القديس يوحنا فم الذهب
بقلم: البابا بندكتوس السادس عشر
رسالة الأب الأقدس بندكتس السادس عشر
لمناسبة الذكرى المئوية السادسة عشرة لوفاة
القديس يوحنا فم الذهب
التي صدرت في افتتاح المؤتمر العالمي “Chrysostomika II”،
الذي عقد في المعهد الآبائي “Augustinianum”،
وفي المعهد الحبري الشرقي
من 8 إلى 10 نوفمبر 2007.
*. مدخل
الفاتيكان، 14 نوفمبر 2007 (ZENIT.org). _ “”ما من شيء أنجع من الاعتدال واللطف” من أجل التغلب على خطأ لاهوتي”، هذا ما قاله البابا بندكتس السادس عشر في الرسالة التي وجهها البابا بندكتس السادس عشر إلى الأساقفة وإلى سائر المؤمنين بمناسبة الذكرى المئوية السادسة عشرة لوفاة القديس يوحنا فم الذهب، الأسقف وملفان البيعة.
ففي القسم الأول من الرسالة التي تأتي بمناسبة افتتاح المؤتمر العالمي “Chrysostomika II”، الذي عقد في المعهد الآبائي “Augustinianum”، وفي المعهد الحبري الشرقي من 8 إلى 10 نوفمبر 2007، استعرض الأب الأقدس شخصية القديس يوحنا فم الذهب، وأهميته على مر الأجيال. فعرض في ما عرض أفكار وتعليقات بعض البابوات بشأن القديس، وبوجه خاص، البابا بيوس الثاني عشر الذي سلط الضوء “على الإسهام الكبير الذي قدمه القديس يوحنا في تاريخ تفسير الكتاب المقدس مع نظرية “التنازل” أو “synkatábasis”. من خلالها، أقر فم الذهب أن “كلمات الله، التي تم التعبير عنها باللغة البشرية، صارت مشابهة للغة البشر”. لقد أدخل المجمع الفاتيكاني الثاني هذه الملاحظة في الدستور العقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله” (كلمة الله 13)”.
وبالحديث عن سيرة القديس يوحنا بين البابا الخصائص الأساسية التي ميزت الأسقف القديس وواعظ الكنيسة البارع. وقال الأب الأقدس في حديثه عن خدمة يوحنا الكهنوتية: “خلال 12 سنة من الخدمة الكهنوتية في كنيسة أنطاكيا، تميز يوحنا بشكل كبير بمؤهلاته في تفسير الكتاب المقدس بشكل يفهمه المؤمنون. وفي وعظه كان يجهد بحرارة لكي يقوي وحدة الكنيسة مشددًا في سامعيه الهوية المسيحية في لحظة تاريخية كانت هذه الهوية مهددة من الداخل ومن الخارج في الوقت عينه”.
كما وتميز القديس بالوداعة والفطنة في الحوار مع المعارضين إذ “لم يكن ليتوانى عن التوجه إلى المعارضين، مفضلاً أن يستعمل نحوهم الصبر بدل العدائية، لأنه كان يعتقد أنه من أجل التغلب على خطأ لاهوتي “ما من شيء أنجع من الاعتدال واللطف”.
ولم يتناسى عظاته أن يذكر سامعيه “بالمواقف التي يجب أن تميز التزام المسيحيين المدني، وبوجه خاص رفض الوسائل العنيفة في تعزيز التغيرات السياسية والاجتماعية”.
هذا “وكان حريصًا جدًا على الهروب من إظهار الجاه، واعتنق، بالرغم من كونه أسقف عاصمة الإمبراطورية، أسلوب عيش متواضع، كان سخيًا للغاية في توزيع الحسنة على الفقراء”.
ونظرًا لجدارته وبراعته في الوعظ، وغالبًا ما كان يوحنا يحظى بتصفيق المؤمنين إلا أنه “كان حريصًا جدًا ألا يؤدي به التصفيق، الذي كان يتلقاه غالبًا لوعظه، إلى التخفيف من متانة الإنجيل الذي كان يعظ به. ولهذا كان يتذمر بعض الأحيان لأن الجماعة ذاتها التي كانت تصفق لعظاته، غالبًا ما كانت تتجاهل تحريضه لعيش حياة مسيحية أصيلة”.
القسم الأوّل
أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية والكهنوت،
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء في المسيح!
- مقدمة
يوافق هذه السنة المئوية السادسة عشرة لوفاة القديس يوحنا فم الذهب، أب الكنيسة الكبير الذي يرنو إليه بتكريم المسيحيون في كل الأزمنة. في الكنيسة القديمة، كان يوحنا فم الذهب يتميز لأنه عزز “لقاءً مثمرًا بين الرسالة المسيحية والثقافة الهيلينية” والتي “كان لها وقع بعيد الأثر على الكنائس الشرقية والغربية على حد سواء” (1).
يتردد صدى حياة وتعليم هذه الأسقف والملفان القديس في كل العصور وما زالت حتى اليوم تولد العجب الشامل. لطالما وجد الأحبار الرومانيون فيه منبعًا حيًا من الحكمة للكنيسة وضاعفوا اهتمامهم بتعليمه في القرن الأخير. فمنذ مئة سنة، تذكر القديس بيوس العاشر الذكرى المئوية الخامسة عشرة لوفاة القديس يوحنا، ودعا الكنيسة إلى الاقتداء بفضائله (2).
وسلط البابا بيوس الثاني عشر الضوء على الإسهام الكبير الذي قدمه القديس يوحنا في تاريخ تفسير الكتاب المقدس مع نظرية “التنازل” أو “synkatábasis”.. من خلالها، أقرّ فم الذهب أن “كلمات الله، التي تم التعبير عنها باللغة البشرية، صارت مشابهة للغة البشر” (3). لقد أدخل المجمع الفاتيكاني الثاني هذه الملاحظة في الدستور العقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله” (4).
كما وأشار الطوباوي يوحنا الثالث والعشرون الفهم العميق لدى فم الذهب للرباط بين الليتورجية الافخارستية والاهتمام بالكنيسة الجامعة (5). وبين خادم الله بولس السادس الطريقة التي “عالج بها بلغة بليغة وبتقوى كبيرة، السر الإفخارستي” (6).
أود أن أذكر المبادرة الهامة التي قام بها سلفي الحبيب، خادم الله يوحنا بولس الثاني في نوفمبر 2004، عندما سلم ذخائر هامة من القديس يوحنا فم الذهب والقديس غريغوريوس النزينزي إلى بطريركية القسطنطينية المسكونية. لقد لاحظ الحبر الأعظم كيف أن تلك البادرة كانت بحق بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية “مناسبة مباركة لتطهير ذاكراتنا الجريحة، ولكي نوطد مسيرة المصالحة” (7).
وأنا أيضًا خلال الزيارة الرسولية إلى تركيا، وفي كاتدرائية البطريركية في القسطنطينية، اغتنمت الفرصة لكي “أذكر القديسين والرعاة اللامعين الذي سهروا على كرسي القسطنطينية، ومن بينهم القديس غريغوريوس النزينزي والقديس يوحنا فم الذهب، الذين يكرمهما الغرب أيضًا كملافنة للبيعة… بالحقيقة، إنهم شفعاء أجلاء لنا أمام حضرة الرب” (8). لذا يسعدني أن تكون مناسبة الذكرى السادسة عشرة لوفاة القديس يوحنا فرصة مؤاتية لذكر شخصيته النيرة وتقديمها للكنيسة الجامعة من أجل البناء المشترك.
- حياة وخدمة القديس يوحنا
ولد القديس يوحنا فم الذهب في أنطاكيا في سوريا أواسط القرن الرابع. وتلقن الفنون الحرة بحسب التقليد الساري في زمانه وأظهر موهبة خاصة في فن الخطاب العام. خلال دراسته، وبينما ما زال فتيًا، طلب المعمودية وقبل دعوة أسقفه، ملتسيوس، لكي يقوم بالخدمة كقارئ في الكنيسة المحلية (9).
في ذلك الزمان، كان المؤمنون مضطربون بسبب الصعوبات التي كانوا يواجهونها في التعبير بشكل لائق عن ألوهية المسيح. أنضم يوحنا إلى صف المؤمنين الأرثوذكسيين الذين، بالتناغم مع مجمع نيقيا، كانوا يعترفون بملء ألوهية المسيح، بالرغم من أنه بسبب خيارهم هذا، لم يكونوا ليحظوا برضا الحكم الأمبراكوري في أنطاكيا (10).
بعد معموديته، اعتنق يوحنا سيرة التقشف. وتحت تأثير معلمه ديودوروس الطرسوسي، أراد أن يبقى بتولاً كل حياته فانكب على الصلاة والصوم القاسي وعلى درس الكتاب المقدس (11). وبعد أن غادر أنطاكيا، عاش حياة تقشفية في صحراء سوريا لمدة 6 سنوات، وبدأ بكتابة مؤلفات في الحياة الروحية (12). وفي ما بعد، عاد إلى أنطاكيا حيث خدم الكنيسة من جديد كقارئ، ومن ثم، لمدة 5 سنوات كشماس.
في عام 386، دعاه فلافيانوس، أسقف أنطاكيا إلى الكهنوت، فأضاف بذلك خدمة وعظ كلمة الله إلى الصلاة والنشاط الأدبي (13).
خلال 12 سنة من الخدمة الكهنوتية في كنيسة أنطاكيا، تميز يوحنا بشكل كبير بمؤهلاته في تفسير الكتاب المقدس بشكل يفهمه المؤمنون. وفي وعظه كان يجهد بحرارة لكي يقوي وحدة الكنيسة مشددًا في سامعيه الهوية المسيحية في لحظة تاريخية كانت هذه الهوية مهددة من الداخل ومن الخارج في الوقت عينه.
لقد فهم بحق أن وحدة المسيحيين ترتكز بشكل خاص على فهم حقيقي للسر المحوري في إيمان الكنيسة، أي سر الثالوث الأقدس وتجسد الكلمة الإلهي. وإذ وعى بوضوح صعوبة هذه الأسرار، جهد يوحنا لكي يجعل تعليم الكنيسة مفهومًا للأشخاص البسطاء في جماعته، في أنطاكيا، وفي ما بعد في القسطنطينية (14). ولم يكن ليتوانى عن التوجه إلى المعارضين، مفضلاً أن يستعمل نحوهم الصبر بدل العدائية، لأنه كان يعتقد أنه من أجل التغلب على خطأ لاهوتي “ما من شيء أنجع من الاعتدال واللطف” (15).
لقد تمكن يوحنا، في بدء خدمته الكهنوتية، بإيمانه المتين وقدرته في الوعظ، أن تهدئة الأنطاكيين، عندما زاد الأمبراطور وقر الضرائب على المدينة مؤديًا بذلك إلى انتفاضة دُمرت خلالها بعض المباني العامة.
بعد الانتفاضة، اجتمعت الناس في الكنيسة خوفًا من غضب الإمبراطور، متمنية أن تسمع من يوحنا كلمات رجاء مسيحي وتعزية، فقال لهم يوحنا: “إن لم نكن نحن من يعزيكم، أين يمكنكم أن تجدوا التعزية؟” (16).
وفي عظاته طوال الصوم، في تلك السنة، استعرض يوحنا الأحداث المتعلقة بالانتفاضة وذكر سامعيه بالمواقف التي يجب أن تميز التزام المسيحيين المدني (17)، وبوجه خاص رفض الوسائل العنيفة في تعزيز التغيرات السياسية والاجتماعية (18).
في هذا الإطار، كان يحض المؤمنين الأغنياء على ممارسة أعمال المحبة نحو الفقراء، لكي يبنوا مدينة عادلة، وفي الوقت عينه كان يحث المثقفين لكي يقبلوا أن يكونوا معلِّمين، وأن يجتمع كل المسيحيين في الكنائس لكي يتعلموا أن يحملوا بعضهم أثقال بعض (19).
بالمناسبة، كان يعرف كيف يعزي سامعيه محييًا فيهم الرجاء ومشجعًا إياهم على الثقة بالله، إن من أجل الخلاص الزمني، أو لأجل الخلاص الأبدي (20)، لأن “الضيقة تولد الصبر، والصبر يولد فضيلة راسخة، والفضيلة الراسخة تولد الرجاء” (رو 5، 3- 4) (21).
بعد أن خدم كنيسة أنطاكيا ككاهن وواعظ لمدة 12 سنة، تم تكريس يوحنا أسقفًا على مدينة القسطنطينية في عام 398، وبقي هناك خمس سنوات ونيف. وفي خدمته تلك، اهتم بإصلاح الإكليروس، وحض الكهنة، بالكلمة والمثل، لكي يعيشوا بشكل مطابق للإنجيل (22). كما ودعم الرهبان الذين يعيشون في المدن واهتم بحاجاتهم المادية، ولكنه اهتم أيضًا بإصلاح حياتهم، مشيرًا إلى أنهم عزموا على تكريس ذواتهم بشكل حصري للصلاة ولحياة العزلة (23).
وكان حريصًا جدًا على الهروب من إظهار الجاه، واعتنق، بالرغم من كونه أسقف عاصمة الإمبراطورية، أسلوب عيش متواضع، كان سخيًا للغاية في توزيع الحسنة على الفقراء.
كان يوحنا ينكب على الوعظ الأحد وفي الأعياد الأساسية. وكان حريصًا جدًا ألا يؤدي به التصفيق، الذي كان يتلقاه غالبًا لوعظه، إلى التخفيف من متانة الإنجيل الذي كان يعظ به. ولهذا كان يتذمر بعض الأحيان لأن الجماعة ذاتها التي كانت تصفق لعظاته، غالبًا ما كانت تتجاهل تحريضه لعيش حياة مسيحية أصيلة (24).
القسم الثاني
لم يتوانى يوحنا فم الذهب عن استنكار التناقض الكبير في المدينة بين تبذير الأغنياء المسرف، وبؤس الفقراء، وفي الوقت عينه كان يقترح على الأغنياء أن يستقبلوا المشردين في بيوتهم (25). كان يرى المسيح في الفقير؛ ولذا كان يدعو سامعيه إلى مشاركة هذه الرؤية وإلى العمل بموجبها (26). وكان شديد الإصرار على حماية الفقراء وتوبيخ الأغنياء المسرفين لدرجة أنه كان يجذب الانزعاج والعداوة من قبل بعض الأغنياء، ومن قبل من كان يسيطر على السلطة السياسية في المدينة (27).
تألق يوحنا في وسط أساقفة زمانه بفضل غيرته الإرسالية؛ فقد أوفد مرسلين ليبشروا بالإنجيل من لم يسمع به بعد (28). وبنى المستشفيات من أجل العناية بالمرضى (29). وفي عظة حول الرسالة إلى العبرانيين في القسطنطينية، صرح بأن المساعدة المادية من قبل الكنيسة، يجب أن تشمل كل المحتاجين، بِغَض النظر عن انتماءاتهم الدينية: “المحتاج هو خاصة الله، أكان وثنيًا أو عبرانيًا. وحتى لو لم يكن مؤمنًا هو يستحق العون” (30).
كان دور الأسقف في عاصمة الإمبراطورية يفرض على يوحنا أن يقوم بوساطة دقيقة في العلاقات بين الكنيسة والبلاط الأمبراطوري. ولذا غالبًا ما وجد نفسه عرضة للعداوة من قبل الكثير من مسؤولي السلطة الإمبريالية، وذلك بسبب ثباته في انتقاد الرخاء المسرف الذي كان يعيشه هؤلاء.
وفي الوقت عينه، كان مركزه كأسقف القسطنطينية يضعها في الموقع الصعب والدقيق الذي يفرض عليه أن يعالج سلسلة من المسائل الكنسية التي كانت تتعلق بأساقفة آخرين وبكراسٍ أسقفية أخرى. بسبب المؤامرات المحكمة التي كان يدبرها ضده خصومه الأقوياء، أكنسيين كانوا أو إمبرياليين، حكم الإمبراطور عليه بالنفي مرتين..
مات في 400 سبتمبر منذ 1600 سنة، في كومانا في البنطس، وهو في طريقه إلى مقر منفاه الثاني، بعيدًا عن رعيته الحبيبة في القسطنطينية.
- تعليم القديس يوحنا
انطلاقًا من القرن الخامس، ابتُدئ بتكريم فم الذهب في الكنيسة المسيحية بأسرها، في الشرق والغرب، وذلك لأجل شهادته الشجاعة في الدفاع عن الإيمان الكنسي ولأجل التزامه السخي في الخدمة الرعوية.
لقد استحق، بفضل تعليمه العقائدي ووعظه، ونظرًا لاهتمامه بالليتورجية المقدسة، أن يحصى في عداد آباء الكنيسة وملافنتها. وكذلك تم تعميم شهرة وعظه، انطلاقًا من القرن السادس، ولُقب بالذهبي الفم، “كيسوستوموس” باليونانية.
يقول فيه القديس أغسطينوس: “لاحظ يا يوليانوس في أية جماعة أدخلتك. هنا لديك أمبروسيوس من ميلانو… وهنا يوحنا فم الذهب… وهنا باسيليوس،… وهنا الآخرين، ومن الواجب أن يدفعك إجماع رأيهم على التفكير مليًا… فلقد أشعوا في الكنيسة الكاثوليكية لأجل انكبابهم على درس العقيدة. لبسوا واحتموا بالأسلحة الروحية وجاهدوا حروبًا عاتية ضد الهراطقة، وبعد أن أتموا بأمانة العمل الموكل إليهم من قبل الله، ما إنهم يرقدون في حضن السلام… هذا هو المكان الذي أدخلتك فيه، جماعة هؤلاء القديسين ليست حشد الشعب: فهم ليسوا أبناءً فقط، بل هم أيضًا آباء الكنيسة” (31).
هذا ويستحق ذكرًا خاصًا جهد القديس يوحنا فم الذهب الفائق لأجل تعزيز المصالحة والشركة الكاملة بين مسيحيي الشرق والغرب. وبوجه الخصوص، كانت مداخلته حاسمة في وضع حد للشقاق الذي كان يفصل كرسي أنطاكيا عن روما وسائر كنائس الغرب. في زمن سيامته كأسقف على القسطنطينية، أرسل يوحنا بعثة إلى البابا سيريشيوس إلى روما. ودعمًا لبرنامجه هذا، وفي إطار مشروع وضع حد للانقسام، نال معونة أسقف الإسكندرية في مصر. تجاوب البابا سيريشيوس مع المبادرة الدبلوماسية التي قام بها يوحنا؛ وهكذا تم حل الانقسام بطريقة سلمية وأعيدت الشركة التامة بين الكنائس.
ومن ثم، نحو نهاية حياته، عاد إلى القسطنطينية بعد النفي الأول، وكتب يوحنا إلى البابا إنشينسيوس وإلى فنريوس أسقف ميلانو، وكروماسيوس أسقف أكويليا، طالبًا إليهم المساعدة في إعادة النظام إلى كنيسة القسطنطينية التي كانت منقسمة بسبب الظلم الذي ارتكب بحق القديس. وقد دعا يوحنا البابا والأساقفة الغربيين إلى القيام بتدخل “هو عربون محبة لا لنا وحسب، بل للكنيسة بأسرها” (32).
ففي فكر يوحنا، عندما يتألم قسم من الكنيسة لجرح ما، تتألم الكنيسة بأسرها للجرح عينه. دافع البابا إينوشنسيوس عن يوحنا في بعض الرسائل الموجهة إلى أساقفة الكنائس الشرقية (33). وعبر البابا عن الشركة الكاملة معه، معتبرًا حطه عن الكرسي الأسقفي أمرًا غير شرعي (34). كتب في ما بعد إلى يوحنا لكي يعزيه (35)، وكتب أيضًا إلى الإكليروس والمؤمنين في القسطنطينية لكي يبين دعمه الكامل للأسقف الشرعي، واعترف البابا: “لقد تألم يوحنا، أسقفكم، ظلمًا” (36). كما وجمع البابا سينودسًا للأساقفة الإيطاليين والشرقيين من أجل تحصيل العدالة لصالح الأسقف المضطهد (37).
وبدعم إمبراطور الغرب، أرسل البابا بعثة من الأساقفة الغربيين والشرقيين إلى القسطنطينية، لدى إمبراطور الشرق، لكي يدافع عن يوحنا ويطلب أن يقوم سينودس مسكوني للأساقفة بإعطائه حقه (38).
وقبل موته في المنفى بقليل، بعد أن فشلت هذه المحاولات، كتب يوحنا إلى البابا إينوشنسيوس، شاكرًا إياه لأجل “التعزية الكبيرة” التي نالها من جراء الدعم السخي الذي حظي به (39).
وقد عبر يوحنا في رسالته أنه، بالرغم من مسافة النفي الشاسعة التي تفصلهما، كان “يومًا فيومًا في شركة” مع البابا، وكان يقول له: “لقد تخطيت أكثر الآباء حنانًا في محبتك وغيرتك نحونا”. وكان أيضًا يطلب إليه أن يثابر على التزامه في طلب العدالة لأجله ولأجل كنيسة القسطنطينية، لأن “المعركة التي أنت في صددها، يجب أن يتم القيام بها لأجل العالم بأسره، لأجل الكنيسة المذَلة حتى الحضيض، لأجل الشعب المشتت، لأجل الإكليروس المعتدى عليه، لأجل الأساقفة المنفيين، لأجل القوانين القديمة التي يتم التعدي عليها”. كما وكتب يوحنا إلى أساقفة الغرب الآخرين لكي يشكرهم لأجل تضامنهم (40): ومن بينهم، في إيطاليا، إلى كروناسيوس أسقف أكويليا (41)، وفنريوس أسقف ميلانو (42) وغودينسيوس أسقف بريشا (43).
الحواشي
[ملاحظة: نظرًا لعدم توفر القسم الأكبر من المراجع باللغة العربية، وحفاظًا على ترتيب العرض، تركنا المراجع ? التي نبغي أن يكون فيها فائدة للباحث والقارئ الذي يود التعمق ? كما وردت في النص الأصلي (المترجم)].
1 Cfr. Benedictus XVI, Discorso nella Chiesa Patriarcale di San Giorgio al Fanar, Istanbul, 29 novembre 2006.
2 Cfr. Pius X, Epistola venerabili Vincentio S.R.E. Card. Vannutelli (22 Iulii 1907): Acta Sanctae Sedis, Ephemerides Romanae, 40 (1907) 453-455.
3 Cfr. Pius XII, Litt. Enc. Divino afflante spiritu (30 settembre 1943): AAS 35 (1943) 316.
4 Cfr. Concilium Vaticanum II, Dei Verbum, n. 13, 18 novembre 1965. Cfr. Paulus VI, Discorso ai professori italiani di Sacra Scrittura in occasione del XXII settimana biblica nazionale, 29 settembre 1972.
5 Cfr. Ioannes XXIII, Litt. Enc. Princeps pastorum (28 novembre 1959): AAS 51 (1959) 846-847.
6 Cfr. Paulus VI, Litt. Enc. Mysterium fidei, n. 17 (3 settembre 1965): AAS 57 (1965) 756. Cfr. Benedictus XVI, Discorso durante la recita del Angelus, Castel Gandolfo, 18 settembre 2005; id., Sacramentum caritatis, n. 13, 22 febbraio 2007.
7 Cfr. Ioannes Paulus II, Lettera al Patriarca ecumenico di Costantinopoli, Sua Santità Bartolomeo I, 27 novembre 2004.
8 Cfr. Benedictus XVI, Discorso nella Chiesa Patriarcale di San Giorgio al Fanar, Istanbul, 29 novembre 2006.
9 Cfr. Johannes Chrysostomus, De sacerdotio 1,1-3 (SCh 272,60-76); Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 5 (SCh 341,104-110).
10 Cfr. Theodoretus Cyrrhensis, Historia religiosa 2,15; 8,5-8 (SCh 234, 226-8; 382-92).
11 Cfr. Johannes Chrysostomus, Laus Diodori episcopi (PG 52,761-766); Socrates, Historia ecclesiastica 6,3 (GCS, n.f. 1,313-315); Sozomenus, Historia ecclesiastica 8,2 (GCS 50,350-351).
12 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 5 (SCh 341,108-110).
13 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 5 (SCh 341,110-112).
14 Cfr. Johannes Chrysostomus, De incomprehensibili dei natura, (SCh 28bis, 93-322). Cfr. id., In illud: Pater meus usque modo operatur (PG 63,511-516); id., In illud: Filius ex se nihil facit (PG 56,247-256).
15 Cfr. Johannes Chrysostomus, De incomprehensibili dei natura 1,352-353 (SCh 28bis, 132).
16 Cfr. Johannes Chrysostomus, Ad populum Antiochenum 6,1 (PG 49,81).
17 Cfr. Johannes Chrysostomus, Ad populum Antiochenum 2-21 (PG 49,33-222); id., Ad illuminandos catecheses 2 (PG 49,231-240).
18 Cfr. Johannes Chrysostomus, Ad populum Antiochenum 2,1-3 (PG 49,33-38).
19 Cfr. Johannes Chrysostomus, Ad populum Antiochenum 2,5; 12,2; 17,2 (PG 49,40. 129. 180).
20 Cfr. Johannes Chrysostomus, Ad populum Antiochenum 3,2; 16,5 (PG 49,49-50; 168-169).
21 Cfr. Johannes Chrysostomus, Ad populum Antiochenum 4,1 (PG 49,62), citando Rom 5,4.
22 Cfr. Socrates, Historia ecclesiastica 6,4 (GCS, n.f. 1,315-316); Sozomenus, Historia ecclesiastica 8,3 (GCS 50,352-353); Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 5 (SCh 341,112).
23 Cfr. Johannes Chrysostomus, De Lazaro 3,1 (PG 48,932).
24 Cfr. Johannes Chrysostomus, In illud: Pater meus usque modo operatur (PG 63,511-516); id., In Acta apostolorum 30,4 (PG 60,226-228); id., Contra ludos et theatra (PG 56,263-270).
25 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Acta apostolorum 35,5; 45,3-4 (PG 60,252; 318-319). Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 5 (SCh 341,124).
26 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Colossenses 1,4 (PG 62,304-305).
27 Cfr. Johannes Chrysostomus, Cum Saturninus et Aurelianus 2 (PG 52,415-416).
28 Cfr. Theodoretus Cyrrhensis, Historia religiosa 5,31 (GCS 44,330-331); Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistulae ad Olimpiadem 9,5 (SCh 13bis, 236-238).
29 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 5 (SCh 341,122).
30 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Hebraeos 10,4 (PG 63,88).
31 Cfr. Augustinus Hipponensis, Contra Iulianum libri sex, 1,7,30-31 (PL 44,661-662).
32 Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistula ad Innocentium papam 1 (SCh 342,93).
33 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 3 (SCh 341,64-68); Innocentius I, Epistula 5 (PL 20,493-495).
34 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 3 (SCh 341,66-68).
35 Cfr. Sozomenus, Historia ecclesiastica 8,26 (GCS 50,384-385).
36 Cfr. Sozomenus, Historia ecclesiastica 8,26 (GCS 50,385-387).
37 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 4 (SCh 341,84).
38 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 3-4 (SCh 341,80-86).
39 Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistula ad Innocentium papam II (PG 52,535-536).
40 Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistulae 157-161 (PG 52,703-706).
41 Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistula 155 (PG 52,702-703).
42 Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistula 182 (PG 52,714-715).
43 Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistula 184 (PG 52,715-716).
44 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Joannem 65,1 (PG 59,361-362).
45 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 27,3 (PG 61,228).
46 Cfr. 1 Cor 1,2.
47 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 1,1 (PG 61,13).
48 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 30,1 (PG 61,249-251); id., In epistulam ad Colossenses 3,2-3 (PG 62,320); id., In epistulam ad Ephesios 3,2 (PG 62,26).
49Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Ephesios 3,2 (PG 62,26).
50 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Matthaeum 82,5 (PG 58,743).
51 Cfr. Ef 1,22-23.
52 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Ephesios 3,2 (PG 62,26). Cfr. ibid., 20,4 (PG 62,140-141).
53 Cfr. Benedictus XVI, Discorso durante la recita del Angelus, Castel Gandolfo, 18 settembre 2005.
54 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Matthaeum 32,7 (PG 57,386).
55 Cfr. 1 Cor 10,16.
56 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 24,2 (PG 61,200). Cfr. id., In Ioannem 46,3 (PG 63, 260-261); id., In epistulam ad Ephesios 3,4 (PG 62,28-29).
57 Cfr. 1 Cor 10,17.
58 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 24,2 (PG 61,200).
59 Cfr. Johannes Chrysostomus, De sacerdotio 3,4 (SCh 272,142-146). Cfr. Benedictus XVI, Sacramentum caritatis, n. 13, 22 febbraio 2007.
60 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Ioannem 46,3 (PG 63,261).
61 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Ephesios 3,4 (PG 62,28). Cfr. id., In epistulam i ad Corinthos 24 (PG 61,197-206); id., In epistulam i ad Corinthos 27,4 (PG 61,229-230); id., In epistulam i ad Timotheum 15,4 (PG 62,583-586); id., In Matthaeum 82,6 (PG 58,744-746).
62 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 24,4 (PG 61,203).
63 Cfr Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 27,5 (PG 61,230-231), id., In Genesim 5,3 (PG 54,602-603).
64 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 27,5 (PG 61,230).
65 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ii ad Corinthos 20,3 (PG 61,540). Cfr. id., In epistulam ad Romanos 21,2-4 (PG 60,603-607).
66 Cfr. Ioannes Paulus II, Patres Ecclesiae, n. 1 (2 gennaio 1980).
67 Cfr. Benedictus XVI, Discorso durante l’Udienza generale, 9 novembre 2005.
68 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Ioannem 46,4 (PG 63,262)C
القديس يوحنا فم الذهب
بقلم: البابا بندكتوس السادس عشر
رسالة الأب الأقدس بندكتس السادس عشر
لمناسبة الذكرى المئوية السادسة عشرة لوفاة
القديس يوحنا فم الذهب
التي صدرت في افتتاح المؤتمر العالمي “Chrysostomika II”،
الذي عقد في المعهد الآبائي “Augustinianum”،
وفي المعهد الحبري الشرقي
من 8 إلى 10 نوفمبر 2007.
*. مدخل
الفاتيكان، 14 نوفمبر 2007 (ZENIT.org). _ “”ما من شيء أنجع من الاعتدال واللطف” من أجل التغلب على خطأ لاهوتي”، هذا ما قاله البابا بندكتس السادس عشر في الرسالة التي وجهها البابا بندكتس السادس عشر إلى الأساقفة وإلى سائر المؤمنين بمناسبة الذكرى المئوية السادسة عشرة لوفاة القديس يوحنا فم الذهب، الأسقف وملفان البيعة.
ففي القسم الأول من الرسالة التي تأتي بمناسبة افتتاح المؤتمر العالمي “Chrysostomika II”، الذي عقد في المعهد الآبائي “Augustinianum”، وفي المعهد الحبري الشرقي من 8 إلى 10 نوفمبر 2007، استعرض الأب الأقدس شخصية القديس يوحنا فم الذهب، وأهميته على مر الأجيال. فعرض في ما عرض أفكار وتعليقات بعض البابوات بشأن القديس، وبوجه خاص، البابا بيوس الثاني عشر الذي سلط الضوء “على الإسهام الكبير الذي قدمه القديس يوحنا في تاريخ تفسير الكتاب المقدس مع نظرية “التنازل” أو “synkatábasis”. من خلالها، أقر فم الذهب أن “كلمات الله، التي تم التعبير عنها باللغة البشرية، صارت مشابهة للغة البشر”. لقد أدخل المجمع الفاتيكاني الثاني هذه الملاحظة في الدستور العقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله” (كلمة الله 13)”.
وبالحديث عن سيرة القديس يوحنا بين البابا الخصائص الأساسية التي ميزت الأسقف القديس وواعظ الكنيسة البارع. وقال الأب الأقدس في حديثه عن خدمة يوحنا الكهنوتية: “خلال 12 سنة من الخدمة الكهنوتية في كنيسة أنطاكيا، تميز يوحنا بشكل كبير بمؤهلاته في تفسير الكتاب المقدس بشكل يفهمه المؤمنون. وفي وعظه كان يجهد بحرارة لكي يقوي وحدة الكنيسة مشددًا في سامعيه الهوية المسيحية في لحظة تاريخية كانت هذه الهوية مهددة من الداخل ومن الخارج في الوقت عينه”.
كما وتميز القديس بالوداعة والفطنة في الحوار مع المعارضين إذ “لم يكن ليتوانى عن التوجه إلى المعارضين، مفضلاً أن يستعمل نحوهم الصبر بدل العدائية، لأنه كان يعتقد أنه من أجل التغلب على خطأ لاهوتي “ما من شيء أنجع من الاعتدال واللطف”.
ولم يتناسى عظاته أن يذكر سامعيه “بالمواقف التي يجب أن تميز التزام المسيحيين المدني، وبوجه خاص رفض الوسائل العنيفة في تعزيز التغيرات السياسية والاجتماعية”.
هذا “وكان حريصًا جدًا على الهروب من إظهار الجاه، واعتنق، بالرغم من كونه أسقف عاصمة الإمبراطورية، أسلوب عيش متواضع، كان سخيًا للغاية في توزيع الحسنة على الفقراء”.
ونظرًا لجدارته وبراعته في الوعظ، وغالبًا ما كان يوحنا يحظى بتصفيق المؤمنين إلا أنه “كان حريصًا جدًا ألا يؤدي به التصفيق، الذي كان يتلقاه غالبًا لوعظه، إلى التخفيف من متانة الإنجيل الذي كان يعظ به. ولهذا كان يتذمر بعض الأحيان لأن الجماعة ذاتها التي كانت تصفق لعظاته، غالبًا ما كانت تتجاهل تحريضه لعيش حياة مسيحية أصيلة”.
القسم الأوّل
أيها الإخوة الأجلاء في الأسقفية والكهنوت،
أيها الإخوة والأخوات الأعزاء في المسيح!
- مقدمة
يوافق هذه السنة المئوية السادسة عشرة لوفاة القديس يوحنا فم الذهب، أب الكنيسة الكبير الذي يرنو إليه بتكريم المسيحيون في كل الأزمنة. في الكنيسة القديمة، كان يوحنا فم الذهب يتميز لأنه عزز “لقاءً مثمرًا بين الرسالة المسيحية والثقافة الهيلينية” والتي “كان لها وقع بعيد الأثر على الكنائس الشرقية والغربية على حد سواء” (1).
يتردد صدى حياة وتعليم هذه الأسقف والملفان القديس في كل العصور وما زالت حتى اليوم تولد العجب الشامل. لطالما وجد الأحبار الرومانيون فيه منبعًا حيًا من الحكمة للكنيسة وضاعفوا اهتمامهم بتعليمه في القرن الأخير. فمنذ مئة سنة، تذكر القديس بيوس العاشر الذكرى المئوية الخامسة عشرة لوفاة القديس يوحنا، ودعا الكنيسة إلى الاقتداء بفضائله (2).
وسلط البابا بيوس الثاني عشر الضوء على الإسهام الكبير الذي قدمه القديس يوحنا في تاريخ تفسير الكتاب المقدس مع نظرية “التنازل” أو “synkatábasis”.. من خلالها، أقرّ فم الذهب أن “كلمات الله، التي تم التعبير عنها باللغة البشرية، صارت مشابهة للغة البشر” (3). لقد أدخل المجمع الفاتيكاني الثاني هذه الملاحظة في الدستور العقائدي في الوحي الإلهي “كلمة الله” (4).
كما وأشار الطوباوي يوحنا الثالث والعشرون الفهم العميق لدى فم الذهب للرباط بين الليتورجية الافخارستية والاهتمام بالكنيسة الجامعة (5). وبين خادم الله بولس السادس الطريقة التي “عالج بها بلغة بليغة وبتقوى كبيرة، السر الإفخارستي” (6).
أود أن أذكر المبادرة الهامة التي قام بها سلفي الحبيب، خادم الله يوحنا بولس الثاني في نوفمبر 2004، عندما سلم ذخائر هامة من القديس يوحنا فم الذهب والقديس غريغوريوس النزينزي إلى بطريركية القسطنطينية المسكونية. لقد لاحظ الحبر الأعظم كيف أن تلك البادرة كانت بحق بالنسبة للكنيسة الكاثوليكية والكنيسة الأرثوذكسية “مناسبة مباركة لتطهير ذاكراتنا الجريحة، ولكي نوطد مسيرة المصالحة” (7).
وأنا أيضًا خلال الزيارة الرسولية إلى تركيا، وفي كاتدرائية البطريركية في القسطنطينية، اغتنمت الفرصة لكي “أذكر القديسين والرعاة اللامعين الذي سهروا على كرسي القسطنطينية، ومن بينهم القديس غريغوريوس النزينزي والقديس يوحنا فم الذهب، الذين يكرمهما الغرب أيضًا كملافنة للبيعة… بالحقيقة، إنهم شفعاء أجلاء لنا أمام حضرة الرب” (8). لذا يسعدني أن تكون مناسبة الذكرى السادسة عشرة لوفاة القديس يوحنا فرصة مؤاتية لذكر شخصيته النيرة وتقديمها للكنيسة الجامعة من أجل البناء المشترك.
- حياة وخدمة القديس يوحنا
ولد القديس يوحنا فم الذهب في أنطاكيا في سوريا أواسط القرن الرابع. وتلقن الفنون الحرة بحسب التقليد الساري في زمانه وأظهر موهبة خاصة في فن الخطاب العام. خلال دراسته، وبينما ما زال فتيًا، طلب المعمودية وقبل دعوة أسقفه، ملتسيوس، لكي يقوم بالخدمة كقارئ في الكنيسة المحلية (9).
في ذلك الزمان، كان المؤمنون مضطربون بسبب الصعوبات التي كانوا يواجهونها في التعبير بشكل لائق عن ألوهية المسيح. أنضم يوحنا إلى صف المؤمنين الأرثوذكسيين الذين، بالتناغم مع مجمع نيقيا، كانوا يعترفون بملء ألوهية المسيح، بالرغم من أنه بسبب خيارهم هذا، لم يكونوا ليحظوا برضا الحكم الأمبراكوري في أنطاكيا (10).
بعد معموديته، اعتنق يوحنا سيرة التقشف. وتحت تأثير معلمه ديودوروس الطرسوسي، أراد أن يبقى بتولاً كل حياته فانكب على الصلاة والصوم القاسي وعلى درس الكتاب المقدس (11). وبعد أن غادر أنطاكيا، عاش حياة تقشفية في صحراء سوريا لمدة 6 سنوات، وبدأ بكتابة مؤلفات في الحياة الروحية (12). وفي ما بعد، عاد إلى أنطاكيا حيث خدم الكنيسة من جديد كقارئ، ومن ثم، لمدة 5 سنوات كشماس.
في عام 386، دعاه فلافيانوس، أسقف أنطاكيا إلى الكهنوت، فأضاف بذلك خدمة وعظ كلمة الله إلى الصلاة والنشاط الأدبي (13).
خلال 12 سنة من الخدمة الكهنوتية في كنيسة أنطاكيا، تميز يوحنا بشكل كبير بمؤهلاته في تفسير الكتاب المقدس بشكل يفهمه المؤمنون. وفي وعظه كان يجهد بحرارة لكي يقوي وحدة الكنيسة مشددًا في سامعيه الهوية المسيحية في لحظة تاريخية كانت هذه الهوية مهددة من الداخل ومن الخارج في الوقت عينه.
لقد فهم بحق أن وحدة المسيحيين ترتكز بشكل خاص على فهم حقيقي للسر المحوري في إيمان الكنيسة، أي سر الثالوث الأقدس وتجسد الكلمة الإلهي. وإذ وعى بوضوح صعوبة هذه الأسرار، جهد يوحنا لكي يجعل تعليم الكنيسة مفهومًا للأشخاص البسطاء في جماعته، في أنطاكيا، وفي ما بعد في القسطنطينية (14). ولم يكن ليتوانى عن التوجه إلى المعارضين، مفضلاً أن يستعمل نحوهم الصبر بدل العدائية، لأنه كان يعتقد أنه من أجل التغلب على خطأ لاهوتي “ما من شيء أنجع من الاعتدال واللطف” (15).
لقد تمكن يوحنا، في بدء خدمته الكهنوتية، بإيمانه المتين وقدرته في الوعظ، أن تهدئة الأنطاكيين، عندما زاد الأمبراطور وقر الضرائب على المدينة مؤديًا بذلك إلى انتفاضة دُمرت خلالها بعض المباني العامة.
بعد الانتفاضة، اجتمعت الناس في الكنيسة خوفًا من غضب الإمبراطور، متمنية أن تسمع من يوحنا كلمات رجاء مسيحي وتعزية، فقال لهم يوحنا: “إن لم نكن نحن من يعزيكم، أين يمكنكم أن تجدوا التعزية؟” (16).
وفي عظاته طوال الصوم، في تلك السنة، استعرض يوحنا الأحداث المتعلقة بالانتفاضة وذكر سامعيه بالمواقف التي يجب أن تميز التزام المسيحيين المدني (17)، وبوجه خاص رفض الوسائل العنيفة في تعزيز التغيرات السياسية والاجتماعية (18).
في هذا الإطار، كان يحض المؤمنين الأغنياء على ممارسة أعمال المحبة نحو الفقراء، لكي يبنوا مدينة عادلة، وفي الوقت عينه كان يحث المثقفين لكي يقبلوا أن يكونوا معلِّمين، وأن يجتمع كل المسيحيين في الكنائس لكي يتعلموا أن يحملوا بعضهم أثقال بعض (19).
بالمناسبة، كان يعرف كيف يعزي سامعيه محييًا فيهم الرجاء ومشجعًا إياهم على الثقة بالله، إن من أجل الخلاص الزمني، أو لأجل الخلاص الأبدي (20)، لأن “الضيقة تولد الصبر، والصبر يولد فضيلة راسخة، والفضيلة الراسخة تولد الرجاء” (رو 5، 3- 4) (21).
بعد أن خدم كنيسة أنطاكيا ككاهن وواعظ لمدة 12 سنة، تم تكريس يوحنا أسقفًا على مدينة القسطنطينية في عام 398، وبقي هناك خمس سنوات ونيف. وفي خدمته تلك، اهتم بإصلاح الإكليروس، وحض الكهنة، بالكلمة والمثل، لكي يعيشوا بشكل مطابق للإنجيل (22). كما ودعم الرهبان الذين يعيشون في المدن واهتم بحاجاتهم المادية، ولكنه اهتم أيضًا بإصلاح حياتهم، مشيرًا إلى أنهم عزموا على تكريس ذواتهم بشكل حصري للصلاة ولحياة العزلة (23).
وكان حريصًا جدًا على الهروب من إظهار الجاه، واعتنق، بالرغم من كونه أسقف عاصمة الإمبراطورية، أسلوب عيش متواضع، كان سخيًا للغاية في توزيع الحسنة على الفقراء.
كان يوحنا ينكب على الوعظ الأحد وفي الأعياد الأساسية. وكان حريصًا جدًا ألا يؤدي به التصفيق، الذي كان يتلقاه غالبًا لوعظه، إلى التخفيف من متانة الإنجيل الذي كان يعظ به. ولهذا كان يتذمر بعض الأحيان لأن الجماعة ذاتها التي كانت تصفق لعظاته، غالبًا ما كانت تتجاهل تحريضه لعيش حياة مسيحية أصيلة (24).
القسم الثاني
لم يتوانى يوحنا فم الذهب عن استنكار التناقض الكبير في المدينة بين تبذير الأغنياء المسرف، وبؤس الفقراء، وفي الوقت عينه كان يقترح على الأغنياء أن يستقبلوا المشردين في بيوتهم (25). كان يرى المسيح في الفقير؛ ولذا كان يدعو سامعيه إلى مشاركة هذه الرؤية وإلى العمل بموجبها (26). وكان شديد الإصرار على حماية الفقراء وتوبيخ الأغنياء المسرفين لدرجة أنه كان يجذب الانزعاج والعداوة من قبل بعض الأغنياء، ومن قبل من كان يسيطر على السلطة السياسية في المدينة (27).
تألق يوحنا في وسط أساقفة زمانه بفضل غيرته الإرسالية؛ فقد أوفد مرسلين ليبشروا بالإنجيل من لم يسمع به بعد (28). وبنى المستشفيات من أجل العناية بالمرضى (29). وفي عظة حول الرسالة إلى العبرانيين في القسطنطينية، صرح بأن المساعدة المادية من قبل الكنيسة، يجب أن تشمل كل المحتاجين، بِغَض النظر عن انتماءاتهم الدينية: “المحتاج هو خاصة الله، أكان وثنيًا أو عبرانيًا. وحتى لو لم يكن مؤمنًا هو يستحق العون” (30).
كان دور الأسقف في عاصمة الإمبراطورية يفرض على يوحنا أن يقوم بوساطة دقيقة في العلاقات بين الكنيسة والبلاط الأمبراطوري. ولذا غالبًا ما وجد نفسه عرضة للعداوة من قبل الكثير من مسؤولي السلطة الإمبريالية، وذلك بسبب ثباته في انتقاد الرخاء المسرف الذي كان يعيشه هؤلاء.
وفي الوقت عينه، كان مركزه كأسقف القسطنطينية يضعها في الموقع الصعب والدقيق الذي يفرض عليه أن يعالج سلسلة من المسائل الكنسية التي كانت تتعلق بأساقفة آخرين وبكراسٍ أسقفية أخرى. بسبب المؤامرات المحكمة التي كان يدبرها ضده خصومه الأقوياء، أكنسيين كانوا أو إمبرياليين، حكم الإمبراطور عليه بالنفي مرتين..
مات في 400 سبتمبر منذ 1600 سنة، في كومانا في البنطس، وهو في طريقه إلى مقر منفاه الثاني، بعيدًا عن رعيته الحبيبة في القسطنطينية.
- تعليم القديس يوحنا
انطلاقًا من القرن الخامس، ابتُدئ بتكريم فم الذهب في الكنيسة المسيحية بأسرها، في الشرق والغرب، وذلك لأجل شهادته الشجاعة في الدفاع عن الإيمان الكنسي ولأجل التزامه السخي في الخدمة الرعوية.
لقد استحق، بفضل تعليمه العقائدي ووعظه، ونظرًا لاهتمامه بالليتورجية المقدسة، أن يحصى في عداد آباء الكنيسة وملافنتها. وكذلك تم تعميم شهرة وعظه، انطلاقًا من القرن السادس، ولُقب بالذهبي الفم، “كيسوستوموس” باليونانية.
يقول فيه القديس أغسطينوس: “لاحظ يا يوليانوس في أية جماعة أدخلتك. هنا لديك أمبروسيوس من ميلانو… وهنا يوحنا فم الذهب… وهنا باسيليوس،… وهنا الآخرين، ومن الواجب أن يدفعك إجماع رأيهم على التفكير مليًا… فلقد أشعوا في الكنيسة الكاثوليكية لأجل انكبابهم على درس العقيدة. لبسوا واحتموا بالأسلحة الروحية وجاهدوا حروبًا عاتية ضد الهراطقة، وبعد أن أتموا بأمانة العمل الموكل إليهم من قبل الله، ما إنهم يرقدون في حضن السلام… هذا هو المكان الذي أدخلتك فيه، جماعة هؤلاء القديسين ليست حشد الشعب: فهم ليسوا أبناءً فقط، بل هم أيضًا آباء الكنيسة” (31).
هذا ويستحق ذكرًا خاصًا جهد القديس يوحنا فم الذهب الفائق لأجل تعزيز المصالحة والشركة الكاملة بين مسيحيي الشرق والغرب. وبوجه الخصوص، كانت مداخلته حاسمة في وضع حد للشقاق الذي كان يفصل كرسي أنطاكيا عن روما وسائر كنائس الغرب. في زمن سيامته كأسقف على القسطنطينية، أرسل يوحنا بعثة إلى البابا سيريشيوس إلى روما. ودعمًا لبرنامجه هذا، وفي إطار مشروع وضع حد للانقسام، نال معونة أسقف الإسكندرية في مصر. تجاوب البابا سيريشيوس مع المبادرة الدبلوماسية التي قام بها يوحنا؛ وهكذا تم حل الانقسام بطريقة سلمية وأعيدت الشركة التامة بين الكنائس.
ومن ثم، نحو نهاية حياته، عاد إلى القسطنطينية بعد النفي الأول، وكتب يوحنا إلى البابا إنشينسيوس وإلى فنريوس أسقف ميلانو، وكروماسيوس أسقف أكويليا، طالبًا إليهم المساعدة في إعادة النظام إلى كنيسة القسطنطينية التي كانت منقسمة بسبب الظلم الذي ارتكب بحق القديس. وقد دعا يوحنا البابا والأساقفة الغربيين إلى القيام بتدخل “هو عربون محبة لا لنا وحسب، بل للكنيسة بأسرها” (32).
ففي فكر يوحنا، عندما يتألم قسم من الكنيسة لجرح ما، تتألم الكنيسة بأسرها للجرح عينه. دافع البابا إينوشنسيوس عن يوحنا في بعض الرسائل الموجهة إلى أساقفة الكنائس الشرقية (33). وعبر البابا عن الشركة الكاملة معه، معتبرًا حطه عن الكرسي الأسقفي أمرًا غير شرعي (34). كتب في ما بعد إلى يوحنا لكي يعزيه (35)، وكتب أيضًا إلى الإكليروس والمؤمنين في القسطنطينية لكي يبين دعمه الكامل للأسقف الشرعي، واعترف البابا: “لقد تألم يوحنا، أسقفكم، ظلمًا” (36). كما وجمع البابا سينودسًا للأساقفة الإيطاليين والشرقيين من أجل تحصيل العدالة لصالح الأسقف المضطهد (37).
وبدعم إمبراطور الغرب، أرسل البابا بعثة من الأساقفة الغربيين والشرقيين إلى القسطنطينية، لدى إمبراطور الشرق، لكي يدافع عن يوحنا ويطلب أن يقوم سينودس مسكوني للأساقفة بإعطائه حقه (38).
وقبل موته في المنفى بقليل، بعد أن فشلت هذه المحاولات، كتب يوحنا إلى البابا إينوشنسيوس، شاكرًا إياه لأجل “التعزية الكبيرة” التي نالها من جراء الدعم السخي الذي حظي به (39).
وقد عبر يوحنا في رسالته أنه، بالرغم من مسافة النفي الشاسعة التي تفصلهما، كان “يومًا فيومًا في شركة” مع البابا، وكان يقول له: “لقد تخطيت أكثر الآباء حنانًا في محبتك وغيرتك نحونا”. وكان أيضًا يطلب إليه أن يثابر على التزامه في طلب العدالة لأجله ولأجل كنيسة القسطنطينية، لأن “المعركة التي أنت في صددها، يجب أن يتم القيام بها لأجل العالم بأسره، لأجل الكنيسة المذَلة حتى الحضيض، لأجل الشعب المشتت، لأجل الإكليروس المعتدى عليه، لأجل الأساقفة المنفيين، لأجل القوانين القديمة التي يتم التعدي عليها”. كما وكتب يوحنا إلى أساقفة الغرب الآخرين لكي يشكرهم لأجل تضامنهم (40): ومن بينهم، في إيطاليا، إلى كروناسيوس أسقف أكويليا (41)، وفنريوس أسقف ميلانو (42) وغودينسيوس أسقف بريشا (43).
الحواشي
[ملاحظة: نظرًا لعدم توفر القسم الأكبر من المراجع باللغة العربية، وحفاظًا على ترتيب العرض، تركنا المراجع ? التي نبغي أن يكون فيها فائدة للباحث والقارئ الذي يود التعمق ? كما وردت في النص الأصلي (المترجم)].
1 Cfr. Benedictus XVI, Discorso nella Chiesa Patriarcale di San Giorgio al Fanar, Istanbul, 29 novembre 2006.
2 Cfr. Pius X, Epistola venerabili Vincentio S.R.E. Card. Vannutelli (22 Iulii 1907): Acta Sanctae Sedis, Ephemerides Romanae, 40 (1907) 453-455.
3 Cfr. Pius XII, Litt. Enc. Divino afflante spiritu (30 settembre 1943): AAS 35 (1943) 316.
4 Cfr. Concilium Vaticanum II, Dei Verbum, n. 13, 18 novembre 1965. Cfr. Paulus VI, Discorso ai professori italiani di Sacra Scrittura in occasione del XXII settimana biblica nazionale, 29 settembre 1972.
5 Cfr. Ioannes XXIII, Litt. Enc. Princeps pastorum (28 novembre 1959): AAS 51 (1959) 846-847.
6 Cfr. Paulus VI, Litt. Enc. Mysterium fidei, n. 17 (3 settembre 1965): AAS 57 (1965) 756. Cfr. Benedictus XVI, Discorso durante la recita del Angelus, Castel Gandolfo, 18 settembre 2005; id., Sacramentum caritatis, n. 13, 22 febbraio 2007.
7 Cfr. Ioannes Paulus II, Lettera al Patriarca ecumenico di Costantinopoli, Sua Santità Bartolomeo I, 27 novembre 2004.
8 Cfr. Benedictus XVI, Discorso nella Chiesa Patriarcale di San Giorgio al Fanar, Istanbul, 29 novembre 2006.
9 Cfr. Johannes Chrysostomus, De sacerdotio 1,1-3 (SCh 272,60-76); Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 5 (SCh 341,104-110).
10 Cfr. Theodoretus Cyrrhensis, Historia religiosa 2,15; 8,5-8 (SCh 234, 226-8; 382-92).
11 Cfr. Johannes Chrysostomus, Laus Diodori episcopi (PG 52,761-766); Socrates, Historia ecclesiastica 6,3 (GCS, n.f. 1,313-315); Sozomenus, Historia ecclesiastica 8,2 (GCS 50,350-351).
12 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 5 (SCh 341,108-110).
13 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 5 (SCh 341,110-112).
14 Cfr. Johannes Chrysostomus, De incomprehensibili dei natura, (SCh 28bis, 93-322). Cfr. id., In illud: Pater meus usque modo operatur (PG 63,511-516); id., In illud: Filius ex se nihil facit (PG 56,247-256).
15 Cfr. Johannes Chrysostomus, De incomprehensibili dei natura 1,352-353 (SCh 28bis, 132).
16 Cfr. Johannes Chrysostomus, Ad populum Antiochenum 6,1 (PG 49,81).
17 Cfr. Johannes Chrysostomus, Ad populum Antiochenum 2-21 (PG 49,33-222); id., Ad illuminandos catecheses 2 (PG 49,231-240).
18 Cfr. Johannes Chrysostomus, Ad populum Antiochenum 2,1-3 (PG 49,33-38).
19 Cfr. Johannes Chrysostomus, Ad populum Antiochenum 2,5; 12,2; 17,2 (PG 49,40. 129. 180).
20 Cfr. Johannes Chrysostomus, Ad populum Antiochenum 3,2; 16,5 (PG 49,49-50; 168-169).
21 Cfr. Johannes Chrysostomus, Ad populum Antiochenum 4,1 (PG 49,62), citando Rom 5,4.
22 Cfr. Socrates, Historia ecclesiastica 6,4 (GCS, n.f. 1,315-316); Sozomenus, Historia ecclesiastica 8,3 (GCS 50,352-353); Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 5 (SCh 341,112).
23 Cfr. Johannes Chrysostomus, De Lazaro 3,1 (PG 48,932).
24 Cfr. Johannes Chrysostomus, In illud: Pater meus usque modo operatur (PG 63,511-516); id., In Acta apostolorum 30,4 (PG 60,226-228); id., Contra ludos et theatra (PG 56,263-270).
25 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Acta apostolorum 35,5; 45,3-4 (PG 60,252; 318-319). Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 5 (SCh 341,124).
26 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Colossenses 1,4 (PG 62,304-305).
27 Cfr. Johannes Chrysostomus, Cum Saturninus et Aurelianus 2 (PG 52,415-416).
28 Cfr. Theodoretus Cyrrhensis, Historia religiosa 5,31 (GCS 44,330-331); Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistulae ad Olimpiadem 9,5 (SCh 13bis, 236-238).
29 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 5 (SCh 341,122).
30 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Hebraeos 10,4 (PG 63,88).
31 Cfr. Augustinus Hipponensis, Contra Iulianum libri sex, 1,7,30-31 (PL 44,661-662).
32 Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistula ad Innocentium papam 1 (SCh 342,93).
33 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 3 (SCh 341,64-68); Innocentius I, Epistula 5 (PL 20,493-495).
34 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 3 (SCh 341,66-68).
35 Cfr. Sozomenus, Historia ecclesiastica 8,26 (GCS 50,384-385).
36 Cfr. Sozomenus, Historia ecclesiastica 8,26 (GCS 50,385-387).
37 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 4 (SCh 341,84).
38 Cfr. Palladius, Dialogus de vita Joannis Chrysostomi 3-4 (SCh 341,80-86).
39 Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistula ad Innocentium papam II (PG 52,535-536).
40 Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistulae 157-161 (PG 52,703-706).
41 Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistula 155 (PG 52,702-703).
42 Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistula 182 (PG 52,714-715).
43 Cfr. Johannes Chrysostomus, Epistula 184 (PG 52,715-716).
44 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Joannem 65,1 (PG 59,361-362).
45 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 27,3 (PG 61,228).
46 Cfr. 1 Cor 1,2.
47 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 1,1 (PG 61,13).
48 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 30,1 (PG 61,249-251); id., In epistulam ad Colossenses 3,2-3 (PG 62,320); id., In epistulam ad Ephesios 3,2 (PG 62,26).
49Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Ephesios 3,2 (PG 62,26).
50 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Matthaeum 82,5 (PG 58,743).
51 Cfr. Ef 1,22-23.
52 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Ephesios 3,2 (PG 62,26). Cfr. ibid., 20,4 (PG 62,140-141).
53 Cfr. Benedictus XVI, Discorso durante la recita del Angelus, Castel Gandolfo, 18 settembre 2005.
54 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Matthaeum 32,7 (PG 57,386).
55 Cfr. 1 Cor 10,16.
56 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 24,2 (PG 61,200). Cfr. id., In Ioannem 46,3 (PG 63, 260-261); id., In epistulam ad Ephesios 3,4 (PG 62,28-29).
57 Cfr. 1 Cor 10,17.
58 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 24,2 (PG 61,200).
59 Cfr. Johannes Chrysostomus, De sacerdotio 3,4 (SCh 272,142-146). Cfr. Benedictus XVI, Sacramentum caritatis, n. 13, 22 febbraio 2007.
60 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Ioannem 46,3 (PG 63,261).
61 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ad Ephesios 3,4 (PG 62,28). Cfr. id., In epistulam i ad Corinthos 24 (PG 61,197-206); id., In epistulam i ad Corinthos 27,4 (PG 61,229-230); id., In epistulam i ad Timotheum 15,4 (PG 62,583-586); id., In Matthaeum 82,6 (PG 58,744-746).
62 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 24,4 (PG 61,203).
63 Cfr Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 27,5 (PG 61,230-231), id., In Genesim 5,3 (PG 54,602-603).
64 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam i ad Corinthos 27,5 (PG 61,230).
65 Cfr. Johannes Chrysostomus, In epistulam ii ad Corinthos 20,3 (PG 61,540). Cfr. id., In epistulam ad Romanos 21,2-4 (PG 60,603-607).
66 Cfr. Ioannes Paulus II, Patres Ecclesiae, n. 1 (2 gennaio 1980).
67 Cfr. Benedictus XVI, Discorso durante l’Udienza generale, 9 novembre 2005.
68 Cfr. Johannes Chrysostomus, In Ioannem 46,4 (PG 63,262)C
Discussion about this post