المتروبوليت بولس يازجي
نعيد في عيد العنصرة لحلول الروح القدس على التلاميذ. ويدعو الإنجيل، وخاصةً عند يوحنا، الروحَ القدس بالمعزي وروح الحق. وبهذا يشرح الكثير من عمل الروحح القدس يُغادر يسوع تلاميذه عند الصعود، ولكنه قبل ذلك يعدهم أنه لن يتركهم يتامى، بل سيرسل لهم “معزياً آخر”.
حين كان يسوع مع تلاميذه كان يحفظهم في العالم من العالم. ولكن الآن الخير لنا أن ينطلق ويرسل لنا معزياً وعاضداً آخر هو الروح القدس (يوحنا 14: 16).
“في العالم سيكون لنا ضيق” لأنه لو كنا من العالم لأحب العالمُ شاكلته وما يشبهه. لكن حقيقة الإيمان وطبيعة حياة المؤمن تخالفان روح العالم.
وذبيحة يسوع وصلبه هما الشاهدان على هذا الصراع بين منهجية العالم ومنهجية الإيمان. كان يسوع شهيد هذه المعركة ومثال بذلك لكل مؤمن.
لا شك أن هذا الصراع هو بين الدنيا والأسمى، بين الخير والشر، بين الإيمان والإلحاد، بين الله والشيطان، بين رغبات الإنسان الخيرة ونزواته الغريبة. ولكن ألوان وأشكال وساحات هذا الصراع تتبدل في الزمان والمكان.
والسؤال لدى المؤمن ليس عند شكل الصراع بمقدار ما هو السؤال عن وجود المعزّي والمحامي والعاضد، في زمن ليس يسوعُ حاضرًا فيه بالجسد. لقد صرخ يسوع وهو مع تلاميذه، في لحظات الخوف والشدة: “ثقوا لقد غلبتُ العالم”. هذه كلمة معزية جدًا، إن المعلم قد “غلب” وهذه هي غلبتنا به.
الروح القدس هو المعزي اللاحق (الآخر) بعد صعود يسوع إلى السماوات. إنه يأخذ مكان يسوع، أو يجعل يسوع حاضراً بيننا كما كان بين تلاميذه. كما أن يسوع والآب واحد، بالروح القدس نصير نحن ويسوع واحداً.
إنه الروح الذي يشدّدنا ويذكّرنا بكل ما قاله يسوع (يوحنا14: 26) وبذلك يجعل صلتنا بيسوع وثيقة؛ ولذلك هو المعزي الذي نستدعيه كل حين.
والروح القدس هو معزي لأنه مؤيّدٌ على الحق، إنه روح الحق، الذي يرشدنا إلى الحقيقة كلها (يوحنا16: 13). إنه المضاد لأبي الكذب (الشيطان) والشاهد عليه وعلى أعماله في العالم (يوحنا17: 16). إن أساس التعزية في الصراع لدى المؤمن بين النور والظلمة هو أن يكون المؤمن بالنور وفي الحقيقة.
لذلك إننا نعرف أن لا غلبة لنا إلا بروح الحق، هذا المعزّي. “بدوني لا تقدرون أن تعملوا شيئاً”، بحسب كلمات يسوع. والآن “بدون الروح القدس لا نستطيع أن نعمل شيئاً صالحاً”. لأن الروح يقيمنا في الحق، والروح يعزينا، وبالروح تصير غلبتنا على العالم.
“إعرفوا الحق والحق يحرركم”، هذه كلمات تعني تماماً: “حيث روح الله هناك الحرية”. من أقام في الحق يتحرر من الخوف؛ من كل خوف. فمن أقام في البِرّ لم يعد يخاف حتى الموت. ومن أقام الروح عنده تحرر من خوف العالم ووثق أنه بالروح مع يسوع سيغلب العالم.
لكن هذا الروح القدس لا يستطيع العالم أن يتقبّله (يوحنا17:14)، لأنه روح الحق. فالظلمة لا تتقبل النور لأن أعمالها توبخ منه. فمن لا يقيم في الحق ويترفع عن الكذب لا يقيم الروح عنده.
إن أكبر خطيئة في الكنيسة هي الكذب ولقد كان عقابها في سفر أعمال الرسل (موت سفيرة وحنانيا) دليلاً على هولها وحجم شرّها.
الخطيئة تجاه أي شيء تُغفر، إلا تجاه الروح القدس:
“من جدّف على الابن يُغفر له أما من جدّف على الروح القدس فلا يُغفر له”.
تبدو هذه الآية كاللغز لكن مفتاح فهمها، كما يشرحها القديس الذهبي الفم، هو ان الروح القدس هو روح الحق. لهذا يقول يسوع إذن للفريسيين والكتبة والمعلمين: إذا جدّف الناس العامّيون على الابن ولم يعترفوا بألوهية ابن الله المتجسد، ولم يألف الناس أن يتجسد الله، فهذه خطيئة تُغفر.
أما أنتم العاملون بالناموس وقد أدركتم بحق اكتمال النبوءات وعرفتم ألوهية الابن، فإن تجديفكم الآن لم يعد خطيئة عن جهل، بل هو خطيئة عن معرفة، خطيئة ليست ضد ابن الله ولكن ضد الحق، وهذه الخطيئة هي من حب الشرّ وليس من حب الخير. والشرير بالأصل لا يطلب المصالحة ولا ينتظر الغفران.
من يقيم في الكذب ضعيف، لأن الروح القدس لا يقيم معه. ثقوا بالروح سنغلب كل كذب أمامنا، بالروح سيُغلب روح العالم الذي لا يحب الحق. بالروح ستسقط كل الأقنعة عن كل الأشياء. فلا يبقى بوجود الروح رياء ولا تغوي الخديعة الإنسان الذي في الحق. بالروح سنصرخ ليذهب العالم ولتأتِ النعمة. بالروح سنصرخ ونحن في العالم “أبّا أيها الآب”، وهذه غلبتنا أننا في العالم لكننا أبناء الله.
أيها الملك السماوي المعزي، يا روح الحق، هلمّ اسكن فينا وطهّرنا من كل كذب الدنس، وحررنا أيها الصالح من كل خوف نفوسنا”.
Discussion about this post