الأخوة الشهداء الثلاثة
فرنسيس وعبد المعطي وروفائيل المسابكي
1860 – 1960
أولاد نعمة المسابكي من موارنة دمشق
استشهدوا في دمشق ليل 9 – 10 تموز 1860
(نبذة وجيزة مختصرة عن كتاب الاخوة الشهداء الثلاثة للمطران بشارة الشمالي)
توطئة
هذه النبذة الوجيزة عن حياة الاخوة الثلاثة فرنسيس وعبد المعطي وروفائيل المسابكي هي مثال حي ليحاة الانسان الشخصية والعائلية والاجتماعية. اذ لم يترددوا في بذل حياتهم وسفك دمائهم في سبيل المحافظة على دينهم تاركين موتهم قدرة شهامة وتذكار فضيلة لامتهم الماورنية باسرها. فاستحقوا التكريم.
ذلك نحض أبناء طائفتنا العزيزة وأبناء هذه الوطن المفدّى على قراءة هذه النبذة راجين ان تكون اقوى عامل على تهذيب وتثقيف اخلاقهم الشخصية والعائلية والاجتماعية وجاذباً متيناً الى التمسك بالدين والعمل بواصايا أمنا الكنيسة المقدسة من أجل خيرهم الاسمى ولتوطيد الالفة والمحبة بين الناس على اختلاف مذاهبهم واوطانهم.
طالبين خير الثواب منه تعالى بشفاعة الاخوة الشهداء المسابكيين.
تحريراً في 11 حزيران سنة 1960
الحقير
عبد الله نجيم
مطران بعلبك
عهد الطائفة المارونية في دمشق
ذكر القس جبرائيل فرحات، أسقف حلب فيما بعد، استناداً الى صكوك محفوظة في كنيسة دمشق، ان الموارنة استلموا “من الرهبان الفرنسيسكان سنة 1718 حجة وامراً سلطانياً مضمونها ان الكنيسة قديمة جداً من قبل الفتح وانها ملك للموارنة ما لاحد تعلّق عليها أصلاً…”
وذكر ابن الحريري، المؤرخ المشهور، دير مار مارون قرب دمشق، وقد تفقّده العلامة البطريرك الدويهي وشاهد آثاره “واطلاله المائلة الى اليوم على عظمه وشرفه…”
أصل أسرة مسابكي
في أواخر القرن الثالث عشر، كان في دمشق كاهن ماروني متزوج اسمه يعقوب، يسكن مع أهله “حارة المسبك البرانيّ”، فلقبه الدمشقيون بالمسابكي نسبة الى مكان سكناه. وكان للقس يعقوب في قلوب الدمشقيين الكرامة والحظوة.
وفي السنة 1293 سامه البطريرك الشهيد، جبرائيل حجولا، اسقفاً على دمشق، باسم حنانيا. واذا بالاضطهاد يجبر الاسقف وأولاده وجميع العائلات المارونية على الهرب من دمشق. وسافر الاسقف حنانيا الى قبرس حيث توفي آسفا على مقتل ابنه فرنسيس في الزبداني.
وفي القرن الخامس عشر عاد أولاد فرنسيس من لبنان الى دمشق، فاطلق عليهم الدمشقيون لقب: “أولاد المسابكي”، نسبة الى مسكن جدهم الاسقف ووالدهم.
ومن أصلهم، امتدت فروع شجرة آل مسابكي الكريمة، المشهورة بمآثرها الطيبة.
أما اخوة فرنسيس، فقد بقوا في لبنان، تعرف سلالتهم اليوم باسم: عنداري، بصبوص، السمعاني، مسعد، الشدياق، وهي لا تحتاج الى تعريف لشهرة أبنائها في حقلي الدين والدنيا.
موجز في تاريخ موارنة دمشق
يكتنف الغموض، لقلة الوثائق، تاريخ الموارنة في دمشق، حتى الجيل السابع عشر، اذ يبدوا واضحاً، بفضل المستندات التاريخية التي كتبها الرحّالة الغربيون.
قالايطالي بياترو دلا فالي وصل دمشق سنة 1616، “وقصد كنيسة الموارنة – الكنيسة الكاثوليكية الوحيدة – وقابل كاهن الموارنة، القس مخايل تاتيلا، الذي كان يتكلم الإيطالية، الى جانب فصاحته في اللغتين العربية والسريانية … وتوثقت عرى الصداقة بين الرحالة والكاهن، فطافا سوية المدينة وزارا آثاراتها ومعالمها…”.
وكان موارنة دمشق يطيعون رؤسائهم، ويحافظون على تعاليم الكرسي الرسولي، وايمان اجدادهم. الا انهم كانوا عرضة لوشايات بطاركة الروم، ولمظالم امراء دمشق، وحكامها.
في سنة 1648 نكبت طائفة دمشق، نكبةً شديدة، بمسعى فرقماز، احد ابنهائها الجاحدين، فابتلوا بالخسائر والتشتيت. والقى الحاكم القبض على الكهنة، وعلى زعماء الموارنة، وطرحهم في السجن، واحرق كنيسته. ولم يخرجوا من السجن الا بعد ان دفعوا الى القاضي ثلاثماية غرش، فديةً عنهم. هذا عدا الضرائب الفادحة التي كان عليهم ان يدفعوها لحاكم دمشق.
وبسبب الاضطهاد الدائم والضرائب الكثيرة، الظالمة، تضعضع موارنة دمشق، وتشتتوا، ولم يبق لهم كاهن يقوم بخدمتهم. فاجمع البقية منهم، على تسليم أمور كنيستهم الى رهبان القديس فرنسيس الافرنج، وذلك برضى بطريركهم.
وبعد مرور 51 سنة على هذا الاتفاق دب الخلاف بين أبناء الطائفة ورئيس رهبان الفرنسيسكان. فجاؤا الى لبنان، يحتكمون لدى البطريرك. فطلب ممثلو الطائفة: جرجس المسابكي، يوسف الجاماتي، إبراهيم الساعي وإبراهيم الحكيم، طلبوا مطراناً يتسلم من الرهبان مفاتيح الكنيسة، ويرتب امورهم، ويقيم لهم في كنيستهم كاهناً يخدمهم. وهو يكفلون معيشته. فانتَدَب البطريرك المطران عبدالله الحلبي، اسقف بيروت، فعادوا بصحبته الى دمشق، حيث تسلم المطران عبدالله الكنيسة، بحضور مرافقه الخوري صالح ابن مبارك الرشماني ووجهاء موارنة دمشق: إبراهيم المسابكي، بركات المسابكي، فرنسيس المسابكي، إبراهيم الشاوي، فرنسيس الزوري، فرنسيس الحلبي وسواهم. وذلك في 18 شباط سنة 1718.
واخذ المطران عبدالله يرتب أمور الكنيسة. فعيّن أعياد السنة. وجهزها بالبدلات، والاثاث اللازم. وكان أصحاب الأعيان يمدون الكنيسة بما يلزمها من شمع وبخور وزينة.
ورسم من موارنة الشام كاهناً القس جرجس الباني. وبعد وفاته استم الرعية: الخوري برهوش من ساحل علما – كسروان، لبنان – وكان عاقلاً، رصيناً، حسن السلوك. فنهض بالطائفة، يعاونه وكيلا الكنيسة: جرجس المسابكي ويوسف الجاماتي.
في 3 شباط سنة 1910، وصل القس جرمانوس فرحات الى دمشق. فاستقبله الموارنة بالفرح والاعزاز. واخذ يلقي المواعظ الدينية، كل احد وعيد. ويعلم كل ليلة، التعاليم الروحية. فيجتمع لديه الكثيرون من المسيحيين. واخذ يلقن الشباب دروس العربية، صرفا ونحواً. وانشأ شركتي الوردية وثوب السيدة، بتفويض له من رومة.
سنة 1720، نزل بدمشق، داء وبيل أودى بحياة الكثيرة. ومنهم الخوري جرجس، خادم الرعية. فحزن عليه الجميع، حزناً شديداً، لانه كان حكيماً، ورعاً، غيوراً على خلاص النفوس.
وتوالى، الكهنة الاتقياء، على خدمة رعية دمشق، بروح الايمان، ومحبة التضحية، رغم الصعوبات والاضطهادات الشديدة.
ويعود الوباء، فيفتك بابناء دمشق. واذا بالخوري تادي سرور ينزل بينهم، ليبذل نفسه في خدمة المصابين بالطاعون، من غير خوف. يعرّف ويزوّدهم بالاسرار المقدسة، ويرافقهم الى المثوى الأخير. وخدمته وتفانيه لم يقتصرا على الموارنة، أبناء طائفته، بل كان للجميع، يعرّفهم ويخفّف آلامهم.
الى جانب هذا الكاهن الفاضل الغيور، تجنّد عبد المعطي بن جرجس المسابكي، وكان قدوة لسواه، بايمانه القويم، وغيرته الصادقة وانسانيته. وقد جمع كتاباً يشتمل على:
1- نبذة في الصلاة العقلية.
2- تأملات في الآم المسيح.
3- تأملات، لكل مسيحي، على عدد أيام الشهر.
4- في لوازم المسيحي.
5- في كمال العيشة المسيحية.
6- نصائح وصلاة.
وهذا الكتاب، الذي خطتَّه عبد المعطي بيده، وضمَّنه أفكاره السامية، واراءه تقواه لا يزال محفوظاً عند اسيد بشاره يوسف المسابكي، حفيد الشهداء.
… وفي الثالث والعشرين من شهر نيسان سنة 1786، رقَّى البطريرك يوسف اسطفان، في دير مار يوسف الحصن – غوسطا – يوسف بن عبدالله الجاماتي الدمشقي، الى درجات: المرتّل والقارئ والشدياق. وفي الخامس والعشرين من الشهر المذكور، رقَّاه الى درجة الشماس الرسائل والانجيلي والكهنوت، على مذبح السيدة مريم في كنيسة دمشق المارونيةز وفي ذات النهار، رقىَّ: يوسف بن نعمة الله المسابكي وفرنسيس الجاماتي الى درجات: المرتل والقارئ والشدياق؛ وبطرس مسابكي الى درجتي المرتّل والقارئ. فكانت سيامتهم واسطة لاحياء الطقوس، وخدمة الكنيسة في دمشق. وقام القس يوسف الجاماتي مع القس روفائيل مسابكي بخدمة الطائفة، فنهضا بها، بايمان ونشاط.
في السنة 1843 تولى الخوري يوسف جعجع خدمة رعية دمشق، وكانت الكنيسة متداعية. فنهض لاصلاحهم وتجديدها، رغم ما كانت عليه طائفة دمشق من ضيق. وكان فرنسيس المسابكي من اكبر الساعدين له في عمله الخطير هذا. فطاف معه بجمع الإعانات والمساعدات لترميم الكنيسة. يستخدم نفوذه الفعَّال، وجاهه العريض، ومنزلته لدى الاعيان وأصحاب الثراء.
وفي هذا العهد وقف تادي بن يوسف مسابكي الدمشقي، وزوجته جرمانا يوسف فريج، املاكهما على فقراء الطائفة لأجل تعليم الاحداث. وهذه الأملاك هي عودات توت كبيرة، في نهر إبراهيم، وغادير، وساحل علما، والبترون، ومزرعة كفردبيان.
الخوري عبدالله المسابكي
في خدمة موارنة دمشق
من سنة 1843 الى 1850
تولى الخوري عبدالله خدمة الطائفة بعد الخوري يوسف جعجع، حتى 1850 وهو شقيق الشهداء الثلاثة.
ولد سنة 1808 في دمشق واقتبل سر العماد المقدس من يد الخوري يوحنا الحداد. درس مبادئ القراءة العربية والسريانية في مدرسة الإباء الفرنسيسكان. ومنذ نعومة اظفاره، شعر بالدعوة الى الكهنوت، فارسله رؤساؤه الى رومة العظمى، حيث تلقى العلوم في مدرسة “مجمح نشر الايمان المقدس”، وسيم فيها كاهناً سنة 1830. عاد الى لبنان سنة 1830 فارسله البطريرك يوسف حبيش الى معهد عين ورقا. وعهد اليه في تدريس الفلسفة واللاهوت. فقام بمهمته على اكمل وجه. وقضى مدة في الرسالة والتبشير، في ربوع لبنان، الى ان تعين خادماً لرعية دمشق سنة 1843. فاقام سبع سنين، في عائلته، وبين اخوته، يرشد ويعلم، بالمثل والقول، عاملاً بكل غيرة ونشاط على توطيد الايمان المستقيم في رعيته، والمحافظة على تقاليد الإباء والجدود القديسين.
انما حالته الصحية، لم تسمح له بالبقاء في دمشق، فاستعفى من خدمة الرعية سنة 1850. وسافر، بأمر رؤسائه الى إيطاليا. ونزل في مدينة ليفورنو، حيث استلم خدمة الرعية المارونية، وعيّن معرّفاً للشرقيين.
وكان الخوري عبدالله رجلاً فاضلاً، تقياً، ورعاً، مكرماً عند الجميع. ما زال صيته الحسن واسمه الطيب وسمعته الحميدة مقرونة بالمدح والثناء على لسان كل من عرفه وعاشره. ولاشتهار فضله وفضيلته، اتخذه بعض عيال أكابر المدينة معرّفا خاصاً، يرشدهم بنصائحه الابوية بمدّهم بايمانه الثابت. واوراق وسجلات مطرانية، ليفورنو، مليئة باعماله الخيريّة، وسيرة حياته الطاهرة.
وقد حضرته الوفاة في الرابعة والسبعين من عمره. فانتقل الى رحمة ربه في 11 أيار سنة 1882. ودفن في رمس خاص، في مقبرة الرحمة في ليفورنو.
وقد نقل القسم الأكبر من كتبته النفيسة الى الكريسي البطريركي في لبنان. اما أوراقه، المحتوية على تاريخ عائلته، واستشهاد اخوته، فقد لعبت بها يد الزمان.
في السنة 1850 عيّن الرؤساء، الخوري يوحنا سعادة، خادماً لرعية دمشق. وفي أوائل سنة 1851، ظهر خللٌ في بناء حائط الكنيسة. فجرى الكشف الفني، بواسطة قنصل فرنسا وبحضور أرباب الخيرة فظهر ان التداعي في البنيان ناشئ عن جار الحائط. فعليه اشترى فرنسيس مسابكي الدار المجاورة للوقف، بثمانية عشر الف قرش، وتولى بنفسه اصلاح حائط الكنيسة.
في هذه الاثناء وصل الى دمشق، الخوري عبدالله عقيقي، ليعاون الخوري يوحنا سعادة في خدمة الطائفة، وقد خلفهما في هذه المهمة الخوري موسى كرم سنة 1856.
وفي أيامه حلت النكبات ووقعت حادثة الستين المشهورة. وقد نجا من القتل باعجوبة. وقد روى ذلك بنفسه قائلاً: “انه عند اشتداد الخطر، قصد الالتجاء الى دير الرهبان الفرنسيسكان، فرفض الرئيس قبوله، لئلا يلحقهم اذى بسبب وجوده بينهم. فذهب يبحث عن ملجاً. فالتقى برجال عبد القادر المغربي، الذين ارسلهم مولاهم، خصيصاً، لتخليص المسيحيين. فذهب معهم الى دار مولاهم. وهكذا نجا من القتل!”.
وترك دار الأمير عبد القادر الى القلعة، حيث اجتمع المسيحيون، الذين نجوا من القتل. ووقف نفسه على خدمتهم، رغم مرضه وخطورة حاله. يشدّد عزائمهم، ويقوّي ضعفهم، الى ان عاد الأمن والهدوء الى ربوع دمشق.
وكانت بيوت الموارنة وكنيستهم قد نهبت وأُحرقت في اثناء الحوادث. فقام الكاهن يطالب بحقوق المنكوبين يحصّل لهم التعويضات عن خسائرهم، ثم جدّد بناء الكنيسة، فاتقنها. وكان يدير الاشغال بنفسه، وانشا داراً للنيابة الأسقفية الى جانبها. وكان من اكثر العاملين على تعزيز جانب الدين. واستخدم نفوذه لدى الحكام، لمساعدة كل مظلوم، يحمل عصاه وينزل الى دار الحاكم او الشرطة، ولا يغادرها حتى ينال ما يطلبه…
المطران بشاره الشمالي
رئيس أسافقة دمشق
1920 – 1927
ولد في 15 اذار سنة 1877، في سهيله، كسروان. وعاش يتيم الاب في كنف عمّه ورعاية أمّه الفاضلة. وكانت يد الله على بشاره وعين الرب ترعاه. فلم يبلغ العاشرة حتى يسّرت له العناية الإلهية الدخول الى المدرسة الاكليريكية، للأباء اليسوعيين، في بيروت. فانصرف الى اقتباس الفضائل والعلوم. فتضلّع من درس اللغات: العربية والسريانية واللاتينية والفرنسية. ونال الدكتوراه في الفلسفة سنة 1896 والدكتوراه في اللاهوت سنة 1900. واقتبل درجة الشماسية يوم عيد البشارة.
في 23 أيار سنة 1900 اقتبل درجة الكهنوت المقدّس. فانتدبه المثلّث الرحمة البطريرك الحويك لزيارة جبيل فازداد معرفة باحوال الموارنة وكهنتهم. وتفقّد أحوال الكنائس وأجرى محاسبة وكلاء الأوقاف واصلح المختلّ وحثّ الجميع على حسن القيام بالواجب.
وانطلق في الرعايا يحمل المحبة الى القلوب والرجاء الى النفوس بوعظه وارشاده حتى انتدبه البطريرك لتثقيف الناشئة الاكليريكية في المدرسة الرومية البطريركية، في القليعات. فتقدّمت المدرسة بفضل خبرته الشديدة وسهره الدائم على احوالها.
ثم استقال من إدارة المدرسة، وقضى وقته في المواعظ والإرشاد والتبشير حتى عيّنه المغفور له المطران مسعد نائباً اسقفياً في دمشق. فأذعن لاوامر الرؤساء، ووصلها في 25 اذار سنة 1912.
قام الخوري بشاره بزيارة خرافه واحصاء عددهم. وبدأ يهتمّ بشؤون الرعية، لتنظيمها والنهوض بها. وجدّد الجمعية الخيرية للطائفة. وانشأ اخوية القديس انطونيوس للسيدات.
ومنذ بدأ الخوري بشاره خدمته في دمشق اكبر الموارنة ما تحلى به خادمهم من فضيلة، وعلم وغيرة على تواضع ونزاهة وتفان. فلطبوا من غبطة البطريرك ان يرفع كاهنهم الى رتبة مونسنيور فاجابهم الى ذلك.
في 9 أيار 1920 عقد مطارنة الطائفة مجمعاً في بكركي، برئاسة السيد البطريرك، لانتخاب خلفاً لاسقف دمشق. فأجمعوا على اختيار الخوري بشاره الشمالي لهذا الكرسي الشاغر. فسلّم المطران الجديد إدارة كنيسة دمشق الى الخوري إبراهيم المسابكي، وودّع المقامات الرسمية، وشخص الى لبنان فارتقى الأسقفية في 23 أيار من السنة ذاتها. ثم انصرف الى الاهتمام بشؤون ابرشيته.
لم يكد ينتهي المطران بشاره الشمالي من المتاعب والمشقات التي تحمّلها في سبيل تنظيم ابرشيته وإصلاح امورها الدينية حتى وجّه انتباهه الى جمع المستندات اللازمة لقضية شهداء الطائفة الثلاثة. فجاهد في سبيل هذه القضية جهاد الابطال. مكلفاً نفسه، على اعتلال صحته، مشقة الاسفار وسهر الليالي. راجياً من الشهداء، جزاء اتعابه، ان يقبل الله حياته ضحية وكفارة عن بني شعبه.
وبعد عودته من رومة وحضوره احتفالات التطويب، باشر باعداد حفلة تكريم الشهداء، في دمشق. رغم انحلال صحته. وكانت تلك الاحتفالات نهاية مهمته على الأرض. اذا خارت قواه، وهزل جسمه، وشحب لونه. فلزم الفراش، حتى توفاه الله في 24 كانون الأول سنة 1927 وهو يناجي ربّه: “يا يسوع المصلوب ارحمني”. وضمّ يديه الى صدره ونام!
حياة الشهداء الثلاثة
واستشهادهم
روى لنا بعض الشيوخ، في مورد ذكر العادات المسيحية بدمشق، انه في كل مساء، وكانت العائلة تجتمع للصلاة معاً. وبعد الصلاة العمومية، يتلو رب العائلة او احد أبنائها، فصلاً من اخبار القديسين، او كتاب روحي آخر. وتمارس في شهر آذار، رياضة مار يوسف، وفي شهر أيار، رياضة العذراء…
وهكذا كانت حياة أولاد نعمة مسابكي تنقضي ما بين عبادة الله، والصلاة، والعمل المتواصل. وجميع الوثائق والسمتندات تشهد لهذه العائلة بعيشها المسيحية المثالية.
نعمة المسابكي
رجل برّ وايمان. بارك الله نسله، كما بارك إبراهيم، في القديم. عاش عيشة مسيحية، في كفاف من الدنيا. وربى أولاده تربية مسيحية عميقة. وعوّدهم الفضائل، وحفظ الآداب. وعلمهم إيثار الآخرة على ثروة الدنيا وأباطيلها.
أولاده: فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل.
الذين سفكوا دماءهم على على مذبح حبّهم للدين المسيحي في حادثة 1860
والخوري عبدالله
الذي ترك الدنيا ليعمل في كرم الرب
بناته: مريم ومرتا.
وقد تزوجنا. وكانتا مثال الأمهات القديسيات، في وفاتهما لرجليهما، وتربيتهما الاولادهما.
فرنسيس نعمة المسابكي
تزوّج فرنسيس بن نعمة المسابكي بابنة فاضلة هي اليصابات شيحا. ورزق منها ثلاثة ذكور: ميخائيل وبطرس وانطون. وخمس آناث: مريم، جوريّه، كاترين، تراز وسوسان. وقد وهبه الله، مع كثرة الأولاد، ثروة واسعة، وجاهاً عريضاً، ونجاحاً في اشغاله كافة. لوم تشغله مهام الاعمال، وكثرة الأرباح، عن السهر على تربية بنيه تربية مسيحية صالحة.
كان فرنسيس طويل القامة، حلو الطلعة؛ نظره حاد وصوته جمهوري. لطيف المعاشرة والمجالسة، طيّب الاخلاق، ثابت الجأش، هادئ البال، لا يهوله امر مهما عظم.
كان يلبس قنبازاً من الحرير، وفرواً طويلاً يعطّي ركبتيه. ويضع على رأسه عمامة سوداء أو طربوشاً مغربياً، عليه كوفيّة حرير سوداء. ويتنطّق بزنّار عجمي.
عُرفَ فرنسيس بالجود والسخاء على الفقراء المعوزين. وقد جعل من داره الواسعة، مضافةً للفقراء، وللبنانيين، والزوار، والسياح الغربيين. وقد ذكره الرّحالة الفرنسي لانورمان، في كتابه: انه كان معروفاً لدى كل سائح غربي قصد دمشق، قبل سنة الستين المشهورة، لان الغرباء كانوا ينزلون في بيته، لعدم وجود الفنادق في دمشق.
وقد اكتسب الثروة الواسعة، بجدّه ونشاطه واستقامته وحسن ادارته، لا ببخله وحرصه. فتعاطى تجارة الحرير الرائجة في دمشق. وكان اللبنانيون يرسلون اليه المنتوجات الحريرية والفيالج، على سبيل الأمانة، فيبيعها، ويرسل ثمنها الى أصحابها، بصدق وتدقيق.
واتخذته البطريركية المارونية معتمداً لها، في جميع الأمور المدنية، كما اعتمدته أيضاً الاسر اللبنانية الكبيرة.
وفي الخزائن البطريركية، كتابات تثبت ما كان له من علائق متينة، واشغال واسعة، ومنزلة كبرى في دمشق ولبنان.
وثروته الضخمة هذه لم تنسه خالقه، ولم تشغله عن واجباته الدينية. لم يكن من الذين اذا ايسروا ينسون الله، واذا اعسروا يكفرون به.
لم يكن فرنسيس معتمداً على مقتنيات الدنيا وحطامها، بل على رضى باريه، يضحي من مادياته وحياته في سبيل دينه وواجباته. وقد روت رئيسة دير راهبات مارون القنيطرة، انها عرفت فرنسيس المسابكي، لكثرة تردده على بيت والدها لاشغال تجارية. وكانت تراه كل يوم، قبل كل عمل يقوم به، يتلو صلواته اليومية، ويحضر ذبيحة القداس، وكثيراً ما يتناول القربان المقدس.
وكانت ثروته الأدبية، تزداد وتعظم بكثير على ازدياد ثروته المالية. ولم تله تجارته من مناصرة بني جنسه. فقط كان عميداً وركناً يرجع اليه في الملمات والمواقف الحرجة. يناضل الى جانب كهنة طائفته، ويقدم لهم وللكنيسة، ماله وراحته.
ولم تنحصر هذه الوجاهة، وهذا النقود، بين قومه وعشيرته وطائفته، بل عَمَّ وقارُ، سمت منزلته عند جميع الطوائف وخاصة لدى الحطام والمتقدّمين، وكبار السادة المسلمين ويروى انه اثناء تجواله في لبنان، من قرية الى أخرى، كانت تقرع له الاجراس تبشيراً بقدومه!
انما جميع امجاد الدنيا واباطيلها لم تملك ضميره ولا قلبه. بل ثبت عبداً مطيعاً لخالقه، يذهب كل صباح الى الكنيسة، فيحضر الذبيحة الإلهية. وفي المساء كان يجتمع مع ذويه فيشكر الله على نعمه، ويتلو جهاراً صلاة السبحة، ويتلو فصلاص من كتاب روحي. وهذه الممارسة الدينية، كانت تذكره بما يجب عليه نحو خالقه وقريبه، وجعلته مستعداً للتضحية بحياته وماله، ولك شيء له، في سبيل اكتساب رضى ربه.
ونعمه ابن أخيه الشهيد عبد المعطي يقول: “كان عمي، في مدة حياته عائشاً بكل تقوى وكان تقياً جداً”. وكانت متعبداً للعذراء مريم، الام الحزينة، فلم يغفل يوماً عن تحيتها بتكرير السلام الملائكي، وصلاة الوردية. واعظم دليل على تدينه ومحبته للعذراء انه نال اكليل الشهادة، وهو ساجد على مذبح العذراء، الام الحزينة.
اما أولاد فرنسيسي، فقد نجوا من القتل بعناية خاصة وهم:
مخايل فرنسيس المسابكي
اكبّ منذ حداثته على الدرس، فاتقن اللغات: العربية واللاتينية والفرنسية، وزاول التدريس في دمشق، يعلم النحو والادب في مدرسة الفرنسيسكان.
شهد حادثة الستين، ونجا منها. ثم غادر دمشق الى بيروت، فعاش عند الإباء اليسوعيين، يترجم الكتب، وينقح المطبوعات. وقد عرّب عن اللاتينية والافرنسية مختصر التاريخ المقدس، وقصص وامثال، وكتاب مائة حكاية… وفي سنة 1865، أصيب بالهواء الأصفر، وانتقل الى رحمته تعالى.
أنطون فرنسيس المسابكي
اقترن بالانسة ملكة خوري، في دمشق، ورزق منها: حبيب وفرنسيس ويوسف ومريم ونجلا. وقد اتخذوا القطر المصري مقاماً لهم.
بطرس فرنسيس المسابكي
تزوّج مريم ابنه مخايل حمصي، ورزق منها: فرنسيس، ميشال، نجلا، زهيّة وروجينا، وجميعهم يقيمون ايضاً في القطر المصري.
اما بنات رجل الله فرنسيس، فقد تزوجن جميعاً، ورزقن الأولاد والاحفاد، الذين حفظوا ذكر استشهاد جدّهم، وساروا على خطاه، في طريق الايمان والاستقامة.
عبد المعطي نعمة المسابكي
كان فوق الربعة من الرجال، نحيل الجسم، يلبس القنبا والجبة، ويغطي رأسه بعمامة، حسب زي ذلك العصر.
يحب العزلة والابتعاد عن معاشرة الناس. يتجنب محادثة النساء، رائق الطبع، هادئ.
كان يعيش في بيت أخيه فرنسيس، مع زوجته وأولاده. صرف حياته في تدريس الأولاد، منقطعاً عن الدنيا، منصرفاً الى وظيفته والعناية بتهذيب اخلاق الأولاد الذي في مدرسته. وقد امتاز تعليمه باهتمامه وعنايته بمبادئ الدين المسيحي، وتحريضه الأطفال على تجنب الخطيئة، وممارسة الفضيلة، والتضحية بالحياة، في سبيل الدين.
وقد روى احد تلامذته ما كان يردّد عليه، اثناء شرح التعليم الديني، ان “على المسيحي ان يكون مستعداً دائماً لسفك دمه حباً بالمسيح. وان اعظم سعادة للإنسان وافضل حظ له، واجل نعمة ينالها هي نعمة الاستشهاد“.
كان يزور القربان المقدس، كل يوم بخشوع. ويصوم الأصوام المفروضة كلها، حتى عن الزيت، ويصوم أيام السبوت كل حياته. يهتم بالتراتيل الدينية والاعياد، ويرتب الأولاد للقيام بالحفلات.
وقد روى ابنه نعمة ان والده “كان كل صباح يذهب الى كنيسة الفرنسيسكان، ويحضر جميع ما يقام من القداسات، وهو جاثٍ على ركبتيه. ويتقدم من المائدة المقدسة كل ثمانية أيام. وكان كل مساء خميس الأسرار يذهب الى الكنيسة ويجثو طول الليل، على ركبتيه، يصلي”.
كما روى تلميذه السيد جورج بيطار “ان استاذه – عبد المعطي – كان دائماً في الكنيسة راكعاً نصباً على ركبتيه، بدون متكأ، في كل القداسات حتى ان ركبتيه اصبحتا كركاب الجمال”.
ولم تقعده أيام الشتاء الباردة، ولا الزمهرير، ولا المطر، ولا الثلج عن القيام بواجباته الدينية السير صعداً على طريق القداسة.
ولما تعب عبد المعطي من التدريس، فتح له اخوه فرنسيس حانوتاً للتجارة. الا ان راس المال اخذ بالنقصان. والسبب ان عبد المعطي، خوفاً من ان يغبن احداً في البيع، كان يتسامح بالكيل والبيع مراعاة للذمّة. اضطر لاقفال الحانوت وانقطع عبد المعطي الى العبادة. ووصيته الأخيرة لاولاده قبل الاستشهاد: “اني اسلمكم الى يسوع ومريم ومار يوسف، فهم يحفظونكم ويحامون عنكم“.
اهتم عبد المعطي بأتقان تربية أولاده. والبس قلوبهم خشية الله. وجعل ثروتهم الدين والادب الصحيح. وأولاده هم:
نعمة عبد المعطي المسابكي
كان في الثانية عشرة من عمره “سنة الستين” وكان مع ابيه في الدير يوم الاستشهاد. وقد نجا بعناية خاصة، كما روى هو عن نفسه، اذ اختباً وراء أحد الحواجز. وبعد الحادثة هجر دمشق الى بيروت، ومنها الى القطر المصري، حيث تزوج ورزق أولاداً.
يوسف عبد المعطي المسابكي
كان في العاشرة من عمر سنة استشهد والده. هجر دمشق الى بيروت، حيث تزوج من السيدة وردة بسول، ورزق منها أولاداً هم: بشاره والياس وميشال، الذين يسيرون على ما خطّه لهم الأجداد والاباء القديسون من فضل وتقوى وإنسانية.
اما بنات عبد المعطي، فقد تزوجت منهنَّ مريم، وعاشت وردة عزباء، وتوفيت في الإسكندرية. اما حنة فقد انضوت الى راهبات المحبة. وقضت حياتها باعمال الرحمة. وتوفيت برائحة القداسة.
وهذا بعض ما دونته زائرة راهبات المحبة في بيروت:
“ولدت الأخت افرزيا – حنة عبد المعطي – في دمشق، من اسرة عريقة في القدم والتقوى. اضطرت الى الهرب مع ذويها من وجه الظالمين سنة 1860، وقلبها يذوب اسى لفقد والدها الخليل، الذي ذبح دون رحمة في دير افرنسيسكان.
في سنة 1865 قدّمت نفسها لله، انضوت الى جمعية راهبات المحبة، وكانت المثال الصالح للفضائل المسيحية. تحب الفقراء، وتبذل نفسها في تهذيب طالباتها، وتدفعهن، بقدوتها، الى تحمّل شقاء الحياة، بايمان وعزاء.
استلمت اخوية “بنات مريم” مدة 44 سنة، ومن صفاتها الممتازة: حبها الطاهر للقريب، واضطرابها من كلمة تجرح شعور الغير.
كانت متعبدة للعذراء، وتتمنى الموت في نهاية رياضتها السنوية. فكان لها ذلك. وفي ساعة النزاع لاح على وجهها سكون سلام سماوي. كانت وفاتها السعيدة في 30 آب 1911″.
رفائيل نعمة المسابكي
كان رفائيل نعمة المسابكي قصير القامة، ضعيف الجسم، اسود العينين، بسيط اللباس والحركات. بسيط القلب كالاطفال الذين تحدث عنهم السيد المسيح في انجيله.
وكان على بساطته مثابراً على الصلاة والعبادة، يبتعد عن كا ما يهين الله. يحب مريم العذراء محبة بنوية خالصة، ويرجع اليها في كل اموره، كالطفل الصغير يرجع الى امه في كل رغباته.
كان متواضعاً زاهداً في الدنيا محجوباً عن الناس، كزهرة البنفسج الخفية عن العين، الزكية الرائحة العاطرة الشذى.
قضى حياته بتولاص فقيراً، ولكنه كان غنياً بالله، وقد استحق نعمة الاستشهاد العظيمة الى جانب اخوته فرنسيس وعبد المعطي.
1860
في السنة 1860 كان احمد باشا التركي والياً على سورية. وهو رجل سفاح، شديد التعصب، ظالم، لا يروقه الا سفك الدم، واحداث الشغب في البلاد، توصلاً الى غاياته الذميمة…
وفي التاسع من تموز، من السنة 1860، اوعز احمد باشا، الى بعض جنده وعملائه، ان يرسموا في شوارع دمشق، وسككها العمومية: إشارة الصليب. ان يشيعوا بين الشعب، ان أولاد المسيحيين فعل ذلك، ليهيجوا الأفكار ويدفع الناس الى الطائفية والتذابح. فقلقت الأفكار وحصل اضطراب شديد في البلد، وخوف عظيم في حارة النصارى.
وأغاظ هذه العمل عقلاء المسلمين، وقناصل الدول، وطلبوا الى الوالي ان يحطاط للامر، تأميناً لحياة العباد، واحلال الراحة والامن بين الناس.
اما احد باشا فارسل وقبض على بعض أولاد المسيحيين، بتهمة اقلاق الراحة. ولكن عاد واطلق سراحهم.
وعند العصر، بدأ اعوانه، على رأس رعاع القوم، يجوبون الشوارع والازقة يطلقون النار من بنادقهم. فوصلوا الى كنيسة الروم فاقتحموها، وقتلوا اللاجئين اليها، واعملوا النار فيها ونهبوا البطرخانة.
وامتدت النيران، واتسع الذبح والنهب، من بيت، الى كنيسة، الى دير، حتى حارة النصارى…
وما طلع صباح العاشر من تموز الا وكان البلاء قد حلّ بالنصارى. فالتجأ الباقون منهم الى القلعة يحتمون. ولولا غيرة الأمير عبد القادر المغربي، وحمية رجاله، وعدد وجيز من كبار المسلمين، وعقلائهم، لما سلم احد من المسيحيين. يشهد على ذلك ما جاء في “كتاب الاحزان في تاريخ واقعة الشام”.
وذكرت بعض المذنبين وعاملي القبائح والهيجان في البلد، فيصعب عليّ ان لا اذكر رجال المعروف، وما عملوا من الخير مع المسيحيين وقت تلك الضيقة الشديدة، وما قدّموه لهم من الحماية والعناية مع القوت والكسوة.
-
فالأول هو الأمير عبد القادر المغربي، الذي أرسل رجاله، يجمعون من وجدوه من النصارى، ويذهبون بهم الى القلعة. حتى بلغ عددهم سبعة عشر الف نسمة. ما عدا الذي اختبئوا في بيت عبد القادر نفسه. وفي بيوت بعض اصدقائهم من المسلمين، وعدا الذين احتموا تحت صيانة اسلام الميدان. وقد بلغ عددهم نحو ستة آلاف نسمة.
-
والثاني هما الرجلان المعتبران: صالح آغا وسليم آغا المهايني، من رؤساء رجال الميدان.
-
والثالث هو السيد محمود افندي حمزه واخوه، من اهل النسب… سواهم… كانوا يفتشون عن النصارى وينادون عليهم بالحماية رغم تهديدات رعاع القوم.
“ان الذي نجده عنده نصارى، ولم يخرجهم نحرق به البيت”.
ويتابع صاحب كتاب الاحزان تعداد أسماء البيوت الإسلامية الكريمة التي حمت المسيحيين من الذبح، وبرهنت بسمو اخلاقها وانسانيتها ان “الدين لله والوطن للجميع”.
وجاء في رواية نعمة ابن الشهيد عبد المعطي ما يثبت قول الرواية الذي ذكرناه. ويلذ لنا ان نردّده بالشكر والثناء والاعجاب، ذكر هؤلاء السادة والاعياد، وأصحاب الفضل والمرؤة، من المسلمين، الذين دافعوا عن المسيحيين حسب وصية الحديث النبوي “لهم ما لنا وعليهم ما علينا” وان المسيحيين هم في ذمة المسلمين، كما كان يردد الشيخ الجليل صاحب الفضيلة بدر الدين الحسني.
الاستشهاد
عند الساعة الثامنة ليلا، وقد امتدّ الحريق في حارة الروم كان فرنسيس المسابكي وعائلته واخوه عبد المعطي وخوهما رفائيل في بيتهم المجاور لدي الفرنسيسكان.
ومن الخوف أبقوا عيالهم في البيت، اعتقاداً منهم ان المعتدين لا يمسون الحريم والأطفال بأذى. وتوجهوا الى دير الفرنسيسكان.
وعند الساعة الحادية عشرة، أقفل رئيس الدير الأبواب، بكل حرص. وقال للحاضرين: لندخل جميعاً الى الكنيسة.
فدخلوا كلهم. وتلو طلبة جميع القديسين. واعترفوا بخطاياهم. وبعد طلب شفاعة السيدة العذراء، زيّحوا القربان المقدس. وتناولوا جسد الرب. ثم صعدوا الى سطح الدير.
لم يبقَ في الكنيسة الا فرنسيس المسابكي، جاثياً تحت تمثال الأم الحزينة.
عند الساعة الواحدة بعد نصف الليل، دخل الرعاع وسفاك الدماء من باب سري خاص دلهم عليه حسن العلاف، وكيل الدير فهرب بعض اللاجئين، ومن جملتهم نعمة بن عبد المعطي.
وقبت عصابة القتل والحريق على رئيس الدير، الاب مانويل، فقال لهم: تعالوا أدلكم على الكنز. فتبعوه فرحين. فنزل بهم الى الكنيسة، وتقدّم من المذبح، فاضاء شمعتين. فتح باب القربان وتناول القرابين المقدسة، حفظاً لها من الامتهان… فقتله الجناة على المذبح. وشاهدوا فرنسيس مسابكي جاثياً على مذبح العذراء، يصلي. فعرفوه وهو الوجيه الدمشي الكبير. فقالوا له: “ان الشيخ عبدالله ارسلنا لك نخلصك من الموت. انت واخوتك وعيالك، ولك من يلوذ بك، شرط ان تغيّر دينك…”
فاجابهم: “ان الشيخ عبد الله يقدر ان يأخذ مالي – وكان فرنسيس قد ادانه مبلغاً وافراً من المال – ويقدر ان يأخذ حياتي، ولكن ديني لا يقدر ان ينزعه مني احد”.
“انا نصراني، مسيحي، ماروني. على دين المسيحي اموت”.
فقالوا: “اننا نقتلك”.
فاجابهم: “انن أكون مع سيدي الذي قال لنا في انجيليه ” لا تخافوا من يقتلون الجسد ولا يستطيعون ان يقتلوا النفس”.
وبدأ بصلاة لله. فلم يتركوا له وقتاً لاتمامها على الأرض، بل انجزها في السماء…
اما عبد المعطي فكان على سطح الدير لما دخله المعتدون. فقصد الكنيسة يحتمي فيها، الى جانب أخيه. وما او وصل قرب باب الكنيسة، حتى امسكون واهانوه طالبين اليه جحد دينه، واعتناق الإسلام، فيخلص من الموت. فاخذ يصرخ بأعلى صوته: “ان مسيحي، اقتلوني، اقتلوني، فانا مستعد لذلك…”.
فأعملوا به الخناجر والفؤوس فتخضّبت الأرض بدمائه الزكية.
واما رفائيل فكان مختبئاً في بعض زوايا الدير حيث وجدوه. فقالوا له: “أسلم تسلم”.
فانطرح جاثياً على الأرض يصلي. فاطاروا رأسه، وداسوه بارجلهم ومضوا…
ويجمع الشهود على ان الاخوة الشهداء دفنوا مع الرهبان الشهداء. اذ ان المسيحيين، بعد انتهاء الحادثة، وحضور فؤاد باشا الى دمشق، اخذوا يفتّشون عن موتاهم. اما الذين قتلوا في الدير جمعت رفاتهم الطاهر ووضعت في مقبر خصوصية.
وهكذا استبدل هؤلاء الاخوة الثلاثة، هذه الحياة الفانية، بحياة سعيدة دائمة. وهو في مجدهم قد نسوا عذاباتهم. وغفروا لقاتليهم. لا يعكّر صفاء سرورهم الابدي الم او بغض. بل انهم يتوسلون لأجل الجميع. ويعلموننا بمثلهم وحياتهم وموتهم ان نفضل مجد الله على اباطيل الحياة. وان تشمل محبتنا جميع البشر، لنكون أبناء حقيقين لإله المحبة والسلام.
اكليل الشهادة
مرّ على وفاة رجال الله الشهداء فرنسيس مسابكي واخويه عبد المعطي ورفائيل 66 سنة. وكاد ذكرهم ينسى. الا ان الله، باحكامه الفائقة، أراد ان يحييه، ويعيد مجدهم ليتمجد هو بحياتهم وموتهم. فألهم بعنايته الفائقة الكرسي الرسولي لأجراء ما يقتضي، احياءً لذكر أولياء الله، وتمجيداً لمختاريه، الذين سفكوا دمهم في سبيل محبته.
من الناس من يعيش لمجد هذه الحياة، فيذبل اكليل غارهم، يوم ينزلون الى القبر.
ومن الناس، من يعيشون للآخرة، فيخلد ذكرهم على كرّ الأيام، ومر الدهور. من هؤلاء الناس عبيد الله فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل، الذي ضحّوا بحياتهم، على مذبح دينهم، حباً بفاديهم وخالقهم. لذلك أراد الرب تمجيدهم ونشر اسمهم وفضيلتهم، في أربعة اقطار المعمور، وتدوين أسمائهم في سجل الشهداء القديسين، وتخليد ذكرهم في كنيسة الله على احقاب الدهور.
فبناء على إشارة نيافة القاصد الرسولي في سوريا، وبالاتفاق مع المخلد الذكر البطريرك مار الياس بطرس الحويك ومجمع السادة مطارين الطائفة المارونية، وبصفة كونه اسقفاً على ابرشية دمشق، وضع المطران بشاره الشمالي عريضة الى امام الاحبار البابا بيوس الحادي عشر جاء فيها:
“علمنا انه قد تقرّر لدى الكرسي الرسولي المقدس استشهاد الرهبان الفرنسيسكان الذين قتلوا في دمق اثناء حوادث 1860، ففرحنا لهذه البشرى، واسفنا أيضا لانه مع الرهبان المذكورين قبل ثلاثة اشخاص من طائفتنا هم فرنسيس المسابكي واخواه عبد المعطي ورفائيل، في سبيل المحافظة على دينهم. ولم يكون لهم نصيب في هذا التقرير كرفاق موتهم…
وبما ان لدينا مستندات كثير ناطقة بحقيقة ذلك، ولوفرة الشهود، لاثبات استشهادهم، نسترحم قداستكم باجراء التحقيق الواجب، وضم دعوى رجال لله الثلاثة الى دعوى رفاقهم في الجهاد، لانهم قتلوا في موضع واحد وفي ظروف واحدة… ويكون ذلك افضل الوسائل لانعاش الحياة المسيحية في الشرق ودليلاً ساطعاً على اهتمام الكرسي الرسولي بجميع الكنائس وعلى عطفه الخاص على الكنيسة الشرقية وعلى كنيستنا المارونية، التي تفاخر بتعلقها الدائم بالكرسي الروماني المقدس…”.
ورفعت هذه العريضة في 4 أيار 1926. فاهتم لها قداسته جدّياً. وتحوّلت العريضة الى الدوائر، ذات الصلاحية، لدرسها والتدقيق فيها. وبدأ المطران الشمال باعداد السمتندات التاريخية اللازمة.
وفي العاشر من آب ارسل المونسنيور سالتي الى المطران الشمال كتاباً يقول فيه: “ان الاب الاقدس أمر باجراء التحقيق في دعوى عبدي الله فرنسيس مسابكي واخيه عبد المعطي وفوض كل التفويضات اللازمة ولكن قبل سفره الى دمشق يطلب الإفادة الصريحة عن:
1- المستندات وأسباب ثبوت دعوى استشهاد المذكورين.
2- هل المستندات والأسباب معدّة تمكنه من الوقوف عليها فور وصوله.
فارسل الشمالي تلغرافاً فيه ان المستندات مهيأة والشهود حاضرون.
وفي السادس من شهر أيلول وصلت اللجنة الى بيروت، وبدأت عملها بجد ونشاط.
واستغرقت جلسات بيروت ثلاثة أيام في درس المستندات والاستماع الى بعض الشهود. ثم انتقلت اللجنة الى دمشق حيث استمعت الى افادة السيد الجليل، نقولاوس قاضي وغيره من اعيان دمشق. واختتمت الدعوى بافادة الرديوط ابراهيم المسابكي النائب الاسقفي الماروني بدمشق.
وقد اظهر المونسنيور سالوتي من الغيرة والاجتهاد في هذه الدعوى، ومن التضحية والصبر في إتمام مهمته، استحق بما قام به شكر الجميع. وغادر البلاد وهو يردّد:
“اذا انا مت في الطريق، فدعوى رجال الله لا تموت!”
ونهار الخميس السابع من تشرين الأول 1926، اعلن الحبر الأعظم تطويب عبيد الله فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل مسابكي.
براءة تطويب شهداء دمشق
بيوس الحادي عشر للذكر المخلد
بعد ان تذكر البراءة باسهاب، حياة واستشهاد الاخوة الثلاثة، يفوّض الحبر الأعظم، بسلطانه الرسولي “وبقوة هذه السطور ان يطلق، من الان فصاعداً، لقب طوباويين، على عبيد الله الاشقاء الثلاثة الموارنة: فرنسيس وعبد المعطي ورفائيل مسابكي… وناذن ان تعرض أجسادهم وذخائرهم لتكريم المؤمنين العلني… وبأن يتلى فرض خاص بهم، والقداس الخاص بالشهداء“.
خاتمة الكتاب
هذا ما رأينا اثباته، موجزا، في حياة شهدائنا المسابكيين، للذكرى المئوية الأولى لاستشهادهم في سبيل الايمان، تمجيداً لله وللكنيسة، وتعميماً لخير الشرق المسيحي عموماً، وطائفتنا المارونية خاصة.
رزقنا الله، بشفاعتهم، نعمة الثبات في ايماننا المقدس، والسلوك في طريق الفضيلة التي انتهجوها.
الحقير
عبد الله نجيم
مطران بعلبك
No Result
View All Result
Discussion about this post