسم “ثيوموس” (thumos) وهو يتضمن الشجاعة وحب الكرامة والشرف والعواطف القلبية. مما يمكن ترجمته لكلمة “الإرادة”. ويظهر تكوين الإنسان الداخلي في هيئته الخارجية، فالرأس هي موضع العقل، والصدر موضع القلب والعواطف، أما الجزء السفلي من جسم الإنسان فهو أعضاء الرغبة الحيوانية. فإذا تساءلنا فمن هو الإنسان الكامل؟ يجيب أفلاطون أنه ذلك الإنسان الذي يتواءم فيه العناصر الثلاثة السابق ذكرها معاً، وبذلك نصل إلى النظام الذي يدعى “الفضائل الرئيسية” التي ثبتت عبر كل العصور ووجهت كل حوار أخلاقي. وهذه الفضائل هي “الحكمة والشجاعة وضبط النفس” وهي مجتمعة معاً تعني “العدالة” وهكذا نلاحظ أن الفضيلة لم تعد مجرد “المعرفة”، ولكن هناك – إلى جانب الجهل – شكل آخر من السلوك السيئ، وهو الاضطراب الداخلي والصراع النفسي، حيث تتصارع الدوافع الدنيا مع الدوافع السامية. ويعتبر هذا كما سنرى خطوة متقدمة عن موقف سقراط المنحاز إلى جانب واحد. غير أن أفلاطون لم ينجح في التغلب على الازدواجية في محاولته التوفيق بين الحركتين في صراع الحياة. فالدوافع الداخلية تسحب الإنسان دائماً إلى أسفل، بينما تكمن سعادة الإنسان في بلوغه حياة العقل. لذلك وإن كان في نظرية أفلاطون بعض اللمحات من حل أسمى فإنه يستند إلى الفكرة القائلة بأن بلوغ الفضيلة إنما يتم بكبت الرغبات الحيوانية وإماتة الحياة الدُنيا. ويقدم لنا أفلاطون العناصر الأولية لعلم الأخلاق الاجتماعية. فالأخلاق كما يفهما أفلاطون ليست أمراً يخص الفرد فحسب، لكنها لا تتحقق تماماً إلا في الدولة، فليس الإنسان إلا صورة من الكون الأكبر وأنه قادر على أن يحقق حياته الصحيحة لا كفرد بل كمواطن.
(4) أرسطو: نظرية الأخلاق عند أرسطو تكمل نظرية أفلاطون ولا تختلف عنها جوهرياً. وأرسطو هو أول من تناول موضوع الأخلاق كعلم، وصار لديه جزءاً من علم السياسة. فالإنسان كما يقول أرسطو – هو بحق “حيوان اجتماعي”. وهو يتعامل مع الإنسان بأكثر تحديد عن أفلاطون كجزء من المجتمع. ويبدأ أرسطو كتابه العظيم عن الأخلاق، بمناقشة ما هو “الخير الأسمى”، ويعلن أنه هو السعادة أو الرفاهية، لكن السعادة لا تكمن في اللذة الحسية ولا في السعي نحو الشرف والكرامة، بل في حياة التأمل المنظم، في “نشاط النفس في توافق مع العقل”. ولكي نصل إلى التفكير السليم والفعل الصحيح، يلزم لذلك ظروف مواتية ومعرفة سليمة، ولا تصبح الفضيلة فضيلة ما لم تصر عادة. والطريقة الوحيدة ليصير الإنسان “فاضلاً” هي ممارسة الفضيلة.
وهكذا نلاحظ أن أرسطو يوازن بين نظرية سقراط ذات الجانب الواحد، وبين رأي أفلاطون عن المعرفة، وذلك بإصراره على أهمية العادة. ولابد أن يرتبط النشاط بالعقل، كما يجب الاعتراف بأن الماضي والحاضر، البيئة والمعرفة، عناصر في صنع الحياة. فالفضائل إذاً عادات، ولكنها عادات بالاختيار المدروس، ولذلك فالفضيلة عمل أو نشاط يسعي دائماً إلى تحقيق الوسط بين طرفين متناقضين.
وتتميز قائمة الفضائل التي وضعها أفلاطون بالبساطة، ولكن تلك التي وضعها أرسطو وإن كانت أكثر اكتمالاً، إلا أنه ينقصها النظام. وتتكون بوجه عام من الأفعال الصحيحة التي تُحدَّد بتوسطها بين نقيضين. ومن بين نقائصها التي يندهش لها الفكر الحديث، أن الإحسان لا يحسب بين الفضائل إلا باعتباره نوعاً من السخاء. وبوجه عام فإن الفضائل الرفيعة، فضائل التضحية البارزة في المسيحية، ليس لها مكان في تلك القوائم. إن الفضائل التي يذكرها أرسطو هي أساسًا فضائل أرستقراطية ومستحيلة على العبيد. وبينما أحسن أرسطو صنعاً في معارضته للفلسفة السابقة في إدراك وظيفة العادة، إلا أنه لابد من الإشارة إلى أن العادة ذاتها لا يمكن أن تجعل الإنسان فاضلاً، بل قد تكون العادة عائقاً وليست عاملاً مساعداً على تحقيق الغايات السامية. ولا يمكن أن تتحول الأخلاق إلى مجرد سلسلة متعاقبة من الأعمال المعتادة. إلا أن الخطأ الرئيسي في معالجة أرسطو “للفضيلة” هو أنه اعتبر العواطف أموراً لا عقلانية ولا أخلاقية، ولم ير أن العاطفة بهذا المفهوم لا يمكن أن يكون لها حد وسط، فلو كان فيك الكثير من الصلاح، فلا يمكن أن يكون فيك شيء من الشر. فالدوافع والرغبات في الإنسان لا يمكن ان تكون لا عقلانية على إطلاقها، فالعقل يدخل في كل رغبات الإنسان ويعطي جسده وكل قواه البدنية قيمة أخلاقية ونفعاً أدبياً، فلن نصير أفاضل بكبت العواطف، بل بتحويلها إلى وسيلة للخير.
وقد تأثر أرسطو بدرجة لا تقل عن أفلاطون بالثنائية أو الازدواجية اليونانية، التي تجعل تناقضاً بين العقل والعاطفة، وتعطي للعقل مكانة أسمى.
(5) الرواقيون والأبيقوريون: نتج عن الصراع بين العقل والعاطفة اللذين لم يستطع أفلاطون وأرسطو أن يوفقا بينهما، ظهور تفسيرين متضادين للحياة الأخلاقية. فاختار الرواقيون الطبيعة العقلية لتكون المرشد الصحيح للنظام الأخلاقي ولكنهم أعطوها السيادة بصورة كادت تهدد بالقضاء على العواطف. أما الأبيقوريون الذين تمسكوا بمبدأ أن السعادة هي الخير العظم، فقد ركزوا بقوة على الجانب العاطفي حتى أنهم أباحوا كل أنواع اللذات الحسية. ويتفق كلاهما على أن الهدف النهائي للسلوك الأخلاقي هو سعادة الفرد. ولا يلزمنا هنا أن نعرض بالتفصيل معتقدات أبيقور وأتباعه، ولا نجد ضرورة للتركيز على آرائه، لأنه بالرغم من أن الأبيقورية والرواقية يمثلان الاتجاهات الرئيسية في الدراسات الأخلاقية وكان لهما أثر بالغ على الجانبين الفكري والعملي في العصور اللاحقة، إلا أن مفاهيم الرواقيين كانت أقرب صلة بالمسيحية.
(6) الفلسفة الرواقية: بدون الخوض في المفهوم الرواقي عن العالم باعتباره وحدة كلية يتداخل معها ويحكمها روح كامن فيها، وما تبع ذلك من مفهوم للحياة بأنها منبثقة من الله، وأنها في كل جوانبها إلهية، يمكن أن نلاحظ أن الرواقيين مثلهم مثل أفلاطون وأرسطو قد اعتبروا أن تحقيق الغرض الطبيعي للإنسان هو السعادة الحقيقية والخير الأسمى. وقد صاغوا هذه الفكرة في مبدأ يقول: “الحياة حسب الطبيعة” فالإنسان الحكيم هو من يجاهد ليعيش في وئام مع طبيعته العقلانية في كل ظروف الحياة، فقانون الطبيعة هو تجنب ما هو ضار والسعي نحو ما هو ملائم، وتتحقق اللذة كأمر مصاحب لحصول الإنسان على ما بلائمه، إلا أنه لا بد أن تعتبر اللذة والألم مجرد أحداث أو عوارض في الحياة، ويجب على الرجل الحكيم أن يقابلها بعدم الاكتراث، فالرجل الحكيم هو وحده الحر، وهو سيد نفسه وسيد العالم حوله، ويقر بسيادة العقل المطلقة محرراً ذاته من الشهوات الأرضية. وحياة الحرية هذه متاحة للجميع، فالناس جميعاً سواسية، وهم أعضاء في جسد واحد كبير. فالعبد الرقيق يمكنه أن يكون حراً، مثله في ذلك مثل الحاكم، وكلاهما يمكنه أن يخضع العالم لخدمته بالعيش معه في انسجام ووئام.
وهناك قدر معين من السمو في الأخلاق عند الرواقيين فقد استجابت لفلسفتهم العقول النبيلة وتأثر بها غالبية الشخصيات العظيمة في العهود الأولى للإمبراطورية الرومانية، وشجعت كل محاولة لتحقيق كرامة النفس البشرية وحريتها. إلا أننا لا يمكن أن نغض الطرف عن عيوب الفلسفة الرواقية، فلم يكن حديثها عن الحلول الإلهي والعناية إلهية سوى حديث عن مصير مبهم يسود الكون كله. ولم يكن “الانسجام مع الطبيعة” أو “الحياة حسب الطبيعة” سوى إحساس بالغطرسة والاكتفاء الذاتي.
فالرواقية تمجد العقل إلى حد كبت كل العواطف، وليس في الرواقية أدنى إحساس حقيقي بالخطية. فالخطية في الفلسفة الرواقية هي ما لا يتفق مع العقل، ويكمن الخلاص في التحكم الخارجي في العواطف بالفتور وعدم الاكتراث الناتجين عن ضمور الشهوة. إلا أن الميزة الكبرى للرواقيين هي تأكيدهم على سلامة الأخلاق الداخلية كشرط وحيد لكل فعل صائب وللسعادة الحقيقية. كما أنهم أكدوا في عصر الانحلال والفساد على ضرورة الفضيلة، وبتفضيلهم أفراح الحياة الداخلية واحتقار كل المسرات الحسية، والتأكيد على الواجب والدفاع عن الإنسانية المشتركة، إلى جانب إيمانهم بالعلاقة المباشرة بين كل نفس إنسانية وبين الله. فالرواقية – كما نراها في كتابات “سنيكا” (Seneca) و “ماركوس أوريليوس” (Marcus Aurelius) و “أبيكتيتيوس” (Epictetus) لم تبين فقط كيف أن الوثنية في أفضل أحوالها يمكن أن تصل إلى مستوى عال، لكنها أثبتت أنها كانت إلى حد ما تهيئ الطريق للمسيحية التي تشترك مع الفلسفة الرواقية رغم كثرة عيوب الرواقية في الكثير من المبادئ العملية.
(7) الفلسفة الرواقية والرسول بولس: كثيراً ما أشير إلى تشابه الفلسفة الرواقية والتعاليم الأخلاقية عند بولس. ولا يمكن تبرير ذلك التشابه بينهما لغة وفكراً بأنه محض صدفة. ولكن كان في الفلسفة الرواقية بعض العناصر التي لم يكن ممكناً للرسول بولس أن يتقبلها، أو يتعاطف معها، فمثلاً فكرة الوحدة بين الله والكائنات، والمفهوم المادي للعالم، والافتخار بالذات، وغياب كل إحساس بالخطية والحاجة إلى الغفران، واللامبالاة والكبت غير الطبيعي للمشاعر، كل هذه السمات لم تكن لتثير في فكر الرسول إلا المقاومة الشديدة. ولكن كانت هناك بعض الصفات المعروفة النبيلة التي ضمن أخلاقيات الرواقيين، والتي يرى البعض أن الرسول بولس وجد فيها أفكاراً مقبولة لم يتردد في استخدامها لخدمة الإنجيل.
وبدون التركيز كثيراً على هذا النهج الفكري، يمكننا أن نذكر من هذه المبادئ والآراء فكرة عظمة الله ووجوده في كل مكان كالعلة لكل حياة وكل نشاط، وفكرة الحكمة أو المعرفة كمثل أعلى للإنسان، ومفهوم الحرية كحق وامتياز للفرد، وفكرة الإخاء كهدف تسعى إليه البشرية.
(ب) الفلسفة السكولاستية: التي سادت العصور الوسطى، فبعد أن انقضت القرون الأولى من العصر المسيحي، عانت الأخلاق المسيحية (كما يبدو لنا من الرسائل)، كما عانى علم اللاهوت المسيحي من فساد الغنوسية، كما عانت مؤخراً من “السيكولاستية” فتجمد الحق المسيحي في شكل قائمة من الفرائض الدينية. ففي عصر الآباء الأولين (برنابا، اكليمندس، أوريجانوس وغريغوريوس) لم يكن ثمة تمييز بين التعليم الأخلاقي والتعليم العقائدي. وقد ناقش “كبريانوس” المسائل الأخلاقية من وجهة نظر التأجيب الكنسي. وقد قام “أمبروزيوس” بأول محاولة حقيقية لدراسة علم الأخلاق المسيحي، ويعتبر مبحثه عن “الواجبات” محاكاة لما كتبه شيشرون تحت نفس العنوان. بل أن أوغسطينوس رغم نظرته الثاقبة في طبيعة الخطية عالج المسائل الأخلاقية بطريقة عارضة. ولعل “أبيلارد” (Abelard) في كتاب “الأخلاق” و “بيتر لومبارد” (Peter Lombrd) في كتاب “أقوال”، وعلى رأسهم “توما الأكويني” (Thomas Aquinas) في كتابه “المختصر” هم الكتَّاب الوحيدون من بين الفلاسفة السكولاستيين باستثناء “ألكوين” (Alcuin) في كتابه “الفضائل والرذائل” الذين قدموا عملاً أو بحثاً علمياً وافياً عن الأخلاق.
(ج) عصر الإصلاح الديني: جاء التحرر من الالتزام الناموسي لأول مرة مع عصر الإصلاح الديني الذي كان في جوهره نهضة أخلاقية. فقد أعيدت صياغة العلاقة بين الله والإنسان في ضوء الحق الكتابي، وتكشفت قيمة الإنسان وحقوقه كإنسان بعد طول غموض، وتحرر الضمير، وأصبح “لوثر” بطل “حرية الفرد”.
“ديكارت” (Descartes) و “سبينوزا” (Spinoza): إن أكثر الكتَّاب تعبيراً عن الروح البروتستانتية في ميدان الفكر البحت، هما “ديكارت” و “سبينوزا”، وبهما اتخذ التأمل في طبيعة الإنسان المتميزة والتزامه منطلقاً جديدا. وبدون تتبع ما آلت إليه الفلسفة من مصير في القارة الأوربية، حيث اتخذت شكلاً من وحدة الوجود في ألمانيا، ونغمة مادية في فرنسا، (رغم أن “جان جاك روسّو” قد وجه الفكر الأوربي إلى تكوين الإنسان)، يمكن أن نقول إن الفكر الفلسفي في إنجلترا اتخذ طابعاً عملياً، وعلى أساس أبحاث “جون لوك” (Locke) و “بركلي” (Berkeley) وهيوم (Hume) في طبيعة وحدود الفهم الإنساني، برزت موضوعات مصدر الالتزام الأخلاقي، والقدرة على الحكم الأخلاقي، إلى المقدمة.
(د) فلاسفة علم الأخلاق في إنجلترا: يمكن تصنيف فلاسفة علم الأخلاق في إنجلترا حسب آرائهم. فيؤكد “هوبز” (Hobbes) أن الإنسان أناني بطبيعته. وأنه في كل أعماله يراعي مصلحته الشخصية. أما “كدورث” (Cudworth) و “مور” (More) و “ولستون” (Wallaston) و “شافتسبري” (Shaftsbury) وهتشيسون (Hutchiuson) و “آدم سميث” (Adam Smith) وغيرهم فقد قاموا بدرجات متفاوتة من النجاح ببحث العلاقة بين فضائل الفرد وفضائل المجتمع، ويتفقون بصفة عامة على أن التوازن المضبوط بينهما يرجع إلى الحس الأخلاقي الذي يرشدنا في الأمور الأخلاقية، مثل التذوق أو الإحساس بالجمال. ويستند كل أولئك الكتَّاب أنصار مذهب الفطرة إلى غريزة أنانية أصيلة. فالأنانية مهما حاولنا اخفاءها أو دعوناها “منفعة” هي المنبع الفكري والمعيار الحقيقي لكل فعل. وقد اتخذ “بتلر” (Butler) في كفاحه من أجل إثبات سيادة الضمير وتفرِّده موقفاً مستقلاً، لكنه ليس أكثر منطقية. وقد عانى كل من “بتلر” وعلماء الأخلاق اللاحقون “بالي” (Paley) و “بنتام” (Bentham) و “ميل” (Mill) من نظرة سيكولوجية ضيقة متكلفة تتفهم القدرات المختلفة على أنها عناصر منفصلة ومستقلة كامنة في الإنسان.
(ه) مذهب النفعية: ومذهب النفعية هو مجموعة من النتائج المترابطة التي ترى الجانب الأخلاقي من السلوك في التأثيرات والأحاسيس. وأصحاب هذا المذهب رغم اختلافهم في التفاصيل يتفقون على أن الغاية الرئيسية للإنسان هي السعادة. وقد حاول “بنتام” و “ميل” استنتاج حقيقة أن الخير نابع من نقطة الأنانية، إذ يقول “ميل”: “لا يمكننا أن نبرر السبب في أن السعادة العامة مرغوبة إلا إذا كان كل إنسان يرغب في سعادة نفسه، والسعادة العامة هي الخير لمجموع الناس”.
غير أن أصحاب النفعية المتأخرين إذ لم يرضهم هذا الاستنتاج الذي لا يتفق مع المقدمات، وأنكروا مذهب اللذة الشخصية تمسكوا بمبدأ السعادة العامة التي يدفعنا إليها العقل. ولكن ما هو العقل ولماذا يجب أن أستمع له؟
(و) مذهب التطور في الأخلاق: ارتبطت نظرية الفطرة مؤخراً بنظرية التطور العضوي، فيقول “سبنسر” (Spencer) إن المشاعر من حب الذات وحب الخير هي في واقعها نتاج التطور، تطور الغرائز والدوافع للخير الاجتماعي، وإن كانت كائنة في شكل بدائي حيواني، لكنها تطورت بفعل البيئة والوراثة والنظم الاجتماعية التي خضع لها الإنسان خلال تاريخه الطويل.
غير أن هذه النظرية تعود بالمشكلة إلى الوراء، حيث أنه كما يقول “جرين” (Green): “لا بدُ أن تمر أجيال لا حصر لها حتى يتسنى للكائن الحي خلالها أن يتطور تدريجياً بالتفاعل مع بيئته… إلى أن يتحقق الشعور بالذات.. مما يزيد الأمر عجباً، ولكنه لا يستطيع أن يغير النتائج”.
(ز) “عمانوئيل كنط” (Kant): إن فلسفة “كنط” هي الفلسفة المنافسة لفلسفة اللذة والمتعة حيث أنها تنادي بمبدأ “الواجب من أجل الواجب”. وكان “كنط” أول من نادى بهذه الفلسفة. وقد هدم مبدأه عن “الواجب من أجل الواجب” نظرية “اللذة من أجل اللذة”. والضمير عند “كنط” ليس سوى العقل العملي. والقوانين عنده هي قانون واحد. فرغم أن العقل في معرفته للأشياء قاصر على الظواهر المحسوسة فقط، إلا أنه في نطاق الممارسة العلمية يتخطى الظواهر الى الواقع، وينقلنا استقلال الإرادة من عالم الظواهر إلى عالم ما وراء الحس. ويقرر مبدأ الحقيقة المطلقة أو القانون الأخلاقي في عبارة “يجب عليك” كما يقرر مبدأ سلوكياً بغض النظر عن الرغبة أو الغاية. وبناء على طبيعة “الواجب من أجل الواجب” فإن صيغة الفضيلة هي: “اعمل بناء على مبدأ يناسب القانون العام في كل الأوقات”.
غير أن هذا المبدأ له عيوبه، فبينما يحدد الجانب الشخصي أو الشكلي للواجب، فإنه لا يقول شيئاً عن الجانب الموضوعي أو عن مضمون الواجب، فقد نتعلَّم من “كنط” عن عظمة الواجب في تجرده والحاجة إلى طاعته، إلا أننا لا نتعلَّم منه ماهية الواجب. ويظل قانون “كنط” قانوناً شكلياً ومجرداً بلا مضمون، ولا علاقة له بجوهر الحياة العملية.
(ح) المثاليون الألمان: كان هدف الفلسفة المثالية التي بدأت من “كنط” هو التغلب على التجريد وإضفاء المضمون على قانون العقل، وتحقيقه في مباديء وعلاقات الحياة.
(1) “هيجل” (Hegel): وقد سار على نهج “فيتشيه” (Fiche) الذي اعتبر الأخلاق عملاً يتفق مع أفكار العقل، وأن الوعي الذاتي يتحقق في عالم الأفعال ومن خلاله. ويبدأ “هيجل” بتلك الفكرة كأساس لكل الحقيقة ثم يطور مفهوم “الشخصية الواعية” والتي تصل تدريجياً إلى الوحدة الكاملة وتحقيق الذات في إدراك العالم والله، وذلك بالتغلب على التناقض بين العاطفة والعقل. وقانون “الحق” أو قانون المثال الأخلاقي هو “كن إنساناً واحترم الآخرين كأناس”.
والإنسان “كذات” له جذوره في ذات أو شخصية لا نهائية. والوعي الذاتي للفرد مستمد من الوعي الذاتي الشامل واللانهائي الأبدي، ومستمر بسببه. ولذلك فالمعرفة ليست سوى اكتشاف العقل للأمور تدريجياً والتحقق المتوالي للعالم باعتباره الظهور الذاتي لشخصية لا نهائية تتحد معها عقلية الإنسان المحدودة. ومن ثم فإن الأخلاق هي الاكتشاف التدريجي للقصد الأبدي الذي هدفه هو كمال الإنسان.
(2) الشعاران: “اللذة والواجب”: رأينا أنه في تاريخ علم الأخلاق ظهر شعاران متنافسان هما “اللذة والواجب”، أو بعبارة أخرى “الأثرة والإيثار” أو “الأنانية والغيرية”، ولكل منهما ما يبرره. إلا أن كلا منهما على حدة، مجرد ومنحاز. والمشكلة في علم الأخلاق هي كيفية التوفيق بين هذين النقيضين دون القضاء على الطرفين، وكيفية التوحيد بين الواجب الاجتماعي والحق الفردي في وحدة أسمى. وقد رأينا أن علم الأخلاق الفلسفي قد سعى إلى جمع هذه القوى المتصارعة في مفهوم أدق لشخصية الإنسان، الشخصية التي تتفق مثالياتها وأنشطتها مع شخصية الله الشاملة والأبدية.
وتعترف المسيحية أيضاً بالحق الموجود في الأنماط العديدة للفلسفة الأخلاقية التي ذكرناها، إلا أنها تضيف إليها شيئاً هو من صميم المسيحية، ومن ثم تضفي معاني جديدة للسعادة والواجب والذات والآخرين.
الموالفة المسيحية: كما تؤكد المسيحية كذلك على تحقيق الشخصية بكل ما تتضمنه باعتبارها الهدف الحقيقي للإنسان. لكن بينما يأمر المسيح الإنسان بالقول: “كونوا أنتم كاملين كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل”، فإنه يبين لنا أننا لن نجد ذواتنا إلا في الآخرين، وأننا لا نحيا إن لم نمت، وأننا بالتسليم الكامل والتضحية نحقق ذواتنا ونبلغ الخير الأسمى.
ثالثا مبادئ وخصائص علم الأخلاق الكتابي:
ما استعرضناه آنفاً هو موجز لتاريخ علم الأخلاق لبيان الآراء التي أعطت الفكر الحديث شكله وساعدت على تفسير وجهة النظر المسيحية في الحياة كقمة محاولات الإنسان لتفسير الخير الأسمى. وسنتناول هنا القسم الثالث من موضوعنا، وهو يشتمل على: مناقشة عامة لعلم الأخلاق الكتابي معالجاً أولاً علم الأخلاق في العهد القديم، ثم الأفكار الرئيسية في العهد الجديد:
(1) علم الأخلاق في العهد القديم: يرتبط إنجيل المسيح بالشريعة العبرية ارتباطاً وثيقاً، ويتمم الوحي في العهد الجديد الوعد الموجود في العهد القديم ويكمِّله. وقد رأينا كيف أن المفكرين اليونانيين والرومانيين قد أسهموا في تطور العالم المسيحي وعاونوا على تفسير التعليم الكتابي فيما يتعلق بالحق والواجب، لكن ليس بينهم وبين المسيحية علاقة جوهرية عميقة كتلك التي بين علم الأخلاق المسيحي والأخلاقيات في العهد القديم، فقد استخدم السيد المسيح نفسه والرسول بولس بصورة أكبر أقوال العهد القديم قاعدة لتعليمه. وقد شكلت المبادئ الأخلاقية والدينية التي في “الشريعة” الأساس، كما يقول الرسول بولس: “كان الناموس مؤدبنا إلى المسيح” (غل 24: 3 و25)، أي أن الناموس كان خادماً وظيفته أن يقودهم إلى المسيح. ونستطيع أن نرى في أسفار العهد القديم، أسفاراً تمثل الآراء الأخلاقية المتعاقبة عند اليهود كشعب، رغم أن هذه الأسفار تغطي حقبة طويلة من الزمن حدثت خلالها تغيرات عديدة في حياة الشعب وأفكاره، كما تعاقبت خلالها مراحل سياسية مختلفة.
(أ) السمة الدينية للأخلاق العبرية: إن الانطباع الأول الذي نلاحظه هو أن المُثل الأخلاقية اليهودية كانت مُثلاً دينية، فقد كانت الالتزامات الأخلاقية تعتبر وصايا إلهية، والشريعة الأخلاقية إعلاناً لمشيئة الله. وكان العبرانيون يعبدون إلهاً واحداً هو إله البشر، فكان الله بالنسبة لليهود هو المصدر الأسمى للناموس الأخلاقي، كما كان الواجب – عندهم – تجسيداً لمشيئة الله. فمنذ البدء نجد العناصر الأساسية للأخلاق اليهودية كامنة في قصة جنة عدن والسقوط. فوصية الله هي المعيار الذي تقاس به مدى طاعة الإنسان لله، والشر الذي مصدره قوة معادية، رغم أنها قوة أضعف هو خرق لوصية الله.
(ب) الوصايا العشر: اول مرحلة من مراحل علم الأخلاق في العهد القديم هي التشريع الموسوي في الوصايا العشر (خر 20، تث5). وتحتل الوصايا العشر مكانة أساسية سامية في التعاليم الأخلاقية في العهد القديم، وكل الوصايا وهي في غالبيتها نواهي ما عدا الخامسة منها عبارة عن قوانين أخلاقية بحتة تنظم السلوك الخارجي وتنهي عن الأفعال بغض النظر عن النية والقصد. وتحمي الوصيتان السادسة والسابعة حقوق الإنسان، بينما تحمي الوصية الثامنة “الممتلكات”. ورغم أن هذه القوانين لها جذورها في الوعي الأخلاقي للبشرية، وهي بذلك يمكن تطبيقها في كل الأزمنة ولكل البشر، إلا أنه من الواضح أن الإسرائيليين اعتبروا تنفيذها مقصوراً عليهم.
(ج) القوانين المدنية: وقد نشأ عن القوانين المدنية الخاصة بالأرض، عنصرًا آخر من عناصر التربية الأخلاقية لإسرائيل كما يتضح لنا في “كتاب العهد” (خر 20 23). وإلى جانب ما يبدو لنا من قسوة في موضوع الأخذ بالثأر: “عين بعين وسن بسن..”، توجد مواد تتميز بالرحمة مثل قانون تحرير العبد وحماية العبيد الهاربين، وترتيبات الحصاد وإعطاء الفرصة للفقراء للالتقاط وراء الحصادين، ونظام سنة اليوبيل.
(د) القوانين الطقسية: وترتبط القوانين الطقسية ارتباطاً وثيقاً بالقوانين المدنية، فهي تشكل عنصراً هاماً في الحياة الأخلاقية لإسرائيل. فبينما تحدد القوانين المدنية علاقة الإنسان بأخيه الإنسان، فإن القوانين الطقسية تحدد علاقة الإنسان بالله. والفكرة السائدة فيما يتعلق بالله إلى جانب السلطان المطلق هي القداسة والانفصال عن كل دنس. وارتبطت بالشريعة الموسوية القوانين الكهنوتية، والغرض منها هو حماية اسم الله، وحماية أشخاص المتعبدين من الدنس. وتتعلق هذه التشريعات بالذبائح والتقدمات والطقوس التي لها مراميها الروحية. ثم الأوامر والنواهي المتعلقة بالسلوك الشخصي فيما يتعلق بأطعمة وأشربة وغسلات مختلفة (عب 10: 9) ولبعض هذه الأوامر أهميتها الصحية، بينما كان الهدف من بعضها الآخر حماية الحياة اليومية من دنس الوثنية.
(ه) النبوة: تمثل أقوال الأنبياء عنصراً أساسياً في أخلاقيات العهد القديم، فقد كان الأنبياء – وليس الكهنة – هم أكبر دعاة الأخلاق في إسرائيل، فهم أبطال البر وسلامة الحياة السياسية، والدعوة لطهارة الفرد، كما كانوا شهود الله اللذين نددوا – بلا هوادة – بكل أنواع الوثنية والارتداد عن الله كما شجبوا الرذائل الاجتماعية التي تعرض الشعب للوقوع فيها. فنراهم يكرزون بإنجيل اجتماعي، ويدينون أخطاء الإنسان في حق اخيه الإنسان، وينادون الحكومة والشعب إلى الإصلاح الفوري للأخطاء، واضعين أمام الأمة مثالاً رفيعاً. ولم يكن الأنبياء مجرد مبشرين فحسب، بل كانوا فلاسفة الأمة، يوجهون أفكار الناس إلى الجوانب الروحية والمثالية من الأمور، وينددون بشدة بالاتجاهات المادية والدنيوية.
ويفضل أفكارهم بدأت النظريات عن أصل وطبيعة الشر في الظهور، كما تأكدت قيمة الحياة وعظمتها، فمن جهة ظهر اتجاه مسئولية الفرد، ومن جهة أخرى تطورت فكرة الخطية الوراثية، ووضح أن تبعات الخطية يمكن أن تنال من البريء، فقد يرث المرء التعب ويصيبه العقاب لا بسبب أخطائه الشخصية، بل بسبب وضعه ومكانه من الجنس البشري. وقد أثارت مثل هذه الأمور حيرة عميقة يتردد صداها في الأنبياء وفي سفر أيوب وبعض المزامير. وظهر الحل في الفكرة القائلة إن الله يعمل من خلال الشر ويخرج منه أسمى خير للإنسان. وتصل هذه المفاهيم إلى الذروة في القسم الثاني من سفر إشعياء وبخاصة في الصحاح الثالث والخمسين، فالله يشتاق دائماً إلى أن يغفر للإنسان وأن يستعيده في محبته. كما يذكر مراراً قصور الطقوس وفشل كل الوسائل المادية في الاستمتاع بالعلاقة مع الرب “يهوه” تمهيداً للطريق إلى تعليم الخلاص، فنجد في سفر المزامير كتاب العبادة، الذي يعكس الحياة الأخلاقية والدينية للأمة في مراحل تطورها المختلفة نفس طبيعة الله السامية كإله البر والقداسة، الذي يمقت الشر، والغيور على عبادته. كما نجد الاحتقار العميق للخطية، والدعوة السامية للإنسان.
(و) أسفار الحكمة: وبدون الدخول في تفاصيل عن الأفكار الأخلاقية في الأسفار التي تعرف بأسفار الحكمة في العهد القديم، وهي أيوب والأمثال والجامعة، يمكن أن نلاحظ أن التعاليم التي تحويها هذه الأسفار موجهة على الأكثر إلى الأفراد، وهي وصايا عملية تتعلق بالحكمة والفطنة والبساطة، وإن كانت الدوافع ليست هي الدوافع الأسمى لأنها كثيراً ما تأخذ في اعتبارها النجاح الدنيوي. ولكن يجب ألا نغفل أن السلوك الأخلاقي يرتبط في غالبية الأحوال بمخافة الله، وأن الاختيار السليم للحكمة هو ما تمليه التقوى والفطنة.
وتتحدث هذه الأسفار عن “الرجل العاقل والرجل الجاهل”، فالعاقل هو الذي يرتب حياته طبقاً لشرائع الله، أما الجاهل فهو الرجل العنيد الذي تفتقر حياته إلى المبادئ ولا يعرف النجاح. وطبيعة الحكمة لا تكمن في المعرفة العقلية بقدر ما تكمن في التحكم في العاطفة والضبط الحكيم للرغبات. وترتبط فكرة الحكمة البشرية في هذه الأسفار بالمفهوم السامي للحكمة الإلهية التي تصطبغ بها هذه الأسفار كما يصطبغ بها سفر المزامير. وتتجسد الحكمة، في بعض العبارات الرائعة، كما في: “كنت عنده صانعاً وكنت كل يوم لذته.. ولذاتي مع بني آدم” (انظر أمثال 8، أيوب28).
(2) حدود الأخلاق في العهد القديم: عند تقييم الأخلاق في العهد القديم بوجه عام، يجب ألا ننسى أنها كانت مرحلة تمهيدية من مراحل الإعلان التدريجي لمشيئة الله. لذلك لا نعجب إذا وجدنا قياساً على المستوى الأخلاقي المطلق في العهد الجديد أن الأخلاقيات في العهد القديم تنقصها بعض الأمور في شمولها وفي أهدافها، في روحها كما في اتساعها.
(أ) الهدف: نلاحظ أن هنا اتجاهاً للتركيز على كفاية الأعمال الظاهرة أكثر مما على الطبيعة الداخلية للإنسان، ولكنا نجد في كتابات الأنبياء المتأخرين وفي بعض المزامير تركيزاً على ضرورة النقاوة الداخلية. وبينما نجد النموذج الموضوع أمام الشعب وأمام الفرد هو هذا المثال السامي: “تكونون قديسين لأني أنا قدوس”، غير أن طبيعة الله تبدو أحياناً وكأنه إله صارم (خر24، عدد18: 14، تك18، 2صم 17: 24)، وفي نفس الوقت ينقص بعض هذه الأسفار ذكر صفات الله الرحيمة (إش 17: 1، ميخا8: 6). كما أنه كثير ما يعبر عن الأبوة الإلهية. ورغم صرامة قانون العقوبات وقسوة الناموس الطقسي، فإن الكثير من مواده تشع منها الرحمة كما يظهر ذلك في حماية العامل والفقير والعاجز، وكذلك في التعليمات المختصة بالعبيد والغريب بل الحيوانات الدنيا (تث 14: 24 و15، إرميا 13: 22 و17، ملاخي5: 3، تث4: 25).
(ب) الدوافع المادية: سبق أن أشرنا إلى أن الدوافع التي يذكرها العهد القديم هي في غالبيتها دوافع مادية إذ يلعب النجاح المادي دوراً كبيراً في الإغراء على السلوك الأخلاقي. والخير الذي كان يصبو إليه الآباء الأتقياء هو الوفرة من الخيرات الأرضية التي تغنيهم هم وعائلاتهم. ولكن يجب ألا ننسى أن الله يعلن أغراضه ومقاصده بالتدريج، وأن معاملاته مع البشر معاملات تربوية، لذلك كان من الطبيعي أن نجد مواءمة تطبيق الشريعة الإلهية للمراحل المختلفة التي مر بها الشعب اليهودي وطبقاً لمفهومه الأخلاقي، كما نجد تطوراً في مفهوم البشر لمعنى الحياة، وتقدماً في تقييمهم لطبيعة البر. وهكذا نجد الشعب ينتقل بالتدريج من الوعد بالمزايا المادية إلى البركات الروحية التي يعتزون بها. وإذا كنا نجد في رسائل الأنبياء قدراً من الإنذارات والعقوبات، فعلينا أن نتذكر أن الشعب الذي كان الأنبياء يتعاملون معه، كان شعباً عنيداً صلب الرقبة لا تسمو أفكاره عن الأمور المادية الوقتية. ولا بد أن ننظر إلى أفضل ما في النبوة، فنجد أن مسألة الثواب والعقاب التي تشغل مكاناً بارزاً في أخلاقيات العهد القديم لم تكن إلا مناخس لتحفيز المتكاسلين، فلم تكن هذه العقوبات أو المكافآت غايات في ذاتها أو وعوداً أو تهديدات تعسفية، ولكنها كانت وسائل للوصول إلى مثل عليا.
(ج) من حيث الاتساع: بالنسبة لمدى تطبيق المثل العليا العبرية، يجب أن نقرر أنه في هذا المجال أيضاً نجد الأخلاق في العهد القديم أضيق مجالاً بالمقابلة مع شمول المسيحية، فكثيراً ما كانوا يرون الله إلهاً لإسرائيل فقط وليس لكل البشر. وأبرز وصية أعطاها الله لإسرائيل هي ما أكده ربنا يسوع المسيح: “تحب قريبك كنفسك” (لا18: 19)، ولكن يبدو أن مدى الوصية كان محدداً في أذهانهم لارتباطهم بالجزء الأول من الآية: “لا تنتقم ولا تحقد على أبناء شعبك” رغم أن الكلمة العبرية المستخدمة للدلالة على “القريب” أوسع مضموناً لأنها تعني قريباً في الإنسانية، أي أنها تشمل أي إنسان، ونحس مدى اتساع معنى كلمة “قريب” في إحلال كلمتي “الغريب” و “النزيل” محلها (لا33: 19 و34) فالغريب أيضاً موضع عناية خاصة من الله. ومهما يكن الأمر، فإن اليهود لم يكونوا في الناحية العملية على الأقل أمناء للناحية الإنسانية من الناموس. وفي معاملاتهم مع الشعوب القديمة أظهروا ميلاً إلى اعتبار الله إلهاً خاصاً لهم، ومراحمه لا تتعدى حدود أرضهم، وانتهجوا – عبر تاريخهم – منهج التعالي والاعتزال عن غيرهم من الشعوب. وفي نفس الوقت كان واجب الضيافة يعتبر مقدساً، وقد مارسه الناس في القديم (تك 1: 18 – 9). ولكن يجب ألا ننسى أن وعد الله لإبراهيم كان يتضمن وحده البشر (تك 3: 12). كما أن العديد من النبوات والمزامير تتطلع إلى بركة عالمية شاملة (إش61، مز 27: 22، 2: 48 و10، 87). ويقول إشعياء عن الله “إله كل الأرض يدعى” (إش 5: 45). وتبرز العدالة المجردة كصفة أخلاقية سامية. كما أن أبوة الله الجامعة – وإن كانت لا تذكر بوضوح – نلمحها في الكثير من الفصول، ففي نبوات إشعياء وهوشع نجد عبارات من أرق وأروع الإعلانات عن الرحمة الإلهية، وإن كانت موجهة لإسرائيل أساساً، فقد استخدمها الرسول بولس لتوضيح أن رحمة الله وخلاصه يشملان كل البشر.
(3) الخطوط العريضة لعلم الأخلاق في العهد الجديد: سنتناول بإيجاز الخصائص المميزة لعلم الأخلاق في المسيحية، مكتفين بذكر المبادئ الأساسية والخصائص الرئيسية، وسنعالج الموضوع في ثلاثة أقسام هي: المثل الأعلى المسيحي، والقوة المحركة، والفضائل والواجبات ومجالات النشاط المسيحي.
(1) الأخلاق في تعليم الرب يسوع وفي تعليم الرسول بولس: وقبل الدخول في التفاصيل، نجد من المناسب أن نتحدث قليلاً عن العلاقة بين الأخلاق في تعليم الرب يسوع والأخلاق في تعليم الرسول بولس، حيث قيل حديثاً إن هناك تضارباً بينهما وإن هناك فجوة عظيمة بين الأناجيل والرسائل، وإن يسوع كان معلماً للأخلاق، أما بولس فكان لاهوتياً، فكان الرب يسوع يتهم بأمور الحياة وبالسلوك الأخلاقي، أما بولس فكان يهتم بتفصيل العقيدة.
ولكن من الواضح أن هناك مبالغة كبيرة في هذا الرأي، فما من إنسان يقرأ الرسائل إلا ويلحظ السمة الأخلاقية لجزء كبير من تعليمها، كما يلاحظ أنه حتى المبادئ اللاهوتية العظيمة التي نادى بها الرسول بولس، كان لها مضمون أخلاقي عميق، ولا يبدو لنا فرقاً جذرياً بين التعليمين.
(2) الخُلق: إن كلا منهما يؤكد أهمية الخُلق. وأقوال المسيح العظيمة هي نفسها أقوال الرسول بولس، والنبع الداخلي للحياة الجديدة، حياة المحبة، واحد لديهما. والهدف العظيم لتعليم بولس هو أن يُخلي الإنسان من ذاته ويجعله في حالة القبول أمام الله. وهذه الفكرة الرئيسية في تعليم بولس هي نفسها في تعليم المسيح، فهي أول قانون في الملكوت حيث تبدأ بها الموعظة على الجبل: “طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات” (مت 3: 5). فإذا حللنا هذه العبارة الرائعة، فسوف نجد – بلا شك – أنها تتضمن خلاصة أقوال الرسول بولس ولبَّها. ويتفق مع هذا تماماً الأهمية الكبرى للإيمان في كلا التعليمين، فالإيمان – لديهما – أكثر من مجرد قناعة عقلية، بل أكثر من مجرد ثقة صادقة في العناية الإلهية، إنه الرؤية الروحية في الإنسان للمثل الأعلى باعث الحياة.
(3) حقيقة الدافع: إن السمة المميزة للأخلاق عند المسيح هي أهمية الجانب الباطن للناموس الأخلاقي الذي يختلف عن مظهرية الناموس الطقسي. ويؤكد الرسول بولس – في عبارات مماثلة – الحاجة إلى النقاء الباطن، أي نقاوة القلب، الإنسان الباطن. كما يؤكد الاثنان أهمية إتمام واجباتنا نحو الآخرين. كما يتفقان في القول بأن الإنسان مدين للآخرين بما هو أكثر من مجرد الواجب. فيقول الرب يسوع: “تحب قريبك كنفسك” (مت 22: 39). ويقول الرسول بولس: “لا تكونوا مديونين لأحد بشيء إلا بأن يحب بعضكم بعضاً” (رو 13: 8). فالسيد المسيح يحوِّل الأخلاقيات من مجرد كلمات روتينية إلى حياة. كما أن الصلاح – لدى بولس – ليس صورة خارجية بل طاقة تلقائية تنبع من النفس. وليست الفضائل – في التعليمين – سوى تعبيرات مختلفة عن مبدأ حيوي واحد هو “المحبة هي تكميل الناموس” (رو 13: 10). والقوة المحركة في العبادة القلبية لله – في تعليم المسيح – “هي محبة الله لنا”، وفي تعليم بولس: “محبة المسيح تحصرنا” (2كو 5: 14).
(4) المثل الأعلى للحياة: وإذا ما تركنا دافع الخدمة ومنبعها لنتحدث عن الغرض من الحياة، لوجدنا أيضاً اتفاقاً جوهرياً بين السيد المسيح والرسول بولس، فما يطلبه المسيح هو: “كونوا كاملين كما أباكم الذي في السموات هو كامل” (مت 48: 5)، كما أن الرسول بولس كان يسعى إلى بلوغ حياة الكمال إلى “جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع” (في 14: 3).
(5) الغاية القصوى: كما لا اختلاف بين التعليمين حول مفهوم الخير الأعظم للعالم، فهدف المسيح من خدمته على الأرض كان هو فداء البشرية وإعادة بناء المجتمع الإنساني الذي دعاه المسيح “ملكوت الله”، كما أن الرسول بولس بمفهومه الرائع للبشرية، يرى هذا الملكوت محققاً في حياة الرب المقام. وبالنمو إلى قامة المسيح الذي هو رأس الجسد، يصبح الجسد كله كاملاً بكمال كل أعضائه، فهذا هو ما يعنيه الرسول في تلخيصه للهدف الأسمى لإيمان الإنسان وسعيه: “إلى أن ننتهي جميعاً إلى وحدانية الإيمان ومعرفة ابن الله، إلى إنسان كامل، إلى قياس قامة ملء المسيح” (أف 13: 4). ويقرر بولس في كل رسائله أنه تلميذ للرب يسوع وأنه يعلِّم بكل طرق المسيح (1كو 17: 4).
ومما لا شك فيه أن تعاليم الرسول بولس في عمقها وصلاحيتها للحياة العملية تتفق اتفاقا جوهرياً مع مبادئ الموعظة على الجبل، وتشترك معها في الهدف، وهو أن “يحضر كل إنسان كاملاً في المسيح يسوع” (كو 28: 1).
(4) المثل الأخلاقي الأعلى: الهدف الرئيسي في علم الأخلاق هو الإجابة على السؤال: ما هو الخير الأسمى للإنسان؟ ما الذي ينبغي للإنسان أن يعيش لأجله؟ وباختصار ما هو المثل الأعلى للحياة؟
والدراسة الدقيقة للعهد الجديد تكشف لنا عن ثلاث حقائق رئيسية يتضمنها ما أسماه المسيح “ملكوت الله”:
فالخير الأسمى للإنسان يكمن – بوجه عام – في تنفيذ مشيئة الله، وبخاصة في البلوغ إلى مشابهة المسيح وتحقيق الإخاء الإنساني في علاقة مع الله ومع المسيح ومع الإنسان. فالأمر الأول هو الضوء الصافي الوهاج للمثل الأعلى، والأمر الثاني هو تحقيق المثل الأعلى في حياة كاملة تعتبر قياساً أو معياراً، والأمر الثالث هو تحقيق المثل الأعلى تدريجياً في الحياة الإنسانية التي هي مجال الحياة الجديدة.
(1) القداسة كإتمام للمشيئة الإلهية: هي – كما رأينا – المثل الأعلى كما في قول السيد المسيح: “كونوا أنتم كاملين كما أن اباكم الذي في السموات هو كامل” (مت 48: 5) وهو ما يقوله الرسول بولس: “وهذا أيضاً نطلبه كمالكم” (2كو 9: 13). والبر والقداسة – صفتين من صفات الله – هما أيضاً من خصائص ملكوت الله أو ملكوت السموات، والتي يضع السيد المسيح باستمرار تحقيقها هدفاً أسمى للإنسان. كما أن الرسول بولس يشدد في كل رسائله بالقول: “لكي تسلكوا كما يحق لله الذي دعاكم إلى ملكوته ومجده” (1تس 12: 2). فالسير مع الله وتنفيذ مشيئته بكل إخلاص وطهارة هما بالنسبة للمسيحي – كما لليهودي – قمة الأخلاق. فالحياة ذات قيمة سامية مقدسة لأن الله هو غايتها، ولكي تكون إنساناً لابد أن تتمم في شخصك قصد الله من الإنسان. وأمام كل إنسان – لمجرد كونه إنساناً فيه نفخة إلهية، وقد خلقه الله لتحقيق قصده – يوجد دائماً هذا الهدف المطلق لوجود، ألا وهو تحقيق الحياة الكاملة حسب فكر الله.
(2) التشبه بالمسيح: إذا كان التشبه بالله أو القداسة هي الغاية، فإن التشبه بالمسيح هو المثال أو النموذج الذي تتحقق فيه هذه الغاية. فقد أعلن الله لنا نفسه في يسوع المسيح. والصورة المطلقة للقداسة والبر نراها مجسمة في شخصية حية يجب أن يتمثل بها الأحياء. ويقدم لنا العهد الجديد المسيح مثلاً أعلى بطريقتين: فهو المثال، وهو مصدر وقوة الحياة الجديدة.
(أ) فهو مثال الصلاح: الذي يجب أن يظهر في حياة الإنسان. وكتَّاب أسفار العهد الجديد لا يكتفون بأوصاف خيالية للصلاح، ولكنهم يقدمون المثل الأعلى للصلاح في صورة حية وذلك في شخص ربنا يسوع المسيح الذي عاش على هذه الأرض.
(ب) وهو مصدر الحياة الجديدة: فهو ليس مجرد المثال ولكنه أيضاً قوة الحياة وباعثها ومصدرها لكل من يؤمنون به (أف 19: 1 و20). ولا يقول الرسول بولس تشبهوا بالمسيح فحسب، بل يقول أيضاً: “ليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً” (في 5: 2)، فليس للتقليد الحرفي للمثال إلا أهمية محدودة، والمسيحية ليست هي المحاكاة الآلية. ويذهب “كنط” إلى القول بأن “المحاكاة ليس لها مكان في الأخلاق”. ومجرد تقليد المسيح في السلوك يعطي مفهوماً قاصراً للعلاقة الحيوية الحميمة التي بين المسيح والإنسان، “فليست المسألة مجرد محاكاة” (كما يقول شولتز) “بل هي أن تتشكل حياته فيك، أن تقبل روحه فيصبح هو العامل فيك. هذا هو الواجب الأخلاقي المسيحي”. فالرسول بولس يقدم المسيح باعتباره القوة المحركة الخلاَّقة، إذ يقول: “يا أولادي الذين أتمخض بكم أيضاً إلى أن يتصور المسيح فيكم” (غل 19: 4)، بل لا يمكننا أن نحاكي المسيح حقيقة ما لم يكن المسيح فينا، فهو مثالنا لأنه مصدر الحياة الجديدة، وهو الذات السامية في المؤمن “فالمسيح حياتنا” (كو4: 3)، “والمسيح فيكم رجاء المجد” (كو27: 1).
(ج) الإخاء ووحدة الإنسان: اقتصر حديثنا حتى الآن على كمال الفرد، ولكن المسيح ورسله قد أوضحوا أن الإنسان لا يمكن أن يبلغ الكمال بمفرده، فلا يمكن لإنسان أن يحقق ذاته، ما لم يقم بواجباته. ونفس الإنسان الواحد لا تكمل إلا بإخوته من البشر. وتتضمن فكرة الملكوت – كما ذكر الرب يسوع – هذا العامل الاجتماعي. والكثير من تعاليم الرسل لا يشير إلى الأفراد بل للبشرية ككل، فالكنيسة هي جسد المسيح، والأفراد هم الأعضاء الذين يلزم أحدهم الآخر، وجميعهم يستمدون حياتهم من الرأس أي المسيح. فالإنجيل اجتماعي كما أنه فردي، وهدفه هو ملكوت الله، أي الإخاء الإنساني. ويعلن الرسول بولس أن الجميع واحد وعلى حد سواء أمام الله “ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر ولا أنثى لأنكم جميعاً واحد في المسيح يسوع” (غل 28: 3).
(د) القوة المحركة للحياة الجديدة: وهنا نصل إلى الخاصية الأساسية والمميزة للأخلاق المسيحية. فالأخلاق عند اليونانيين، وإن كانت تبدو رائعة، لكنها بلا أساس فيظل المثل الأعلى عند أفلاطون مجرد نظرية، كما أن شخصية الإنسان الفاضل – الذي نادى بها أرسطو – لا وجود لها إلا في ذهن مبتكرها. ولم يكن الرواقيون بأكثر نجاحاً في جعل فلسفته أمراً واقعياً. فكل هذه المثل القديمة – رغم ما يبدو فيها من جمال – كانت تنقصها القوة الدافعة، القوة التي تحوِّل الأحلام إلى حقائق.
وللمسيحية أن تفخر بأنها استطاعت أن تحل المشاكل التي عجزت الفلسفة اليونانية عن حلها، فليست الأخلاق المسيحية أموراً نظرية، إذ قد ظهر الصلاح – في أكمل صورة – في حياة واقعية: “فالكلمة صار جسداً وحل بيننا ورأينا مجده مجداً كما لوحيد من الآب” (يو 14: 1). إنه قوة جديدة خلاقة، روح جديد جاء من عند الله ليحل في الحياة ويمنحها القدرة على تحقيق هذه المثل العليا.
1 – الجانب الإلهي للقوة المحركة: والمشكلة التي واجهت الرسول بولس هي: كيف يمكن للإنسان أن يحقق ذلك الصلاح الذي تجسد في حياة الرب يسوع ومثاله؟ وبالإيجاز، يمكن أن نقول إن أصالة الإنجيل تكمن في أنه لا يعلم الصلاح فحسب، بل يكشف أيضاً عن القوة التي تجعل الصلاح ممكناً، وذلك بالحصول على حياة جديدة، بالولادة الجديدة بعمل روح الله. وقد سار الرسول بولس على نهج سيده حينما تحدث عن الحالة الأخلاقية الجديدة للمؤمنين واصفاً لها بأنها “ولادة ثانية” من الروح القدس، فهي عمل القوة الإلهية الخلاقة.
وبدون أن نستعرض كل أقوال الرسول بولس، يمكن القول إن بولس الرسول يربط عمل الروح القدس بحقيقتين في حياة المسيح هما عنده أهم حقيقتين في التاريخ، وهما موت الرب وقيامته. ولسنا هنا بصدد معالجة موضوع الكفارة، ولكن ما نعالجه هنا هو حقيقة وجود الخطية حائلاً بين الإنسان وبين الحياة الجديدة، فلا بُد – قبل أن تتم المصالحة مع الله – من التغلب عليها ومحوها سواء في مذنوبيتها أو في سلطانها، وذبيحة المسيح هي وحدها التي تحقق هذا الأمر. وبفضل ما حققه المسيح بموته، نشأت علاقة جديدة فسار الله والإنسان في توافق أدبي وإتحاد حيوي.
وليست القيامة باقل أهمية بالنسبة لمنح الحياة الجديدة، فهي ختم الذبيحة وتاجها، فيقينية قيامة المسيح هي التي أعطت موت المسيح قيمته كذبيحة كفارية: “إن لم يكن المسيح قد قام فباطل إيمانكم، أنتم بعد في خطاياكم” (1كو 17: 15). فالخليقة الجديدة هي عمل المسيح، ولكن قوته الخلاَّقة ليست تأثيراً خارجياً بل هي روح الحياة. وفي الحقيقة، إن كل ما يجعل الحياة حياة حقيقية ووجوداً سامياً مكتملاً، إنما هو الروح القدس بناءاً على عمل المسيح الذي مات وقام.
2 – الفاعلية من الجانب البشري: وامتلاك القوة يتضمن التزامًا باستخدامها. فعندما يُعطى الإنسان قوة يتحتم عليه أن يستخدمها لأن روح المسيح لم يُمنح ليعفى الإنسان من واجبات الحياة والتزاماتها الأخلاقية، فليس الإنسان مجرد مستقبل سلبي للقوة الإلهية، بل عليه أن يمتلكها ويستخدمها بعزيمة حرة. وعندما نتساءل: ما الذي يكوِّن العنصر الإنساني؟ نجد فعلين في العهد الجديد، على النفس – عند دخولها إلى العالم الجديد في المسيح – أن تقوم بهما، وهما التوبة والإيمان، وهما فعلان متكاملان يكوِّنان معاً ما يسمى “بالتجديد”.
والتوبة – في العهد الجديد – هي الابتعاد، في حزن وندم، عن حياة الخطية والانفصال عن الشر، وذلك من خلال عمل المسيح. فالتوبة تتطلع إلى الماضي وتهجره، أما الإيمان فيتطلع إلى الأمام ويقبل عليه. فالإيمان هو انصراف الإنسان كله نحو ربه، والطاقة البشرية التي بها يستقبل الإنسان حياته في المسيح، فيصبح المسيح حياته. فليس الإيمان هو مجرد القبول العقلي، أو الثقة الأدبية، بل بالحري هو طاقة أو قوة للطاعة الجديدة. وكأساس للتطبيق الأدبي، له جذوره في الثقة الشخصية بالمسيح، وله ثماره في الخدمة المسيحية. وبالإيجاز، الإيمان هو الموقف المميز للشخصية المسيحية بكاملها، ولعملها فيما يتعلق بالبركة الروحية التي وهبت لها في المسيح.
(ه) فضائل ووجبات ومجالات الحياة الجديدة: بقى أن نبين كيف تظهر هذه القوة الجديدة في الخُلق وفي السلوك العملي، فالفضيلة تعبر عن الخُلق، أما الواجب فمشروط بالموقف والعلاقات.
1 – الفضائل: إن التعداد النظامي للفضائل لمن أصعب المهام في علم الأخلاق. فلم يحدث في الماضي ولا في الحاضر أن نجحت محاولة تصنيف الفضائل نجاحاً كاملاً، فقائمة الفضائل لأفلاطون هزيلة جداً، أما قائمة أرسطو فينقصها النظام كما يعيبها إغفال بعض الفضائل. ولا نجد في أي موضع من الكتاب المقدس وصفاً كاملاً لكل الفضائل النابعة من الإيمان، لكن إذا جمعنا بين أقوال السيد المسيح وتعاليم الرسل، لوجدنا مجموعة غنية من الفضائل (مت 5، 6، غل 22: 5 و23، كو 12: 3 و13، في 8: 4، 1بط 18: 2 و19، 7: 4 و8، 2بط 5: 1 – 8، 1يو 3، يهوذا 1 – 25) ويمكن تصنيف هذه الفضائل في ثلاث مجموعات:
أ – الفضائل البطولية: والتي يطلق عليها أحياناً الفضائل الرئيسية، وقد انتقلت إلينا من العصور القديمة وهي: الحكمة ورباطة الجأش، والاعتدال والعدالة. وهذه الفضائل، وإن كانت مقبولة وموضع دراسة من قبل، إلا أن المسيحية قد طورت من طبيعتها حتى جعلت منها فضائل جديدة تماماً. وكما يقول “سترونج” (Strong): “ظلت نفس العملة الأدبية القديمة متداولة ولكن بعد أن أعيد صكها”.
K is for kindness, we always must show, when help is needed to all whom we know. “Be ye kind one to another” (Ephesians 4: 32) – from Providence Lithograph Company Bible Illustrations.
ب – فضائل المحبة: وهي ليست مجرد إضافات للفضائل الوثنية، لكنها امتزجت بها وأعطتها معنى جديداً مختلفاً كل الاختلاف عن المعنى الذي كان مألوفاً. فبينما يركز أفلاطون على النواحي العقلية والبطولية من الأخلاق، تضع المسيحية الفضائل الأرقّ في المقدمة. ولعل هناك سببين جعلا الكتَّاب المسيحيين يركزون على جانب إنكار الذات: أولهما مقاومة الروح العسكرية وعبادة القوة المادية السائدة في العالم القديم. وثانيهما وهو السبب الرئيسي، أن الفضائل الهادئة الرقيقة المضحية بالذات تعبر اصدق تعبير عن روح المسيح. فالعنصر الوحيد في السلوك الذي يجعله جميلاً ومؤثراً وشبيهاً بالمسيح، إنما هو المحبة، أي عنصر التضحية. وتظهر المحبة في التواضع الذي يقلل من الطموح الزائف والاعتداد بالذات. وترتبط الوداعة ارتباطًا وثيقاً بالتواضع، وكذلك بشقيقتها طول الأناة التي هي سمة المسيحي في مواجهة التجارب والأخطاء. وترتبط أيضاً بهذه الفضائل القناعة والصبر والاحتمال واللطف والشفقة على الآخرين، ثم هناك فضيلة الغفران لأنه لا يكفي أن يكون الإنسان متواضعاً حليماً لأن علينا واجباً نحو المذنبين إذ يجب أن نكون على استعداد لأن ننسى ونغفر (رو20: 12) “كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين كما سامحكم الله أيضاً في المسيح” (أف 32: 4).
ج – الفضائل المسيحية العظمى: وهي الإيمان والرجاء والمحبة. ويرى البعض في هذه الفضائل الثلاث خلاصة السمو المسيحي، فهي أساسية في تعليم الرب يسوع المسيح، ولا يمكن الفصل بينها فهي نسيج واحد، فالذي يؤمن لابد أن يحب، ومن يؤمن ويحب لابد أن يكون عنده رجاء.
و “المحبة” هي الكلمة الأولى والأخيرة في كرازة الرسل بالمسيحية، فهي أقوى كلمة للتعبير عن روح المسيح. ولم تكن المحبة – بهذا المعنى – معروفة عملياً في العالم القديم، فالفلسفة – السابقة للمسيحية – رفعت من شأن العقل بينما أهملت القلب. ولكن المحبة في أسمى معانيها قد أعلنها الإنجيل، فقد ظلت مكنوزة إلى أن جاء المسيح وأتباعه للكشف عنها وتعليم الناس معنى المحبة وليجدوا فيها ناموس الحرية. فالمحبة لا غنى عنها للسلوك المسيحي الحقيقي، وبدونها لا قيمة للإيمان أو الأعمال الصالحة (1كو 13)، فهي النبع الفياض لكل ما هو جميل في السلوك. والإيمان نفسه يعمل من خلال المحبة، وفيها يجد مجالاً لعمله، فإذا كان الإيمان هو الذي يشكِّل السلوك، فإنه لا يحيى إلا بالمحبة. ونفس هذا الأمر ينطبق على الرجاء فهو شكل خاص من الإيمان يتطلع إلى المستقبل، إلى حياة مكتملة. فالرجاء هو الإيمان الذي يرنو إلى المستقبل، فهو رؤيا مبعثها ودعامتها المحبة.
2 – الواجبات: أما بالنسبة للواجبات في الحياة المسيحية، فيكفي أن نقول أنها بالنسبة للمسيحي ذات جوانب ثلاثة: واجبه نحو نفسه، وواجبه نحو إخوته في الإنسانية، وواجبه نحو الله. وهو تقسيم غير منطقي تماماً، لأنها متداخلة، وكل منها يرتبط بالأخر. فمحبة الإنسان لنفسه تتضمن محبته للآخرين، وواجبات الإنسان نحو الآخرين هي التزام نحو الله. فالفرد والمجتمع مرتبطان ارتباطاً وثيقاً في ملكوت المحبة بحيث لا يمكن أن يصل أحدهما إلى هدفه بدون الأخر.
أ – واجبات الإنسان نحو نفسه: يذكرها العهد الجديد بكل وضوح، فوصية الرب: “تحب قريبك كنفسك” (مت 39: 22) تجعل محبة الذات محبة سليمة ومقياساً لمحبة القريب. لكن واجبات الإنسان نحو نفسه لم تذكر إلا عرضاً. وبينما نجد تركيزاً على أن قيمة النفس ثابتة أكيدة، فإن الانشغال المستمر بالتفكير في الذات، لدليل على الأنانية المريضة، وليس على الشخصية السوية الصحيحة. ولعل السبب الأساسي في عدم إسهاب العهد الجديد في ذكر واجبات الإنسان نحو نفسه، هو أن تحقيق الذات – حسب روح الإنجيل – يكمن في التضحية بالذات، “فمن يهلك نفسه يجدها”، فالإنسان يجد نفسه، ليس بالقلق أو الحرص عليها، بل بتكريسها بتمامها لخير الآخرين.
وفي نفس الوقت هناك عدة واجبات هامة منها:
ثبات الغرض أو وحدانية الهدف، والاستقلال في الرأي، وسيادة الضمير، والتقييم السليم للذات.
ويرتبط بذلك احترام المسيحي للجسد باعتباره هيكل الله، وعدم الازدراء به، بل تقديمه ذبيحة حية. وكذلك موقف الإنسان من المتاع الدنيوي، والتزامه في العمل، وحقه في الاستجمام، وقناعته بمركزه.. كل هذه واجبات يمكن القيام بها على أساس المبدأ الرسولي: “الذين يستعملون هذا العالم كأنهم لا يستعملونه” (1كو 31: 7). فالمثل الأعلى للمسيحية ليس هو الزهد لمجرد الزهد أو إنكار الذات لمجرد إنكار الذات، بل يجب أن ينتفع الإنسان بكل إمكاناته على أفضل ما يكون الانتفاع، إذ يجب أن يستخدم كل مواهبه وممتلكاته، وكل طاقات الحياة ومسراتها، وسائل الخدمة الروحية ليكون الإنسان نافعاً لملكوت الله الذي ينتمي إليه.
ب – واجبات الإنسان نحو الآخرين: أو المحبة الأخوية، وتحدد مداها علاقة المؤمن بالمسيح، ومظاهرها الرئيسية:
1 – العدالة وتشمل:
* احترام الآخرين وتجنب الإيذاء من الجانب السلبي، وتقديم التكريم والاحترام من الجانب الإيجابي.
* الصدق في القول والعمل: “صادقين في المحبة”.
* الحكم العادل مع تجنب النقد وعدم التسامح.
2 – الرحمة أو الإحسان وتشمل:
* التعاطف.
* الخدمة.
* عمل الخير العملي الذي يفي بالحاجة المادية، ويمنح راحة وعزاء، ويحقق البنيان بالمثال الصالح والإرشاد المباشر.
3 – الصبر ويشمل:
* طول الأناة.
* المسالمة.
ج – واجبات الإنسان نحو الله: وهنا تتحول الأخلاق إلى دين، ويتحول الواجب إلى عبادة ومحبة، وتقوم المحبة على معرفة الله كما هو معلن في المسيح، وتعبر عن نفسها بالتكريس. والتعبير عن المحبة لله يتم – بوجه عام – من خلال:
1 – الشكر.
2 – التواضع والخضوع.
3 – الثقة والاتكال وبخاصة في العبادة وفي الشهادة للرب لكي نزين التعليم بجمال الحياة.
3 – المجالات والعلاقات: ومن بين المجالات المختلفة التي يجد فيها المسيحي متسعاً للممارسة حياته الروحية وتنميتها، نذكر الأسرة والدولة والكنيسة. ولكل مجال من هذه المجالات الثلاثة واجبات خاصة ونظام خاص. فبينما يلتزم الوالدان بالعناية بأطفالهم وتنشئتهم في التقوى، يلتزم الأبناء بطاعة والديهم. ويمكن بسهولة معرفة علاقة الفرد بالدولة والدولة بالفرد من تعليم العهد الجديد، فلا يقتصر واجب الدولة على إجراء العدل بل يتعداه إلى إنشاء وتدعيم المؤسسات والهيئات التي تعمل على تنمية المجتمع وتحقيق الخير والسعادة للمواطنين مع ضمان الحرية الكاملة للمواطن للانتفاع بأقصى ما يمكن من حياته. ومن جهة أخرى على الفرد أن يقوم بالتزاماته المدنية كعضو في مجتمع حي، وإطاعة قوانين الدولة. وتتولى الدولة سيادتها من خلال صوت الشعب. وكما يكون الأفراد هكذا تكون الحكومة.
( و) الخلاصة: وفي الختام يمكننا أن نقول إن السمات الثلاثة المميزة للأخلاق المسيحية هي أنها: مطلقة، داخلية عميقة، وشاملة.
ويجب أن يكون الإنجيل هو الموجه الأول في الحياة وفي الأخلاق، فما من خبرة – بالنسبة للمسيحي – تعتبر دنيوية فحسب، وما من واجب غير مهم، لأن كل الأشياء هي لله، ويجب أن يسيطر روح المسيح على الحياة بجملتها. وتعد الأخلاق المسيحية فريدة في نوعها وأصيلة، ليس في مجال تطبيقها العملي فحسب، بل لأنها تنم عن مثل أعلى هو قوة الحياة الجديدة ومثالها. وهذا المثل الأعلى هو المسيح الذي تظهر فيه الحياة بكمالها، وهو الذي يمنح القوة لتحقيق هذه الحياة. فالحياة قوة، والشخصية تنمو وتكبر من بذرة خفية، ولذلك لا مكان في الأخلاق المسيحية للبلادة أو السلبية أو الجمود كما هو الحال في البوذية والرواقية وكاثوليكية القرون الوسطى، بل إن الأخلاق في المسيحية كلها حياة ونشاط وجهاد وسعي مستمر.
وثمة تفاصيل كثيرة في الحياة الاجتماعية الحديثة، لا يتناولها العهد الجديد مباشرة، مثل المشاكل الأخلاقية المعاصرة، وعلم الاقتصاد ونظرياته المختلفة وهي أمور لا نستطيع أن نرجع فيها إلى أصحاح معين أو آية بذاتها، سواء في الأناجيل أو في الرسائل، إلا أن المبادئ العظيمة التي ذكرها العهد الجديد عن تضامن البشرية والأخوة الإنسانية والمساواة في المسيح وحرية العبادة والمحبة، والتعاليم المختصة بالكنيسة وملكوت الله والأسرة والدولة، ووصاياه بخصوص الطهارة الشخصية وكيفية استخدام الثروة، والواجب نحو العمل. كل هذه تحتوي على البذور التي انبثقت عنها النهضة الأوروبية، وما زالت تحتوي على القوة الفعَّالة القادرة على التغيير الاجتماعي والسياسي لخير البشرية.
الأخلاق عند يسوع
أولاً – في الأناجيل الثلاثة الأولى:
إذا اتبعنا العرف الجاري – في العصر الحاضر – في إطلاق تعبير “ملكوت الله” – بصفة عامة – على تعليم الرب يسوع في الأناجيل الثلاثة الأولى، لوجدنا أن تعليمه الأخلاقي ينقسم إلى ثلاثة أقسام هي: بركات الملكوت، وطبيعة رعايا الملكوت، ووصايا الملك.
(أ) بركات الملكوت:
(1) طبيعة الملكوت: لم يكن تعبير “ملكوت الله” تعبيراً إستحدثه المسيح، فقد استخدمه من قبل يوحنا المعمدان، ومن قبلهما استخدمه دانيال النبي في عبارات قوية في سفره (دانيال 44: 2 و45، 13: 7 و14). وترجع فكرة ملكوت الله إلى بداية عصر الملكية في إسرائيل عندما قال صموئيل النبي لمن طلبوا اقامة ملك، إن الرب (يهوه) هو ملكهم، فيجب عليهم ألا يطلبوا ملكاً سواه. وخلال كل تاريخ المملكة اللاحق والذي كان – بصفة عامة – مخيباً لآمال الأتقياء المحبين لوطنهم، كان الإعتقاد الراسخ الذي يتردد في أفكارهم هو أنه لو كان الله نفسه هو الملك، لسار كل شىء على ما يرام. وعندما انتهت الدولة اليهودية أخيراً وسُبي الشعب، ظل الأنبياء يذكرونهم بأن المستقبل يحمل في ثناياه الرجاء لوطنهم لو أن الرب “يهوه” تولى أمور الحكم فيهم. وفي الفترة ما بين العهدين القديم والجديد، قويت تلك المشاعر بصورة كبيرة حتى أن “شورر” (Schurer) جمع من كتابات الأبو كريفا – عن انتظار مجيء المسيا – ما لا يقل عن إحدى عشرة مقالة عما يعتقد أنه كان شائعاً بينهم قبيل مجىء المسيح. ولكنا لا نعلم على وجه اليقين إلى أي مدى تسلطت هذه العقائد على الرأي العام. فكثيرون من الصدوقيين كانوا راضين عن الأوضاع على ما كانت عليه، فلم ينشغلوا بمثل تلك الآمال. أما الفريسيون فقد أفسحوا المجال واسعاً – بلا شك – في أفكارهم لهذه التوقعات المتعلقة بمجيء المسيا، بل كان الغيورون منهم على استعداد للقتال في سبيل هذه الأمال. ومع ذلك علينا أن نرجع إلى طائفة منهم – يوصفون بانهم “المنتظرون تعزية إسرائيل” للبحث عن أنقى صور ذلك التراث. ففي الأناشيد الموجودة في بداية إنجيلي متى ولوقا التي استقبلوا بها مولد يسوع نجد مفهوماً عميقاً سامياً عن ملكوت الله.
وما أن بدأ يسوع يكرز بالملكوت حتى بات واضحاً أن فكره عن “ملكوت الله” يختلف تماماً عن فكر سائر الناس، فقد كان فكر معاصريه يتركز على الكلمة الأولى وهي “الملكوت” أما هو فكان تركيزه على الكلمة الثانية وهي “الله”. كانوا يفكرون في الأوصاف الخارجية للملكوت كالتحرر السياسي وبناء قوة الجيش، والبلاط الملكي، والأقاليم التي ستخضع للمملكة. أما هو فكان فكره ينصب على إتمام إرادة الله على الأرض كما هي في السماء. وقد حاول الشيطان في البرية، أن يغري يسوع بأبهة ملك العالم لتحقيق آمال أولئك الناس، لكن يسوع رفض ذلك بحسم مقرراً ألا يبدأ خدمته باطار خارجي واسع النطاق ليملأه بالجوهر فيما بعد بل آثر أن يبدأ أولاً بالجوهر. وكان دخوله الظافر إلى أورشليم، دليلاً على تأكيد يسوع لحقيقة أن فيه تتم كل نبوات العهد القديم عن ملكوت الله. ولكن كان من الطبيعي أن يفسر أعداؤه فشل تلك المحاولة كما بدت في نظرهم دليلاً قاطعاً على وجهة نظرهم، إلا أن الله لا يمكن أن يُهزم والمسيح لا يمكن أن يُقهر. فلم ينته ذلك الجيل حتى انهارت دولة اليهود ودُمرت المدينة التي صُلب فيها يسوع. وقامت في كل العالم مجتمعات جديدة يرتبط أعضاؤها برباط أقوى من رباط أي مملكة أخرى، ويخضعون لنفس القوانين، ويستمتعون بنفس المزايا، ويدينون بالولاء لملك يحكم في السموات، وسوف يظهر ثانية ليدين الأحياء والأموات (مت 31: 25 46، رؤ11: 20 15).
(2) تطويبات الملكوت: قد ظن أعداء يسوع أنهم قد حققوا مفهومهم عن ملكوت الله بتلك النهاية المريرة عندما سمروا الرب يسوع على الخشبة، ولكن الحقيقة هي أنه هو وليس هم قد حقق مفهومه لهذه العبارة كصيغة شاملة لكل البركات التي أتى بها للجنس البشري، ومع ذلك استخدم عبارات أخرى لنفس الغرض مثل: الإنجيل، والسلام، والعزاء، والحياة، والحياة الأبدية. وشرحه للتطويبات في بداية العظة على الجبل زاخر بالتعليم. وليس من السهل فهم أعماق هذه التطويبات تماماً، فكل واحدة منها عبارة عن معادلة، طرفها الأول كلمة “طوبى” والطرف الآخر فيه بعدان مرتبطان معاً ارتباط الشرط والنتيجة، فمثلاً “المساكين بالروح” شرط لنتيجة هي “لأن لهم ملكوت السموات”. وقد يحمل الشرط معنى سلبياً كما في “الحزانى” لكن النتيجة أكثر إيجابية وهي “لأنهم يتعزون” مما يجعل النتيجة “موجبة” بصورة رائعة. ومن الملاحظ أن التطويبتين الأولى والثامنة متفقتان في النتيجة وهي “لأنه لهم ملكوت السموات” مما يدل على أن “ملكوت السموات” هو الاسم الذي أطلقه يسوع على البركة التي أتى بها للعالم. ويمكن اعتبار التطويبات المتوسطة بينهما تفسيرات إضافية لتلك العبارة الرائعة، فهي تشمل مفاهيم عظيمة كالعزاء والرحمة وميراث الأرض ومعاينة الله، والبنوة لله، وهي بكل تأكيد بركات الملكوت. ولا تنتهي القائمة بدون ذكر المكافأة العظمى أو الأجر العظيم في السماء، وهو الرجاء الخالد الذي هو أعظم البركات.
(3) البر ونقائضه: كنا نتوقع من صاحب العظة على الجبل أن يفسر لنا بالتفصيل عبارة “ملكوت الله”، لكن ما حظي بالتفسير هو تعبير “البر”. فقد ذكر الرب يسوع أن الجوع والعطش “إلى البر” هما الوسيلة للشبع به. وعندما انتهى من التطويبات، عاد إلى هذا المفهوم عن “البر” ليتحدث عنه باستفاضة.
وليست هناك طريقة لوصف أمر جديد غير مألوف عند السامعين، أفضل من مقارنته بشيء معروف لهم تماماً. وكان ذلك هو الأسلوب الذي اتبعه يسوع، فقارن “البر” الذي سيبارك به رعايا الملكوت، بصورة الرجل البار المألوف لديهم:
(أ) في أحاديث الكتبة التي كانوا يسمعونها منهم في المجامع.
(ب) في مثال الفريسيين – الذين كانوا يراقبونه – كنماذج للبر. ولعلنا نعرف جيداً أن يسوع أمكنه من خلال هذا الأسلوب الرائع أن يسبر أعماق الفضيلة، وأن يكشف مقاوميه ويعرضهم للسخرية أمام الكثيرين من الناس الذين كانوا يوقرونهم.
والسؤال الآن هو هل كان المسيح – في نهاية العظة – ما زال يشرح “البر” بمقارنته بالسلوك المألوف للعالم؟ يميل الكثيرون إلى الاعتقاد بأن ذلك هو الواقع، وأن مفتاح القسم الأخير من العظة على الجبل، هو المقارنة بين البر والسلوك الدنيوي. وعلى أي حال، إن التعليم الذي نستخلصه من هذا الحوار هو أن البر الموعود يتميز بثلاث خصائص: (أ) – أنه بر داخلي تمييزاً له عن مظهرية من يعتقدون بأن السلوك الأخلاقي يقتصر على الأقوال الخارجية والأعمال الظاهرة، ولا علاقة له بأفكار القلب الخفية. (ب) – أنه “بر” سري بالمقابلة مع مفاخرة ومباهاة من كانوا يضربون بالأبواق قدامهم عند إعطائهم صدقة. (ج) – أنه “بر” تلقائي مثل الزهرة أو الثمرة التي تنمو تلقائياً من جذر سليم دون عناء.
(4) نظريات رؤوية: إن استخدام تعبير “البر” محل تعبير “ملكوت الله” في أطول عظة للمسيح، أمر له دلالة واضحة على الاتجاه الذي كان يراه، فقد كان بعيداً عن أفكار وآمال اليهودية المعاصرة له، إذ من الواضح أنه كان يفرغ فكرة “الملكوت” من العناصر السياسية والمادية ويملأها بالمضمون الديني والأخلاقي.
ويزعم بعض العلماء – في هذه الأيام – أن مفهوم يسوع عن الملكوت، أنه كان مستقبلياً، وأنه كان يتطلع دائماً إلى ظهور رؤوي له، وهو ما لم يحدث. كما يزعمون أن يسوع كان يتوقع أن تنفتح السموات وينزل منها الملكوت جاهزاً إلى الأرض مثل أورشليم الجديدة المذكورة في سفر الرؤيا (رؤ2: 21)، ولكن هذه المزاعم شبيهة تماماً بموقف الفريسيين ورؤساء الكهنة من يسوع في عصره، فهي تنزل بيسوع إلى مستوى شخص عادي يحلم بالرؤى متجاهلين الكثير من أقواله الصريحة، كما في مثل حبة الخردل الذي يثبت أنه كان يتوقع للمسيحية نمواً وازهاراً كبيراً، كما حدث فعلاً بمرور الزمن. كما أن هذه المزاعم لا تتفق مع الكثير من أقواله حيث يتحدث عن الملكوت بأنه قد أتى بالفعل، كما في قوله: “ملكوت الله داخلكم” ((لو21: 17) وهي عبارة سبقها استنكار قاطع لظهور الملكوت مستقبلاً، لأن كلمة “مراقبة” – المستخدمة في نفيه لمجيء الملكوت “بمراقبة” – اصطلاح فلكي يصف تماماً مثل هذه الظاهرة التي يزعمون أن يسوع كان يتوقع حدوثها (كما يزعم “جون وايس Weiss” و “شويتزر” (Schwetzer).
(ب) صفات رعايا الملكوت: 1 – شروط دخول الملكوت: كثيراً ما يقال إن “البر” – الموصوف باستفاضة في الموعظة على الجبل – هو شرط الدخول إلى ملكوت الله، ولكن هذا إساءة فهم لفكر يسوع، “فالبر” الذي يتكلم عنه هو عطية الله لمن هم – فعلاً – داخل الملكوت، داخل الملكوت، لأنه البركة العظمى التي من أجلها يجب أن يطلب الناس الملكوت. والشروط المفروض على من هم من خارج، ليس هو امتلاك البر، بل بالحري الإحساس العميق بالحاجة إليه. فكلما زاد إحساسهم بالحاجة إلى البر، زاد استعدادهم لدخول الملكوت، إذ عليهم أن يجوعوا وأن يعطشوا “إلى البر”. وقد لاحظنا من قبل الجوانب السلبية في المرشحين للملكوت في التطويبات، وهذا في الواقع هو وصف يسوع لمن يجذبهم إليه، فهم ينجذبون إليه بإحساس عميق بالحاجة الماسة داخلهم، بادراكهم أنهم يجدون فيه شبعاً وامتلاء، فهو يدعو “المتعبين والثقيلي الأحمال” ليعطيهم راحة.
2 – موقف المسيح من الخطية: كان الأنبياء قديماً يبدأون رسالتهم بإدانة الخطية، ثم تأتي بعد ذلك رؤى عن المستقبل المشرق الذي يلوح في الأفق. وقد تكرر نفس الأمر في رسالة يوحنا المعمدان ثم في أقوال يسوع، إلا أن طريقته في معالجة الموضوع تختلف تماماً، فلم يستغرق وقتاً طويلاً في إدانة الخطاة الأثمة كما فعل الأنبياء، ولربما كان ذلك لأنه وجد فيما قاله الأنبياء الكفاية، أو لأنه كان يعلم كيف يدفع الخطاة إلى تبكيت أنفسهم. ومع هذا فقد أثبت – في مثل الابن الضال – عمق معرفته بطبيعة ومسار الخطايا الشائعة، فإذا كان قد عفا عن الخطاة الذين لم يكن لديهم ما يبررون به شرهم، فإنه في مقابل ذلك هاجم بقوة وبعنف الذين يخبئون خطاياهم تحت رداء من الرياء. ولم يوجد بين الأنبياء من كشف أولئك الخطاة المرائين كما فعل يسوع (مت 23)، كما وجه لهم اتهامات قوية في مثل الفريسي والعشار. وقد أشار في إنجيل لوقا – بشكل خاص – إلى محبة العالم ومحبة المال بأنهما السوس الذي ينخر في النفس البشرية وينتهي بها إلى الهلاك. وهكذا مارس يسوع عمله كنبي في إدانة خطايا عصره، وأعلن رأيه في الجنس البشري بعامة عندما بدأ حديثه بالقول: “فإن كنتم وأنتم أشرار” (لو13: 11). وكذلك عندما وصف قلب الإنسان بالقول: “من القلب تخرج أفكار شريرة…” (مت 19: 15).
3 – نوال البر: من المعروف جيداً لكل دراسي الموعظة على الجبل دراسة دقيقة، أن الفكرة الشائعة عنها بأنها تنطوي على ديانة بسيطة وأخلاق سهلة، هي فكرة خاطئة تماماً، فعلى النقيض من ذلك نجد أن البر الذي نادى به يسوع أسمى بكثير جداً مما تصوره أي معلم ديني آخر أياً كان، فهو لم يرغب فقط أن يرفع البشر إلى مستوى أعلى من أي مستوى حاولوا بلوغه من قبل، لكنه في الوقت ذاته كان يعلم أنه يجب أن يبدأ بأناس من أدني مستوى. وهنا يختلف التعليم الأخلاقي عند يسوع عنه عند الفلاسفة، فهو يأخذ الأمر بأكثر جدية، كما أن الصعود من السفح إلى القمة يحتاج إلى وقت أطول، كذلك وسائل البلوغ إلى هذا الهدف أكثر صعوبة، فالفلاسفة – بافتراضهم أن الإنسان سيد مصيره – يضعون مطالب الناموس الأدبي أمامه في الحال مفترضين أن الإنسان قادر على إتمام هذه المطالب، ولكن الطريق الذي ينادي به يسوع طريق أطول ويستلزم اتضاعاً أكثر، فثمة درجات أو مراحل من السهل رؤيتها في تعليمه:
(أ) التوبة: هي أول هذه الدرجات، وكانت التوبة هي شعار جميع الأنبياء، فبعد إدانة الخطية يلزم الندم والتوبة، ولم يكن هناك أمل في إحراز أي تقدم إلا بعد التوبة. وفي رسالة يوحنا المعمدان احتلت التوبة نفس المكانة. ونجد في إنجيل مرقس (15: 1) أن يسوع بدأ خدمته بالمناداة بنفس الشعار الذي ردده يوحنا المعمدان. ومن المناظر المؤثرة في أثناء خدمة يسوع على الأرض، مناظر الخطاة التائبين وهم ينطرحون عند قدميه، ولعل أبلغها تأثيراً منظر المرأة الخاطئة (لو36: 7 – 50). ونجد في مثل الابن الضال تصويراً كاملاً لعملية التوبة.
(ب) الإيمان: هو الخطوة الثانية. وقد ترددت كلمة “للإيمان” ومشتقاتها، كثيراً في أقوال يسوع، وفي كثير من الأحوال كانت ترتبط بأعمال الشفاء التي قام بها، فالإيمان عمل أعمق في النفس. وفي كثير من الأحوال كان الإيمان مقدمة لشفاء الجسد، كما في حالة الرجل المفلوج الذي حمله أربعة رجال، وجاءوا إلى المسيح ليشفيه، لكنه نال إلى جانب ذلك هبة غفران خطاياه، فعند شفائه أعلن يسوع جهراً سلطانه لمغفرة الخطايا (مت 2: 9 – 8، مرقس 3: 2 – 12). وعند تأسيسه للعشاء الرباني أعلن الصلة بين الغفران وموته الكفاري: “هذا هو دمي الذي للعهد الجديد الذي يسفك من أجل كثيرين لمغفرة الخطايا” (مت 28: 26).
(ج) التشبه بالمسيح والخدمة: كثيراً ما استبدل يسوع كلمة الإيمان بعبارة “الإتيان إليه” ثم يردف بالقول: “اتبعني” وهذه الدعوة تعتبر الخطوة الثالثة. كان اتّباع يسوع يعني في أحوال كثيرة ترك المنزل والعمل للسير معه من مكان لآخر في تجواله في البلاد. ولما كان هذا يتضمن التضحية وانكار الذات، لذلك كثيراً ما ربط بين اتّباع الناس له، والدعوة لحمل الصليب، وهي دعوة للتشبه به، وهو نفس المعنى الذي قصده الرسول بولس بقوله: “كونوا متمثلين بي كما أنا أيضاً بالمسيح” (1كو1: 11). ومما يستلفت النظر أنه في الموضع الوحيد الذي طلب فيه من الآخرين صراحة أن يتعلموا منه، كان يدعوهم إلى أن يتعلموا الوداعة والتواضع: “تعلموا مني لأني وديع ومتواضع القلب” (مت 29: 11). وقد أكد أهمية التواضع مراراً كثيرة: “لأن من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع” (مت 12: 23، لو 11: 14، 14: 18). ورغم الأهمية التي يعلقها يسوع على التواضع، فإنه يقول لأتباعه مميزاً لهم عن سائر الناس: “أنتم ملح الأرض” “أنتم نور العالم” (مت 13: 5 و14)، وأمرهم أن يكرزوا بالانجيل لجميع الأمم ويتلمذوهم، وما يفسر لنا هذا التناقص الظاهري هو فكرة أخرى تميز تعليمه، وهي “الخدمة”. فمن يقدر أن يخدم الآخرين على نطاق واسع يصبح في مرتبة أعلى ممن يخدمهم “إذ لديه ما هم في حاجة إليه، ومع ذلك يضع نفسه في مرتبة أدنى منهم ناسياً مطالبه الخاصة في سبيل قيامه بخدمة احتياجاتهم. وهناك القليل من أقوال يسوع التي تظهر فيها قمة تعليمه الأخلاقي بأوضح من تلك التي يقارن فيها العظمة حسب مفهومه والمفهوم الذي يجب أن يتعلمه أتباعه، بالعظمة حسب مفهوم أهل العالم:” أنتم تعلمون أن رؤساء الأمم يسودونهم والعظماء يتسلطون عليهم. فلا يكون هكذا فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيماً فليكن لكم خادماً. ومن أراد أن يكون فيكم أولاً، فليكن لكم عبداً “ومن هذه القاعدة الصعبة، قدم لهم أكمل صورة لها بالقول:” كما أن ابن الإنسان لم يأت ليخدَم بل ليخدُم وليبذل نفسه فدية عن الكثيرين “(مت 25: 20 – 28).
ومن هنا نعرف أنه وإن كنا نعلم صفات أبناء الملكوت من أقوال يسوع، فإننا نستطيع أن نتعلمها منه كالمثال الكامل، فما طالب به الآخرين، تممه هو في حياته، وهكذا أصبحت الوصايا الجافة في الناموس الأدبي مزدانة بروعة حياته. ومع أن سجلات تاريخ حياة يسوع موجزة، إلا أنها غنية بالتعليم، ومن الممكن بقراءتها ودراستها دراسة متأنية، أن نكوِّن صورة واضحة عن كيف كان مثالاً أعلى في كل جوانب حياته، في البيت، ونحو الدولة، وفي المجتمع، وكصديق، وكرجل صلاة، وكدارس للكتب المقدسة وكشخص متألم، وكمحب للبشر وكرابح للنفوس، وككارز وكمعلم وهكذا.
(د) وصايا الملك: الوصايا العظمى: كان يسوع يطلق “وصايا” على ما نسميه “واجبات”، ومما يسهِّل الأمر علينا أنه جمعها في وصيتين، هما: “تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى. والثانية مثلها:” تحب قريبك كنفسك “(مت 37: 22 39)، وقد اقتبس يسوع هاتين الوصيتين من العهد القديم (تث 5: 6، لا 18: 19) حيث وردتا منفصلتين وقد أهملهما الناس، كما أن تفسير الكتبة للوصية الثانية غض من قيمتها. ولكن المسيح أنقذهما من النسيان وربط بينهما، أي بين محبة الله ومحبة الناس، بعد أن باعد الناس بينهما زمناً طويلاً فضمهما المسيح معاً ورفعهما لتنيرا في سماء الأخلاق إلى الأبد كالشمس والقمر، تعلنان ما يجب على الإنسان:
1 محبة الله: أنكر بعض من كتبوا عن علم الأخلاق المسيحي وجود مثل هذه الواجبات نحو الله، كما استنكر بعض من كتبوا عن الأخلاق من الوجهة الفلسفية أن تدخل “محبة الله” في مجال علمهم. إلا أن واجب الإنسان يتصل بكل من له علاقة بهم، وبخاصة الرب يسوع الذي يجب أن يتجه إليه الإنسان بكل قلبه لأنه مصدر وجوده ومنبع كل بركاته، لذلك يبدو تدفق القلب نحوه أمراً طبيعياً بل إنه أكثر الأعمال تلقائية. “أحببت لأن الرب يسمع صوت تضرعاتي” (مز 1: 116) هذا ما قاله المرنم تغبيراً عن محبته “ليهوه”. ولم يكن نوعاً من الصور البلاغية أن يطلب يسوع من الناس أن يحبوا الله أباه من كل القلب والنفس والفكر.
ومن أكثر الادعاءات شيوعاً، القول بأن يسوع لا علاقة له بتأسيس الكنيسة أو بوضع نظامها، ولكنه قول يدل على جهل واضح يتعامى عن حقائق الموضوع. كان يسوع يعلم أن عبادة العهد القديم أوشكت على الانتهاء، وكان هو نفسه الذي سيستبدل نظام العهد القديم بنظام أفضل. ولو كان كل ما عمله أنه عبَّق الجو بأريج من الضياء وأضفى عليه عذوبة ورواء، فحسب، لكانت المسيحية قد اندثرت، ولكنه خلق قنوات يمتد تأثيره خلالها إلى الأجيال التالية المتعاقبة، فهو لم يؤسس الكنيسة فحسب، بل ورسم أهم التفاصيل لتنظيمها كالكرازة والفرائض المقدسة، وترك الاثني عشر تلميذاً بعده، لا كمعلمين فقط بل كقادرين على تعليم معلمين آخرين أيضاً. وقد تكون ثمة ترتيبات كنسية تجري بروح بعيدة عن محبة الله وهو أمر مضاد لفكر المسيح لكن متى كانت محبة الله قوية، فلابد أن تسيطر على كل أمور الله إذ لا يمكن أن تدوم بدون هذه المحبة.
2 الواجب نحو الإنسان: إن أقوال الرب يسوع عن تفاصيل الواجب نحو الإنسان كما أشرنا من قبل أقل عدداً مما كان متوقعاً، ولكن وإن كانت قليلة في العدد، فإن ما يعوض ذلك هو ما فيها من أصالة وشمول، فكثير من الأقوال الفريدة، كالقاعدة الذهبية: “فكل ما تريدون أن يفعل بكم الناس افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم، لأن هذا هو الناموس والأنبياء” (مت 12: 7)، مع كلمته الرائعة عن كأس ماء بارد يقدم باسم المسيح (مت 42: 10). هي أقوال ثورية في التراث الأخلاقي. وكذلك العديد من أمثاله كمثل السامري الصالح، والابن الضال، والعبد البطال. كما أن الوصية بالمحبة، والصفح عن الإساءات (مت 43: 5 48) وإن لم تكن جديدة تماماً، إلا أنها حظيت بأهمية لم تكن لها من قبل. وقد نطق الرب يسوع المسيح بهذه الأقوال بهدف السعي لخلاص الناس من الأنانية ومحبة العالم ليخلق فيهم عاطفة إلهية لخير رفقائهم في البشرية، إما بالمعونة المالية متى لزم ذلك أو بإظهار العطف والمشاركة الوجدانية، وفوق كل شيء بتقديم الإنجيل لهم.
وبالإضافة إلى تلك التوجيهات المتعلقة بسلوك الإنسان نحو أخيه الإنسان، نجد بين كلمات الرب يسوع أقوالاً مأثورة خالدة عن السلوك في الحياة، وفي الأسرة، ونحو الدولة، وفي المجتمع. وكان يسوع يعلم الجموع بالقدوة أكثر مما بالوصايا والأقوال، وقد تمم كل بر كابن وكأخ وكصديق، وقد حدد كمعلم ماهية البر، فاعترض على إباحة الطلاق الذي كان سائدًا في عصره مشيرا إلى المثال الطاهر في جنة عدن. وقد غيًّرت نظرته للمرأة، ورقته تجاه الطفولة فكر الناس بخصوصهما تماماً. كما كان يسوع محباً لوطنه يشيد بجمال الجليل موطنه، ويبكي على أورشليم. ومع أنه تعرض للاضطهاد الدائم من السلطات من المهد إلى الصليب إلا أنه لم يطع هذه السلطات فحسب، بل كان يأمر الآخرين بطاعتها أيضاً. وقد شجب أصحاب الوزنات والمواهب، الذين يطمرونها، ودعا كل إنسان أن يسهم بدوره في خدمة المجتمع. كما أقر حق كل إنسان في أن يجني ثمار عمله “لأن الفاعل مستحق أجرته” (لو7: 10).
ورغم أن وصايا يسوع لا تقدر بثمن فيما يتعلق بأمور الإنسان، كما فيما يتعلق بأمور الله، فعلينا أن نبحث عن الأصالة الأخلاقية في هذه الوصايا وفي الدوافع الجديدة التي كشف عنها لإتمام مشيئة الله كما بيَّنها وأوضحها. كما يسَّر علينا أن نحب الله بإعلانه محبة الله لنا، كذلك يسَّر علينا أن نحب الإنسان بإظهار قيمة الإنسان كمخلوق خالد جاء من عند الله والى الله مآله. ومهما عُمل مع الإنسان من خير أو شر، فإن يسوع يعتبره كأنه صُنع به هو. فالقول الرائع الذي ذكره في مشهد الدينونة (مت 31: 25 46) مع انطباقه على المسيحيين في المقام الأول، إلا أنه يمكن أن يمتد ليشمل جميع الناس، فنتيجة طبيعية لأبوة الله، لابد أن يكون جميع البشر أخوة، والوصية العظمى الثانية تستند على الوصية الأولى العظمى.
ثانياً في الإنجيل الرابع:
1 الحياة الأبدية: يحتل مفهوم “الحياة الأبدية” في إنجيل يوحنا مكان مفهوم “ملكوت الله” في الأناجيل الثلاثة الأخرى. فقد استخدم يسوع تعبير “ملكوت الله” للدلالة على كل البركات التي أتى بها هو إلى العالم في الأناجيل الثلاثة الأولى، ولكننا نلاحظ أيضاً أن هذه الأناجيل تستخدم من وقت لآخر كلمة “الحياة” مرادفاً “لملكوت الله”، وسبب تفضيل يوحنا لعبارة “الحياة الأبدية” قد يرجع إلى تكوينه الخاص، أو إلى البيئة الأممية التي كتب فيها إنجيله، لكن العبارة معبرة وبناءة إلى أبعد حد، وقد حفرت لها مكاناً عميقاً في اللغة الدينية من قبل عصر المسيح. وفي الحقيقة نجد في كل جزء من الكتاب المقدس هذه الحقيقة، وهي أن الانفصال عن الله هو موت، وأن الاتحاد به حياة.
2 مصدر الحياة الأبدية هو الله: وفي أقوال الرب يسوع كما في إنجيل يوحنا نجد أن العالم في قبضة الموت لأنه انفصل عن الله. والبشر جميعاً محكوم عليهم بالهلاك الأبدي عقاباً على خطاياهم، لكن “هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 16: 3).
3 الحياة الأبدية في الابن: هذه الحياة هي في الله أولاً، فهو يسكن في نور لا يدني منه، لكن ليس معنى ذلك أنها حياة ساكنة لكنها حياة جياشة متدفقة مانحة للحياة. كما أن الحياة الأبدية هي أيضاً في الابن “لأنه كما أن الآب له حياة في ذاته، كذلك أعطى الابن أيضاً أن تكون له حياة في ذاته” (يو26: 5)، وهذه الحياة أيضاً حياة متدفقة يمنحها للمحرومين منها، ولهذا صار الابن جسدًا وحلَّ بيننا ومنحنا الحياة بكلمته لأنها “كلام الحياة الأبدية” (يو 68: 6). فكلمات يسوع الواهبة للحياة هي “نور العالم” وهي “الحق”. و “النور” و “الحق” كلمتان تترددان كثيراً في هذا الإنجيل، فالذي تتحدث عنه هذه الأقوال هو النور والحق، فقد قال: “أنا هو الطريق والحق والحياة” وهو موجود في كلمته، فعندما نقبل كلمته حقاً يدخل المسيح بشخصه في قلوبنا “أنتم فيَّ وأنا فيكم” (يو 20: 14). وكما أن الطعام يدخل الجسم ليحفظ الحياة، هكذا المسيح فهو حياة النفس لأنه خبز الحياة وماء الحياة (يو 35: 6). وكما أن الخبز لابد أن يكسر قبل أن يؤكل، والماء يجب أن يصب ليُشرب، هكذا لا يصبح استحقاق ابن الله متاحاً لنا إلا بموته: “أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء، إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد. الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يو 51: 6).
4 الحاجة إلى ميلاد جديد: العالم ميت بالخطية ولابد من ميلاد جديد لمن يدخل إلى الحياة. وهو أمر ضروري حتى بالنسبة لذوي الأخلاق الفاضلة مثل نيقوديموس (يو 3: 3 و5 و7)، فبدون هذا التغيير لا يدرك بنو البشر الإعلان الإلهي، حتى من كان لهم امتياز الاستمتاع بإعلان العهد القديم، لم يبالوا بالحياة الأبدية عندما قُدمت لهم في شخص المسيح، بل لقد وجد المسيح منهم أعنف مقاومة وأقسى عداء.
إن الميلاد الجديد تصحبه رؤيا روحية إذ “يرى ملكوت الله” (يو 3: 3). وفي كل الإنجيل الرابع نجد تأكيداً ملحوظاً على هذه الرؤيا أو المعرفة التي تؤدي مباشرة إلى الإيمان حتى إن الفعلين “تعرف” و “تؤمن” متلازمان (يو 38: 10). فالإيمان هو قبول الحياة الأبدية داخل النفس، أي قبول المسيح، الذي أراه بالإيمان في رؤيا روحية، والذي هو نفسه الحياة. إن الإيمان يعني الأكل من خبز الحياة، والشرب من ماء الحياة، فهو الذي به نحيا.
5 طبيعة الإيمان: وحيث أن الإيمان هو الوسيلة التي بها نمتلك الحياة الأبدية، فهو أكثر شيء نحن في حاجة إليه، وفيه تجتمع كل الوصايا “هذا هو عمل الله أن تؤمنوا بالذي هو أرسله” (يو29: 6)، إنه الوصية الفريدة الجامعة لكل الوصايا، وهو “العامل بالمحبة” لإتمامها جميعها. ولا يذكر إنجيل يوحنا إلا القليل عن ماهية هذه الوصايا، لأن من خصائص فكر يسوع كما جاء في إنجيل يوحنا أن يعالج المباديء الأساسية باعتبار أن النتائج سوف تتوالى طبيعياً.
وما جاء في إنجيل يوحنا عن تنظيم الجماعة التي ستواصل رسالته بعد تركه العالم، أقل بكثير مما جاء في بقية الأناجيل، ومع ذلك يصف جوهر الكنيسة التي هي جسده في عبارات قوية: “أنا فيهم وأنت فيًّ ليكونوا مكملين إلى واحد وليعلم العالم أنك أرسلتني وأحببتهم كما أحببتني” (يو 23: 17). وفي النصف الثاني من هذه العبارة إشارة لتأثير الشهادة المسيحية على العالم الخارجي، ليقودوا العالم إلى الإيمان إذ يرى حياتهم السامية ومحبتهم الصادقة ويستمع لأقوالهم عن المسيح: “يؤمنون بي بكلامهم (كلام التلاميذ)” (يو 20: 17).
وهكذا يقول يسوع: “ولي خراف أخر ليست من هذه الحظيرة، ينبغي أن آتي بتلك أيضاً فتسمع صوتي وتكون رعية واحدة وراع واحد” (يو 16: 10). وفي داخل الحظيرة، نجد أن أعظم امتياز واكبر شرف وأخطر مسئولية هي إطعام الخراف والحملان (يو 15: 21 و16 و17).
6 ثمار الاتحاد بالمسيح: إن محبة المسيح هي أساس السلوك المسيحي، فهو يقول لتلاميذه: “إن حفظتم وصاياي تثبتون في محبتي” (يو10: 15)، ولذلك صلى لأجل التلاميذ حتى يُحفظوا من الشرير في العالم، وحتى يتقدسوا في الحق (يو 15: 17 و17)، ولا شك في أنه توقع منهم أن يطلبوا نفس الشيء لأنفسهم لأن حياتهم يجب أن تكون حياة صلاة (يو 24: 16). ولكن هذه كلها ثمر الاتحاد بالمسيح، وليست الحياة الأبدية مجرد عطية من عطايا المستقبل تمنح للمؤمن عند موت الجسد، بل إن كل من يثبت في الكرمة يتمتع بالحياة الأبدية منذ الآن.
خِلٌّ | خليل
الخل أو الخليل هو الصديق الودود والحبيب والصاحب، وهناك أمثلة كثيرة للصداقة في الكتاب المقدس. وقد دعي إبراهيم “خليل الله” (2أخ 7: 20، إش 8: 41، يع 23: 2) لأنه كان وثيق الصلة بالله. كما أن الرب كان يكلم موسى “وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه” (خر 11: 33).
وهناك صورة شاعرية للصداقة بين راعوث ونعمى (راعوث 16: 1 18). كما كان حوشاي الأركي صديقاً مخلصاً لداود ومثالاً للولاء في وقت الشدة (2صم 27: 15، 16: 16، 5: 17 و6 و7 و14 و15). وكانت صداقة يوناثان لداود صداقة فريدة حيث نقرأ: “أن نفس يوناثان تعلقت بنفس داود وأحبه كنفسه” (1 صم 1: 18)، ويقول داود في رثائه له: “كنت حلوّا لي جدًّا. محبتك لي أعجب من محبة النساء” (2صم 26: 1). كما كان إيليا وأليشع صديقين حميمين (2مل 2: 2).
وفي العهد الجديد، اتخذ الرب يسوع من التلاميذ أصدقاء له وقال لهم: “أنتم أحبائي… قد سميتكم أحباء لأني أعلمتكم بكل ما سمعته من أبي” (يو 13: 15 15). كما كانت هناك صداقة قوية بين الرسول بولس وتلميذه تيموثاوس إذ يقول الرسول عنه “الابن الحبيب” (2 تي 2: 1) وكذلك يكتب إلى تيطس “إلى تيطس الابن الصريح حسب الإيمان المشترك” (تي4: 1) وإلى فليمون: “المحبوب والعامل معنا وإلى أبفية المحبوبة” (فليمون 1: 1 و2). ويكتب الرسول يوحنا: “إلى كيرية المختارة والى أولادها الذين أنا أحبهم بالحق” (2يو 1: 1)، كما يكتب “إلى غايس الحبيب الذي أنا أحبه بالحق. أيها الحبيب..” (3يو 1: 1 و2).
وكثيرون من مشاهير الكتَّاب في كل عصر، أشادوا بالصداقة المخلصة، وقد سجل بلوتارك قصة الصداقة المتفانية التي كانت بين “دمون” (Domon) و “بيثاس” (Pythias)، حين حكم على “بيثاس” في زمن ديونيسيوس بالإعدام. فطلب قبل إعدامه أن يسمح له برؤية عائلته، فقدم “دمون” نفسه رهينة على أن يعدم عوضاً عن بيثاس في حالة عدم رجوعه في نهاية المهلة المحددة. ولكن بيثاس عاد في آخر لحظة، فاندهش ديونيسيوس من هذا الوفاء والإخلاص فأطلق سراح الاثنين.
وهناك صداقة صادقة (مز11: 35، أم 17: 17، 24: 18، يو 13: 15)، كما توجد صداقة خادعة (أيوب 14: 6 و27، مراثي 2: 1، زك 6: 13، مت 49: 26، مرقس 45: 14، لو 48: 22). وهناك أصدقاء أنانيون (أم 4: 19 و6 و7). وأصدقاء يطلبون الخير للآخرين (أم 6: 27 و10 و17).
وأعظم صور الصداقة في الكتاب المقدس هي الصداقة لله لأنها نبع كل صداقة حقيقية، وكما سبق القول عن إبراهيم إنه دعي “خليل الله” (يع 23: 2)، وعلى النقيض من ذلك “محبة العالم” لأنها “عداوة لله” (يع 4: 4).
خَلّ
تصِير الخمر، أو أي شراب قوي حريفة بطريقة التخمير والتخليل (عدد 6: 3) فإذا زادت نسبة التخمير، أو حفظت الخمر زمنًا طويلًا، صارت خلًا. والخل حامض يضرس الأسنان (ام 10: 26) ويقسي الصابون (أمثال 25: 20) “كخل على نطرون”. وهو في ذاته غير صالح للشرب (مز 69: 21) ولكنه إذا مزج بقليل من الزيت، صار صالحًا للشرب، وخاصة لإطفاء العطش متى غرَّ وجود الماء الصالح. وكان يستعمل مع الأطعمة الأخرى، ويغمس فيه الخبز (راعوث 2: 14). وكان من عادة الجنود الرومان أن يشربوا في معسكراتهم نوعًا مخففًا من الخل ممزوجًا بالماء. ولعل شرابًا من هذا النوع هو الذي قدمه الجندي الروماني ليسوع وهو على الصليب ليطفئ حرقة ظمأه باسفنجة (مر 15: 36 ويو 19: 29 و30). وهذه الجرعة التي شربها يسوع تختلف عن الخمر الحريف الذي سبق أن قدم له ورفضه، وكانت تلك الخمر ممزوجة بالمرّ (متى 27: 34 ومر 15: 23).
وما يزال الخل مستعملًا حتى اليوم في كثير من بلدان العالم، يضاف إلى بعض الأطعمة والتوابل ليكسبها مذلقًا حريفًا.
خُلُوِي
اسم يوناني معناه “النبتة الأولى من العشب الاخضر”. وهي امرأة مسيحية، وأهلها هم الذين اخبروا بولس عن الانشقاق الذي حدث في كنيسة كورنثوس (1 كو 1: 11).
أخلى | إخلاء
لقد استخدمت كلمة “اخلاء” منذ عهد الآباء مرادفاً “للتجسد”، فهي ترتبط باتضاع المسيح وتنازله العجيب، وسندهم في ذلك أساساً هو ما جاء في الرسالة إلى فيلبي: “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضاً، الذي إذ كان في صورة الله لم يحسب خلسة أن يكون معادلاً لله، لكنه أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كإنسان وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب” (في 5: 2 8)، وبعض الأقوال الشبيهة بذلك، مثل: “فإنكم تعرفون نعمة ربنا يسوع المسيح، أنه من أجلكم افتقر وهو غني لكي تستغنوا أنتم بفقره” (2 كو 9: 8).
وكلمة “أخلى” في اليونانية هي “اكينوزن” (ekenosen) والمصدر منها “كيوزس” (kenosis) أي “اخلاء”، ومنها جاء اسم النظرية التي ظهرت منذ منتصف القرن التاسع عشر، وترجع إلى “تومازيوس” (Thomasius) من “إرلانجتن” في ألمانيا.
وخلاصتها كما يقول “كريد” (J. M. Creed) أن “اللوجوس” (الكلمة) السماوي في تجسده جرَّد نفسه من خصائصه الإلهية المتعلقة بالعلم بكل شيء والقدرة على كل شيء. ففي حياة تجسده، لم يعلن الأقنوم الإلهي سوى معرفته البشرية، وهو فكر يتعارض تماماً مع مضمون كلمة الله.
وقد يساعدنا على فهم العبارة أن نفس الفعل اليوناني المترجم “أخلى” في الرسالة إلى فيلبي، يترجم إلى “يعطل” في أربعة مواضع أخرى في رسائل الرسول بولس (رو 14: 4، 1كو 17: 1، 15: 9، 2 كو 3: 9). وهو في جميع هذه المواضع يستخدم كما نفهم من القرينة مجازياً وليس حرفياً، كما يريد أصحاب نظرية “الإخلاء” أن يعتبروه في الأصحاح الثاني من الرسالة لفيلبي. ويرفض المؤمنون القويمو العقيدة هذه النظرية عن “الإخلاء” لأنها تعني أن الله عندما صار إنساناً لم يعد إلهاً، لقد تحول الله عند تجسده إلى مجرد إنسان. ولكن إذا صح هذا فلا يكون ثمة تجسد، ليس هناك إله مستتر في الجسد البشري، مما يؤدي إلى تلك النتيجة التي لابد منها أن قيامة المسيح وتمجيده معناهما أنه قد عاد إلهاً مرة أخرى. وإذا كان لكي يصير إنساناً محدوداً لم يكن في قدرته أن يمارس خصائصه الإلهية المميزة، فكيف يستطيع إذاً أن يتعظَّم كالله فوق “الكل المبارك إلى الأبد” دون أن يظل خاضعاً للمحدوديات البشرية؟
إن هذه النظرية عن “الإخلاء” لا تتضمن الاتحاد بين الأقنوم الإلهي والطبيعة البشرية التي أخذها المسيح عند تجسده، ولكنها تعني أنه كان إلهاً في البداية ثم أصبح بشراً ثم صار إلهاً مرة أخرى.
وقد جحد أثناسيوس الرسولي كما يقول “بركوفر” (Berkhowver) هذا الفكر الذي تتضمنه نظرية الإخلاء، بتأكيده أن التجسد لا يعني أن يتحول اللاهوت إلى جسد، بل أن يتخذ اللاهوت جسداً.
ولكن ماذا يعني الرسول بولس بما جاء في رسالته إلى الكنيسة في فيلبي (7: 2) الذي يثير كل هذا الحوار؟ إن الرسول بولس كما يقول وارفليد (Warfield) وآخرون لا يذكر ما أخلى المسيح نفسه منه. فهو لا يقول أنه أخلى نفسه من مجده الجوهري، أو من حق ممارسة خصائصه الإلهية المميزة، ولكنه يقول إنه “أخلى نفسه”. وإذا حملناها على المحمل الحرفي كما يريد أصحاب نظرية الإخلاء فكيف يمكنه أن يخلي نفسه؟ إن عبارة مثل هذه، يجب أن تفهم مجازياً حسب القرينة التي توضحها العبارات التي سبقتها والتي تليها. إنها إنما تستخدم هنا للدلالة على اتضاع الرب العجيب الذي “إذ كان في صورة الله… جعل نفسه بلا شهرة”. (كما في الكثير من المترجمات) آخذاً صورة عبد “. وهذه الصيغة هي الصيغة التي تتفق مع المعنى الذي قصده الرسول في مناشدته المؤمنين أن يكونوا بفكر واحد” مفتكرين شيئاً واحداً لا شيئاً بتحزب أو بعجب بل بتواضع… “ليكون فيهم” فكر المسيح “وهو فكر التنازل والتواضع بلا حدود.
الخَمْر
كانت الخمر تصنع من العنب، فكانوا يجمعون العناقيد في سلال (ارمياء 6: 9) ثم يحملونها إلى المعصرة ويلقونها هناك. وكانت المعصرة مركبة من دنّ قليل العمق مبني على الأرض أو منقور في الصخر (اش 5: 2)، ويتصل بثقوب في اسفله بدنّ آخر، منقور في الصخر أيضًا. وكان العنب يُسحق بطريق الدوس بالأقدام (نحميا 13: 15 وايوب 24: 11)، وكانوا يستخدمون رجلًا أو أكثر حسب حجم الدن. وكان الائسون – في مصر وربما في فلسطين أيضًا – يمسكون بحبال معلقة حتى لا يسقطوا، ويغنون أثناء عملهم على وتيرة واحدة كنوع من التسلية والترفيه أثناء العمل (اش 16: 10 وارميا 25: 30 و48: 33) وحولهم وثيابهم (اش 63: 1 – 3). ومن الدنّ الأعلى ينساب العصير إلى الدنذ الأسفل، ويوضح بعد ذلك في أزقة أو قنينات من الجلد (ايوب 32: 19 ومتى 9: 17) أو في أوعية كبيرة من الفخار، حيث يترك طويلًا ليختمر. وبعد الاختمار تنقل إلى أوعية أخرى (ارمياء 48: 11 و12).
وكان عصير العنب يُستمل بعد عصره بطرق مختلفة: كشراب فاكهة غير مختمر، أو كخمر بعد التخمير، أو كخل بعد زيادة تخميره. ولعلهم كانوا في الزمن القديم – كما في الوقت الحاضر – يصنعون من العصير شرابًا حلوًا بعد غليه.
وقد ذُكرت الخمر مع الحنطة والزيت كعطية عظمى للإنسان، وكانت في كل بيت يقدمونها للضيوف لاسيما في الأعياد (تك 14: 18 ويو 2: 3). غير أن اليهود، وسائر الأمم، كما وبخهم أيضًا العهد الجديد (ام 20: 1 و23: 29 – 35 واش 5: 22 و28: 1 – 7 و56: 12 وهوشع 4: 11). وفي الطقس الموسوي كانت السكيب من خمر مع المحرقة اليومية (خر 29: 40) وعند تقديم الباكورات (لا 23: 13) وعند تقديم بقية الذبائح (عدد 15: 5).. وكان يدفع العشر منه (تث 18: 4) ولم يكن يُسمح للنذير بأن يشرب منه مدة نذره (عدد 6: 3) ولذلك لم يكن يسمح للكاهن بأن يشرب منه عند دخوله لخدمة المقداس (لا 10: 9) ولم يكن لائقًا للقضاة أن يشربوا منه عند جلوسهم في مجالس القضاة. (امثال 31: 4 و17 و23: 20 و21 و29 – 35). وقد اتخذت في العهد القديم احتياطات كثيرة لوقاية الناس من الإفراط في شربها، كمزجها بالماء. ويذكر الكتاب أنهم كانوا يعينون رئيسًا للوليمة ويعتق للوليمة ويعتقد أنه كان يعين لهذا الغرض (يو 2: 9 و10). وقد نهى الكتاب عن السكر بالخمر، وعلّم أن السُّكر بها خطيئة (1 صم 1: 14 – 16 واش 5: 11 – 17 و1 كو 5: 11 و6: 10 وغلا 5: 21 وافسس 5: 18 و1بط 4: 3). والخمر الممزوجة (امثال 9: 2) والشراب الممزوج ليسا خمرًا ممزوجة بماء لتخفيفها بل يشيران إلى مزيج الخمر بأنواع من العقاقير والتوابل التي تجعل طعمها يلذ بأنواع من العقاقير والتوابل التي تجعل طعمها يلذ شاربيها، وتجعل لونها شائقًا.
خُمار
وهو ما يصيب شارب الخمر من آلامها وصداعها. وقد حظر الرب تلاميذه قائلاً لهم: “فاحترزوا لأنفسكم لئلا تثقل قلوبكم في خمار وسكر وهموم الحياة” (لو 34: 21).
خَمير | الخميرة
leaven قطعة من العجين المختمر توضع في العجين لتخمره (خر 12: 15 و19 و13: 7). وكان استعمال الخمير محظورًا في التقدمات للرب (لا 2: 11)، وذلك لأن التخمير كان رمزًا إلى الفساد ويرمز إلى التعاليم الفاسدة (متى 16: 11 ومرقس 8: 15) وإلى الشر في قلب الإنسان (1 كو 5: 6 – 8 وغلا 5: 9). ولم يكن يسمح لليهود باستعمال الخمير خلال أيام الفصح، وذلك رمز إلى الحياة عديمة الفساد التي تتطلبها خدمة الله الحقة. وكان هذا يذكَرِهم أيضًا بيوم خروجهم من مصر، حيث لم تمكنهم الظروف من أن يخمروا عجينهم. ولذلك أكلوا خبزًا فطيرًا. ومن ذلك الوقت جعلوا أكل الفطير في الفصح تذكارًا لعَجلتهم. على أن الكلمة “خمير” وردت في المثل المذكورة في انجيل متى (متى 13: 33) بمعنى جيد، حيث شبه فعل الإنجيل الخفي في قلب الإنسان بالخميرة، وهو رمز إلى نمو ملكوت الله في العالم من بداية صغيرة.
Leaven.
وقد لعب الخمير دورًا كبيرًا في حياة العبرانيين، ليس في صناعة الخبز فحسب، ولكن أيضًا في التقدمات وطقوس العبادة.
وكانت الخمير أساسًا عبارة عن قطعة من العجين المختمر، المحفوظة من مرة سابقة، أو من دقيق يضاف إليه بعض الماء ويعجن بدون إضافة ملح إليه، ويترك حتى يختمر.
(أ) الخمير في صناعة الخبز:
كانت قطعة الخميرة تذاب في الماء في المعجن قبل إضافة الدقيق، أو تخبأ في الدقيق نفسه وتعجن معه (مت 33: 13). وكان يطلق على الخبز الناتج “الخمير” أو “المختمر” (خر 15: 12، 3: 13.. إلخ.) وذلك تميزًا له عن الخبز الخالي من الخمير والذي كان يسمى “فطيرًا” (خر 15: 12 و20). ولا يذكر نوع أخر من الخمير، وإن كان البعض يزعمون أن اليهود استخدموا عكارة الخمر في صناعة الخبز.
(ب) الخمير في الشريعة:
حرَّمت الشريعة منذ البداية استعمال الخمير في أيام الفصح وعيد الفطير (خر 15: 12، 15: 23، مت 17: 26.. إلخ.) ليذكروا كيف أخرجهم الرب من أرض مصر حين حملوا “عجينهم قبل أن يختمر ومعاجينهم مصرورة في ثيابهم على أكتافهم” (خر 34: 12، تث 3: 16).
أما النهي عن تقديم الخمير والعسل على المذبح (لا 11: 2)، فلعله كان لأن التخمر يتضمن التحلل والفساد، وكان كل شيء متحلل أو متعفن يعتبر نجسًا. وكثيرًا ما استخدم المعلمون اليهود الخمير رمزًا للشر والفساد الموروث في الإنسان (انظر خر 8: 12 و15 – 20)، ويردد “بلوتارك” (Plutarch) صدى هذا الرأي القديم واصفًا الخمير بأنه “الفساد بعينه ويفسد العجين الذي يخلط به”، كما يستخدم “برسيوس” (Persius) الخمير مرادفًا للفساد. (). ولا شك في أنه لهذا كان تحريم تقديمه على مذبح الرب، بل كان يقدم الفطير فقط، لكن استثناء من هذا كانت تقرب “أقراص خبز خمير…” على ذبيحة شكر السلامة “يقرب منه واحدًا من كل قربان رفيعة للرب. ويكون للكاهن الذي يرش دم ذبيحة السلامة” (لا 13: 7 و14)، ومعنى هذا أن هذه الأقراص لم تكن توقد على المذبح، ولهذا قال لهم عاموس النبي متهكمًا: “هلم إلى بيت إيل، وأذنبوا إلى الجلجال وأكثروا الذنوب وأحضروا كل صباح ذبائحكم وكل ثلاثة أيام عشوركم، وأوقدوا من الخمير تقدمة شكر..” (عاموس 4: 4 و5). كما كان رغيفا الترديد اللذان يقدمان في عيد الخمسين “يخبزان خميرًا” فيكونان للكاهن (لا 17: 23 و20).
(ج) الاستخدام المجازي للخمير في العهد الجديد: يستخدم الخمير في العهد الجديد رمزًا للشر والفساد، فقد حظر الرب يسوع من خمير الفريسيين والصدوقين والهيرودسيين (مت 6: 16، مرقص 15: 8). وكان يشير بخمير الفريسيين إلى الرياء وحب المظاهر (لو 1: 12، انظر أيضاَ مت 13: 23 و14). أما خمير الصدوقين فكان الشك والجهل الفاضح (مت 23: 22 و29). وكان خمير الهيرودسيين الخبث والدهاء السياسي (مت 16: 22 – 21).
ويؤكد الرسول بولس أن “خميرة صغيرة تخمر العجين كله” (1كو 6: 5، غل 9: 5)، ويقارن بين “خميرة الشر والخبث” و “فطير الإخلاص والحق” (1كو 8: 5)، وكأنه يقول إن الخمير رمز للشر والخبث، بينما يرمز الفطير للإخلاص والحق.
ويظن البعض أن الخمير في المثل الذي ذكره الرب يسوع: “يشبه ملكوت السموات خميرة أخذتها امرأة وخبأتها في ثلاثة أكيال دقيق حتى اختمر الجميع” (مت 33: 13، لو 21: 13) يشير إلى العمل الهادئ السري للامتداد عمل الإنجيل في العالم، بينما يرى آخرون – استنادًا إلى كل الإشارات الأخرى للخمير في الكتاب المقدس بعهديه كرمز للشر – أن ما أراده الرب يسوع بهذا المثل ليس هو امتداد عمل الإنجيل، بل بالحري انتشار الفساد والشر في ملكوت الله كما حدث في مثل الزرع الجيد والزوان (مت 24: 13 – 30).
خمسة
أول ما يتبادر للذهن عند سماع العدد “خمسة” هو أنه نصف العشرة كما نرى في مثل العشر عذارى فقد “كان خمس منهن حكيمات وخمس جاهلات” (مت 25: 2)، كما أن هناك خمسة أسفار موسى، وكانوا يقسمون سفر المزامير إلى خمسة كتب، وكذلك الأسفار الخمسة التي كانت تقرأ في الأعياد اليهودية (نشيد الأنشاد، راعوث، مراثي إرميا، الجامعة، أستير). ويقسم البعض إنجيل متى إلى خمسة أقسام ينتهي كل قسم منها بعبارة: “ولما أكمل يسوع هذه الأقوال” (7: 28، 11: 1، 13: 53، 19: 1، 26: 1).
كما يستخدم العدد “خمسة” للدلالة على القلة النسبية كما في: “يطرد خمسة منكم مائة” (لا26: 8)، “من زجرة خمسة تهربون” (إش 30: 17)، وخمسة أرغفة الشعير (مت14: 17، مرقس 6: 38، لو9: 12، يو 6: 9)، و “خمس كلمات” (1كو 14: 19). وقد لاحظ “سكنر” (ٍskinner) أن العدد “خمسة” أو “الخمس” يتكرر في الأمور المرتبطة بمصر قديماً (تك 41: 34، 45: 22، 47: 2 و24، إش19: 18).
أسفار موسى الخمسة
← اللغة الإنجليزية: Torah أو Pentateuch – اللغة العبرية: תּוֹרָה – اللغة اليونانية: Τορά أو Πεντάτευχο – اللغة السريانية: ܐܘܪܝܬܐ.
هي الأسفار الخمسة الأولى من العهد القديم وهي: التكوين، والخروج، واللاويين، والعدد، والتثنية. وسميّت هذه الأسفار “سفر شريعة الرب بيد موسى” (2 أخبار 34: 14) و “سفر شريعة موسى” (2 أخبار 17: 9) و “سفر الشريعة” (2 مل 22: 8 و2 مل 23: 21) و “شريعة موسى” (عز 7: 6) و “سفر شريعة موسى” (نح 8: 1) و “سفر موسى” (عز 6: 18 ونح 13: 1 و2 أخبار 25: 4 و13: 12) و “التوراة” (مت 12: 5) و “الناموس” (لو 10: 26 ويو 8: 5 و17).
وقد اجمع جمهرة العلماء والباحثين على أن موسى هو كاتب هذه الأسفار أو أكثرها على الأقل، وإن يكن بعضهم قد شك في أن موسى هو كاتب الأسفار. وليس في الأسفار ذاتها آية واحدة تؤكد أن موسى هو كاتبها كلها. ومع ذلك فإنّا واجدون اقتباسين في القصة بقلم موسى ذاته: أحدهما قصة الانتصار على عماليق (خر 17: 14). والثاني وصف رحلة بني إسرائيل من مصر إلى سهول موآب تجاه أريحا (عدد 33: 2). وهناك أيضًا نشيد تهذيبي، يردد فضل الله على بني إسرائيل، ويقال أن موسى هو واضعه وملحنه (تث 31: 19 و22 و30 و32: 44). وكذلك نشيد الحمد والشكر على النجاة من يد فرعون والبحر الاحمر، وقد قيل أن موسى هو كاتبه ومنشده (خر 15: 1 – 18).
Modern Coptic art: Icon of Saint Moses the Prophet صورة: فن قبطي معاصر، أيقونة سيدنا موسى النبي.
Modern Coptic art: Icon of Saint Moses the Prophet.
صورة: فن قبطي معاصر، أيقونة سيدنا موسى النبي.
ويتألف القسم التشريعي القانوني في هذه الأسفار من ثلاث مجموعات: المجموعة الأولى تسمى “كتاب العهد” وتتضمن الوصايا العشر، وهي القانون الأساسي للأمة، وبعض اللوائح والقوانين المتعلقة بها (خر ص 20 – ص 23). وقد قيل أن موسى هو كاتب هذه المجموعة (خر 14: 4). وتتألف المجموعة الثانية من شرائع وقوانين خاصة بالمقدس والخدمة (خر ص 25 – ص 31 ولاويين وجزء كبير من سفر العدد). أما المجموعة الثالثة فقد قيل عنها صراحة أن موسى ألقاها ورددها في آذان الأجيال المقبلة عشية دخولهم أرض كنعان. وهي تشمل بيانًا موجزًا للطريقة التي قاد بها الله الشعب، ثم تكرارًا لبعض أجزاء الشريعة، وإبراز النواحي الروحية والدينية فيها، والظروف المستخدمة التي ستطبق فيها هذه الاحكام. وقد ألقى موسى هذه العظات للشعب وكتبها وسلمها إلى اللاويين ليحتفظوا بها في عودتهم (تث 31: 9 و24 – 26). هذا هو الدليل الداخلي في الاسفار ذاتها التي تشير إلى أن موسى كاتبها.
وهناك أدلة أخرى غير هذا الدليل الداخلي، فإن بقية اسفار العهد القديم تشير إلى أن موسى هو كاتب الشريعة (يشوع 1: 7 وعزرا 6: 18 ونحميا 8: 1 و18). وكذلك توجد نصوص كثيرة في العهد القديم فيها اشارات واضحة صريحة إلى “شريعة موسى” (يشوع 8: 31 – 35 وقض 3: 4 و1 ملوك 2: 3 و2 ملوك 8: 6 و12 و21: 7 و8 ودانيال 9: 11 و13 وعزرا 3: 2 و7: 6 وملا 4: 4).
ثم اننا نجد في العهد الجديد اشارات كثيرة إلى أن موسى هو كاتب الاسفار الخمسة. فهذا هو رأي علماء اليهود وقادتهم في زمن السيد المسيح (مر 12: 19 ويو 8: 5). وقد اشار السيد المسيح والبشيرون إلى هذه الاسفار الخمسة وإلى أن كاتبها هو موسى (مر 12: 26 ولو 16: 29 و24: 27 و44). فيقولون “جاء في موسى” أو “كتاب موسى” ثم يشيرون أيضًا إلى أن موسى أعطاها أو جاءت على يديه أو أنه كاتبها (مر 10: 5 و12: 19 ويو 1: 17 و5 46 و47 و7: 19).
وقد زعم بعضهم أن هناك عبارات يصعب صدورها عن موسى، إلا اننا عند درس هذه العبارات لا نجد مشقة البتة في قبول صدورها عن موسى فمثلًا القول “وكان الكنعانيون حينئذ في الارض” (تك 12: 6) وهي عبارة تاريخية صادقة فإن الكنعانيين كانوا حقًا وفعلًا في الأرض في زمن إبراهيم.. كذلك القول الوارد في (تثنية 1: 1) “في عبر الأردن” فيزعم بعضهم إن هذه العبارة لا تصدر إلا عن كاتب كان في كنعان فعلًا. ولكن ألا يعتبر هذا الاسم “عبر الأردن” اسم علم لشرق الأردن بدون أي نظر إلى المكان الذي يوجد فيه الكاتب.
أما عن سجل موت موسى في تثنية 34: 5 – 12 فهل يصعب أن يكون هذا الجزء قد أضيف بعد موت موسى بإرشاد الروح القدس. وهذا لا يعني البتة أن شخصًا آخر غير موسى كتب هذه الاسفار الخمسة.
فكثرة علماء الكتاب المقدس مقتنعون بأن موسى هو كاتب تلك الاسفار، وذلك لأنه عرف شخصيًا جانبًا عظيمًا من الحوادث التي جاءت بها، وخاصة ما يتعلق بمصر وأحوال شعبها وحضارتها، مثال ذلك تلميحه إلى طريقة السقي (تث 11: 10) والحرب (تث 20: 5) واستخراج المعادن (تث 8: 9) والقصاص (تث 20: 5) واستخراج المعدن (تث 8: 9) والقصاص (تث 20: 5)، إلخ.. ولا يقدر أحد أن يقدم البيان الوافي عن رحلة البرية ما لم يكن هو على رأس الراحلين. فضلًا عن هذا فإن أسلوب الأسفار الخمسة ولاهوتها وخاصة ما تعلق بالثواب والعقاب في الآخرة، يرجع تاريخها إلى عصر مبك تاريخها إلى عصر مبكر قبل عصر داود، يرجع تاريخها إلى عصر مبكر قبل عصر داود، وقبل السبي. وقد ايدت الحفريات تاريخية الأسفار الخمسة فأثبتت وجود برج بابل وكذلك وجود الحثيين، وكان زعم البعض قبل ذلك بعدم وجودهم. واثبتت الحفريات أيضًا ما حدث من اقلاب مدن الدائرة كسدوم وعامورة. وكذلك أيدت الحفريات ما تذكره هذه الإسفار عن حالة الآباء الأولين من حيث أنها توافق ما كان مألوفًا ومعروفًا في القرن العشرين قبل الميلاد، لا في عصر نتأخر عن هذا.
خَمسون | يوم الخمسين | عيد الخمسين
هو عيد الاسابيع (خر 34: 22 ولا 23: 15 وتث 16: 9) وسميّ يوم الباكورة (عد 28: 26) وكان يقع في اليوم الخمسين بعد اليوم الثاني من الفصح (لا 23: 15 و16 وتث 16: 9 و10). وكان أحد الأعياد الثلاثة التي كان يتحتم على الذكور من الشعب أن يذهبوا فيها ليمثلوا أمام الرب (خر 34: 22 و23). وكان يعتبر سبتًا أي زمن راحة لا يقومون فيه بأي عمل بل يجتمعون معًا للعبادة (لا 23: 21 وعد 28: 26). وقد بدأ في الأول كيوم شكر لأجل الحصاد في البلاد المقدسة، وكانت مدته يومًا واحدًا. وكانوا يقدمون فيه رغيفين من الدقيق الذي طحن من غلة الحصاد (لا 23: 17 و20 وتث 16: 10). وكذلك كانوا يقدمون عشر ذبائح في ذلك اليوم (لا 23: 18 و19) وكانوا يحثون الشعب في هذا العيد أن يذكروا المحتاجين كاللاوي والعبد والامة واليتيم والارملة (تث 16: 11 و12).
ويقول التقليد اليهودي إن الناموس أعطي في اليوم الخمسين بعد خروجهم من مصر، ولذا فحفظ اليهود اليوم تذكارًا لإعطاء الناموس أكثر مما يحفظونه كيوم عيد جمع الحصاد.
وقد انسكب الروح القدس في يوم الخمسين حين كان كثيرون قد أتوا إلى أورشليم واجتمعوا بمناسبة هذا العيد (أع 2: 1 – 14) وقد أخذت الكنيسة المسيحية تحفظه ضمن أعيادها – وهو عيد العنصرة.
خمش
خمشة بمعنى جرح بشرته في أي موضع من جسده، وقد أمر الرب الشعب قديمًا قائلًا: “لا تخشموا أجسامكم ولا تجعلوا قرعة بين أعينكم لأجل ميت، لأنك شعب مقدس للرب إلهك” (تث 14: 1 و2 انظر أيضًا إرميا 16: 6، 41: 5، 47: 5، 48: 37).
خمع | يخمع
خمع بمعنى سار وكأن به عرجًا، وهكذا سار يعقوب بعد أن ضرب ملاك الرب “حق فخذه فانخلع حق فخذ يعقوب” فسار “يخمع على فخذه” (تك 32: 25 و31).
خمَّ
خمَّ اللحم يخم أنتن، وخمَّ اللبن خبثت رائحته، وهكذا يصف أيوب حالته بعد أن ضرب الشيطان “بقرح رديء من باطن قدميه إلى هامته” بالقول: “نكهتي مكروهة عند امرأتي وخممت عند أبناء أحشائي” (أيوب 2: 7، 19: 17).
خَنْزير
كان الخنزير من الحيوانات النجسة (لاويين 11: 7 وتث 14: 8) وذلك لأنه قذر وهو لا يجتر طعامه، ويولد لحمه بعض الأمراض إذا لم ينضج عند طبخه. وكان محرمًا على العرب تربيته، وقد حرم القرآن أكله، كما حرمه التوراة. وقد حسبه الفينيقيون والاثيوبيون والمصريون نجسًا مع أنهم في مصر كانوا يقدمون خنزيرًا ذبيحة في العيد السنوي لاله القمر ولاوزيريس (باخوس). ومع ذلك فإنه كان يتحتم على من يلمس خنزيرًا ولو عرضًا أن يغتسل. ولم يكن يُسمح لراعي الخنزير أن يدخل الهيمل، ولم يكن يتزوج إلا من بنات الرعاة مثله، لأن أحدًا لا يرضى أن يزوج ابنته من راعي الخنازير (راجع هيرودتس 2: 47) أما عند اليهود فكان لحم الخنزير محرمًا بقذارته (امثال 11: 22 ومتى 7: 9 و2 بط 2: 22) وكان رعي الخنازير من احط المهن وادناها، لا يقربها إلا الفقراء المعدمون (لو 15: 15) على أن اليهود المستبيحين (اش 65:: 4 و66: 17).. وفي عصر انتيخوس ابي أنطيوخس أبيفانيس كانوا يأمرون اليهود بأكل لحم الخنزير للتأكد من عدم بقائهم على دينهم القديم، أو الولاء لدين غزاتهم وحكامهم (1 مكابيين 1: 47 و50 و2 مكابيين 6: 18 و21 و7: 1).
وفي عصر المسيح كان بعضهم يرعون قطعانًا من الخنازير (مر 5: 11 – 13) في مستعمرة اغلب سكانها من اليونان. وما كانوا يربونها ليأكلوا لحومها، بل ليبيعوها إلى اليونان أو للجيوش الرومانية.
ويوجد في العهد الجديد القصة الشهيرة التي حدثت مع بطرس الرسول في سفر أعمال الرسل 10 بتحليل كل الأطعمة:
Pigs.
“ثُمَّ فِي الْغَدِ فِيمَا هُمْ يُسَافِرُونَ وَيَقْتَرِبُونَ إِلَى الْمَدِينَةِ، صَعِدَ بُطْرُسُ عَلَى السَّطْحِ لِيُصَلِّيَ نَحْوَ السَّاعَةِ السَّادِسَةِ. فَجَاعَ كَثِيرًا وَاشْتَهَى أَنْ يَأْكُلَ. وَبَيْنَمَا هُمْ يُهَيِّئُونَ لَهُ، وَقَعَتْ عَلَيْهِ غَيْبَةٌ، فَرَأَى السَّمَاءَ مَفْتُوحَةً، وَإِنَاءً نَازِلًا عَلَيْهِ مِثْلَ مُلاَءَةٍ عَظِيمَةٍ مَرْبُوطَةٍ بِأَرْبَعَةِ أَطْرَافٍ وَمُدَلاَةٍ عَلَى الأَرْضِ. وَكَانَ فِيهَا كُلُّ دَوَابِّ الأَرْضِ وَالْوُحُوشِ وَالزَّحَّافَاتِ وَطُيُورِ السَّمَاءِ. وَصَارَ إِلَيْهِ صَوْتٌ: «قُمْ يَا بُطْرُسُ، اذْبَحْ وَكُلْ». فَقَالَ بُطْرُسُ: «كَلاَّ يَا رَبُّ! لأَنِّي لَمْ آكُلْ قَطُّ شَيْئًا دَنِسًا أَوْ نَجِسًا». فَصَارَ إِلَيْهِ أَيْضًا صَوْتٌ ثَانِيَةً: «مَا طَهَّرَهُ اللهُ لاَ تُدَنِّسْهُ أَنْتَ! » وَكَانَ هذَا عَلَى ثَلاَثِ مَرَّاتٍ، ثُمَّ ارْتَفَعَ الإِنَاءُ أَيْضًا إِلَى السَّمَاءِ”.
خنزير من الوعر
لقد استأنس الإنسان الخنزير منذ عهود قديمة، فثمة دلائل على أن قدماء المصريون قد استأنسوه منذ ما قبل الأسرات، أي قبل 3. 000 سنة قبل الميلاد. وكان الخنزير البري منتشراً في كل مناطق أوربا واسيا، ولكنه انقرض من إنجلترا منذ القرن السابع عشر، كما قلت أعداده في سائر الأماكن، لكنه ما زال موجوداً في فلسطين وبخاصة في الأدغال الكثيفة حول بحيرة الحولة ووادي الأردن. والنوع الموجود في فلسطين هو المعروف علمياً باسم “سوس سكروفا” (Sus Scrofa) وهو نفسه النوع البري الموجود في أوربا وشمالي أفريقيا وغربي أسيا. ولعل سبب وجوده بكثرة في أدغال فلسطين حتى الآن هو اعتباره حيواناً نجساً في نظر السكان من المسلمين واليهود فلا حاجة بهم إلى صيده إلا متى أحدث تلفاً خطيراً. وجاء في المزمور (80: 13) أن الرب قد هدم جدران كرمته أي شعبه القديم وأزال عنها الحماية فلذلك أصبح من السهل أن “يفسدها الخنزير من الوعر ويرعاها وحش البرية”. في إشارة إلى أنها أصبحت معرضة للغزاة من أشوريين وبابليين وغيرهم.
خُودَش
اسم عبري معناه “الهلا” وهو اسم زوجة شحرايم (1 أخبار 8: 9).
خَوذَة
كانت الأسلحة نوعين: نوع للهجوم وآخر للدفاع، ويقدم لنا الكتاب أسماء أسلحته الهجوم والدفاع التي استعملها جليات الفلسطيني الجبار (1 صموئيل 17: 5 – 7) والتي جهز بها الملك عزيا جيشه (2 أخبار 26: 14) ثم يقدم لنا النبي ارميا أسماء الأسلحة التي استعملها جيش فرعون نحو (ارميا 46: 3 و4) وفي العهد الجديد يتكلم بولس الرسول عن أسلحة المؤمن الروحية، مستعيرًا إياها من أسلحة الجندي الروماني (افسس 6: 10 – 17).
(أ) أسلحة الهجوم:
(1) العصا – وهي سلاح الراعي، وكان يعلقها على ذراعه بخيط، ومع أنه كان يستعملها لقيادة غنمه ولتشجيعها ولعدها (مزمور 23: 4 ولاويين 27: 32) إلا أنه كان يستخدمها أحيانًا للضرب (اشعياء 10: 5 و15) ولعل داود استخدم عصاه لقتل الأسد والدب. وكان المحارب يضرب بالعصا أو يرمي عدوه بها.
(2) المقلاع – وهو سلاح عادي مصنوع من الجلد العريض في الوسط عرضًا يكفي لوضع حجر فيه، ويمسك الشخص بطرفي الجلد ويطوح المقلاع بشدة بعد وضع الحجر إلى مرماه. وكان البنيامينيون ماهرين في الرمي بالمقلاع باليد اليسرى واليمنى على السواء (قضاة 20: 16). وكان المقلاع يستعمل في الحرب (2 ملوك 3: 25) وهو الذي قتل به داود جليات.
Esau discovers what Jacob did (Genesis 27: 30 – 33).
(3) السهم والقوس – وهو سلاح يمكن أن يستعمله المشاة أو راكبو الخيل، وقد صُنعت السهام أولًا من خشب خفيف، والقوس من خشب مرن أو نحاس (مزمور 18: 34) أما الوتر فكان يصنع من شعر الخيل أو الجلد وكانت القوس تخطئ أحيانًا (مزمور 78: 57) إذ تنثني إلى الوراء فتجرح صاحبها، أو أنها تضعف فلا توصل السهم إلى غايته. وكانت السهم أحيانًا مسمومة (أيوب 6: 4) كما كان بعض المقاتلين يضعون جمرًا في طرف السهم ليشعل النار في العدو (مزمور 120: 4).
(4) الرمح (المزراق أو الرمح القصير) – وكان يُصنع من الحديد ويبلغ طوله خمسة وعشرين قدمًا أحيانًا (1 صموئيل 17: 7) وكان المحارب يحمله معه، فإذا نام يركزه عند رأسه (1 صموئيل 22: 6 و26: 7) وكان يصدر عنه بريق في الحرب (ناحوم 3: 3).
(5) السيف – وكان يُستخدم في الدفاع أو الهجوم، وكان حدّه من الحديد، وكان يتدلى من حزام في الوسط إلى جهة الشمال، وقد يكون مسنون الحدين (قضاة 3: 16) وكان يحفظ في الغمد (1 صموئيل 17: 5) وكان استلال السيف معناه البدء في الحرب (حزقيال 21: 3) ويسمّي بولس الرسول كلمة الله سيف الروح (افسس 6: 17) ويقول كاتب الرسالة على العبرانين أن كلمة الله أمضى من كل سيف ذي حدين (عبرانيين 4: 12).
(6) الفأس – وهي من أدوات الحرب وتعرف الفأس الحربية عند العامة بالبلطة (ارميا 51: 20).
(ب) أسلحة الدفاع:
(1) الترس أو المجن – والترس هو الصغير والمجن هو الترس الكبير، وكان يصنع اسم يوناني معناه الخشب، وكثيرًا ما حمله رجل خاص (1 صموئيل 17: 7 و41). وكانت أحيانًا تلون بألوان مختلفة على هيئة دوائر في النصف (ناحوم 2: 3). ويقول الكتاب أن خشب أتراس جوج سيكفي إسرائيل وقودًا سبع سنوات (حزقيال 39: 9) وكثيرًا ما كانوا يغطونه بالجلد، ويغمسون الجلد في الزيت حتى لا يتشقق (اشعياء 21: 5) وكان لدى سليمان مئتا ترس من الذهب الخالص (1 ملوك 10: 16 و17).. وكان المحارب يحمل الترس بحزام جلدي على ظهره، فإذا جاءت المعركة نزعه ليستعمله بيده اليسرى، بإدخال اليد تحت سيرين من الجلد على مؤخر الترس وقبض الأصابع على سير صغير عند حافته (اشعياء 22: 6). وكان الترس يستعمل لحماية المحارب من السهام والرماح والحجارة وقطع الفحم الملتهبة التي كانت تلقى على الجنود. ويقول الكتاب أن الله ترس المؤمن ومجنه (تكوين 15: 1 ومزمور 35: 2) كما يقول بولس الرسول أن المؤمن يطفئ بترس الإيمان جميع سهام الشرير الملتهبة.
The family of Isaac: Rebekah, Jacob & Esau (Genesis 25: 24 – 28).
(2) الخوذة – وهي لباس للرأس كان يلبسه الملوك والقواد وغيرهم من المحاربين (1 صموئيل 17: 38) وقد عمل عزيا خوذات لكل جنوده (2 أخبار 26: 14) وهكذا صنع فرعون نخو (ارميا 46: 4) وكانت الخوذة من جلد أو نحاس تتزين قمتها بريش أو بعرف. ويقول بولس الرسول أن الخلاص هو الخوذة لرأس المؤمن.
(3) الدرع – وكان يغطي الصدر والظهر والبطن، وهو يتألف من جزئين موصولين عند الجنب، وهو إحدى القطع التي جهزها عزيا لجنوده (2 أخبار 26: 14) وكان آخاب يلبسه عندما مات في معركة رامعوت جلعاد (1 ملوك 22: 34) ويقول إشعياء أن الله يلبس البر كدرع والخلاص كخوذة (59: 17) ويحث بولس الرسول على لبس درع البر (افسس 6: 14) وكان الدرع يُصنع من صفائح من نحاس أو من الجلد أو الكتان المبطن.
(4) الجرموق greaves وهو جورب من النحاس كان يلبس على الرجل، ولم يرد ذكره إلا في أسلحة جليات (1 صموئيل 17: 6) مما يظهر أن العبرانيين لم يكونوا يستعملونه، لكن الأشوريين والمصريين استعملوه.
(5) المنطقة – حزام على الوسط كان المحارب يدلى منه سيفه على جهة الشمال (1 صموئيل 18: 4).
أولاً: الأسلحة في العهد القديم:
قد يكون من الأسهل لنا أن نتناول هذا الموضوع بمعالجة الأسلحة الدفاعية ثم الأسلحة الهجومية التي ورد ذكرها في الكتاب المقدس. ونلاحظ أن كتبة الأسفار الإلهية لم يسهبوا في وصف هذه الأسلحة مثلما فعل هوميروس – مثلاً – الذي أسهب في وصف كل قطعة في سلاح أكيلا أو بتروكلوس، وترتيب لبسها.
ونجد قائمة بالأسلحة الهجومية والأسلحة الدفاعية التي كان يحملها جليات الفلسطيني الذي كان “على رأسه خوذة من نحاس، وكان لابساً درعاً حرشفياً، ووزن الدرع خمسة آلاف شاقل نحاس، وجرموقا نحاس على رجليه، ومزراق نحاس بين كتفيه” (أي مربوطاً إلى ظهره)، وقناة رمحه كنول النسَّاجين، وسنان رمحه ست مئة شاقل حديد، وحامل الترس كان يمشي أمامه “(1صم 17: 5 – 8) كما كان يحمل سيفاً موضوعاً في غمده، فاخترطه داود من غمده – بعد سقوط جليات – وقطع به رأسه (1صم 17: 51).
ثم نقرأ بعد ذلك أن عزيا الملك هيأ “لكل الجيش أتراساً ورماحاً وخوذاً ودروعاً وقسياً وحجارة مقاليع” (2أخ 26: 14) وفى قصيدة إرميا – بعد انتصار نبوخذنصر ملك بابل على فرعون نخو ملك مصر – نجده يصف أسلحة جيش فرعون بالقول: “أعدوا المجن والترس وتقدموا للحرب. أسرجوا الخيل واصعدوا أيها الفرسان، وانتصبوا بالخوذ. اصقلوا الرماح، البسوا الدروع” (إرميا 46: 3 و4) وهناك الكثير من النقوش والتماثيل الأثرية الأشورية والكلدانية والمصرية والحثية، تلقي الكثير من الضوء على الأسلحة التي جاء ذكرها في أسفار الكتاب المقدس.
ثانياً: الأسلحة في العهد الجديد:
Esau the skillful hunter, and a man of the field (Genesis 25: 27).
فى مجاز رائع يصف لنا الرسول بولس السلاح الكامل الذي يجب أن يتسلح به المؤمن في حربه الروحية، مستعيراً الصورة من أسلحة الجندي الروماني، فيذكر المنطقة والدرع والحذاء والترس والخوذة والسيف، مع ملاحظة أنه لم يذكر الرمح أو الحربة التي تعتبر من أهم قطع السلاح الهجومية (أف 6: 10 – 17) كما يتحدث أيضاً عن أسلحة النور (رو 13: 12)، و “سلاح البر لليمين ولليسار” (2كو 6: 7) وقد وصف “بولبيوس” سلاح الجندي الروماني وصفاً دقيقاً، فقال: “يتكون لباس الجندي الروماني – أول كل شيء – من ترس … ومع هذا الترس سيف … ثم من رمحين وخوذة، وجرموقين … ويكمل تسلح الغالبية بوضع صفيحة برونزية على صدورهم تمتد نحو شبر من كل ناحية، ويسمونها” حارسة القلب “، ولكن من يدفعون ضريبة تزيد عن 10. 000 دراخمة، يلبسون بدل هذه الصفيحة، دروعاً ذات زرد، علاوة على قطع السلاح المذكورة”.
ثالثاً: الأسلحة الهجومية:
(1) العصا: وهي أبسط أنواع الأسلحة التى يحملها الراعي في يده في فلسطين حتى الآن، وهى عادة غصن شجرة أو قضيب خشبي قوي أملس، يستخدم للدفاع وللهجوم. ولعل داود قتل الاسد والدب بمثل هذه العصا (1صم 17: 34 – 36) ويستخدم الراعي عصاه للاتكاء عليها وفى قيادة قطيعه. ويقول داود للرب: “عصاك وعكازك هما يعزيانني” (مز 23: 4). كما يستخدمها الراعي في إحصاء قطعانه (لا 27: 32)، وهي أداة للضرب والعقاب (مز 2: 9، إش 9: 4، 10: 5 و15، حز 7: 11).
(2) المقلاع: ويتكون المقلاع من حبل مجدول أو شريط من الجلد، عريض نوعاً في منتصفه، بحيث يكون هذا الجزء على شكل كفة يوضع فيها الحجر أو ما يراد رميه بالمقلاع. ويمسك الرامي بطرفي الحبل – بعد وضع الحجر في كفته – ويحركه بسرعة وقوة فوق رأسه، ثم يفلت أحد الطرفين، فيندفع الحجر متطوحاً بعيداً حسب قصد الرامي. ومازال الرعاة يستخدمون المقلاع لرد خروف شارد، أو لطرد الطيور – التي تأكل الحبوب – عن الحقول. ويمكن استخدام المقلاع أداة فى الحرب لقتل الأعداء، كما استخدمه داود في قتل جليات الجبار الفلسطيني (1صم 17: 49 و50) وكان “أصحاب المقاليع” (2مل 3: 25) يعتبرون من المشاة الذين يحملون أسلحة خفيفة مثل رماة السهام. وقد اشتهر البنيامينيون في استخدام المقلاع، فكانوا “يرمون الحجر بالمقلاع على الشعرة ولا يخطئون” (قض 20: 16) وكان المقلاع يُستخدم أداة حرب في الجيوش المصرية والبابلية. وينذر الرب أورشليم على لسان إرميا النبي، قائلاً: “هأنذا رامٍ من مقلاع سكان الأرض هذه المرة وأضيِّق عليهم لكي يشعروا” (إرميا 10: 18، انظر أيضاً 1صم 25: 29).
Then the Amalekites and the Canaanites who dwelt in that mountain came down and attacked the Israelites, and drove them back as far as Hormah (Numbers 14: 44 – 45).
(3) القوس والسهام: وكانت القسي والسهام من أهم أسلحة الهجوم في الحروب قديماً، وكان رماة السهام – سواء من الفرسان أو المشاة – عنصراً هاماً في الجيوش الإسرائيلية والفلسطينية والمصرية والأشورية.
(4) الرماح أو الحراب: كانت تتكون من عصا خشبية، مختلفة الأحجام، يُركَّب في نهايتها نصل أو سنان معدني من البرونز، أو من الحديد في العصور المتأخرة (1صم 17: 7). وكان وجود رمح شخص مركوزاً في الأرض أمام خيمته، يدل على موضع إقامته (1صم 26: 7) ويجمع ناحوم النبي في وصفه للجيوش الأشورية، بين لهيب السيف وبريق الرمح (نا 3: 3، انظر أيضاً إرميا 46: 4).
وكان حملة الرماح يعتبرون من الفرق ذات التسليح الثقيل. وكان المزراق أو الرمح القصير من الأسلحة الهجومية (يش 8: 18 – انظر أيضاً أيوب 41: 29، إرميا 6: 23 – والكلمة في العبرية، هي نفس الكلمة فى المواضع الثلاثة).
ولا تذكر الحربة في العهد الجديد إلا مرة واحدة عندما طعن واحد من العسكر الرب يسوع بعد أن أسلم الروح على الصليب، في “جنبه بحربة وللوقت خرج دم وماء” (يو 19: 34).
(5) السيف: وهو أكثر الأسلحة ذكراً في الأسفار المقدسة سواء للدفاع أو للهجوم. وكان نصل السيف من الحديد (1صم 13: 19 و20ذ، يؤ 3: 10) وكان السيف يعلق على الجانب الأيسر، ويستخدم في القطع والطعن. وقد صنع “إهود لنفسه سيفاً ذا حدين طوله ذراع وتقليده تحت ثيابه على فخذه اليمني” لأنه كان أعسر (قض 3: 15 و16) وكان للسيف غمد يوضع فيه (1صم 17: 51) وكان استلال السيف من غمده يعني بدء القتال (حز 21: 3 – 5)، فهو السيف الملتهب (نا 3: 3)، والبارق (حز 21: 10)، والصارم (إرميا 46: 16)، والسيف الذي يأكل الناس (2صم 18: 8، إرميا 12: 12)، ويُروى بالدماء، ويُطلى بالشحم (إش 34: 5 و6) وسيف الرب سيف بارق (تث 32: 41) ينفذ قضاء الرب (إرميا 47: 6، حز 21: 9 – 11).
ويستخدم الأنبياء السيف مجازياً للدلالة على الحرب وما يعقبها من كوارث (إرميا 50: 35 – 37، حز 21: 28).
وترد كلمة “سيف” في العهد الجديد بمعناها الحرفي (مت 26: 47 و51، أع 12: 2، عب 11: 37. 34). ويستخدمها الرسول بولس مجازياً، فيقول عن كلمة الله إنها “سيف الروح” (أف 6: 17) ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين إن “كلمة الله حيَّة وفعَّالة وأمضى من كل سيف ذي حدين” (عب 4: 12، انظر أيضاً رؤ 1: 16، 19: 15).
(6) المنجنيق: وكان يُستخدم قديماً لرمي السهام والأحجار الثقيلة (2أخ 26: 15) لاحداث ثغرة في سور مدينة محاصرة (حز 4: 2، 26: 9) أو تحطيم بواباتها (حز 21: 22) لاقتحام المدينة منها (الرجا الرجوع إلى مادة “منجنيق” في حرف “ج” من المجلد الثاني من دائرة المعارف الكتابية).
رابعاً: الأسلحة الدفاعية:
(1) الترس والمجن: وهو كل ما يُتوقي به من سلاح، وكل ما يتترس به الإنسان فهو مترسة. وفى العبرية كلمتان رئيسيتان “صِنَّة” و “مجن” تترجمان في العربية “بترس” أو “مجن” دون تفريق واضح بين ترجمة الكلمتين، رغم أنهما يردان كثيراً جنباً إلى جنب (انظر مز 35: 2، 91: 4، إرميا 46: 3، حزقيال 23: 24، 38: 4).
و “الصِنَّة” هي الترس الثقيل الذي يكاد يغطي كل الجسد، كالترس الذي كان لجليات الجبار الفلسطيني، وكان يحمله شخص آخر يمشي قدامه (1صم 17: 7 و41). أما “المجن” فكان يحمله رماة السهام. ونقرأ عن جيش آسا ملك يهوذا أنهم كانوا “يحملون الأتراس ويشدون القسي” (2أخ 14: 8).
وكانت التروس العادية تصنع قديماً من الخشب أو الأغصان المجدولة المغطاة بالجلد. ويبدو أن هذه الأتراس الخشبية هي التى يقول عنها حزقيال النبي: “ويخرج سكان مدن إسرائيل ويشعلون ويحرقون السلاح والمجان والأتراس والقسي والسهام والحراب والرماح، ويوقدون بها النار سبع سنين” (حز 39: 9).
ولكن الأتراس صنعت بعد ذلك من المعادن، بل كان لسليمان في عظمته: “مئتا ترس من ذهب مطرق… وثلاث مئة مجن من ذهب مطرق” (1مل 10: 16 و17). وكانت هذه الأتراس الذهبية لمجرد الاستعراض. “وصعد شيشق ملك مصر إلى أورشليم” – في أيام رحبعام – “وأخذ جميع أتراس الذهب، فعمل الملك رحبعام عوضاً عنها أتراس نحاس” (1مل 14: 25 – 27).
وعند الخروج للحرب، كان الترس يُحمل بحزام جلدي على الكتف، وكان للترس عادة غطاء يُكشف عنه عند بدء القتال (إش 22: 6).
وتستخدم الكلمتان مجازياً، فيقال عن الرب إنه ترس لحماية شعبه، كما قال الرب لإبراهيم: “أنا ترس لك” (تك 15: 1)، كما أنه ترس لشعبه (تث 33: 29). ويقول المرنم إن الرب “ترس هو لجميع المحتمين به” (مز 18: 30، 25: 2… ألخ)، و “ترس ومجن حقه” (مز 91: 4).
ويذكر الرسول بولس في حديثه عن سلاح الله الكامل للمؤمن: “حاملين فوق الكل ترس الإيمان الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة” (أف 6: 16). وهو يستخدم هنا الكلمة اليونانية “ثوريوس” التي تعنى الترس الرومانى الكبير.
(2) الخوذة: الخوذة لباس لوقاية الرأس من مختلف أسلحة الهجوم. وعلى جدران معبد الكرنك، رسوم للحثيين يرتدون خوذاً. وكان يلبسها قديما الملوك والعظماء من القواد والأمراء. وعندما أراد شاول الملك أن يلبس داود ثيابه “جعل على رأسه خوذة من نحاس” (1صم 17: 38). كما كان جليات الجبار الفلسطيني يلبس “على رأسه خوذة من نحاس” (1صم 17: 5). وكانت الخوذ جزءاً من تسليح جيوش فرعون مصر (إرميا 46: 4)، وكذلك جيوش أشور (حز 23: 24)، وجيوش صور من المرتزقة من فارس ولود وفوط (حز 27: 10)، وجيوش ياجوج رئيس روس ماشك وتوبال (حز 38: 5). وقد زود الملك عُزيا جيوشه بخوذ مع غيرها من الأسلحة (2أخ 26: 14).
وكانت الخوذ تصنع أولاً من الخشب أو الكتان الثقيل أو اللباد أو حتى من السمار. ثم صُنعت من النحاس كما سبق القول عن جليات وشاول الملك (1صم 17: 5 و38). ومع ذلك ظلت الجلود تستخدم في صناعة الخوذ حتى عصر السلوقيين حين استبدلت بالنحاس (1مك 6: 35). وكانت الخوذ اليونانية والرومانية المصنوعة من الجلود أو النحاس معروفة جيداً في عهد الهيرودسيين.
وتستخدم الخوذة مجازياً للدلالة على القوة والمناعة، فيقول إشعياء عن الرب، إنه “لبس البر كدرع، وخوذة الخلاص على رأسه” (إش 59: 17). كما يذكر الرسول بولس الخوذة كقطعة من سلاح الله الكامل الذي يجب أن يلبسه المؤمن في حربه مع أجناد الشر الروحية: “وخذوا خوذة الخلاص” (أف 6: 17). كما يقول للمؤمنين في تسالونيكي: “فلنصبح لابسين درع الإيمان والمحبة، وخوذة هي رجاء الخلاص” (1تس 5: 8).
(3) الدرع: الدرع هو القميص من حلقات من الحديد متشابكة، يُلبس وقاية من السلاح، فهو من الأسلحة الدفاعية. وكان يستخدم في البداية لحماية الرقبة والكتفين، ثم استطال ليحمي الصدر والبطن، بل والفخذين حتى الركبتين.
وكان جليات الفلسطيني يلبس “درعاً حرشفياً” وزنه خمسة آلاف شاقل نحاس (أى نحو مائة كيلو جرام – 1صم 17: 5). ويبدو أنه كان قميصاً من جلد تكسوه حراشف من نحاس. وقد وجد درع من هذا القبيل في أطلال “نوزي” يرجع إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد. وقد وجد داود درع شاول الملك أثقل من أن يستطيع المشي به (1صم 17: 38).
وكان أخآب الملك يلبس درعاً في المعركة الحاسمة في راموت جلعاد، ولكن سهماً أصابه بين أوصال الدرع إصابة قاتلة (1مل 22: 34). وقد هيأ عُزيا الملك لكل جيشه “أتراساً ورماحاً وخوذاً ودروعاً…” (2أخ 26: 14). كما كان نصف العاملين مع نحميا – في بناء سور أورشليم بعد العودة من السبي البابلي – “يمسكون الرماح والأتراس والقسي والدروع” (نح 4: 16) خشية الهجمات المفاجئة من جانب الأعداء.
وفى معركة بيت صور في أيام المكابيين، جمع الملك أنطيوكس جيوشاً جرارة واثنين وثلاثين فيلاً مدربة على الحرب، وجعل عند كل فيل ألف رجل لابسين الدروع المسرودة، بل وجعل على الفيلة أيضاً دروعاً (1مك 6: 29 – 42).
وتستخدم كلمة “درع” مجازياً، فيصف إشعياء الرب قائلاً “لبس البر كدرع” (إش 59: 17) كناية عن مجازاته لمبغضيه بالعدل والحق، وى. وقد اقتبس الرسول بولس هذا المعنى في تحريض المؤمنين على لبس سلاح الله الكامل فى حربهم الروحية ضد قوات الشر فيقول: “فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق، ولابسين درع البر” (أف 6: 14). ويقول للمؤمنين في تسالونيكي: “أما نحن الذين من نهار فلنصبح لابسين درع الإيمان والمحبة” (1تس 5: 8).
(4) الجرموق: الجرموق جورب من النحاس أو الجلد كان يربط حول الساق لحمايتها في وقت الحرب. ولم يذكر الجرموق في الكتاب المقدس إلا في وصف تسليح جليات الجبار الفلسطيني (1صم 17: 6).
(5) المنطقة: حزام يُشد به الوسط. وكانت تصنع عادة من جلد. وكانت المنطقة التى يلبسها الجندى في الحرب ترصع بالمسامير أو بالقطع المعدنية، وكان المحارب يعلق بها سيفه موضوعاً في غمده، ليجرده عند القتال (2صم 20: 8، 1؛ مل 2: 5، 3: 21). ويقول إشعياء عن جيش الأشوريين “ليس فيهم رازح ولا عاثر، لا ينعسون ولا ينامون ولا تنحل حزم أحقائهم” (مناطقهم) (إش 5: 27). كما يصف حزقيال جيش البابليين بالقول: “منطقين بمناطق على أحقائهم” (حز 23: 15).
وتستعمل “المنطقة” مجازياً للدلالة على الصفة الملازمة، فيقول إشعياء عن المسيا: “يكون البر منطقة متنيه، والأمانة منطقة حقويه” (إش 11: 5). ويقول الرسول للمؤمنين في أفسس: “فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق” (أف 6: 14).
. خَوزي
وربما هو اسم ارامي معناه “ابريق” وهو وكيل هيرودس انتيباس. وامرأته يوَّنا كانت بين النساء اللاتي خدمنَ يسوع في حياته ومماته (لو 8: 3 و24 10).
مَخاضة
يراد بها معبر أو المكان الذي يعبر فيه مجرى من الماء كالأردن (يش 2: 7 وقض 3: 28 و12: 5 و6) ويبوق (تك 32: 22) وارنون (اش 16: 2 معابر) والفرات (ار 51: 32 معابر) وتبلغ مخاوض الأردن الخمسين.
مخافة | خوف
خوف الله أو مخافته. وخوف الله نعمة، وهو دليل الإكرام لاسمه القدوس، وخشية إغاظته عند تعدي شريعته الطاهرة. وخوف الله يقتضي السهر والتذلل والصلاة، ويقترن بالمحبة والطاعة لأنه أشبه بخوف الابن من أبيه. إن في خوف الله تشترك أقوى الحواس وأشد العواطف: المحبة والطاعة والثقة والشكر.
مدينة خُون | كون
اسم مدينة أرامية في الجزء الشمالي من أرام صوبة وكانت هي وطبحة مدينتيّ هدد عزر على السفوح الشرقية لجبال لبنان، وقد أخذ منهما داود نحاساً كثيراً جداً، صنع منه سليمان بحر النحاس والأعمدة وآنية النحاس. ولا تَذْكَر هذه المدينة إلا في سفر أخبار الأيام الأول (8: 18)، ويُذْكَر في مكانها في سفر صموئيل الثاني (8: 8) “بيروثاي” (بيروثة)، ولا يمكن الجزم بأنهما نفس المدينة، ولكن ربما تكون هي كذلك.
يَختار | مختار | اختيار
اقترنت كلمة “مختار” ببعض الأشخاص في العهدين القديم والجديد (اش 65: 9 ومت 24: 22 ومر 13: 27 ولو 18: 7 ورو 8: 33 وكو 3: 12 وتي 1: 1). وجاء في العهد الجديد عبارات تحمل معنى الاختيار كقوله “المختارة معكم” (ابط 5: 13) و “قصد الله حسب الاختيار” (رو 9: 11) “واختيار النعمة” (رو 11: 5) و “من الله اختياركم” (1 تس 1: 4) و “دعوتكم واختياركم” (2 بط 1: 10).
وتدل هذه النصوص الكتابية وغيرها على أن الاختيار عمل من أعمال الله يقصد به أن يختار قومًا من البشر ويخلصهم لكي تكون لهم علاقة خاصة. وسر هذا الاختيار فوق إدراك البشر، أما أثره فيعرفه البشر ويدركونه، بل أن الكتاب يحثهم على التحقق منه.
العنصر السري في الاختيار إذن ينحصر في أنه عمل الله ومن ذا الذي يعرف فكر الله؟ وهو ليس من ابتدع البشر وليس في مقدورهم (رومية 9: 11) وهو يتصل بقدرة الله وحريته في أن يعمل كما ي أن يعمل كما يشاء. وكذلك يتصل الاختيار بأعمال عناية الله وبمعاملاته للبشر. انظر مثلًا يعقوب وعيسو (رومية ص 9) “لكي يثبت قصد الله حسب الاختيار”.
الاختيار في العهد القديم:
ويظهر الاختيار في العهد القديم في أن الله اختار جماعة خاصة لعرض خاص (تثنية 4: 37 و7: 6 – 8 و10: 15 و14: 2 و1 ملوك 3: 8 واش 14: 1 وحجي بأن اختياره له لا يتوقف على فضيلة فيه أو على استحقاق من جانبه إنما تمّ نعمة من الله وفضلًا (تثنية 7: 6 – 8).
وفي اختيار الله لهذا لهذا الشعب، اختار الله أفرادًا ليكونوا أداة إعلان ومنفذي إرادته وقصده فقد اختار (1) ملوكًا (ذ صم 10: 24 و12: 13 و2 صم 6: 21 و1 ملو 8: 16 و1 أخبار 28: 5 و29: 1) و(2) اختار أنبياء (1 صم 3: 4 واش 6: 8 و9 وارميا 1: 4 و5 وحز 2: 1 – 3 وعاموس 7: 15).
الاختيار في العهد الجديد:
سيشير إلى أن البشر الذين هم غاية الاختيار هم جماعة المخلصين المفدين، وهؤلاء هو شعب الله الخاص والجنس المختار الجديد الذي حل محلّ الشعب المختار في العهد القديم، ولذا فلهذا الشعب الجديد امتيازات خاصة كما أن له مسؤوليات خاصة تتعلق بمكانته في ملكوت الله وخدمته لذلك الملكوت. والامتيازات التي يمنحها الله لهذه الجماعة لا تنبعث منها ولا تنبثق من ذاتيتها بل أنها نعمة من الله يهبها، فضلًا وعلى غير استحقاق من جانب المنعم عليهم، فهي عمل إلهي خالص تتم فيه شروط وامتيازات العهد الجديد التي تحدث عنها ارميا في ص 31: 31 وما بعده، فإن خطايا هذا الشعب لا تذكر فيما بعد، وإن شريعة الله سوف ستكتب في قلوبهم.. ثم إِن من تسمّى باسم يسوع المسيح دون أن يكون له نصيب من روح المسيح وحياته فهو ليس من المسيح في شيء (رومية 8: 9 وغلاطية 6: 16) فالجماعة المختارة بحسب تعليم العهد الجديد هي إذن شرطة أفراد كل منهم شملته نعمة الله المجانية التي تظهر في حياة جديدة يمنحها الله لهذا الفرد (1 بط 1: 3 ورومية 11: 4 – 7).
مختار الله:
وقد دعي المسيح مختار الله أي أن ابن الله الأزلي القدير وابن الإنسان قد وقع عليه اختيار الله لتنفيذ قصده في الخلاص (اش 42: 1 ومت 12: 18 ولوقا 9: 35 و23: 25).
مختارة: كيرية المختارة
يكتب يوحنا الشيخ رسالته إلى “كيرية المختارة” والعبارة في اليونانية هي “إلكتا كيرية” (electa kyria) ويمكن ترجمتها إلى “السيدة المختارة” أو إلى “كيرية المختارة” أو إلى “السيدة مختارة”، فلكل من الكلمتين يمكن أن تكون اسم علم أو صفة. هذا من جهة اللفظين، أما من جهة المقصود بهما، فقد تكون سيدة معينة من أصدقاء يوحنا، أو قد تكون جماعة معينة من جماعات المؤمنين، وهو ما يرجحه الكثيرون حيث أن لغة الرسالة فيها الكثير من الغموض، ووصف الكنيسة بأنها “مختارة” أمر مألوف في العهد الجديد (انظر مثلاً رومية 33: 8، أف 4: 1، كو12: 3، 1بط1: 1 2). كما نجده يختم الرسالة بقوله: “يسلم عليك أولاد أختك المختارة” (عدد 13)، وهذا شبيه بما ختم به الرسول بطرس رسالته الأولى: “تسلم عليكم التي في بابل المختارة معكم” (1بط 5: 13) ولم يكن من الأمور النادرة أن يُنظر إلى جماعة شعب الله في صورة امرأة وأولادها (غل 25: 4، رؤ12).
ثم إن استخدام ضمير المخاطب للمفرد في الأعداد الخمسة الأولى (2يو15) ثم استخدام ضمير المخاطب للجماعة في الأعداد السبعة التالية (2يو612)، والعودة إلى ضمير المخاطب للمفرد في العدد الأخير (13) يبدو أنه يرجح أن الرسالة لجماعة، ويكون العدد الأخير يحمل نفس الصورة لكنيسة أخرى في المكان الذي يقيم فيه الكاتب وقت كتابة الرسالة إلى الكنيسة الأولى المرسل لها الرسالة.
والعبارات الواردة في العددين الخامس والسادس من الرسالة شبيهة بالكلمات الواردة في رسالته الأولى (1يو 3: 2 10)، وهي شبيهة أيضاً بما قاله الرب يسوع لتلاميذه في إنجيل يوحنا (34: 13 و35). وهي كلمات يرجح أنها توجه إلى الكنيسة عموماً أكثر مما إلى شخص أو عائلة.
خيط
كلمة مستخدمة في العهد القديم عن ما “يربط”، وعن “ما ينسج”. ولا تدل في أية صيغة من الصيغتين على سُمْك أو قوة معينة (انظر قضاة 15: 13 و2 صموئيل 8: 2 و17: 13 ويشوع 2: 15). وفي العهد الجديد وردت كلمة حبل عن “ما يصنع من سمار أو حلفاء” وقد تعني الحبل الذي تربط به السفينة (أعمال 27: 32). أو الحبال الصغيرة التي تصلح كسوط (يوحنا 2: 15). وكانت الحبال عادة تصنع من الكتان، أو القنب أو الليف، لكنّ المصريين، وكذلك أيضًا العبرانيون كانوا يصنعون الحبال من سيور جلدية (انظر خيط ورباط وسفن وقوارب).
وكان وضع الحبال على الأعناق علامة من علامات الشدة والضيق (1 ملوك 20: 31). وربما يشار بحبال الخطيئة (أمثال 5: 22) إلى قوة العادة. كما يظن أن “حبل الفضة” (جامعة 12: 6) إنما يشير إلى النخاع الشوكي لتشابههما في الشكل واللون. وكذلك يقصد بالحبال في (مزمور 16: 6) الحبل المستخدم لمسح أو لقياس الأراضي، وت الأراضي، وتخطيط تخومها، فالمراد ليس الحبل نفسه، بل الميراث الذي قيس به (انظر عاموس 7: 17 وزكريا 2: 1 و2 وحزقيال 47: 3).
بغير خياطة
وصف القميص الذي كان يرتديه الرب يسوع عندما ذهب إلى الصليب، بأنه كان “بغير خياطة منسوجاً كله من فوق” (يو23: 19)، أي أنه كان منسوجاً قطعة واحدة، ولذلك لم يشأ العسكر أن يشقوه، بل اقترعوا عليه “ليتم الكتاب القائل اقتسموا ثيابي بينهم وعلى لباسي ألقوا قرعة” (يو24: 19)، وهي النبوة الواردة في المزمور (18: 22).
الخوان
ما يؤكَل عليه الطعام، أي مائدة الطعام. وقد طلبت المرأة الشونمية من زوجها أن يعمل لأليشع رجل الله، عليه على الحائط صغيرة ويضع له سريراً وخواناً وكرسياً ومنارة حتى إذا جاء يميل إليها “(2مل8: 4 10).
الخيل | الخيول | الفُرس | الحصان | الأحصنة | الجياد
← اللغة الإنجليزية: Horse – اللغة العبرية: סוס הבית – اللغة اليونانية: Άλογο – اللغة الأمهرية: ፈረስ – اللغة السريانية: ܣܘܣܝܐ.
دجن الفرس منذ القدم في مكان ما شرقي بحر قزوين على يد الهنود الأوروبيين الرّحل، ثم استورده الكاسيون والحثيون وأدخلوه آسيا الغربية. وقد استخدم لأغراض حربية منذ حوالي 1900 ق. م. كما عرفت المركبات التي يجرها الخيل في آسيا الصغرى وسوريا منذ حوالي 1800 ق. م. وفد ذكر راكب الفرس في زمن يعقوب (تك 49: 17). ولم تكن المنطقة الجبلية من فلسطين صالحة لاستخدام الفرس. فكان استخدامه قديمًا بصور خاصة في السهل الساحلي ومرج ابن عامر (سهل يزرعيل). وقد أورده الهكسوس إلى مصر (تك 47: 17 وخر 9: 3). فكان جيش فرعون عند خروج العبرانيين من مصر مجهزًا بالخيل والمركبات (خر 14: 9 و15: 19). وكذلك كان جيش الكنعانيين بقيادة سيسرا (قض 4: 15 و5: 22). ومع أن الشريعة حرّمت على الملك المنتخب الإكثار من الخيل (تث 17: 16)، فإن سليمان استوردها من مصر بكثرة، وكان يصدّرها إلى ملوك الحثيين والسوريين (1 مل 10: 28 و29 و2 أخبار 1: 16 و17 و9: 28). ثم شاع استعمالها في كلا المملكتين، إسرائيل ويهوذا (2 مل 9: 18 واش 2: 7) حتى أنها استخدمت في الحروب (1 مل 22: 4 و2 مل 3: 7 و9: 33) وقد ركب الملوك الخيل (اس 6: 8). واعتبر ركوبهم الحمير تواضعًا منهم (زك 9: 9). وجاء ذلك مطابقًا للعادات البسيطة التي اتبعها الآباء والقضاة والملوك العبرانيون القدماء (تك 22: 3 وقض 10: 4 و12: 14). وقد أركب سليمان على بغلة أبيه وأنزل به إلى حيث مسح ملكًا (1 مل 1: 33). وكان القدماء يكرسون خيلًا لإله الشمس لتجر مركبته 2 مل 23: 11. وقد كثر ذكر الخيل في نبؤات زكريا (زك 1: 8 و6: 2 و3 و10: 5 و14: 20). وفي سفر الرؤيا (رؤ 6: 2 و4 و5 و8 و19: 11 إلخ). وألوان الخيل في رؤ ص 6 ترمز إلى عقوبات إلهية، الأبيض إلى الفتح والأحمر إلى القتل والأسود إلى الجوع والأخضر إلى الموت.
Ancient Egyptian Chariot.
وتُذكَر الخيل كثيرًا في الكتاب المقدس، ولها بضعة أسماء في العبرية كما في العربية (فهي في العبرية: خيل جياد أفراس حُصُن، وغيرها).
(1) مقدمة: كانت الخيل آخر الحيوانات التي استأنسها الإنسان للجر والركوب، ولكنها سرعان ما انتشرت أولًا في كل ربوع أسيا وأوربا وشمالي أفريقية. ولعل موطنها الأصلي كان أواسط أسيا. ثم انتقلت بعد ذلك إلى الأمريكتين، وإلى اوستراليا حيث كثرت واستوطن بعضها البراري وعادت خيلًا برية مرة أخرى.
وأصبحت الخيل أهم حيوانات الركوب والحمل والجر، وأصبحت رفيقًا لصيقًا بالإنسان، قد لا يفوقها في ذلك سوى الكلب. وكانت تعتبر، مثل الحمار، من الحيوانات النجسة التي تنهي الشريعة عن أكلها لأنها لا تجتر ولا تشق ظلفًا (لا 3: 11، تث6: 14).
(2) تاريخ استخدامها: ظلت الثيران عصورًا طويلة تستخدم في جر العربات ذات العجلات، ولكن بانحسار مساحات السهول الخصبة، احتاج الإنسان إلى وسيلة أسرع، ووجد المزارعون الحل في صيد هذه الخيول البرية واستئناسها. ولا يعلم على وجه اليقين متى وكيف تم ذلك، والأرجح أن ذلك حدث في الألف الثالثة قبل الميلاد، وإن لم يكن ثمة دليل قاطع على أن ذلك تم قبل سنة 2. 000 ق. م. رغم أن الاسم الدال على الحصان قد ورد في أمثال السومريين منذ عام 2. 100 ق. م.. ولكنهم لم يكونوا قد استخدموه. وأول ذكر صريح للحصان يرجع إلى نحو 1800 ق. م. ولكن لم يكن له أهمية كبيرة وقتئذ إذ لم يرد ذكره في قوانين حمورابي (نحو 1750 ق. م.). ولكن في خلال نصف القرن التالي، انتشر بسرعة في الجنوب الغربي من أسيا وفي فلسطين ومصر التي وصلها في عصر الهكسوس قبيل وصول يوسف إليها. ثم وصلت بعد ذلك إلى طروادة واستخدمت لجر العجلات الحربية، فأضاف ذلك بعدًا جديدًا لقوة الجيوش.
(3) الخيل في الكتاب المقدس: أول مرة ورد فيها ذكر الخيل كان بمناسبة شراء المصريين القمح من يوسف “بالخيل وبمواشي الغنم…” (تك17: 47). وفي ذلك الوقت ولبضعة قرون تالية، لم تكن الخيل تستخدم إلا في جر العربات، وأول دليل على استخدامها في الركوب يرجع إلى الأسرة الثامنة عشرة (نحو1580 ق. م.). ونقرأ في سفر الملوك الأول أن بنهدد ملك أرام نجا “على فرس من الفرسان” (1مل20: 20). ولكن جاء في سفر التكوين أنه صعد مع يوسف عندما ذهب ليدفن أباه في أرض كنعان “مركبات وفرسان” (تك9: 50)، كما أن المصريين سعوا وراء بني إسرائيل عند خروجهم من مصر ومعهم “جميع خيل مركبات فرعون وفرسانه” (خر9: 14). ومن غير المحتمل أن يكون الإسرائليون قد أمتلكوا خيلًا وهم في أرض جاسان في مصر، أو أنه كانت معهم خيل في برية سيناء، ولكن يبدو أن الكنعانيين كانت لديهم خيل لجر المركبات الحديد التي كانت لهم (يش 16: 17). ونعلم أنهم كانوا بعد ذلك يستوردون الخيل من مصر، فكان رجال الملك سليمان يجلبونها من مصر ويبيعونها لملوك الحثيين وملوك أرام، وذلك لأن سليمان كان يتحكم في الطرق الممتدة بمحازاة سواحل البحر المتوسط عبر أرض فلسطين، وكان ثمن الفرس مائة وخمسين شاقلًا (1مل28: 10).
Jacob sent Judah before him to Joseph (Genesis 46: 28).
وقد أمر الرب بني إسرائيل في حالة اختيارهم ملكًا لهم “ألا يكثر له الخيل” (تث16: 17)، ويبدو أن شاول أول ملوكهم قد راعى ذلك، كما راعاه داود في أوائل حكمه، ولكننا نعلم أن داود عندما ضرب هدد عزر ملك صوبة، “عرقب.. جميع خيل المركبات وأبقى منها مائة مركبة” (2صم 4: 8)، وقد كان ذلك وبالًا على داود، فعندما تآمر عليه أبشالوم ابنه “اتخذ مركبة وخيلًا” (2صم1: 15)، وبعد ذلك بنحو اثنتي عشرة سنة وداود على فراش الموت أراد ابنه أدونيا أن يستولى على العرش فأعد “لنفسه عجلات وفرسانًا” (1مل 5: 1).
أما سليمان فقد تجاهل هذه الوصية تمامًا، فقد كان له “أربعة آلاف مذود خيل ومركبات أثنى عشر ألف فارس” (2أخ 25: 9)، كما كانت تقدم له الخيل من الممالك المجاورة هدية التماسًا لرضاه (1مل 25: 10). وأصبحت المركبات والخيل أمرًا أساسيًا في جيوش يهوذا وإسرائيل في حروبهم مع الأمم المجاورة. وجاء في سفر الملوك الثاني (11: 23)، أن يوشيا في إصلاحاته الشاملة “أباد الخيل التي أعطاها ملوك يهوذا للشمس”.
(4) الخيل مجازيًا: تذكر الخيل كثيرًا بصورة مجازية في نبوة زكريا في إشارة إلى الإمبراطوريات الأممية، وفي سفر الرؤيا (انظر زك 8: 1 و9، 2: 6 و8، 10: 9، 4: 10 و5، رؤ3: 6 8، 6: 9 و7 و17، 11: 19 و14 و18). كما أن أيليا النبي صعد إلى السماء “في مركبة من نار وخيل من نار” (2مل11: 2) وفي المزامير (7: 20، 17: 33، 6: 76) يذكر أن الخيل لا تجدي شيئًا أمام قوة الله.
ويقول يعقوب الرسول “هو ذا الخيل نضع اللحم في أفواهها كي تطاوعنا فندير جسمها كله… هكذا اللسان (يع 3: 3 5، انظر أيضًا مز 9: 32).
ونجد في سفر أيوب وصفًا رائعًا للفرس لإظهار عظمة الله في خليقته وقوته التي لا تُبارى (أيوب 19: 39 25).
أخيلة
أخيلة جمع خيال، والخيال هو الطيف أو ما تشبه لك في اليقظة أو في المنام، وصورة الشيء في المرآة. والخيال أيضاً كساء أسود ينصب على عود فيخيل للبهائم والطير فتظنه أنساناً فلا تقترب. فالأخيلة هي الأشباح في عالم الأموات (انظر أي 5: 26، مز10: 88، أم 18: 2، 18: 9، 6: 21، إش 9: 14، 14: 26 و19).
الخيْمَة | الخِيام
الخيمة هي مسكن مؤقت يمكن نقله بسهولة من مكان إلى مكان، والكلمة الدالة على خيمة في العبرية هي “أوهل” مشتقة من الفعل “أهل” بمعنى ظهر لأن الخيمة في وسط الأراضي الجرداء في الصحراء السورية وشبه الجزيرة العربية، كانت تبدو بسطوحها حالكة السواد المصنوعة من شعر المعزى (انظر نش 5: 1) من بعيد ظاهرة للعيان. كما كانت تسمى أيضًا “قبة” بالنسبة لشكلها (عدد 8: 25). ولم تتغير الأوضاع في تلك المناطق كثيرًا عما كانت عليه في أيام إبراهيم وإسحق ويعقوب الذين كانوا يسكنون في خيام ينتقلون بها من مكان إلى مكان. ويصف إرميا النبي هذا الوضع بالقول: “قوموا اصعدوا إلى أمة مطمئنة ساكنة آمنة يقول الرب لا مصاريع ولا عوارض لها، تسكن وحدها” (إرميا 1: 49).
Heber’s Tent – Judges 4: 11.
ولاشك في أن صناعة “الخيام” تعود إلى أقدم العصور. ولم تختلف الخيام التي سكن فيها إبراهيم والآباء، كثيرًا في شكلها أو مادتها عن الخيام التي يستخدمها البدو الآن في تلك المناطق. وقد قيل عن يعقوب إنه “كان أنسانًا هادئًا يسكن الخيام” (تك27: 25). فحياة الرعي والزراعة كانت ترتبط بسكنى الخيام (انظر تك12: 26 و25).
وكان بنو رأوبين وبنو جاد أصحاب مواش كثيرة وافرة جدًا وقد أعطاه موسى المراعي الواقعة في أرض جلعاد (عدد 1: 32 4 و28 33) فسكنوا فيها في خيام (يش 4: 22 8). ويبدو أن الكثيرين من بني إسرائيل احتفظوا بذكرياتهم البدوية في سكنى الخيام، فكانت عبارة “يذهب إلى خيمته” تعني الذهاب إلى بيته (انظر قض 8: 20، 1مل16: 12).
وبعد أن استقر بنو إسرائيل في أرض كنعان، كان من عادتهم عند جمع المحاصيل أن يقيموا في خيام في أطراف مزارعهم ليكونوا قريبين من حصيدهم. وكانوا يختمون ذلك بالسكنى في مظال أي خيام من “سعف النخل وأغصان أشجار غبياء وصفصاف الوادي” لمدة سبعة أيام (لا 39: 23 43).
وكانت الخيمة عند البدو من الساميين تصنع بخياطة شقق منسوجة من شعر المعزى أو من الحصر المصنوعة من البردي أو الحلفاء، وكانت هذه الشقق ترفع على أعمدة تقف مثبتة بواسطة أطناب أو حبال من شعر المعزى أو من بعض الألياف النباتية (انظر إش 2: 54، إرميا 20: 10). وكانت هذه الحبال تشد إلى أوتاد خشبية تدق في الأرض بواسطة ميتدة أو مطرقة من الخشب (قض 21: 4، 26: 5).
Laban leaves Jacob (Genesis 31: 55).
وكانت بعض الخيام مستديرة على شكل مخروط دائري تستند على عمود واحد في مركزها، ولكن غالبية الخيام الكبيرة كانت مستطيلة الشكل تنتصب فوق بضعة أعمدة تبلغ في ارتفاعها نحو ستة أو سبعة أقدام، وتنظم هذه الأعمدة في صفوف، كل صف من ثلاثة أعمدة، وكانت الأعمدة الوسطى أكثر ارتفاعًا عن الأعمدة الجانبية، فكان سطح الخيمة يبدو مائلًا إلى الجانبين على شكل منشور ثلاثي.. وكانت الخيمة تقسم من الداخل بواسطة ستائر. وكان القسم الأمامي يترك مفتوحًا لاستقبال الضيوف. أما القسم الخلفي فيغلق ليكون مسكنًا للنساء وللحياة العائلية (تك9: 18).
وكان القادرون يقيمون خيامًا منفصلة تخصص للنساء (انظر تك 67: 24، 33: 31). وفي العصور الأولى كانت العادة أيضًا أن تقام خيمة خاصة للعروسين (مز 5: 19، يوئيل 16: 2، انظر أيضًا 2صم 22: 16). وما زالت هذه العادة موجودة عند البدو حتى الآن.
ويبدو أن الخيمة أو “القبة” التي كانت بها المرأة المديانية “كزبي بنت صور”، التي قتلها فيها فينحاس بن ألعازار بن هرون الكاهن، كانت خيمة لمعبود مدياني (عدد 6: 26 15).
وكانت أثاثات الخيمة قليلة، فكان هناك موقد يتكون من بضعة أحجار عند مدخل الخيمة، أو مجرد حفرة في الأرض.
وكانت الأمتعة الثمينة تدفن في الأرضية الترابية، كما فعل عاخان بن كرمي (يش 20: 7 25). وكان الفراش بسيطًا عبارة عن “حصر” من الحلفاء أو أوصال الأشجار يمكن أن تطوى في خلال النهار وتفرش عند النوم. وكانت مائدة الطعام عبارة عن قطعة من الجلد تفرش على الأرض (مز5: 23، إش 5: 21). كما كانت بالخيمة زكائب من جلود الماعز وأواني فخارية وأباريق للمياه، وحجرا رحي لطحن الحبوب، ومصابيح فخارية وبعض الآلات البدائية الأخرى.
وكانوا عادة يختارون بعض الأشجار الظليلة لإقامة الخيمة في ظلالها، كما نصب إبراهيم خيمته عند بلوطات ممرا (تك 17: 13 و18) وبخاصة إذا كان ذلك بالقرب من مورد للماء (تك25: 21 34، 14: 26 و15 و32 و33).
Isaac blesses Jacob (Genesis 27: 21 – 29).
وكان الرسول بولس وكذلك أكيلا وبريسكلا من صانعي الخيام (أع 3: 18).
وكثيرًا ما تستخدم الخيمة مجازيًا، فلسهولة هدمها تاركة ساكينها في العراء في وسط الصحراء، يستخدمها الرسول بولس لتصوير سرعة فناء أجسادنا المائتة، تمهيدًا لسكنانا في أجساد القيامة، واصفًا لها بأنها بيت خيمتنا الأرضي (2كو1: 5).
ويقول إشعياء النبي في نبوته عن خراب بابل: “لا يخيم هناك إعرابي ولا يربض هناك رعاة” (إش 20: 13)، بالمقابلة مع أورشليم التي يشبهها بخيمة “لا تنقل ولا تقلع أوتادها إلى الأبد” (إش 20: 33)، وأن مكان خيمتها سيتسع وتبسط شقق مساكنها (إش2: 54). ويقول إرميا في رثاء يهوذا: “خيمتي خربت وكل أطنابي قطعت. بني خرجوا عني وليسوا. ليس من يبسط بعد خيمتي ويقيم شققي” (إرميا 20: 10). ويتكلم كاتب الرسالة إلى العبرانيين عن: “المسكن (الخيمة) الحقيقي الذي نصبه الرب لا إنسان” (عب 20: 8، انظر رؤ5: 15).
خَيَّام | صانِع الخيام
لا تذكر هذه الحرفة في الكتاب المقدس بهذا اللفظ إلا في وصف الرسول بولس وأكيلا وبريسكلا. فعندما وصل إلى كورنثوس قادمًا من أثينا، أقام عند أكيلا وبريسكلا لكونه من صناعتهما، وكان يعمل معها “لأنهما كانا في صناعتهما خيَّامين” (أع 2: 18 و3). وكان الآباء اليهود يحرصون على تعليم أبنائهم حرفة، كانت في العادة هي الحرفة المتوارثة في العائلة، ولذلك تعلَّم يسوع النجارة، كما تعلَّم بولس صناعة الخيام. وكانت كيليكية الموطن الأصلي للرسول بولس تشتهر بجودة أنسجتها من شعر المعزى حيث كانت تصدر منها إلى مختلف الجهات. ولعل عمل الرسول بولس فيها، كان قاصرًا على تفصيل هذه الأنسجة من شعر المعزى وخياطتها وعمل العراوي وتثبيت الحبال.
خيْمَة الاجتماع | خيمة الشهادة | مسكن الشهادة
الخَيْمَة:
الخيمة الاصلية التي كان يجتمع فيها الرب بشعبه (خر 33: 7 – 10)، ولذلك سميت “خيمة الاجتماع” وأطلقت (الخيمة) 9 على بيت آخر وضع فيه داود التابوت (2 صم 6: 17 و1 أخبار 16: 1).
أما الخيمة الأصلية فهي التي أمر الله موسى أن يقيمها في البرية لكي يسكن الله فيها بين شعبه (خر 25: 8 و9). ولذلك سميت “المسكن”. وكانت تودع فيها ألواح الناموس والشهادة ولذلك سميت “مسكن الشهادة” (خر 38: 21). وقد أطلق عليها اسم علم “بيت الرب”. وقد صنعت الخيمة من المواد الأولية التي وجدت في النواحي المجاورة، شجر السنط الذي كان ينبت في البرية، وجلود الحيوانات، والذهب، والفضة، والنحاس وأدوات الزينة. وهذه كلها تبرع بها الشعب في سخاء وحماس (خر 35: 21 – 29). ولم يكن هذا النفاق السخي ضياعًا، فإن المعادن الثمينة في مثل هذا المسكن المؤقت المتنقل، كان مقدَّرًا لها أن تنتقل فيما بعد إلى بناء فخم دائم. وكذلك الآنية المقدسة كانت ستنتقل إلى مسكن جديد مستديم.
وانقسمت الخيمة إلى ثلاثة أجزاء: المسكن، والخيمة، والغطاء.
أما “المسكن” فصنع من البوص المبروم المطرز بالكاروبيم، ومن ألواح للمقدس وقدس الأقداس.
أما الخيمة فكانت فوق المسكن، وكانت مصنوعة من شعر المعزى.
The Tabernacle.
أما الغطاء فكان من جلود الكباش والتيوس، وكان يوضع فوق الخيمة والمسكن لوقايتهما من الشمس والمطر.
وأحاط بدار المسكن شقق من بوص مبروم علوها نحو ثمانية أقدام معلقة بعواميد نحاس يبعد الواحد عن الآخر نحوًا معامل ثمانية أقدام بواسطة عُرى من الفضة. وكان على كل طرف عشرة. فكان طول المساحة مائة وخمسين قدمًا، وعرضها خمسة وسبعين قدمًا. وكان عرض المدخل إلى شرقي المسكن ثلاثين قدمًا ومغطى بشقة من بوص حبال وأوتاد من نحاس وقواعدها من نحاس، وكانت الأعمدة وقضبانها من فضة.
وبقرب الطرف الغربي من الدار كان طول الخيمة ذلتها 45 قدمًا وعلوها 15 قدمًا.. وكان جانباها ومؤخرها مغلفة بألواح، وكان مقدمها مفتوحًا. وفي كل جانب عشرون لوحًا. وفي المؤخر ثمانية ألواح. ولكل لوح طرفان من الفضة يدخلان في قاعدتين من فضة. وكانت الألواح موصولة بعوارض من خشب السنط مصفحة بذهب، تنفذ بحلقات من ذهب.
وكان مدخل الخيمة بشقة مزخرفة معلقة على خمسة عواميد. وانقسم داخلها إلى المقدس، وقدس الأقداس، يفصل بينها شقة مطرزة من أعلى المسكن إلى أسفله، وسِمّيت هذه الشقة بالحجاب.
For the tabernacle he made boards of acacia wood, standing upright (Exodus 36: 20 – 34).
وكان في دار المسكن:
(1) مذبح المحرقة بقرب مركز الدار.
(2) المرحضة من نحاس (خر 30: 18) وسميت أيضًا بحر النحاس (1 مل 7: 23) وكانت بين المذبح والخيمة. وكان فيها ماء لغسل أيدي وأرجل الكهنة عند دخولهم إلى المقدس.
أما أثاث الخيمة فكان:
(1) منارة الذهب إلى اليسار.
(2) مائدة خبز الوجوه قبالة المنارة.
(3) مذبح البخور بين المنارة ومائدة خبز الوجوه وأمام التابوت.
(4) تابوت العهد.
وقد اشتغل الصناع تسعة أشهر في إقامة الخيمة، وكان من ضمن هؤلاء الصناع بصلئيل واهولياب وغيرهم ممن أعطاهم الله روح حكمة وبصيرة نيّرة ومهارة فائقة لإتمام هذا العمل (خر 31: 2 – 6). ودشنت بعد الانتهاء منها بشعائر دينية (خر ص 40 وعب 9: 21). وكانت تنصب مدة السفر في البرية في وسط المحلة تحيط بها خيام الكهنة واللاويين، ثم خيام بقية الأسباط حواليهم في أربعة أقسام (عدد 2: 2 – 34). وكان صنع الخيمة دقيقًا بحيث يمكن فكها وحملها ونصبها في مكان آخر. وكان موضع كل محلة، والنقل إلى محلة أخرى، وترتيب الارتحال، مرسومة من الله. وفي اليوم الذي أكملت فيه الخيمة أظهر الله ذاته في سحابة غطتها وملأتها. وبعد ذلك تحولت السحابة إلى عمود كان مام الشعب في رحلاتهم. فكان إذا وقف العمود فوق الخيمة، ينزل الشعب. وإذا انتقل، نقلت الخيمة وتبع الجمهور السحابة. وفي الليل استحالت السحابة عامود نار سائر أمامهم (خر 40: 35 – 38 وعدد 9: 15 – 23).
Making the ark of the covenant and table for it (Exodus 37: 1 – 9).
وعندما انتهت رحلات الشعب استقرت الخيمة في الجلجال (يش 4: 19). وبقيت هناك حتى تم افتتاح البلاد ثم نقلت إلى شيلوه مدة ثلاث مائة أو أربع مائة سنة. ومن هناك نقلت إلى نوب (1 صم 21: 1 – 9) وفي ملك داود نقلت إلى جبعون (1 أخبار 21: 29). وكانت هناك في مستهل حكم سليمان (2 أخبار 1: 3 – 13). وبعد إتمام بناء الهيكل نقلت مع كل أثاثها وآنيتها، وقد بنى الهيكل على نمط الخيمة، وإن يكن ضعفها في حجمها طولًا وعرضًا وعلوًا.
وقد كانت خيمة الاجتماع مركز عبادة شعب الله قبل بناء الهيكل. ثم أن نظامها وترتيب العبادة فيها علما الشعب أشياء كثيرة عن قداسة الله وحلوله بينهم وحضوره في وسطهم، كما وعلّمت أشياء عن الذبائح والكفارة. وتعلّم الشعب من تقديم البخور قدسية الاقتراب إلى الله في الصلاة. وتعتبر الخيمة أو المسكن في العهد الجديد رمزًا للمسيح (عب 9: 11) ثم يتحدث سفر الرؤيا عن سكن الله مع الناس وإنه سيسكن معهم. وفيه إشارة إلى دوام الشركة الروحية والتمتع الأبدي بالحضرة القدسية (رؤيا 21: 3).
أما “خيمة ملكوم” (عا 5: 26) فيرجح أنها كانت صغيرة تُحمل على الأكتاف، ومناسبة لوضع التمثال فيها.
النساء المجتمعات في باب خيمة الاجتماع وقت عالي الكاهن
Tabernacle Women نهاية ابنيّ الكاهن عالي حفني وفينحاس الرديئة لم تأت من فراغ، فمن بين الأعمال المشينة التي قاموا بها هي “بِأَنَّهُمْ كَانُوا يُضَاجِعُونَ النِّسَاءَ الْمُجْتَمِعَاتِ فِي بَابِ خَيْمَةِ الاجْتِمَاعِ” (سفر صموئيل الأول 2: 22 – 25). فمن جانب هناك خطأ عليهما بالطبع، وتلك النسوة أيضًا شارَكا في الخطأ، بالرغم من أنهنَّ مرتبطات إلى حدٍ ما بخدمة خيمة الاجتماع!
قِيدار | خيام قيدار
اسم سامي معناه “قدير” أو “أسود” أو “داكن البشرة” وهو اسم الابن الثاني من أبناء اسماعيل بن إبراهيم (تك 25: 13؛ 1 أخ 29: 1). وهو أب لأشهر قبائل العرب وتسمى بلادهم أيضًا قيدار (اش 21: 16 وار 49: 28). وكانوا في الغالب رعاة متبدين يعيشون في خيام سود وهم البدو (خيام قيدار tents of Kedar أو tents of Qedar نش 1: 5) إلا أن بعضهم كانوا متمدنين يسكون المدن وهم الحضر (اش 42: 11). وكانوا أصحاب مواشي كثيرة وهم بارعون في الحرب ولاسيما في الرمي بالقوس وكان يحاربهم الآشوريون. وقد نكّل بهم نبوخذنصر حين زحف بعسكره إلى بلادهم وخربها.
وقد وجد في تلّ المسخوطة في وادي طوميلات في مصر وعاء من فضة نقش عليه بالحروف الأرامية الاسم “قينو ابن جشم ملك قيدار”. ومن هنا نعلم أن جشم المذكور في نح 2: 19 و106 و2. كان ملك قيدار وأن سلطته كانت تمتّد من شرقي الأردن إلى حدود مصر.
وقيدار هو جد القبائل العربية التي يطلق عليها هذا الاسم في النبوات الكتابية من عصر سليمان إلى زمن السبي البابلي. وفي نبوة إشعياء عن بلاد العرب (إش 13: 21 – 17) تذكر “قيدار” مع الدادنيين وتيماء “وكيف أنه في مدة سنة… يفني كل مجد قيدار (إش 16: 21 – وهو ما يدل على ما بلغته من عظمة في ذلك الوقت – انظر أيضاً حز 21: 27) و” بقية عدد قسى أبطال بني قيدار (وهو ما يدل على قوتها الحربية) تقل لأن الرب إله إسرائيل قد تكلم “(عد 17).
ويذكر إرميا النبي قيدار مع ممالك حاصور التي ضربها نبوخذراصر ملك بابل (إرميا 28: 49) ومع أنه لا توجد مراجع تاريخية عن زحف نبوخذراصر ملك بابل على قيدار، إلا أن أشوربانييال ملك أشور يذكر انتصاره على قيدار، الذي لابد أنه حدث حوالي عام 650 ق. م. أي قبل الزحف البابلي بنصف قرن وقد اكتشف – في تل المسخوطة في وادي طميلات في شرقي دلتا النيل – إناء من الفضة مقدم للالهة العربية “هانيلات” منقوش عليه اسم قاين بن جشم ملك قيدار “، وثابت أنه يرجع إلى القرن الخامس قبل الميلاد، مما يحتمل معه أن يكون” جشم “هذا هو” جشم العربي “عدو نحميا (نح 19: 2، 1: 6 – 6).
والصورة التي يقدمها لنا الكتاب المقدس عن قيدار هي صورة شعب من البدو من نسل إسماعيل لم يكونوا يعبدون الرب (يهوه)، وى. ولكن إشعياء يتنبأ بأنهم سيكونون من الشعوب التي ستستمتع في المستقبل بملكوت الله (إش 11: 42، 60: 7).
وقد جعلتهم البيئة الصحراوية أن يقتصر عملهم على رعاية الماشية ونقل المتاجر، كما أنهم كانوا ينتقلون من مكان إلى مكان سعياً وراء مصادر المياه المحدود، فلم تكن لهم بيوت ثابته، بل كانوا يعيشون في خيام ينقلونها معهم (انظر مز 5: 120 نش 5: 1) ولهذا السبب لم يعثر الأثريون على أطلال موقع باسم “قيدار” وكل ما نستطيع أن نستخلصه هو أنهم عاشوا في الصحراء السورية التي تمتد شرقي إسرائيل وإلى حد ما إلى جنوبها، في القسم الجنوبي مما يسمى الآن “شرق الأردن”، ويبدو أنهم ذابوا في القبائل العربية التي كانت تحيط بهم.
خِيوس
(أع 20: 15) جزيرة في الأرخبيل اليوناني، على تخوم آسيا الصغرى، بين لسبوس وساموس. يبلغ طولها نحو 32 ميلًا وعرضها 15 ميلًا تينها وعنبها ورخامها. وقد مر الرسول بولس بها أثناء سفره من ميتيليني إلى ساموس.
المحتويات
-
نهر خَابُور
-
خَابُور نهر جوزان
-
خَالَبُ بْنُ بَعْنَةَ النَّطُوفَاتِيُّ
-
خَالِدُ بْنُ بَعْنَةَ النَّطُوفَاتِيُّ
-
خبَّ
-
خبث
-
سفرا أخبار الأيام
-
خَبَز | الخُبز | الخبّاز
-
خبز الحياة
-
خبز مَلَّة
-
خِبْز الوجوه
-
ختل | مخاتل
-
خَتْم | خاتم
-
ختم | خواتم
-
الخِتان
-
خثر
-
.خثي
-
خد | مَخَدَّات
-
أخدود | أخاديد
-
الخِدر | خدور | أخدار
-
خَدَع
-
مُخْدَع | المَخدع | المِخدَع | المخادِع
-
مخادع الجنوب
-
مخادع تصاوير
-
خادِم | خُدّام
-
خادمة الكنيسة
-
يَخدم موائد
-
خدمة العين
-
خذل
-
خربش
-
الخراعيب | خرعب | خرعوب | خرعوبة
-
خروج بني إسرائيل من أرض مصر
-
سفر الخروج
-
خَرَاج
-
خارجي | خارجية
-
خَرْدل
-
خرز | خرَّز
-
خراطة
-
اختراعات
-
خرافة
-
الخروف | الخِراف
-
الخرنوب | الخروب
-
الخَزَف | أواني خزفية
-
أرض الخزف
-
الخِزامَة | الخزائم
-
خَزائم الأنف
-
خَزانة | خزائن
-
بَيت خزائن
-
خَزائن الخمر
-
خازن
-
خزانة الهيكل
-
.خزي
-
الخشب | الأخشاب
-
خَشَبَة الصليب
-
خَشَب جُفْر
-
الخشخش
-
خشف
-
خاصرة
-
الخُصَاصة
-
خصل | خصلة شعر
-
.الخَصيّ | الخصيان
-
.الخصيّ الحبشي | الوزير الحبشي
-
رئيس الخصيان
-
الخَطيئة | الخطية
-
خطية لا تُغْفَر
-
خطية للموت
-
المرأة الخاطئة، صاحبة قارورة الطيب
-
الخطبة | الخطوبة
-
الخَطِيب
-
خاطرات
-
مخطوطة
-
مخطوطات العهد القديم
-
مخطوطات العهد الجديد
-
خطف
-
الاختطاف
-
خطاف | خطاطيف
-
خطم
-
مخافتة
-
خفارة
-
خَفّاش
-
خفق
-
.خوافي
-
خلب
-
تختلج
-
خَلخال
-
خالد | خلود
-
.خَلْداي النطوفاتي
-
خَلْدة النبية
-
اختلس | خلسة
-
خَلاص
-
مخلص
-
إِخلاص
-
خَلق | خليقة
-
أخلاق
-
الأخلاق عند يسوع
-
خِلٌّ | خليل
-
خَلّ
-
خُلُوِي
-
أخلى | إخلاء
-
الخَمْر
-
خُمار
-
خَمير | الخميرة
-
خمسة
-
أسفار موسى الخمسة
-
خَمسون | يوم الخمسين | عيد الخمسين
-
خمش
-
خمع | يخمع
-
خمَّ
-
خَنْزير
-
خنزير من الوعر
-
خُودَش
-
خَوذَة
-
.خَوزي
-
مَخاضة
-
مخافة | خوف
-
مدينة خُون | كون
-
يَختار | مختار | اختيار
-
مختارة: كيرية المختارة
-
خيط
-
بغير خياطة
-
الخوان
-
الخيل | الخيول | الفُرس | الحصان | الأحصنة | الجياد
-
أخيلة
-
الخيْمَة | الخِيام
-
خَيَّام | صانِع الخيام
-
خيْمَة الاجتماع | خيمة الشهادة | مسكن الشهادة
-
النساء المجتمعات في باب خيمة الاجتماع وقت عالي الكاهن
-
قِيدار | خيام قيدار
-
خِيوس
No Result
View All Result
Discussion about this post