رسالة عامة
خُلصنا في الرجاء
للحبر الأعظم بندكتوس السادس عشر
للأساقفة
للكهنة وللشمامسة للأشخاص المكرّسين
ولجميع المؤمنين العلمانيّين
حول الرجاء المسيحي
LETTRE ENCYCLIQUE
SPE SALVI
DU SOUVERAIN PONTIFE
BENOÎT XVI
AUX ÉVËQUES,
AUX PRËTRES ET AUX
DIACRES
AUX PERSONNES
CONSACRÉES
ET À TOUS LES FIDÈLES
LAÏCS
SUR L’ESPÉRANCE CHRÉTIENNE
حاضرة الفاتيكان
2007
منشورات
اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام
جل الديب – لبنان
نشرت بعناية
المجمع المقدس للكنائس الشرقية
الفاتيكان
مقدمة
- «خُلصنا في الرجاء»– «SPE SALVI facti sums» بالرجاء خُلصنا جميعاً، يقول القديس بولس لأهل روما، ولنا أيضاً (رو 8/24). بحسب الإيمان المسيحي، ليس الفداء، الخلاص، من معطيات الواقع البسيط. لفداء قُدّمَ لنا بمعنى أنّ الرجاء أُعطي لنا، رجاء يَستحق ثقتنا، به نستطيع مواجهة حاضرنا؛ فالحاضر، وإن مزعجاً، قد نعيشه ونقبل به إن كان يقودنا إلى نهاية وإن كنّا متأكدّين من هذه النهاية، وان كانت هذه النهاية كبيرة بحيث تستطيع تبرير جهود الطريق. هنا يُفرض علينا سؤال مباشرة: لكن، أيّ نوع من الرجاء هو هذا الذي يستطيع أن يبرّر التأكيد القائل، انطلاقاً منه، وفقط لأنّه موجود، بأننّا نحن مُشتَرون؟ وعلى أيّ نوع من التأكيد نتكلّم؟
الإيمان هو رجاء
- قبل أن نلتزم بهذه الأسئلة، وهي بخاصة اليوم متواترة، علينا أن نُصغي أيضاُ بانتباه أكبر إلى شهادة الكتاب المقدس بخصوص الرجاء. «فالرجاء»، في الكتاب المقدس، هو كلمة مركزيّة للإيمان الكتابي، إلى حدّ أنّه، في بعض النصوص، تبدو الكلمتان «ايمان» و«رجاء» وكأنهما كلمة واحدة. وهكذا فالرسالة إلى العبرانيّين تضم! بدقّة إلى «ملء الإيمان» (10/22) الإعلان الثابت للرجاء (10/23). وهكذا أيضاً، عندما تحضّ رسالة بطرس الأولى المسيحي على أن يكون دوماً مستعداً إلى أن يقدّم جواباً حول «اللوغوس – الكلمة» logos – «المعنى والفكرة» – عن رجائه (3/15)، فكلمة رجاء توازي كلمة إيمان. ما كان حاسماً لضمير المسيحيّين الأوّلين، أي قبول رجاء يستحقّ التصديق كعطيّة، يبرز أيضاً حيث تتقابل الحياة المسيحيّة مع الحياة قبل الإيمان أو مع وضع أعضاء ديانات أخرى. يذكّر بولس أهل أفسس أنّه قبل لقائهم بالمسيح كانوا «بدون رجاء وبدون إله في العالم» (أف 2/12). طبعاً كان يعرف أنّه كان لهم ديانة لكنّ آلهتهم كانت قابلة الاعتراض ومن أساطيرهم المتناقضة لا يبان أيّ رجاء. فبالرغم من الآلهة، كانوا «بدون إله». لذا كانوا يعيشون في عالم مظلم أمام مستقبل مجهول. «In nihil ab nihilo quam cito recidimus» «من العدم وفي العدم كم مرّة سقطنا»[1]، كما تقول كتابة على أحد قبور تلك الأزمنة – كلمات يظهر فيها بدون لبس ما كان بولس يعنيه. بهذا المعنى، يقول لأهل تسالونيكي: لا يجب أن تكونوا «محبطين كغيركم الذين لا رجاء لهم» (1 تس 4/13). هنا أيضاً يظهر كعنصر يميِّز المسيحيّين أنهّم لديهم مستقبل: هذا لا يعني أنّهم يعرفون بالتفاصيل ما ينتظرهم؛ لكنّهم يعرفون، بنوع عام، أنّ حياتهم لا تنتهي في العدم. عندما يتأكدّون من المستقبل كحقيقة إيجابيّة، عندئذٍ فقط يصبح الحاضر قابلاً للحياة. لذا يمكننا القول الآن: لم تكن المسيحيّة «بُشرى سارة» فحسب – أي نقل محتوى كان لا يزال مجمولاً. في لغتنا، نقول: لم تكن المسيحية، «إعلاميّة» فحسب بل «إكماليّة». هذا يعني انّ الإنجيل ليس فقط نقل عناصر نستطيع معرفتها، بل نقلٌ يُنتجُ أحداثاً ويُغيّر الحياة. باب الزمن المظلم، باب المستقبل، فُتح على مصراعية؛ من لديه الرجاء يعيش بطريقة مميّزة. إذ حياة جديدة أُعطيت له.
- والآن هناك سؤال يُطرح: علامَ يقوم هذا الرجاء الذي، بصفته رجاء، هو «فداء»؟ في الواقع، قلب الجواب نجده في مقطع الرسالة إلى أهل أفسس المذكور سابقاً: كان الأفسسيون، قبل لقائهم بالمسيح، بدون رجاء لأنهم كانوا «بدون إله في العالم». أن نصل إلى معرفة الله، الإله الحقيقي، هذا يعني أن نقبل الرجاء. بالنسبة إلينا، نحن العائشين منذ البدء مع الفكرة المسيحية عن الله والذين اعتدنا عليها، امتلاك الرجاء المتأتّي من اللقاء الحقيقي مع هذا الإله نكاد لا نشعر به. مَثَل قدّيسة من عصرنا يساعدنا على فهم معنى اللقاء بهذا الإله للمرّة الأولى وفي الحقيقة. أفكّر هنا بالإفريقيّة جوزفين بَخيتا التي أعلن قداستها البابا يوحنا بولس الثاني. وُلدت حوالي 1869 – فهي لم تكن تعرف تاريخ ولادتها بالتمام – في دارفور، في السودان. في عمر التسع سنين اختطفها تجّار العبيد وضربوها ودمّموها وباعوها خمس مرّات في اسواق النخاسة السودانيّة؛ وأخيراً، كعبدة، وجدت ذاتها في خدمة أمّ عماد في الجيش السوداني وزوجته؛ وكانت كلّ يوم تُضرب حتّى الدم. فنتج عن ذلك 144 جرحاً رافقوها مدى حياتها. أخيراً سنة 1882، بيعت إلى تاجر إيطالي سلّمها للقنصل الإيطالي كاليستو لنياني الذي، بسبب تقدّم المهديّين، عاد إلى إيطاليا. هناك، بعد أن كانت إلى ذلك الحين مُلكاً «لأسياد» مُرعبين حقّاً، عرفت بخيتا «سيداً» مغايراً تماماً. في لغة أهل البندقية، وكانت قد تعلّمتها، أصبحت تنادي «سيّدي» الإله الحيّ، إله يسوع المسيح. إلى ذلك الحين، لم تكن قد عرفت، سوى أسياد يحتقرونها ويسيؤون معاملتها، أو، في أحسن الحالات، يعتبرونها كعبدة مفيدة. أمّا اليوم فأصبحت تسمع أنّ هناك سيّدا يعلو كلّ الأسياد، سَيّد السادة. وأنّ هذا السيّد صالح، لا بل الصلاح بالذات. وتعلّمت أنّ هذا السيّد يعرفها هي أيضاً وأنّه خلقها هي أيضاً – وأكثر من ذلك أنّه يحبّها. هي ايضاً كانت محبوبة من هذا السيّد الأعلى بالذات. بالنسبة إليه لم يكن الأسياد الآخرون سوى خدّام مساكين. كانت معروفة ومحبوبة وكانت أيضاً مُنتظَرة. وأكثر من ذلك، كان هذا السيّد قد واجه مصير الضرب وهو الآن ينتظرها «عن يمين الآب». مذّّاك صار لديها رجاء، ليس فقط الأمل الصغير في أن تجد أسياداً أقلّ قسوة، لكن الرجاء الكبير: أنا محبوبة الى الأبد، مهما حدث لي فهذا الحب ينتظرني. هكذا أصبحت حياتي حلوة. بمعرفة هذا الرجاء، قد «افتُدِيت». لم تعد تشعر بأنّها عبدة بل ابنة الله الحرّة. فهمت ما كان يعني بولس عندما كان يذكّر أهالي أفسس بأنّهم كانوا قبلاً بدون رجاء وبدون إله في العالم – بدون رجاء لأنّهم بدون إله. لذلك فعندما أرادوا أن يعيدوا بخيتا إلى السودان، رفضت. لم تعد مستعدّة للافتراق عن «سيّدها» من جديد. في التاسع من كانون الثاني 1890، قبلت العماد والتثبيت وتناولت للمرّة الأولى من يد بطريرك البندقيّة. في الثامن من كانون الأوّل 1896، في فيرونا، أعلنت نذورها في رهبنة الأخوات الكانوسيان، ومذّاك، بالإضافة إلى عملها في السكرستيّا وفي بوّابة الدير، بدأت بخاصّة في أسفارها المتعدّدة، تدعو في إيطاليا إلى الرسالة: والحريّة، التي تمتّعت بها بلقائها بإله يسوع المسيح، شعرت بواجب نشرها ونقلها إلى الآخرين، إلى أكبر عدد ممكن من الأشخاص. والرجاء الذي وُلد لها «وافتداها» لم تستطع أن تحتفظ به لنفسها. هذا الرجاء كان يجب أن يعمّ أشخاصاً كثيرين، أن يعمّ العالم كلّه.
معنى الرجاء المبني على الإيمان في العهد الجديد وفي الكنيسة الأولى
- قبل أن نبحث في قضيّة معرفة إذا كان اللقاء بالله الذي، في المسيح، أبان لنا وجهه وفتح قلبه، يمكن أن يكون لنا ايضاً ليس فقط «معلوماتيّاً» بل أيضاً «إكماليّاً»، أي إذا كان بإمكانه تغيير حياتنا بنوع أنّنا نشعر بأنّنا افتُدينا بالرجاء الذي يعبّر عنه هذا اللقاء، فلنعد هنا أيضاً إلى الكنيسة الأولى. ليس من الصعب أن نلاحظ أن اختبار العبدة الأفريقيّة الصغيرة بخيتا كان أيضاً اختبار أناس عديدين ضُربوا وحُكمَ عليهم بالعبوديّة في بدء الحياة المسسيحيّة. لم تكن المسيحيّة قد حملت رسالة اجتماعيّة ثوريّة كثورة نبارتاكوس التي فشلت في حروب دامية. ليس يسوع نبارتاكوس، لم يكن محارباً لأجل تحرير سياسي كسبارتاكوس أو بركوبا. فالمسيح، الذي مات شخصيّاً على الصليب، حمل إلى الأرض أشياء مغايرة تماماً: اللقاء بسيّد جميع السادة، اللقاء بالإله الحي، وكذلك اللقاء بالرجاء الذي كان أقوى من آلام العبوديّة والذي، لهذا، كان يحوّل من الداخل الحياة والعالم. هذا ما جاء جديداً في رسالة القديس بولس الى فيلمون. إنّها رسالة جدّ شخصيّة كتبها بولس في سجنه وسلّمها إلى العبد الهارب أونازيم ليوصلها إلى السيّد فيلمون بالذات. يردّ بولس العبد إلى سيّده من حيث هرب ويردّه لا بأمر بل بصلاة: «أريد أن أسألك شيئاً بخصوص ولدي الذي، في سجني منحته حياة المسيح… أردّه إليك هذا الذي يؤلّف جزءاً منّي… إن كان قد ابتعد عنك لزمن، فذلك لكي تعود وتجده نهائياً، لا كعبد، لكن أفضل من عبد، كأخ حبيب» (فيل 10/16). الناس الذين، بحسب فئاتهم الاجتماعية، تقوم بينهم علاقات أسياد وعبيد، بصفتهم أعضاء في الكنيسة الواحدة، أصبحوا إخوة وأخوات بعضهم لبعض. هكذا يدعو المسيحيون بعضهم بعضاً. بفضل العماد، وُلدوا من جديد وشربوا من روح واحد واقتبلوا جسد الرب جنباً إلى جنب. وإذا كانت الهيكليّات الخارجيّة ظلّت هي ذاتها، فالمجتمع الآن تغيّر من الداخل. إذا كانت الرسالة الى العبرانيين تقول أن ليس للمسيحيّين على الأرض منزل ثابت بها إنمّا ينتظرون المنزل العتيد (عب11/13-16: في 3/20)، فهذا ليس إحالة إلى ترقّب مستقبلي بسيط: المجتمع الحالي في نظر المسيحيّين يُعتبر مجتمعاً ناقصاً؛ فهم ينتمون إلى مجتمع جديد يسيرون نحوه وهو في حجّهم حاضرٌ سلفاً.
- علينا أن نضيف أيضاً رأياً جديداً: الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس (1/18-31) تُظهر لنا أنّ فريقاً من المسيحيّين الأول كانوا من طبقة شعبيّة، فقيرة، ولأجل ذلك كانوا معديّن للقيام باختبار الرجاء الجديد، كما رأينا في مَثَل بخيتا. لكن منذ البدء كان هناك أيضاً اهتداءات في الطبقات الأرستقراطيّة والمثقّفة، وهم أيضاً كانوا يعيشون «بدون رجاء لأنّهم كانوا بدون إله في العالم». فالأسطورة كانت قد فقدت مصداقيتها؛ ديانة الدولة الرومانيّة كانت قد هرمت وتحولّت إلى احتفالات فارغة، يمارسونها بدقّة إنما كانت أصبحت «ديانة سياسيّة». العقلانيّة الفلسفيّة كانت قد حصرت الألهة في عالم الأوهام. الإلهي كان يُنظر إليه من خلال أشكال عدّة في قوى الكون، إنّما لم يكن هناك إله واحد يستطيعون الصلاة له. وبولس يصوّر هذه المشكلة الدينيّة الأساسيّة آنذاك بطريقة ملائمة، عندما يعارض «الحياة بحسب المسيح» بحياة بحسب سلطان «عناصر الكون» (كول 2/8). في هذا المجال، نصّ من القدّيس غريغوريوس النزينزي يوضح هذه الفكرة: يقول إنّ الوقت الذي سجد فيه المجوس للملك الجديد، وقد قادتهم النجمة، هو وقت نهاية التنجيم، إذ منذ ذلك اليوم تدور النجوم بحسب المدار الذي يقرّره المسيح[2]. وفعلاً، في هذا المشهد انقلبت النظرة الى العالم آنذاك إلى نظرة لا تزال، بشكل مغاير، منتشرة اليوم. ليست شريعة المادة، أي عناصر الكون، التي في النهاية تتحكّم بالعالم والإنسان، بل إله شخصي يتحكّم بالنجوم أي بالكون. ليست شريعة المادّة والتطوّر هي الحَكَم النهائي، بل العقل والإرادة والمحبّة – أي شخص – وإذا كنّا نعرف هذا الشخص وإذا كان يعرفنا، يكون آنذاك الحَكم النهائي ليس قوّة العناصر الماديّة المتصلّبة ولم نعد نحن عبيد الكون وشرائعه. إذن نحن أحرار. في الأيّام القديمة، كان هذا الوعي يحدّد العقول التي تبحث بصدق. فالسماء ليست فارغة وليست الحياة نتيجة شرائع وأسباب ماديّة محضة؛ ولكن في كلّ شيء ودائماً فوق كلّ شيء، هناك إرادة شخصيّة، روح ظهرت في يسوع حبّاً[3].
- نواويس الزمن المسيحي الأوّل توضح بطريقة حسيّة هذه النظرة أمام الموت بحيث يصبح تجاهها السؤال الذي يهتّم بمعنى الحياة محتوماً. وجه المسيح مصوَّر على النواويس القديمة بخاصّة بواسطة صورتين: صورة الفيلسوف وصورة الراعي. لم تكن آنذاك كلمة فيلسوف تعني نظاماً أكاديمياً صعباً كما نفهمه اليوم، بل بالأحرى الإنسان الذي كان يعلّم العلوم الأساسيّة: فنّ صُنع إنسان بطريقة صحيحة – فنّ الحياة والموت. فمنذ زمان طويل، عرف الناس بالتأكيد أنّ قسماً كبيراً من الذين يدّعون الفلسفة كأساتذة حياة، لم يكونوا سوى بهلوانات يجمعون الأموال بكلامهم بينما لم يكن لديهم شيء ما يقولونه حول الحياة الحقيقيّة. كانوا يبحثون عن الفيلسوف الحقيقي الذي يستطيع أن يدلّهم على درب الحياة. حول نهاية القرن الثالث، نرى للمرّة الأولى في روما، على ناووس ولد، في إطار قيامة لعازر، المسيح في شكل الفيلسوف الحقيقي الذي يحمل الإنجيل في يد وفي الأخرى عصا السفر الخاص بالفيلسوف. بعصاه انتصر على الموت. فالإنجيل يحمل الحقيقة التي كان الفلاسفة الجوّالون يبحثون عنها. في هذه الصورة، التي بقيت في فنّ النواويس مدّة طويلة، لا شكّ في أنّ المثقفيّن كما الناس البسطاء كانوا يتعرّفون إلى المسيح: إنّه يقول لنا مَن هو الإنسان حقّاً وما يجب أن يعمل ليكون حقّاً إنساناً. إنّه يدلّنا على الطريق وهذه الطريق هي الحقيقة. وهو ذاته هو في الوقت عينه هذه وتلك فهو إذن ايضاً الحياة التي نبحث عنها جميعاً. هذا ما نراه أيضاً في صورة الراعي. كما في صورة الفيلسوف، كانت الكنيسة الأولى أيضاً تهتّم بنماذج مأخوذة من الفنّ الروماني. في هذا الفنّ، كان الراعي عادة يعبّر عن حياة هادئة وبسيطة كان الناس يحنّون إليها في فوضى المدينة الكبيرة. كانت الصورة تُرى في إطار سيناريو جديد يضفي عليها معنى أعمق: «الربّ راعيّ: لا يعوزني شيء… إذا اجتزت وديان الموت لا أخاف سوءاً لأنكَ معي» (مز 22 [23]، 1. 4). الراعي الحقيقي هو أيضاً الذي يعرف الطريق الذي يجتاز وديان الموت، والذي يَسير معي أيضاُ على طريق الوحدة النهائية حيث لا يستطيع أحد أن يرافقني فيساعدني لاجنيازها. فهو مرّ بهذه الطريق ونزل إلى مملكة الموت وانتصر عليه وعاد الآن لكي يرافقنا ويؤكّد لنا أنّ معه نجد ممرّاً. أن نعي أنّ هناك من يرافقنا أيضاً في الموت والذي «بعصاه» يقودني ويعطيني الأمان بحيث «لا أخاف سوءاً» (مز 22 [23]، 4)، هذا كان الرجاء الجديد الظاهر في حياة المؤمنين.
- علينا أن نعود أيضاً إلى العهد الجديد. في الرسالة إلى العبرانيين، الفصل الحادي عشر (11/1) نجد شبه تحديد للإيمان، يربط برباط قوّي الإيمان بالرجاء. حول الكلمة المركزيّة من هذه الجملة، ظهر منذ عصر الإصلاح، جدل بين علماء الكتاب المقدّس حيث نكاد نرى اليوم طريقاً إلى تفسير مشترك. اترك الآن هذه الكلمة المركزيّة بدون ترجمة؛ فالجملة تبدو كما يلي: الإيمان هو هيبوستازيس hypostasis بالخيور التي نرجوها والبرهان عن الحقائق التي لا تُرى. في نظر الآباء ولاهوتيي القرون الوسطى، كان واضحاً أن كلمة هيبوستازيس hypostasis كان يجب أن تترجم بكلمة سوبستانسيا substantia أي جوهر. الترجمة اللاتينية للنصّ التي ظهرت في الكنيسة القديمة تعني إذن: «الإيمان هو جوهر الحقائق المرجوّة والبرهان عن الحقائق التي لا تُرى «Est autem fides sperandarum substantia rerum, argumentum non apparentium». والقدّيس توما[4]، الذي أخذ تعابير التقليد الفلسفي حيث يعيش، شرحه كما يلي: الإيمان هو «هابيتوس» «habitus» أي استعداد دائم للعقل به تولد فينا الحياة الأبديّة وبه يسلّم العقل بما لا يُرى. فكرة الجوهر تحوّلت بمعنى أنّنا بالإيمان وببدئه يمكننا القول «ببزيرة» أي بحسب الجوهر، منذ الآن حاضرة فينا الخيور التي نرجوها – الكمال، الحياة الحقّة. ولأنّ هذه الخيور ذاتها حاضرة، فحضور ما سوف يتحقّق يلد أيضاً يقيناً: هذه الخيور التي يجب أن تأتي ليست منظورة بعد في العالم الخارجي (لا تظهر) إنما كونها حقيقة أولى وديناميكيّة نحملها في داخلنا، يولد فينا الآن شيء من الشعور بهذه الخيور. في نظر لوتيروس، بما أنّه لم يكن يحب الرسالة الى العبرانيّين، فكرة «الجوهر» في إطار نظرته إلى الإيمان لم تكن تعني شيئاً. لذلك فَهِمَ عبارة هيبوستاز – سوبستانس hypostase/substance لا بالمعنى الموضوعي (حقيقة حاضرة فينا)، بل بالمعنى الذاتي، كتعبير عن استعداد، ومن هنا كان عليه أن يفهم ايضاً طبيعياً الكلمة أرغومنتوم argumentum كجهوزيّة من قِبَل الإنسان. هذا التفسير قوي في القرن العشرين – اقلّه في إلمانيا – حتى في اللاهوت الكتابي الكاثوليكي، بحيث أنّ الترجمة المسكونيّة للعهد الجديد باللغة الإلمانيّة، التي صادق عليها الأساقفة، تقول: (الإيمان يعني أن نكون ثابتين فيما نرجوه وأن نقتنع بما لا نراه) «Glaube aber ist: Feststehen in dem, was man erhofft, Überzeugtsein von dem, was man nich sieht». هذا ليس خطأً في حدّ ذاته لكنّه ليس هو معنى النصّ لأنّ الكلمة اليونانيّة المستعملة elenchos (إلنكوس) ليس لها قيمة ذاتيّة بمعنى «اقتناع» بل المعنى الموضوعي أي «البرهان». إذن التفسير الكتابي البروتستانتي الحديث توصّل إلى اقتناع مغاير: «الآن لم يعد بالإمكان الشكّ بأنّ هذا التعبير البروتستانتي، الذي صار كلاسيكيّاً، يتعذّر دعمه»[5]. ليس الإيمان انجذاباً شخصياً نحو الخيور الآتية فحسب، وهي لا تزال خفيّة؛ إنّه يعطينا شيئاً. إنّه يعطينا منذ الآن شيئاً من الواقع المنتظر. والحقيقة الحاضرة هي لنا «برهان» على الخيور التي لا نراها حتى الآن. إنه يجذب المستقبل إلى الحاضر بحيث أنّ المستقبل ليس «الذي لم يحضر بعد» فقط. وجود هذا المستقبل يغيّر الحاضر؛ فالحاضر منّة الحقيقة العتيدة، كذلك فالخيور الآتيّة تنصبّ على الخيور الحاضرة والخيور الحاضرة على الخيور المستقبلة.
- هذا الشرح يقوى فيما بعد ويتعلّق بالحياة الظاهرة، إذا ما اعتبرنا الآية 14 من الفصل العاشر من الرسالة الى العبرانيّين التي، انطلاقاً من معناها اللغوي والمحتوى، ترتبط بتحديد إيمان مليء بالرجاء ويهيؤه. هنا يكلّم الكاتب المؤمنين الذين اختبروا الاضطهاد فيقول لهم: «اشتركتم بآلام السجناء وقبلتم بفرح اغتصاب خيراتكم (هيبَر كوتون) (hyparchonton – Vulgate: bonorum) وأنتم عارفون أنّكم تمتلكون خيرات أفضل (هيباركسن) (hyparxin – Vulgate: substantiam) وأثبت. هيباركونتا «hyparchonta» تعني الأملاك، كل ما في حياة الأرض يؤلّف الأساس، الجوهر. هذا الجوهر، الأمان العادي في الحياة، انتزع من المسيحيّين إبّان الاضطهادات التي احتملوها لأنّهم يعتبرون هذا «الجوهر» المادّي كشيء عابر. كان بوسعهم تركه لأنّهم وجدوا «أساساً» أفضل لحياتهم – أساسا باقياً ولا يستطيع أحد أن ينتزعه منهم. لا يمكننا ألاّ أن نرى العلاقة بين هذين النوعين من «الجوهر»، بين الأساس المادّي وتأكيد الإيمان كأساس جديد، اساس جديد يستطيع الإنسان أن يتكّل عليه. وهكذا فالأساس العادي، الثقة بالمعطَى المادّي، يصبح حقّاً نسبيّاً. فتقوم حريّة جديدة تجاه هذا الأساس للحياة، التي وحدها تستطيع ظاهراً الحفاظ عليه حتى وإن كانوا لم يتنكّروا له. هذه الحرّية الجديدة، وهي الجوهر الجديد الذي أُُُعطيناه، لم يظهر فقط في الاستشهاد، حيث عارض الناس الحكم المتطرّف للإيديولوجيا ولممثلّيها السياسيّين، والذين بموتهم جدّدوا العالم. لقد ظهر بنوع خاصّ في التجرّد الهامّ بدءاً برهبان الزمان الأوّل حتّى فرنسيس الأسيزي وبالبعض من معاصرينا الذين، في الرهبنات الحديثة والحركات الدينيّة، حبّاً بالمسيح، تركوا كلّ شيء لكي يحملوا للناس الإيمان ومحبّة المسيح ولكي يساعدوا المتألميّن في جسدهم وروحهم. هنا ظهر «الجوهر» الجديد حقّاً. من رجاء الذين مسّهم المسيح ظهر الرجاء للآخرين الذين كانوا يعيشون في الظلمة واليأس. هنا تحققنا أنّ هذه الحياة الجديدة تملك حقّاً «الجوهر» وأنّها «جوهر» يوقظ الحياة لدى الآخرين. بالنسبة إلينا نحن الذين نرى هذه الصور، سلوكهم وطريقة حياتهم هي حقّاً «برهان» للخيرات المستقبلية. وعد المسيح ليس فقط حقيقة منتظرة بل حقيقة حاضرة: فهو الفيلسوف والراعي الذي يدلّنا الى ماهيّة الحياة وإلى حيث هي.
- لكي نفهم بعمق أكثر هذه الفكرة بخصوص النوعين من الجوهر – هيبوستازيس وهيبروكونتا hypostasis et hyparchonta – والطريقتين في الحياة اللتين تعبّران عنهما، علينا أن نفكّر باختصار بكلمتين تتعلّقان بهذا البرهان، موجودتين في الفصل العاشر من الرسالة الى العبرانيين. أعني كلمتي «هيبومون» hypomone (10/36) و«هيبوستول» hypostole (10/39). تُتَرجم هيبومون عادة «بالصبر» – الثبات، رباطة الجأش؛ أن نعرف كيف ننتظر محتملين بصبر المحن، ذلك ضروري للمؤمن لكي يستطيع «نوال تحقيق الوعد» (10/36). في الجو اليهودي الديني القديم، كانت هذه الكلمة تُستعمل بطريقة صريحة للكلام على انتظار الله الذي يميّز إسرائيل: أي الثبات في الأمانة لله بالارتكاز على ما يؤكدّه العهد، في عالم يناقض الله. وهكذا تدّل الكلمة على رجاء مُعاش، على حياة مرتكزة على تأكيد الرجاء. في العهد الجديد، انتظار الله هذا، كوننا من جانب الله، يأخذ معنى جديداً: في المسيح أظهر الله ذاته. منذ الآن، أشركنا الله في «جوهر» الخيور الآتية، وانتظار الله إذّاك يكتسب تأكيداً جديداً. إنّه انتظار خيور مستقبليّة انطلاقاً من حاضر هو هنا. بحضور المسيح، مع المسيح الحاضر، إنّه انتظار يكمّله جسده بانتظار مجيئه النهائي. وعلى العكس، بقولنا «هيبوستول» فنحن نعبّر عن وضع بُعد عن الذي لا يجرؤ على قول الحقيقة بصراحة وعلناً إذ قد تكون خطرة. الإختباء أمام الناس خوفاً منهم يقود إلى الهلاك (عب 10/39). «فالله لم يعطنا روح خوف، بل روح قوّة ومحبّة وحكمة – وهكذا بعبارة رائعة، تصف الرسالة الثانية الى تيموتاوس (1/7) الموقف الإنساني للمسيحي.
الحياة الأبدية – ما هي؟
- تكلّمنا حتى الآن على الإيمان والرجاء في العهد الجديد وفي الكنيسة الأولى. وكان الأمر واضحاً أنّنا لا نتكلّم على الماضي فحسب. فالتفكير بكامله يدور حول حياة الإنسان بالعموم وموته. إذن هو يهمّنا هنا والآن. ولكن علينا اليوم أن نتساءل بطريقة واضحة: هل الإيمان المسيحي بالنسبة إلينا اليوم رجاء يحوّل حياتنا ويساندها؟ هل هو لنا إكمالي؟ أي رسالة تربّي الحياة ذاتها بطريقة جديدة أو هل هي فقط من الآن فصاعداً معلومة وضعناها، بعد وقت، جانباً وهي تبدو لنا وقد تخطّتها معلومات حديثة؟ في البحث عن جواب، أودّ أن أنطلق من الشكل الكلاسيكي للحوار حيث كان طقس العماد يعبّر عن استقبال المولود الجديد في جماعة المؤمنين وولادته في المسيح. كان الكاهن يسأل أولاً عن الاسم الذي اختاره الوالدان للولد، ثم يسأل متابعاً: «ماذا تطلبان من الكنيسة؟ الجواب: «الايمان». «وماذا يعطي الإيمان»؟ «الحياة الأبدية. في الحوار، كان الوالدان يريدان أن يصل ولدهما إلى الإيمان والاتحاد بالمؤمنين لأنهّما كانا يريان في الإيمان مفتاح «الحياة الأبديّة» واليوم مثل الأمس، هذا ما يطلبون من العماد عندما يصيرون مسيحيّين: ليس العماد إذن عملاً اجتماعيّاً في الجماعة ولا قبولاً في الكنيسة فحسب، فالوالدان ينتظران أكثر من ذلك من عماد أولادهما: ينتظران الإيمان الذي يكوّن الاتّحاد بالكنيسة وأسرارها جزءاً منه، أن يعطي لأولادهما الحياة – الحياة الأبدية. الإيمان هو جوهر الرجاء. ولكن هنا يبرز السؤال التالي: هل هذا ما نريده حقّاً: الحياة الأبدية؟ قد يكون أنّ هناك أناس، اليوم، يرفضون الإيمان فقط لأنّ الحياة الأبديّة لا تبدو لهم شيئاً مرغوباً فيه. لا يريدون مطلقاً الحياة الأبديّة، بل الحياة الحاضرة. فالإيمان بالحياة الأبدية يبدو، لهذه الغاية، بالأحرى عائقاً. أن يظلّ المرء يحيا ألى الأبد بدون نهاية – يبدو بالأحرى كحُكم بالهلاك بدلاً من أن يكون نعمة. طبعاً يريدون إبعاد الموت إلى أكثر ما يمكن؛ لكن أن نحيا دائماً، بلا نهاية – قد يكون أمراً مملاًّ وأخيراً لا يُحتمل. وهذا ما يقوله بالتمام مثلاً القدّيس أمبروسيوس، أحد آباء الكنيسة، في رثاء أخيه ساتوروس: «لم يكن الموت أمراً طبيعياً إنّما أصبح كذلك؛ إذ في البدء لم يخلق الله الموت؛ ثمّ أعطانا إيّاه كدواء […] بسبب المخالفة: بدأت حياة الناس تصبح حقيرة في الشغل اليومي وفي البكاء الذي لا يُحتمل. كان يجب وضع حدّ لتعاسته بحيث يردّ له موته ما اضاعته الحياة. عدم الموت يصبح هكذا حملاً ثقيلاً لا ربحاً بدون نفحة النعمة»[6]. قبل ذلك كان أمبروسيوس قد قال: «لا ينبغي أن نبكي على الموت فهو سبب خلاص»[7]
- مهما أراد القدّيس أمبروسيوس أن يقول بدقّة في هذا الكلام – الحقّ يُقال أنّ إزالة الموت أو تأجيله شبه الدائم، يضع الأرض والبشرية في حالة مستحيلة ولن يكون ذلك ربما للفرد ذاته. هناك حقّا تناقض في موقفنا يقود إلى تناقض داخلي في كياننا ذاته. من جهة نحن لا نريد أن نموت وبخاصّة من يُحبّنا لا يريد لنا أن نموت. من جهة ثانية، لا نرغب مع ذلك أن نبقى في الوجود بنوع غير محدود حتّى الأرض ذاتها لم تُخلق لهذا الأمر. إذن ماذا نريد حقّاً؟ هذا التناقض في موقفنا يدعو سؤالاً عميقاً: ما هي الحياة في الواقع؟ وما معنى كلمة «أبدية» حقّاً؟ هناك هنيهات نشعر بها بسرعة: نعم، إنّه هذا – الحياة الحقّة – هكذا يجب أن تكون. بالمقابل ما ندعوه في الحياة اليوميّة «حياة» ليس بالحقيقة حياة. في رسالته الطويلة حول الصلاة المرسَلة الى بروبا – أرملة رومانيّة غنيّة – وأمّ ثلاثة قناصل، – يكتب أغوسطينوس يوماً: في العمق، نريد شيئاً واحداً – «الحياة السعيدة» الحياة التي ليست سوى الحياة، ليست سوى السعادة. في النهاية، لا نطلب شيئاً آخر في الصلاة. نحن لا نسير نحو شيء آخر – هذا هو المطلوب فقط. لكنّ أغوسطينوس يضيف: وإن نظرنا بطريقة أفضل، لا نعلم حقّاً في النهاية ما نريد بدقّة. لا نعرف أبداً هذه الحقيقة؛ حتّى في الساعات التي نظنّ فيها أنّنا نستطيع أن نلمسها، لا نصل إليها حقّاً. «لا نعرف ما يجب أن نطلب» يعترف مع القديس بولس (رو 8/26). نعرف فقط أن ليس هذا ما نطلب. لكن، وسط جهلنا، نعرف أنّ هذه الحقيقة يجب أن تكون. «إذن في داخلنا، إذا صحّ التعبير جهلٌ عالمٌ» docta ignorantia. لا ندري ماذا نريد حقّاً، لا نعرف ما هي هذه «الحياة الحقيقية» مع ذلك نعرف أنّه يجب أن يكون هناك شيء لا نعرفه مع أنّنا مجذوبون إليه[8].
- أظنّ أنّ أغوسطينوس صوّر بدقّة كبرى، لا تزال صحيحة، وضع الإنسان الأساسي، الوضع من حيث تأتي كلّ هذه التناقضات وكلّ انواع الرجاء. نحن نريد، نوعاً ما، الحياة بذاتها، الحياة الحقيقية التي لا يصل إليها الموت؛ إنّما في الوقت عينه لا نعرف إلى أيّ شيء نحن مدعوون. لا نستطيع التوقّف عن التوجّه إلى ذلك، ومع هذا نعلم أنّ كلّ ما يمكننا أن نختبره أو نحقّقه ليس ما نتوق إليه. هذا «الشيء» المجهول هو «الرجاء» الحقيقي الذي يدفعنا؛ وكونه مجهولاً هو في الوقت عينه سبب كلّ يأس كما أيضاً كلّ انطلاق إيجابي أو هدّام نحو العالم الحقيقي والإنسان الحقيقي. وعبارة «الحياة الأبديّة» تبحث عن اسـم تعطيه لهذه الحقيقة المعروفة والمجهولة. نحن بالضرورة أمام عبارة ناقصة تولّد الفوضى. وبالفعل، «أبدي» يخلق فينا فكرة اللامتناهي وهذا يخيفنا؛ «حياة» تجعلنا نفكّر بالحياة التي نعرفها ونحبّها ولا نريد أن نفقدها، وهي في الوقت عينه مجبولة بالتعب أكثر منها بالاكتفاء. بحيث أنّنا من جهة نتطلّبها ومن جهة ثانية لا نريدها. نحاول فقط الخروج بالفكر من الزمن الذي يسجننا ونوعاً ما، نترقّب أنّ الأبديّة ليست تتابعاً دائماً لأيّام روزنامة، بل هي شيء وكالهنيهة المملؤة، اكتفاء حيث كلّ شيء يحتضننا ونحن نحتضن كلّ شيء. إنّها ساعة الغطس في أوقيانوس الحبّ اللامتناهي حيث الزمن – قبل وبعد – لا وجود له. نستطيع فقط أن نحاول التفكير بأنّ هذه الهنيهة هي الحياة بكلّ معنى الكلمة، غطسة للكائن، بينما نحن فقط ممتلؤون فرحاً. يعبّر يسوع عن ذلك في إنجيل يوحنّا هكذا: «سوف أراكم وتفرح قلوبكم؛ ولا أحد يقدر أن ينزع منكم فرحكم» (يو 16/22). يجب أن نفكّر هكذا إذا أردنا أن نفهم نحو أيّ شيء ينقاد رجاؤنا وما ننتظر في الإيمان بوجودنا مع المسيح[9].
هل الرجاء المسيحي أناني؟
- طوال تاريخهم، حاول المسيحيّون ترجمة هذه المعرفة التي لا تُعرف بصور تمثّل شيئاً؛ فيتكلمّون على صور عن السماء تبقى دائماً بعيدة عمّا نعرف فقط بطريقة سلبية، من خلال اللامعرفة. كلّ هذه المحاولات لتمثيل الرجاء أعطت عدّة أشخاص، على مدى الأجيال، انطلاقة لكي يعيشوا مركَّزين على الإيمان ومتنازلين لذلك عن جواهرهم الماديّة في سبيل وجودهم. كاتب الرسالة إلى العبرانييّن، في الفصل الحادي عشر، صوّر نوعاً من تاريخ الذين يعيشون في الرجاء وكونهم في مسيرة تاريخيّة تبدأ بهابيل وعهده. في العصر الحديث، نما انتقاد يزداد قساوة لهذا النوع من الرجاء: إنّها الفرديّة، تركت العالم وبؤسه ولجأت إلى خلاص أبدي فرديّ فقط. في مقدّمة مؤلَّفه الضخم «الكثلكة، مظاهر اجتماعيّة للعقيدة»، جمع هنري دي لوباك بعض آراء من هذا النوع تستحق أن نذكرها: هل وجدتُ الفرح؟ كلاّ […] وجدت فرحي؛ وهذا شيء آخر بامتياز […] فرح يسوع قد يكون شخصياً، قد يخصّ شخصاً واحداً فيخلص. إنّه في سلام […] اليوم وإلى الأبد إنّما وحده. هذا التوحّد في الفرح لا يزعجه، بل على العكس، إنّه شخص مختار في سعادته، يعبر وسط المعارك حاملاً في يده وردة»[10].
- إزاء هذا المشهد، توصّل دي لوباك، ارتكازاُ إلى علم لاهوت الآباء بكل سعته، إلى إظهار أنّ الخلاص كان يُعتبر دائماً حقيقة جماعيّة. تتكلّم الرسالة الى العبرانيين على «مدينة» (11/10، 16؛ 12/22؛ 13/14)، أي على خلاص جماعي. وبناء عليه، فالخطيئة تُعتبر لدى الآباء هدماً لوحدة الجنس البشري وتفتيتاً وتقسيماً. وبابل، حيث تبلبلت الألسن وتشتّتت الشعوب تظهر كعبارة لما هي الخطيئة في الأساس. من هنا يبدو «الفداء» كإحياء للوحدة حيث نجد ذواتنا من جديد معاً، في وحدة ترتسم في جماعة المؤمنين العالميّة. ليس من الضروري هنا أن نهتمّ بكلّ النصوص حيث يظهر الطابع الجماعي للرجاء. فلنتوقّف على الرسالة الى بروبا، حيث أغوسطينوس يحاول أن يرى، نوعاً ما، هذه الحقيقة المعروفة والمجهولة التي نبحث عنها. نقطة الإنطلاق هي ببساطة العبارة «الحياة السعيدة». ثمّ يذكر المزمور 144 [143]: «طوبى للشعب الذي سيّده الله». ويتابع: «لكي نصبح أعضاء في هذا الشعب ولكي نستطيع أن نعيش […] مع الله إلى الأبد، «هدف الوصيّة هو المحبّة الصادرة من قلب طاهر ومن ضمير حيّ ومن إيمان صادق (1 تي 1/5)»[11]. هذه الحياة الحقيقيّة، التي نحاول من جديد الانشداد إليها، مرتبطة بكوننا في وحدة وجوديّة مع «شعب» ومع كلّ شخص ولا تتحقّق إلاّ داخل هذا «النحن». فهي تفترض الخروج من حبس «الأنا» إذ فقط في انفتاح هذا الشخص الشامل ينفتح معه النظر الى نبع الفرح، على الحبّ بالذات، على الله.
- هذه الرؤية «للحياة السعيدة» الموجّهة نحو الجماعة، تطمح إلى شيء موجود ما وراء العالم الحاضر، ولكن هكذا تصبح مرتبطة ببناء العالم – بأشكال شتّى بحسب الإطار التاريخي والإمكانيّات المتوفّرة أو المرفوضة منه. في زمن أغوسطينوس، عندما كانت هجمات الشعوب الجديدة تهدّد تناغم العالم، يوم كان هناك كفالة من الحقّ والحياة في جماعة قانونيّة، كان المطلوب تقوية الأساس الذي يحمل حقّاً جماعة الحياة والسلام هذه، لكي يتمكّنوا من الحياة وسط تغيّرات العالم. فلنلقِ نظرة، على سبيل الصدفة، إلى هنيهة من زمن العصور الوسيطة بحسب بعض المظاهر الرمزيّة. في الضمير العام، كانت الأديرة تبدو كمراكز للهروب خارج العالم («contemptus mundi») وتهرّب من المسؤوليّات في العالم في سبيل البحث عن الخلاص الشخصي. برنار دي كلارفو مع رهبنته المجدّدة أدخل إلى الأديرة عدداً كبيراً من الشباب، وكان له هنا نظرة مغايرة. بحسب رأيه، للرهبان عمل موجَّه للكنيسة جمعاء وبالتالي للعالم. بصور عديدة، يشرح مسؤوليّة الرهبان لكلّ هيكليّة الكنيسة، وأكثر من ذلك، للبشريّة جمعاء؛ كان يطبّق عليهم كلام روفان المنحول: «الجنس البشري يعيش بفضل بعض الأشخاص، الذين لو لم يكونوا موجودين لهلك العالم»[12]. الرهبانيّات التأمليّة – contemplantes – كان يجب أن يصبحوا عماّلاً مزارعين – laborantes –. كرامة العمل التي ورثتها المسيحيّة عن اليهوديّة كانت قد ظهرت سابقاً في رهبانياّت أغوسطينوس وبندكتس. عاد برنار وتبنّى هذه الرؤية. الشباب الأشراف الذين كانوا يتهافتون على أديرته كانوا مجبَرين على العمل اليدوي. فبرنار يقول حرفيّاً: حتّى الدير لا يقدر ان يعيد حياة الفردوس. لكنّه يؤكّد أنّه يجب، كما في الاستصلاح العملي والروحي، تهيئة الفردوس الجديد. أرض بور تصبح خصبة – إذ في الوقت عينه تُقطع اشجار الكبرياء ويُقلع ما ينبت من عشب متوحش في النفوس وتهيّئ هكذا الأرض حيث يمكن أن يخصب الخبز للجسد والنفس[13]. أليس بوسعنا أن نلاحظ من جديد في التاريخ الحديث أنّه ليس هناك هيكليّة إيجابيّة في العالم تنجح حيث النفوس تبقى على وحشيتها؟
تحوّل الإيمان – الرجاء المسيحي في الأزمنة الحديثة
- كيف تطوّرت فكرة أنّ يسوع صاحب رسالة محض فرديّة وأنّه يوّجّه فقط إلى الفرد؟ كيف توصّلوا إلى شرح «خلاص النفس» كهروب أمام المسؤوليّات في العموم وأن يعتبروا برنامج المسيحيّة هو البحث الأناني عن الخلاص ورفض خدمة الآخرين. لكي نجد جواباً على هذه الأسئلة، يجب أن ننظر إلى مكوِّنات العصور الحديثة الأساسيّة. فهي تظهر بوضوح خاصّ عند فرنسيس باكون. أن يكون زمن جديد قد وُلد – بفضل اكتشاف اميركا والفتوحات الجديدة التقنيّة التي طبعت هذا التطوّر – هذا أمرٌ لا يقبل الجدل. إنّه التطابق الجديد بين الإختبار والطريقة حيث أعطى الإنسان إمكانيّة إيجاد شرح للطبيعة يطابق شرائعها والوصول هكذا، في النهاية، إلى انتصار الفنّ على الطبيعة»[14]. فالجدّة – في نظر باكون – توجد في التطابق بين العلم والتطبيق. من ثمّ يطبقّون هذه النظرة على علم اللاهوت: هذا التطابق الجديد بين العلم والتطبيق يعني أنّ التسلّط على الخليقة، الذي أعطاه الله للإنسان وفُقد بالخطيئة، قد أُعيدَ إلى نصابه[15].
- من يقرأ هذه التأكيدات ويتأمّلها بانتباه، يجد أنّ هناك عبوراً مذهلاً: حتّى الآن، استعادة الإنسان ما فقد في إقصائه من الفردوس الأرضي كانت منتظرة عن طريق الإيمان بيسوع المسيح وفي هذا كانوا يرون «الفداء». أمّا الآن، فهذا «الفداء» واستعادة الفردوس المفقود، لم يعد منتظراً من قِبَل الإيمان بل من العلاقة التي لم يتمّ بعد تحقيقها بين العلم والتطبيق. هذا لا يعني مع ذلك أنّ الإيمان قد أُنكر ببساطة؛ لكنّه قد انتقل بالأحرى إلى مستوى ثانٍ – المستوى الخاصّ المحض والخارج عن الأرض. وهكذا في الوقت عينه، أصبح، نوعاً ما، لا معنى له للعالم. هذه الرؤية المبرمَجة قرّرت طريق العصر الحديث وأثّرت ايضاً أزمة الإيمان الحاليّة التي، عمليّاً وبخاصّة، هي أزمة الرجاء المسيحي. هكذا يتخّذ الرجاء، عند باكون، شكلاً جديداً. وهو يُسمَّى من الآن فصاعداً إيماناً في التطوّر – إذ في نظر باكون، من الواضح أنّ الاكتشافات والاختراعات التي عُرفت من زمن قريب جدّاً، ليست سوى بدءٍ الذي، بفضل التساند بين العلم والتطبيق، سيليه اكتشافات جديدة كلّ الجدّة ويبرز عالم جديد كل الجدّة – مملكة الإيمان[16]. وهكذا أيضاً نظرة للاكتشافات المتنبّأ عنها، حتّى الوصول إلى الطائرة والغوّاصة. طوال النمو اللاحق لإيديولوجيا التطوّر. الفرح بتقدّم قوى الإنسانيّة المنظورة يبقى تأكيداً دائماً للإيمان في التطوّر بالذات.
- في الوقت عينه، هناك مقولتان هما بنوع خاص في قلب فكرة التطوّر: العقل والحريّة. فالتطوّر هو بخاصّة تطوّر في التسلّط المتزايد للعقل. وهذا العقل يُعتبر بوضوح كقوّة خير وللخير. التطوّر هو تخطّي كلّ التبعيّات – إنّه تطوّر نحو الحريّة التامّة. والحريّة ايضاً تُعتبر فقط كوعد يسير به الانسان نحو كماله. في المعطيتين – الحريّة والعقل – نحد مظهراً اساسيّاً. ففي الواقع ملك العقل مُنتظر كوضع جديد للبشريّة التي أصبحت حرّة إلى آخر حدّ. مع ذلك فالأوضاع السياسيّة لملك كهذا، ملك العقل والحرّية، تظهر أوّلاً غير واضحة الحدود. العقل والحريّة يبدوان ككفيلين بحدّ ذاتهما ونظراً لصلاحهما الداخلي، لجماعة بشريّة جديدة كاملة. مع ذلك، في المعطيين الأساسيين «العقل والحريّة»، الفكر هو دائماً وبصمت ضد روابط الإيمان والكنيسة كما ضدّ روابط أنظمة الدولة ذاتها. المعطيان يحملان في داخلهما امكانيّة ثوريّة لقوّة قابلة الإنفجار هائلة.
- علينا أن نلقي نظرة ولو سريعة على المرحلتين الأساسيتين للتحجيم السياسي لهذا الرجاء. فهما كبيرتا الأهميّة لطريق الرجاء المسيحي وفهمه وثباته. قبل كلّ شيء، هناك الثورة الفرنسيّة كمحاولة لفرض سلطة العقل والحريّة. وهذا لا يزال قائماً، بطريقة سياسيّة حقّاً. وأوروبا عصر الأنوار، في البدء، نظرت كمسحورة إلى هذه الأحداث. لكن أمام تطوّرها، عادت بعد ذلك وفكّرت، بطريقة جديدة، بالعقل والحريّة. كتابا «عمانوئيل كانت»، حيث يفكّر بالأحداث، كانا ذات مغزى للمرحلتين حيث استقبل فيهما ما جرى في فرنسا. سنة 1792، كتب «Der Sieg des guten Prinzips über das böse und die Gründung eines Reiches Gottes auf Erden» (انتصار مبدأ الخير على مبدأ الشر وتأسيس ملك الله على الأرض)، كتب فيه: «العبور المنظور من إيمان الكنيسة إلى السلطة الوحيدة للإيمان الديني الصريح هو اقتراب ملكوت الله»[17]. يقول أيضاً إنّ الثورات تستطيع تسريع زمن هذا العبور من ايمان الكنيسة إلى إيمان العقل. «مملكة الله» الذي تكلّم عليها يسوع، عرفت هنا تحديداً جديداً كما أخذت أيضاً حضوراً جديداً؛ فهناك إذن انتظار فوري جديد»: «ملكوت الله يصل إلى حيث إيمان الكنيسة تخطّاه الزمن واستعاضوا عنه «بالإيمان الديني» أي الإيمان العقلي فقط. سنة 1895، في مؤلَّفه «Das Ende aller Dinge» (نهاية كل شيء) نجد صورة مغايرة. يأخذ «كانت» بالاعتبار إمكانيّة أنّ هناك، مع النهاية الطبيعيّة لكلّ شيء، توجد أيضاً نهاية مضادّة للطبيعة، فاسدة. ويكتب بهذا الصدد: «إذا لم تعد المسيحيّة محبَّبة […] نرى بالضرورة […] الكراهية والثورة تثير ضدّها قلوب غالبيّة الناس. والمسيح الدجّال الذي يُعتبر، على كل حال، المبشّر السابق بالأيّام الأخيرة، يقيم مملكته (المؤسّسة بدون شك على الخوف والأنانيّة) وإن لزمن قصير. وبما أنّ المسيحيّة، المعَدّة لأن تكون الديانة الشاملة، تُحرم آنذاك من نعمة القَدَر فنرى نهاية (مقلوبة) كلّ شيء من الناحيّة الأخلاقيّة»[18].
- لم يتنكّر القرن التاسع عشر لإيمانه بالتطوّر كشكل للرجاء البشري وظلّ يعتبر العقل والحريّة نجمتين تقودان على طريق الرجاء. التقدّم السريع والدائم للإنماء التقني والاقتصادي الذي يرافقه خلق بسرعة وضعاً اجتماعيّاً جديداً تماماً. فقامت طبقة عمّال الاقتصاد وما أسموه «البرووليتاريا الاقتصادية» حيث أعطى صورة عن وضعها المخيف بطريقة مؤثّرة فريديريك انغلس سنة 1845. يجب أن يصبح واضحاً «للقارىء أنّ ذلك الوضع لم يكن معدّاً للبقاء وأنّ التغيير كان أمراً ضروريّاً. لكنّ التغيير كان بامكانه خراب وقلب كلّ معطيّات الهيكليّة السياسيّة البورجوازيّة. بعد الثورة البورجوازية سنة 1789، دقّت ساعة ثورة جديدة هي الثورة البروليتارية: لم يعد بوسع التطوّر أن يتقدّم بطريقة مستقيمة وبخطى قصيرة. كان يجب أن تحدث قفزة ثوريّة. فتناول كارل ماركس هذا التوق إلى الحرّية آنذاك، وبلغة وفكر نشيطين، عمل على طرح هذه الخطوة الجديدة – وكما كان يظنّها – النهاية للتاريخ نحو الخلاص، نحو ما كان «كانت» قد وصفه «بملكوت الله». وعندما تزول حقيقة ما وراء الطبيعة، كان المأمول مذّاك إقامة حقيقة دون الطبيعة. تحوّل انتقاد السماء إلى انتقاد الأرض، وانتقاد اللاهوت إلى انتقاد السياسة. التطوّر نحو الأفضل، نحو عالم صالح نهائياً، لم يأتِ فقط من العلم؛ بل من السياسة. – هي سياسة مرتكزة على فكر علمي – يعرف كيف يُقرّ هيكليّة التاريخ والمجتمع ويدلّ على الطريق إلى الثورة، إلى تغيير كلّ شيء، وبدقّة، وإن بطريقة احادية ومتحيّزة، وصف كارل ماركس وضع زمانه وصوّر بإمكانيّة تحليل قويّة، الطرق التي تؤدّي إلى الثورة – ليس فقط نظريّاً: مع الحزب الشيوعي سنة 1848، ارسلها أيضاً عمليّاً. وعده، بفضل دقّة التحليل والدلالات الواضحة الآليّات لأجل تغيير جذري، فتَن ولا يزال يفتن اليوم من جديد. تحققّت هذه الثورة بطريقة أكثر جذريّة في روسيا.
- ولكن بالرغم من انتصاره، فإنّ خطأ ماركس الأساسي كان أيضاً واضحاً. لقد دلّ بكلّ دقّة كيف يتحقّق الانقلاب. لكنّه لم يقل لنا كيف كان على الأمور أن تتمّ فيما بعد. افترض ببساطة، أنّه بانتزاع أملاك الطبقة السائدة وبسقوط السلطة السياسية وباشتراكيّة وسائل الإنتاج تتحقّق أورشليم الجديدة: هكذا فكل التناقضات كانت تسقط فعلاً والإنسان والعالم كانا أخيراً عرفا حياتهما بوضوح. وكلّ شيء كان نشأ من الذات بطريقة مستقيمة، إذ كلّ شيء كان يخصّ الجميع وكان كلّ واحد أراد الأفضل للجميع. وهكذا، بعد نجاح الثورة، رأى لينين أنّه، في كتابات المعلّم لا توجد أيّة دلالة لطريقة التصرّف. نعم، كان قد تكلّم على المرحلة المتوسّطة لدكتاتوريّة البروليتاريا كشيء محتوم، إنّما في المرحلة اللاحقة كانت ظهرت في ذاتها غير قابلة الحياة. هذه «المرحلة المتوسّطة» نعرفها جيّداً ونعرف أيضاً كيف تطوّرت، إذ لم تلد عالماً صحيحاً بل تركت وراءها خراباً مفجعاً. لم يفت ماركس التفكير بالمؤسّسات الضروريّة للعالم الجديد فحسب – فلم يعد هناك ضرورة لوجوده – فإن لم يقل لنا شيئاً، فهي المنطقيّة لترتيب الأمور. خطأه في العمق. نّسي أنّ الإنسان يبقى إنساناً. نسي الإنسان ونسي أنّ الحريّة تبقى دائماً حريّة حتّى في الشرّ. كان يظنّ أنّه، يوم تنظيم الاقتصاد، كل شيء يترتّب. خطأه الحقيقي هو المادّية. وفعلاً ليس الانسان نتاج الأوضاع الاقتصاديّة فحسب، وليس بالإمكان شفاؤه فقط من الخارج بخلق أوضاع اقتصاديّة مؤاتيّة.
- هكذا نجد ذواتنا من جديد أمام السؤال: ماذا نستطيع أن نرجو؟ نقد ذاتي للتاريخ الحديث، وذلك بحوار مع المسيحيّة ونظرتها إلى الرجاء، أمر ضروري. في مثل هذا الحوار، حتّى المسيحيّون في إطار معلوماتهم واختباراتهم، يجب أن يتعلّموا بطريقة جديدة على ما يقوم حقّاً رجاؤهم وما لديهم أن يقدّموا للعالم أو على العكس لا يقوون على تقديمه. ومن الملائم أن يضيفوا إلى النقد الذاتي للتاريخ الحديث نقداً ذاتيّاً ايضاً للمسيحيّة الحديثة التي عليها دوماً أن تتعلّم كيف تفهم ذاتها انطلاقاً من جذورها. بالإمكان أن نقدّم هنا بعض العناصر. قبل كلّ شيء علينا أن نتساءل: ما معنى «التقدّم» الصحيح؟ بماذا يَعِد وبماذا لا يَعِد. منذ نهاية القرن التاسع عشر، كان هناك نقد للإيمان بالتقدّم. في القرن العشرين، صاغ أدورغو إشكاليّة للإيمان بالتقدّم بطريقة قويّة: إذا ما نظرنا إلى التقدّم عن كثب، إنّه التقدّم الموجود من المقلاع إلى أكبر قنبلة. حاليّاً، المطلوب حقّاً هو مظهر من مظاهر التقدّم لا يجب أن نخبّئه. نقولها بطريقة ثانية، الالتباس في موضوع التقدّم واضح. بدون أيّ شكّ يعطي التقدّم إمكانيّات جديدة للخير ولكنّه يفتح أيضاً إمكانيّات سحيقة للشر – إمكانيّات لم تكن سابقاً. نحن جميعنا شهود لما يمكن أن يصبح التقدّم إذا ما وُجد في أيدٍ شريّرة وإنّه في الواقع لَتقدّمٌ مخيف للشر. إذا لم يرافق التقدّم التقني تقدّمٌ في تربية الإنسان الأخلاقيّة، في نموّ الإنسان الداخلي (أف 3/16؛ 2 قو 4/16)، فهذا ليس تقدّماً؛ إنّه تهديد للإنسان وللعالم.
- بما يخصّ الموضوعين الكبيرين «العقل و«الحريّة، الأسئلة التي تتعلّق بهما لا يمكننا هنا سوى ذكرها فقط. نعم، العقل عطيّة الله الكبرى للإنسان، وانتصار العقل على الغير معقول هو أيضاً أحد أهداف الإيمان المسيحي. لكن متى يتسلّط العقل هنا؟ متى افترق عن الله؟ متى عمي بالنسبة إلى الله؟ هل عقل السلطة والعمل هو العقل بكلّيته؟ إذا كان التقدّم، لكي يكون تقدّماً، بحاجة إلى تطوّر الإنسان الأخلاقي، ففعل السلطة والعمل عليه أيضاً، وبسرعة، أن يُضَمّ، بفعل انفتاح العقل، إلى قوى الإيمان الخلاصيّة وإلى التمييز بين الخير والشرّ. هكذا فقط يصبح عقلاً بشرياً حقّاً. يصبح بشريّاً فقط إذا كان بإمكانه أن يدلّ الإرادة على الطريق وهي لن تقوى على ذلك إذا نظرت إلى أبعد من ذاتها. وإلاّ فوضعُ الإنسان في عدم التوازن، بين الإمكانيّة الماديّة وعدم حكم الضمير، يصبح تهديداً له انه ولكلّ مخلوق. وهكذا في مجال الحريّة، يجب أن نذكر أنّ الحريّة البشريّة تتمتع دوماً بعمل الحريّات المتنوّعة المشترك. هذا العمل المشترك لا يمكنه بعض المرّات أن ينجح إن لم يوجّهه ميزان داخلي ذو معيار مشترك هو أساس حرّيتنا وهدفها. فلنعبّر عن ذلك الآن بطريقة بسيطة جدّاً: الإنسان بحاجة إلى الله وإلاّ بقي بدون رجاء. انطلاقاً من تطوّرات العصر الحديث، يبدو تأكيد القدّيس بولس المذكور سابقاً (أف 2/12) شديد الواقعيّة وحقيقيّاً بكل بساطة مع ذلك، فلا شكّ في أنّ «ملكوت الله» المحقَّق بدون الله – أي ملكوت الإنسان وحده – ينتهي أكيداً «بالمخرج الفاسد» لكلّ شيء، المخرج الذي يصفه «كانت»: رأينا ونرى دائماً من جديد. ولا شكّ في أنّ الله يتدخّل حقّاً في الأشياء البشريّة فقط إن لم نكن نحن قد فكرّنا به، بل إذا كان هو ذاته يأتي إلى لقائنا ويكلّمنا. لذا فالعقل بحاجة إلى الإيمان ليكون هو ذاته كاملاً: عقل وإيمان، واحدهما يحتاج إلى الآخر ليحقّقا طبيعتهما الحقيقيّة ورسالتهما.
وجه الرجاء المسيحي الحقيقي
- فلنتساءل الآن من جديد: ماذا يمكننا أن نرجو؟ وماذا لا يمكننا أن نرجو؟ قبل كلّ شيء، علينا أن نرى أنّ التقدّم الذي يقبل الإضافة ليس ممكناً إلاّ في الحقل المادّي. هنا في المعرفة المتزايدة في هيكليّات المادّة وبالترابط مع الإكتشافات التي تتطوّر دائماً، نلاحظ بوضوح تتابعاً للتقدّم نحو تسلّط على الطبيعة يزداد دائماً. وعلى العكس من ذلك، في مجال الضمير الأخلاقي والقرار الخُلقي، لا يوجد إمكانيّة مماثلة للإضافة إذ حرّية الإنسان هي دوماً جديدة وعليها أن تأخذ قراراتها مجدّداً. وهذه القرارات لا يأخذها أحد عنّا في هذه الحال، لن نعود أحراراً. فالحريّة تفترض أنّه، في القرارات الأنسانيّة، كل إنسان وكل جيل هو بدء جديد. الأجيال الجديدة تستطيع طبعاً أن تبنى على معرفة الأجيال السابقة واختياراتها، كما بإمكانها أن تغرف من كنز البشريّة الأخلاقي كلّه. لكن باستطاعتها أن ترفضه إذ إنّ هذا الكنز لا ينعم بذات الوضوح الذي تنعم به الإكتشافات المادّية. كنز البشريّة الأخلاقي لا يوجد كما توجد الوسائل المستعملة؛ إنّه موجود كدعوة إلى الحريّة وكإمكانيّة لهذه الحريّة. لكنّ ذلك يعني أنّ:
أ- الوضع الصحيح للأشياء البشرية وهناء الخلقيّة البشريّة لا يمكن أبداً أن يُكفلا بهيكليّات مهما كانت صحة هذه الهيكليات. هيكليّات كهذه ليست فقط مهمّة بل ضروريّة. مع ذلك لا يمكنها ولا يجب عليها أن تترك جانباً حريّة الإنسان. حتّى أفضل الهيكليّات تعمل فقط، إذا كانت حيّة في جماعة ما، القناعات القادرة على أن تحضّ الإنسان إلى حريّة قرار حرّ للنظام الجماعي. الحريّة تتطلب قناعة، والقناعة لا توجد في ذاتها بل يجب اكتسابها مجدّداً بشكل جماعي.
ب- بما أنّ الإنسان يبقى دائماً حرّاً وبما أنّ حرّيته هي دائماً سريعة العطب، فمملكة الخير، التي تقوّت نهائيّاُ، لن توجد مطلقاً في هذا العالم. من يَعِد بعالم أفضل يبقى على الدوام وبدون توقّف، يُعطي وعداً كاذباً. إنّه يجهل الحريّة البشريّة. فالحريّة يجب أن نكتسبها دائماً من جديد في سبيل الخير. التمَّسك الحرّ بالخير لا يوجد أبداً ببساطة وبحدّ ذاته. لو كان هناك هيكليّات تُثبت بنوع دائم وضعاً معيّناً للعالم – وضعاً صالحاً – لكانت حريّة الإنسان قد اُنكرت؛ ولهذا لن يكون هناك هيكليّات صالحة ابداً.
- نتيجة ما قلنا هو أنّ البحث المتعب والمتجدّد دائماً لترتيبات صحيحة بخصوص أمور الناس هو من واجب كلّ جيل. وهو ليس أبداً واجباً تحقّق بكماله وببساطة. مع ذلك، على كلّ جيل أن يضيف مساهمته الخاصّة لإقامة الترتيبات المقنعة بخصوص الحريّة والخير، مما يساعد الأجيال اللاحقة كتوجيه للاستعمال الصحيح للحريّة البشريّة والتي تعطي، دائماً في الحدود البشريّة كفالة مؤكّدة حتّى المستقبل. بكلام آخر، إنّ الهيكليّات الصالحة تساعد لكنّها وحدها لا تكفي. فالإنسان لا يُفتدى ابداً من الخارج فحسب. فرنسيس باكون وأتباع تيّار الفكر الحديث الذي أوجده، عندما يعتبرون أنّ الإنسان يُفتدى بالعلم، يخطأون. من هذه الناحيّة، يطلبون من العلم أكثر مّما يمكنه أن يعطي؛ إنه نوع من الرجاء كاذب. باستطاعة العلم أن يساهم كثيراً في أنسنة العالم والبشريّة، ولكن باستطاعته أيضاً أن يهدم الإنسان والبشريّة وإذا لم يكن موجّهاً بقوى خارجة عنه. من جهة ثانية، علينا أن نلاحظ أنّ المسيحيّة الحديثة، أمام نجاح العلم في هيكلة العالم المتطوّرة، لم تكن تركّز إلاّ على الفرد وخلاصه. هنا قَلّص أفق رجائه ولم يعرف كفاية عظم وظيفته وإن كان ما يفعله لأجل تربية الإنسان ولأجل الاهتمام بأضعف الناس وبالذين يتألّمون بقي مهمّاً.
- من يفتدي الإنسان ليس العلم؛ من افتدى الإنسان هو «المحبة»، هذا المبدأ ينطبق حتّى في المجال البشري المحض. عندما يختبر إنسان في حياته حبّاً كبيراً، تلك هي ساعة «فداء»؛ يعطي حياته إذّاك معنى جديداً، لكنّه سرعان ما يلاحظ أنّ الحبّ الذي أعطي له لا يحلّ وحده مشكلة الحياة. فالحبّ يبقى سريع العطب وهو معرّض للزوال مع الموت. فالكائن البشري بحاجة إلى حبّ غير مشروط. إنّه بحاجة إلى تأكيد يجعله يقول: «لا الموت ولا الحياة، لا الأرواح ولا القوّات، لا الحاضر والا المستقبل، ولا الكواكب ولا السماوات، ولا الأعماق ولا خليقة أخرى تقدر أن تفصلني عن محبّة الله التي في المسيح يسوع» (رو 8/38-30). إن كان هذا الحبّ المطلق موجود، بتأكيد مطلق، عندئذٍ – وعندئذٍ فقط – يُفتدى الإنسان، مهما حدث له من حالات خاصّة. هذا معنى القول: «يسوع افتدانا». به أصبحنا أكيدين من الله – من إله لا يشكّل «سبباً أولاً» بعيداً للعالم – لأنّ ابنه الوحيد صار إنساناً وكلّ واحد يمكنه أن يقول عنه: «حياتي اليوم، في وضعي البشري، أحياناً بالإيمان بابن الله الذي أحبّني وأسلم ذاته لأجلي» (غل 2/20).
- بهذا المعنى، صحيح أنّ من لا يعرف الله، وإن استطاع أن ينعم بأنواع عديدة من الرجاء، هو في العمق بدون رجاء، بدون الرجاء الكبير الذي يسند كل موجود (أف 2/12). الرجاء الحقيقي الرجاء الكبير للإنسان، الذي يقاوم برغم كلّ خيبات الأمل، لن يكون سوى الله، الله الذي أحبّنا والذي يحبّنا دائماً «إلى النهاية» «إلى أن يتمّ كل شيء» (يو 13/1 ؛ 19/30). من مسّه الحب يبدأ بتفهّم ما هي «الحياة» في عمقها. يبدأ يتفهّم معنى كلمة رجاء التي وجدناها في طقس العماد: من الإيمان «انتظر الحياة الأبديّة» – الحياة الحقيقيّة التي هي، بالتمام وبدون تهديد، بكلّ ملئها، الحياة وحسب. يسوع الذي قال عن ذاته أنّه جاء لتكون لنا الحياة وتكون بملئها، بغزارة (يو 10/10)، شرح لنا ايضاً معنى «الحياة»: «الحياة الأبديّة هي أن يعرفوك أنت الإله الواحد الحقيقي ويعرفوا الذي أرسلته يسوع المسيح» (يو 17/3). فالحياة بالمعنى الحقيقي، لا نملكها في ذواتنا، من ذواتنا فقط كمالا بواسطتنا: إنّها علاقة. والحياة بكاملها هي علاقة بمن هو نبع الحياة. إن كنّا بعلاقة مع الرب الذي لا يموت، من هو ذاته الحياة والحبّ، عندئذٍ نكون في الحياة. عندئذٍ «نحيا».
- لكن الآن يُطرح السؤال: على هذا النحو، ألم نعد، نوعاً ما، من جديد لنقع في فرديّة الخلاص؟ في الرجاء الخاصّ بي فقط، الذي في الحقيقة ليس رجاءً حقيقياً، لماذا يُنسى الآخرون ويُهملون؟ كلا. فالعلاقة مع الله تقوم بالاتحاد بيسوع – وحدنا مع إمكانيّاتنا وحدها لا نصل إلى الرجاء. العلاقة بيسوع، مع ذلك، هي العلاقة بالذي أسلم ذاته فداءً عن جميعنا (1تي 2/6). كونوا متّحدين بيسوع المسيح فهو يضمّنا في كيانه الذي هو للجميع. وهو يصنع طريقة كياننا، يجعلنا نلتزم بالآخرين، إنّما فقط بالاتّحاد به يصبح بمقدورنا أن نصير حقّاً للآخرين، للجميع. أوَدّ أن أعود في هذا الصدد إلى ملفان الكنيسة اليوناني الكبير، القديس مكسيموس المعرّف (+ 662) الذي يحضّ أوّلاً، قبل معرفة الله ومحبّته والذي فيما بعد يصل إلى تطبيقات عمليّة جدّاً: «من أحبّ الله أحبّ ايضاً قريبه بدون تحفظ؛ يصبح غير قادر على الإحتفاظ بغناه، فهو يوزّعه مثل الله معطياً كلّ واحد ما هو بحاجة إليه»[19]. من محبّتنا لله تنتج مشاركتنا ببرّ الله وبطيبة الله نحو القريب. حبّ الله يتطلّب الحريّة الداخليّة تجاه كل تملّك وكلّ الأشياء المادّية: حب الله يظهر في مسؤوليّاتنا نحو القريب[20]. باستطاعتنا المحافظة بطريقة مؤثرة على العلاقة بين حبّ الله ومسؤوليّاتنا نحو الناس في حياة القديس أغوسطينوس. بعد اهتدائه إلى الإيمان المسيحي، مع بعض الأصدقاء، الذين يفكّرون نظيره، أراد أن يعيش حياة مكرّسة فقط لكلمة الله وللأمور الأبديّة. كان يريد أن يحقّق بالقيم المسيحيّة، المثال الأعلى للحياة التأمليّة المعبّر عنها في الفلسفة اليونانية الكبيرة، مختاراً هكذا الخطّ الأفضل (لو 10/42). لكنّ الأمور سارت على غير ما كان رغب. فبينما كان يشارك في قدّاس الأحد، في مرفأ مدينة هيبون، دعاه الأسقف إلى خارج الجمهور وأجبره على الرسالة لممارسة الخدمة الكهنوتيّة في هذه المدينة. عندما يعود يفكّر بهذه الهنيهة، يكتب في اعترافاته: «لقد صعقتني خطاياي وعِظم بؤسي الثقيل؛ كنت قد حرّكت وحِكْتُ في قلبي مشروع الهرب في العزلة: لكنّك منعتني من ذلك وقوّيتني بهذه الكلمات: «المسيح مات عن الجميع حتى لا تكون للأحياء حياتهم مركّزة على ذواتهم بل عليه هو الذي مات وقام لأجلهم» (2 كو 5/15)[21]. مات المسيح عن الجميع. أن نعيش له يعني أن نشاركه «كونه للآخرين».
- في نظر أغوسطينوس، هذا يعني حياة جديدة. في إحدى المرّات، وصف نهاره هكذا: «إصلاح غير النظاميّين، تشجيع النفوس الصغيرة، مساعدة الضعفاء، دحض المعارضين، تجنّب الأشرار، تعليم الجهّال، استنهاض الكسالى، ردّ غضب المشاغبين، كبح جماح الطمّاعين، تشجيع المُحبطين، تهدئة المتخاصمين، مساعدة المحتاجين، تحرير الأسرى، مساندة الصالحين، احتمال الأشرار و[مع الأسف] حبّ كلّ الناس[22]. «الإنجيل يخيفني»[23]. هذا الخوف الخلاصي الذي يمنعنا من أن نعيش لذواتنا والذي يدفعنا إلى نقل رجائنا المشترك. في الواقع، هذه كانت نيّة أغوسطينوس: في الوضع الصعب للأمبراطوريّة الرومانيّة والذي كان يهدّد ايضاً افريقيا الرومانيّة والذي في أواخر أيّام أغوسطينوس هدمها بالكامل، نقل الرجاء – الرجاء الآتي من الإيمان والذي بالرغم من تناقضه مع طبعه الإنطوائي، جعله قادراً على أن يشارك، بطريقة حازمة وبكلّ قواه، في بناء المدينة. في الفصل ذاته من الإعترافات حيث رأينا السبب الحاسم لالتزامه في «سبيل الجميع» كتب: «المسيح يشفع بنا وبدونه اليأس. إنّها عديدة وقويّة حالات الخمول هذه! عديدة وقويّة، إنّما دواؤك أكبر. إذا ما فكّرنا بأنّ كلمتك كان ابعد من أن يتحدّ بالانسان، لكنّا يئسنا من ذواتنا لو لم يصر انساناً ويسكن بيننا»[24]. بسبب رجائه، صرف أغوسطينوس قواه في سبيل الناس البسطاء، في سبيل مدينته – تنازل عن كرامته الروحيّة ووعظ وعمل بطريقة بسيطة للناس البسطاء.
- لنختصر ما اكتشفنا حتّى الآن في تأمّلاتنا. على مدى الأيّام، ينعم الإنسان بأنواع كثيرة من الرجاء – اصغرها وأكبرها -، متنوعة بحسب تعدّد حقبات حياته. قد يبدو مرّاتٍ أنّه يكتفي بأحد أنواع الرجاء بنوع كامل وأنّه لم يعد بحاجة إلى أنواع أخر من الرجاء، في شبابه قد يلقى رجاء حبّ كبير يملؤه، رجاء لمقام في وظيفته، رجاء هذا الكسب أو ذاك أثّر فيه مدى حياته. إنّما عندما تتحقّق هذه الأنواع من الرجاء، يظهر بوضوح أنّه لم يكن هذا كل شيء. من الواضح أنّ الإنسان بحاجة إلى رجاء يمتّد إلى ما وراء الواقع. ومن الواضح أنّ شيئاً لامحدوداً يمكنه فقط أن يملأه، شيئاً هو دوماً أبعد بكثير مّما يستطيع بلوغه. بهذا المعنى، وسّعت الأزمنة الحديثة مجال الرجاء لبناء عالم كامل، بفضل المعلومات العلميّة وسياسة علميّة متينة الأساس، تبدو وكأنّها قابلة التحقيق، كالرجاء الكتابي «لملكوت الله». أخيراً، يبدو أنّ هذا الرجاء الكبير والواقعي الذي كان الإنسان بحاجة إليه، هو قادر أن يجيّش – لوقت معيّن – كلّ طاقات الإنسان؛ هذه الغاية الساميّة بدت تَستحقّ الإلتزامات. لكن مع الزمن، ظهر جليّاً أنّ هذا الرجاء يبتعد أكثر فأكثر. ظنّوا أوّلاً أنّ هذا قد يكون رجاءً لرجال ما بعد غد، لا رجاء لي أنا. ومع أنّ ما هو «للجميع» جزء من الرجاء الكبير، لا أستطيع فعلاً أن أصبح سعيداً ضدّ الآخرين أو بدونهم. يبقى أنّ الرجاء الذي لا يخصّني شخصيّاً ليس رجاء حقيقيّاً. وأصبح واضحاً أنّ ذلك كان رجاء ضد الحريّة لأن وضع الأشياء البشرية مرتبط، لكلّ جيل، بطريقة جديدة، بحريّة قرار البشر الذين يؤلّفونه. وإذا، بسبب الظروف والهيكليّات، نُزعت منهم هذه الحريّة، لن يكون العالم صالحاً في النهاية، لأنّ عالماً بدون حريّة ليس عالماً صالحاً البتّة. وهكذا، مع أنّ التزاماً مستمراً لتحسين العالم هو ضروري، لن يكون موضوع رجائنا الخاص والكافي عالم الغد الأفضل. ودائماً في هذا الصدد، يُطرح السؤال: متى يكون العالم أفضل؟ ما الذي يجعله صالحاً؟ انطلاقاً من أيّ معيار يمكن تثمين الشيء أنّه صالح؟ وبأي طريق يمكن الوصول الى هذا «الصلاح»؟
- وأيضاً: نحن بحاجة إلى أنواع عديدة من الرجاء – إلى أصغرها أو إلى أكبرها – التي، يوماً بعد يوم، تحفظنا في الطريق. ولكن بدون الرجاء الأكبر، الذي يجب أن يفوق كلّ ما سواه، لا تكفينا تلك. وهذا الرجاء الأكبر لا يمكن أن يكون سوى الله وحده، الذي يضمّ إليه الكون والذي يستطيع أن يعرض علينا ويعطينا ما لا نقدر أن نحصل عليه وحدنا، وينعم علينا بعطيّة، فهذا جزء من الرجاء. الله هو أساس الرجاء – لا أي إله، بل الإله الذي يحمل وجهاً بشريّاً والذي أحبّنا غاية الحبّ – كلاّ بمفرده والبشريّة جمعاء. ليست مملكته شيئاً نتخيّله ما وراء الطبيعة، حاضر في مستقبل لا يتحقّق ابداً؛ مملكة حاضرة حيث هو محبوب وحيث حبّه يضمّنا إليه. وحده حبّه يعطينا إمكانيّة الثبات بقناعة، يوماً بعد يوم، بدون أن نفقد حماس الرجاء في عالم هو بطبيعته غير كامل. وفي الوقت عينه، حبّه لنا هو الكفالة أنّ ما نشعر به بغموض موجود في عمق أعماقنا: الحياة التي هي «حقّاً» حياة. فلنحاول الآن أن نجسّم هذه الفكرة في جزء أخير إذ نحوّل انتباهنا نحو «أماكن» تدريب عملي وتنشئة على الرجاء.
«أماكن» التنشئة والتدريب على الرجاء
اولاً: الصلاة كمدرسة للرجاء
- أوّل مكان أساسي للتنشئة على الرجاء هي الصلاة. إن لم يعد هناك أحد يسمعني، فالله لا يزال يسمعني. إن لم يعد بوسعي الكلام مع أحد، إن لم يعد بوسعي الابتهال إلى أحد، بإمكاني دائماً الكلام مع الله. إن لم يكن أحد يستطيع بعد اليوم مساعدتي – حيث هناك ضرورة أو انتظار يفوق قوى الرجاء البشريّة، فهو يستطيع مساعدتي[25]. لو أُفردت في عزلة تامّة، فالذي يصلّي ليس وحيداً تماماً أبداً. من ثلاث عشرة سنة قضاها في السجن. ومنها تسعة سنين في «عزلة»، الكردينال نغويان فان توانCardinal Nguyên Van Thuan، الرجل الذي لا يُنسى، ترك لنا كتاباً صغيراً ثميناً صلوات الرجاء. على مدى ثلاث عشرة سنة سجن، في وضع يائس تماماً ظاهراً، الإصغاء إلى الله وإمكانيّة التحدّث إليه أصبحا له قوّة تنمو في الرجاء الذي، بعد اخلاء سبيله، سُمح له بأن يصبح للناس، في العالم كلّه، شاهداً للرجاء – الرجاء الكبير الذي لا يزول حتّى في ليالي وحدته.
- بطريقة لطيفة جدّاً، يصوّر أغوسطينوس العلاقة العميقة بين الصلاة والرجاء، في عظة حول رسالة يوحنا الأولى. يحدّد الصلاة كتدريب على التوق. خُلق الإنسان لحقيقة عظيمة – لله بالذات، لكي يمتلىء منه. لكنّ قلبه اضيق من ان يسع هذه الحقيقة العظيمة المهيأة له يجب أن يتوسّع. «هكذا فالله يتركنا ننتظره فيوسّع شوقنا: وإذ يدعنا نتعرف إليه، يوسّع نفسنا. وإذ يوسّعها، يزيد إمكانيّة الإستيعاب لديها». يردّنا أغوسطينوس إلى القدّيس بولس القائل هو ذاته إنّه مشدود نحو الأشياء المستقبلة (في 3/13). ثم يستعمل صورة جميلة جدّاً لكي يصف عمليّة التوسيع هذه وتهيئة قلب الإنسان. «افترض أنّ الله يريد أن يملأك عسلاً [رمز الحنان والصلاح عند الله]: إذا كنت مملؤاً خلاّ، فأين تضع هذا العسل؟ «الإناء، أي القلب، يجب أن يتوسّع أوّلاً ثمّ يُنظّف! يتحرّر من الخل وطعمه. هذا يتطلّب جهداً، ثمن الآلام، إنّما هكذا فقط يتحقّق التكليّف مع ما نحن إليه مدعوّون[26]. حتّى وإن لم يتكلّم أغوسطينوس مباشرة إلاّ على قبول الله، فإنّه يبدو مع ذلك واضحاً أنّه في هذا الجهد الذي به يتخلّص من الخلّ وطعمه لا يصبح الإنسان حرّاً لله فحسب، بل ينفتح ايضاً على الآخرين. إذ فقط عندما نصبح ابناء الله نستطيع أن نكون مع أبينا المشترك. لا تعني الصلاة خروج الإنسان من التاريخ والانعزال في مكان سعادته الخاصّ. الطريقة الصحيحة للصلاة هي عمليّة تطهير داخلي تجعلنا نستحقّ الله وبالتالي الاتحاد ايضاً بالناس. في الصلاة، يجب أن يتعلّم الإنسان ما يستطيع حقّاً أن يطلب من الله – أي ما هو أهلاً بالله – يجب أن يتعلّم أنّه لا يمكن أن يصلّي ضد القريب. يجب أن يتعلّم أنّه لا يستطيع أن يطلب أشياء سطحية وسهلة يرغب فيها الآن – الرجاء الصغير الكاذب الذي يقود بعيداً عن الله. يجب أن يطهّر رغباته وانواع رجائه. يجب أن يتخلّص من الكذب الخفي الذي يغشّ نفسه: فالله يسبرها؛ ومواجهة الله تجبر الإنسان على أن يعرفها هو أيضاً. «من يستطيع أن يميّز أخطاءه؟ طهّرني من التي تفلت منّي، يصلّي صاحب المزامير (مز 18[19]، 13). عدم معرفة الخطأ وتوهّم البرارة لا تبّررانني ولا تخلّصانني لأنّ بلادة الضمير وعدم إمكانيّة معرفة الشرّ كشرّ فيّ، هذه هي خطيئتي، إن لم يكن هناك إله، علّي إذّاك أن ألجأ إلى هذه الأكاذيب، إذ لا يوجد أحد يستطيع أن يغفر لي، لا يوجد أحد يستطيع أن يكون المعيار الحقيقي، على العكس من ذلك، اللقاء بالله يوقظ ضميري لأنه يسمح لي بتبرير ذاتي ولا تأثيراً على ذاتي وعلى معاصريّ الذين يحدّدونني، بل يصبح إمكانيّة إصغاء للخير ذاته.
- لكي تنمي الصلاة هذه القوّة المطهرّة، يجب، من جهة، أن تكون شخصيّة جدّاً أي مجابهة بيني وبين الله، الإله الحي. ومن جهة ثانية، مع ذلك، يجب أن تكون دائماً من جديد منقادة ومنوَّرة بصلوات الكنيسة الكبرى والقديّسين بصلاة الليتورجيا حيث يعلّمنا الربّ دوما أن نصلّي بطريقة حميمة. في كتابه «التمارين الروحيّة» يُخبر الكردينال نغويان فان توان، كيف أنّه في حياته كان هناك حقبات طويلة تستحيل فيها الصلاة وكيف أنّه تعلّق بكلمات صلاة الكنيسة: «أبانا»، «السلام عليكِ» وصلوات الليتورجيا[27]. في الصلاة يجب أن يكون هناك دائماً شراكة بين الصلاة العامّة والصلاة الشخصيّة. هكذا نستطيع الكلام مع الله، هكذا يكلّمنا الله. هكذا يتحقّق فينا التطهير الذي به نصبح قادرين على الاتحاد بالرجاء الكبير ونصبح خدّام الرجاء للآخرين: الرجاء، بالمعنى المسيحي، هو دائماً وأيضاً رجاء للآخرين. وهو رجاء فاعل كيلا تذهب الأمور نحو مَخرج فاسدً. وهو أيضاً رجاء فاعل بمعنى أنّنا نُبقي العالم مفتوحاً على الله. من هذا المنظار فقط يبقى الرجاء ايضاً رجاءً إنسانيّاً حقيقيّاً.
ثانياً: نعمل ونتألّم كأمكنة للتنشئة على الرجاء
- كلّ عمل إنساني جدّي وصحيح هو رجاء بالفعل. هو قبل كلّ شيء رجاء بالمعنى الذي نبحث في أن نتبّع أنواع رجائنا الصغيرة أو الكبيرة: تدبير هذا العمل أو ذاك المهم لأجل اتبّاع طريق حياتنا؛ بالتزامنا، نقدّم مساهمتنا لكي يصبح العالم أكثر إضاءة ولو قليلاً، وأكثر إنسانيّة ولو قليلاً؛ هكذا تنفتح الأبواب على المستقبل. لكنّ الالتزام اليومي لأجل متابعة حياتنا ولأجل مستقبل كلّ شيء، ينهكنا أو يتحوّل إلى تعصّب إن لم نكن منوَّرين بنور رجاءٍ أكبر لا يهدمه لا الفشل في الأمور الصغيرة ولا الإنهيار في امور تاريخيّة. إن لم نستطع أن نرجع أكثر ممّا هو حقّاً في متناولنا من مرَّة إلى أخرى ولا أكثر ممّا يمكننا أن نرجو من السلطات السياسيّة والاقتصاديّة، تبلغ حياتنا إلى الحرمان من الرجاء. مهمّ أن نعرف ما يأتي: بإمكاني دوماً أن أرجو، حتّى وإن ظاهراً على مدى الحياة أو لبرهة زمنيّة أعيشها الآن، لم يعد لي شيء أرجوه. وحده الرجاء – التأكيد الكبير – وبالرغم من كلّ أنواع الفشل، أنّ حياتي الشخصيّة والتاريخ كلّه لا يزالان محفوظين في سلطة الحبّ الذي لا يُقهر والذي، بفضله، يُرى لها معنى وأهميّة؛ وحده هذا الرجاء يستطيع في هذه الحالة أن يعطي الشجاعة للعمل وللمتابعة. لا شكّ في أنّنا لا نستطيع أن نبني ملكوت الله بقوانا الشخصيّة – ما نبنيه يبقى دون ملكوت الإنسان بكلّ الحدود العائدة إلى الطبيعة البشريّة. ملكوت الله هو عطيّة، ولذا فهو كبير وجميل وهو الذي يعطي الجواب للرجاء. ولا نستطيع، لكي نستعمل التعابير الكلاسيكيّة – أن «نستحقّ» السماء بأعمالنا الشخصيّة. فالسماء هي دائماً أكبر ممّا نستحق. وهذا ينطبق على وضع كوننا محبوبين؛ الشيء الذي لم يكن يوماً «مستحَقاً» إنمّا هو دائماً عطيّة. مع ذلك، مع كلّ وعينا «فائض القيمة» «السماء»، يبقى دائماً صحيحاً أنّ عملنا ليس بدون أهميّة أمام الله كما أنه ليس بدون أهميّة لمسيرة التاريخ. بإمكاننا أن ننفتح، نحن والعالم، على دخول الله: الحق والحبّ والخير. هذا ما صنعه القدّيسون الذين، بصفتهم مساهمين مع الله، ساهموا في خلاص العالم (1 قو 3/9؛ 1 تي 3/2). بإمكاننا تحرير حياتنا والعالم من السموم والأوبئة التي تستطيع أن تهدم الحاضر والمستقبل. باستطاعتنا أن نكشف ينابيع الخلق ونحافظ على نظافتها، وهكذا، مع الخليقة التي تسبقنا كعطيّة، تضع ما هو عدل بحسب متطلّباتها الأساسيّة وغاياتها. وهذا له معنى إذا، كما يبدو، لم ننجح أو نبدو منزوعي السلاح تجاه سلطة القوى الماديّة. هكذا، من جهة، هناك رجاء لنا وللآخرين ينتج عن أعمالنا؛ ومن جهة ثانية، مع ذلك، إنّه الرجاء الكبير المرتكز على وعود الله الذي، في الأوقات المناسبة أو غير المناسبة، يعطينا الشجاعة ويوجّه عملنا.
- كالعمل، فالألم هو أيضاً جزء من الحياة الإنسانيّة. إنّه ينتج، من جهة، من محدوديتنا ومن جهة ثانية من مجموعة الأغلاط التي، على مدى التاريخ، تكدّست ولا تزال اليوم تزداد بدون توقّف. يجب طبعاً فعل كلّ ما في الإمكان للتخفيف من الألم: الحدّ، على قدر الإمكان، من آلام الأبرياء، تهدئة الأوجاع، المساعدة على تخطّي الآلام النفسيّة. كلّ ذلك هو من واجبات العدالة على قدر ما هي من واجبات المحبّة التي تدخل في متطلّبات الحياة المسيحيّة الأساسيّة وفي حياة كلّ إنسان. في النضال ضدّ الألم البشري، نجح الإنسان وقام بتقدّم كبير. فآلام الأبرياء وكذلك الآلام النفسيّة ازدادت بالأحرى طوال السنين الأخيرة. نعم، يجب أن نعمل كلّ شيء للتغلّب على الألم؛ إنّما إزالته تماماً من العالم ليست من إمكانيّاتنا – وذلك فقط لأنّنا غير قادرين أن نتخلّص من محدوديّتنا ولا يستطيع أحد منّا أن يزيل قوى الشر والخطيئة التي – كما نرى – هي دائماً نبع الألم. وحده الله يستطيع أن يحقّق ذلك: وحده الله يدخل في التاريخ شخصيّاً بصيرورته إنساناً ويتألم معنا. نحن نعلم أنّ هذا الإله موجود وأنّ هذه السلطة «التي تمحو خطيئة العالم» موجودة في العالم (يو 1/29). بإيماننا بوجود هذه السلطة، رجاء شفاء العالم ظهر في التاريخ. إنّما نحن نتكلّم على رجاء، لا على تحقيق، رجاء يعطينا الشجاعة، لكي نقف إلى جانب الخير حتّى ولو بدا ذلك بدون رجاء؛ مع التأكيد بأنّ سلطة الخطيئة، وإن كانت جزءاً من مسيرة التاريخ كما يظهر ذلك في الخارج، فهي باقية حاضرة في المستقبل حضوراً مرعباً.
- 37. لنعد إلى موضوعنا: يمكننا محاولة وضع حدّ للألم ومقاومته، لكن لا نستطيع إزالته. إذ أن الناس، في محاولة تجنّب كلّ ألم، يحاولون أن يتنصّلوا من كلّ ما يُدعى ألماً، حيث يريدون أن يوفّروا على ذواتهم تعب الحقيقة ووجعها، كما ووجع الحبّ والخير، يغرقون في حياة فارغة حيث لا يوجد عمليّاً ألم، ولكن حيث يوجد شعور غامض بغياب المعنى والوحدة. ما يشفي الإنسان ليس تلافي الألم ولا الهروب أمام الوجع، بل إمكانيّة قبول المحن وبلوغ النضج بواسطتها، وإيجاد معنى بالاتحاد بالمسيح الذي تألّم بحب لا متناهٍ. في هذا الإطار، أودّ أن أذكر بضع جمل من رسالة للشهيد الفيتنامي بولس لاباوتنه Paul Le Bao-Tinh (+ 1857)، حيث تحول الألم بقوّة الرجاء الآتي من الإيمان يصبح واضحاً: «أنا بولس المقيّد بالسلاسل من أجل المسيح، اريد أن أُحدثكم عن المحن حيث أُدفن يوميّاً حتى إذا احترقتم بالحبّ الإلهي، تسبّحوا الربّ معي إذ في كل الأجيال رحمته (مز 135[136]، 3). هذا السجن هو حقّاً صورة حيّة لجهنم الأبدية. إنّ السلاسل والنير والقيود يُضاف إليها الغضب والانتقام واللعنات والأحاديث السافلة، والضرب والأعمال الشريّرة وأنواع القيم الكاذبة والنميمة التي يُضاف إليها أيضاً الضجر والحزن… لكنّ الذي خلّص بالأمس الأولاد الثلاثة من اللُهُب المحرقة، كان ايضاً معي. خلّصني من هذه الشرور وحوّلها لي إلى عذوبة، إذ إنّ رحمته إلى الأبد. بنعمة الله، وسط هذه العذابات التي عادة تُحزن الآخرين، أنا مليء فرحاً وسروراً لأنّني لست وحدي، إذ المسيح هو معي […] كيف أستطيع أن أحيا وأنا ارى كلّ يوم الطغاة وأتباعهم الكفّار يجدّفون على اسم الله، أنت، الربّ، الجالس وسط الكاروبيم (مز 79[80]، 2) والسارافيم؟ أنظر الى صليبك يدوسه الكافرون بأرجلهم. أين هو مجدك؟ عندما أرى ذلك، وقد ألهبني حبّك، أفضّل الموت وأن تتقطع أعضائي إرباً شهادة لحبّي لك، يا رب. أظهر قدرتك. خلّصني وساعدني لكي، في ضعفي، تظهر قوّتك وتتمجّد أمام العالم […] عندما تسمع هذه الأشياء، ترفع، وأنت فرح، افعال شكر أبديّة لله موزّع كلّ العطايا وتبارك معي لأن رحمته في كلّ الأجيال […] أكتب إليك بهذه الأشياء لكي نوحّد إيمانك وإيماني وسط هذه العواصف. إرمِ المرساة تصل إلى عرش الله؛ إنّه الرجاء يعيش دائماً في قلبي»[28]. إنّها رسالة من الجحيم. يظهر فيها كلّ رعب معتقلات الموت حيث، بالإضافة إلى دور الطغاة، هناك هيجان الشرّ لدى الضحايا ذاتها الذين، هكذا، يصبحون وسائل لقساوة الجلاّدين. إنّها رسالة من الجحيم إنّما فيها يتحقّق كلام المزمور «إن صعدت الى السماء فأنت هناك؛ وإن نزلت إلى مثوى الأموات، فها أنت أيضاً حاضر؛ كنت قد قلت: الظلمات تطحنني حتى الظلمات لديك ليست ظلمات والليل هو نور كالنهار (مز 138 [139]، 8-12 راجع ايضاً مز 22 [23]، 4). نزل المسيح إلى الجحيم وأصبح هكذا قريباً من الذي زُجّ فيها، محوّلاً له الظلام الى نور. الألم والعذاب يبقيان مُرعِبَين ويكادان لا يُحتملان. ومع ذلك فنجمة الرجاء طلعت – مرساة القلب تصل إلى عرش الله. فالشر لم يتهيّج في الإنسان بل النور ينتصر: الألم – وهو لا يزال ألماً – يصبح بالرغم من كلّ شيء تسبيحاً.
- مقياس الإنسانيّة يُحدَّد أصلاً بعلاقته بالألم والمتألمين. هذا ينطبق على كلّ واحد وعلى المجتمع. المجتمع الذي لا يتوصّل إلى احتمال المتألمين والذي ليس قادراً على المساهمة، بالشفقة، إلى أن يجعل الألم موضوع مشاركة ومقبولاً داخليّاً، هو مجتمع قاسٍ وغير إنساني. مع ذلك، لا يستطيع المجتمع أن يقبل المتألمين ويساندهم في ألمهم، إن لم يكن كلّ فرد قادراً على ذلك؛ من جهة أخرى، لا يستطيع كلّ فرد أن يقبل ألم الآخر إذا كان هو شخصيّاً لا ينجح في إيجاد معنى للألم، طريق تطهير ونضج، طريق رجاء. أن نقبل الآخر المتألم يعني فعلاً أن نتبنى نوعاً ما ألمه بحيث يصبح ألمنا أيضاً. لكن بما أنّه الآن أصبح ألماً يتقاسمونه، حيث يوجد حضور آخر، هذا الألم يلجه نور الحبّ. الكلمة اللاتينيّة (consolation تعزية) تؤدّي منها المعنى الرائع، إذ توحي بأن نكون مع الغير في الوحدة التي لا تعود وحدة. وأيضاً إمكانيّة القبول بالألم حبّاً بالخير والحقيقة والعدالة هي تبني مقياس الإنسانيّة. إذ في النهاية، إذا كانت رفاهيّتي وكمالي هما أهمّ من الحقيقة والعدالة، عندئذٍ يتغلّب تسلّط الأقوى، عندئذٍ يملك العنف والكذب. الحقيقة والعدالة يجب أن يكون قبل رفاهيّتي وكمالي الجسدي، وإلاّ أصبحت حياتي كلّها كذبة. وأخيراً كلمة «نعم» للحبّ هي أيضاً نبع ألم، لأنّ الحبّ يتطلّب دائماً أن أخرج من ذاتي حيث أدعهم يقلّمونني ويجرحونني. لا يمكن للحبّ ابداً أن يوجد بدون التجرّد الذي يؤلمني أنا بالذات فيصبح أنانيّة محضة ومن هنا يمحو هو ذاته.
- نتألم مع الغير. نتألم لأجل الغير. نتألم حبّاً بالحقيقة والعدالة؛ نتألم بسبب الحبّ ولكي نصبح أُناساً يحيون حقّاً. هذه عناصر أساسيّة للإنسانية؛ إن أهملناها فقد هدمنا الإنسان ذاته. إنمّا ومن جديد يعود السؤال: هل هذا بمقدورنا؟ هل الآخر بهذه الأهميّة بحيث أُصبح له إنساناً يتألّم؟ هل الحقيقة بالنسبة إليّ بهذه الأهميّة لكي أدفع ثمنها ألماً؟ هل وعد الحبّ هو بهذا المقدار من الأهميّة بحيث يبرّر عطاء ذاتي؟ في تاريخ البشريّة، يعود حقّاً للإيمان المسيحي هذا الفضل بأنّه أيقظ في الإنسان، بطريقة جديدة وبعمق جديد، إمكانيّة الألم التي هي حاسمة لإنسانيته. برهن لنا الإيمان المسيحي أنّ الحقيقة والعدالة والحبّ ليست محض مثاليّات، بل حقائق ذات كثافة كبيرة جدّاً. برهن لنا حقّاً أنّ الله – الحقيقة والحبّ بالذات – أراد أن يتألّم لأجلنا ومعنا. برنار دي كلارفو خلق هذه العبارة الرائعة: لا يستطيع الله أن يتألّم ولكنّه يستطيع أن يتألّم مع… Impassibilis est Deus, sed non incompassibilis[29]، في نظر الله، للإنسان قيمة بهذه الأهميّة بحيث صار هو ذاته إنساناً لكي يستطيع أن يتألّم مع الإنسان حقاً. في اللحم والدم، كما نرى في حياة وآلام السيد المسيح. من هنا فإنّ في كلّ ألم بشري تدخّل شخص يشارك ألمه وصبره؛ من هنا ايضاً تنتشر في كل ألم التعزيّة، تعزية الحبّ، مشاركة مع الله؛ هكذا تطلع نجمة الرجاء. لا شكّ أنّنا في آلامنا الكثيرة ومحننا، نحن دائماً بحاجة إلى رجائنا الكبير أو أنواع الرجاء الصغيرة – بحاجة إلى زيارة عطوفة، إلى شفاء جراح داخليّة وخارجيّة، إلى حلّ ايجابي لأزمة الخ… في الصعوبات الصغرى، أنواع الرجاء هذه قد تكون كافية. لكن في المحن الكبيرة حقّاً، حيث يجب أن آخذ القرار النهائي في أن أضع الحقيقة قبل الرفاهيّة والوظيفة والتملّك. فتأكيد الرجاء الحقيقي والكبير الذي تكلّمنا عليه يصبح ضروريّاً. لأجل ذلك نحن بحاجة إلى شهود وشهداء أعطوا ذواتهم بكليّتها كي يُظهروه لنا يوماً بعد يوم. نحن بحاجة إلى ذلك لكي نفضّل، حتّى في اختيارات الحياة اليوميّة الصغيرة، الخير على الراحة – عالمين بأنّه هكذا نعيش حياتنا حقّاً. فلنقلها مرّة جديدة: إمكانيّة الألم لأجل حبّ الحقيقة هي مقياس الإنسان. مع ذلك، إمكانيّة الألم هذه تتوقّف على نوع ومقاس الرجاء الذي نحمله والذي عليه نبني. تمكّن القدّيسون من قطع الطريق الطويل – أن يكونوا بشراً – كما قطعها المسيح من قبلنا لأنهّم كانوا ممتلئين من الرجاء الكبير.
- أريد أن أضيف ملاحظة صغيرة ليست نافلة أبداً بالنسبة إلى الأحداث اليوميّة. فكرة، أنّه بإمكاننا «تقدمة» الصعوبات اليوميّة الصغيرة التي تمسّنا دائماً من جديد كإبر ليست دائماُ لطيفة، تعطيها دائماً معنى، هي نوع من العبادة قد لا تكون اليوم دارجة إنمّا كانت لا تزال منتشرة بكثرة حتّى في الأمس. في هذه العبادة، لا شكّ أنّهم كانوا يغالون فيها أو أنّها لم تكن دائماً سويّة. ولكن علينا أن نتساءل إذا كان شيء أساسي، يستطيع أن يساعد، لم يكن متضمّناً فيها بشكل من الأشكال. ما معنى «قرّب»؟ كان هؤلاء الأشخاص مقتنعين أنّ بإمكانهم إدخال شيء في حبّ يسوع الكبير من آلامهم الصغيرة التي تدخل هكذا، نوعاً ما، في كنز الحبّ الذي يحتاجه الإنسان. قد يكون من واجبنا أن نتساءل حقّاً إذا كان هذا لا يعود يصبح نظريّة ذكيّة بالنسبة إلينا أيضاً.
ثالثاً: الحُكم كمكان للتدرّب والتمرّن على الرجاء
- في إعلان الإيمان الكبير في الكنيسة، القسم الوسطي يتكلّم على سرّ المسيح، منذ ولادته الأزليّة من الآب وولادته في الزمن من العذراء مريم وصولاً بالصليب إلى القيامة حتّى مجيئه، يُختتم بهذا الكلام: «سوف يأتي بالمجد ليدين الأحياء والأموات». ومنذ المسيحيّة، فكرة الدينونة أثّرت في المسيحيّين حتّى في حياتهم اليوميّة كونها مقياساً يسمَح بتنظيم الحياة الحاضرة كنداء لضمائرهم وفي الوقت عينه كرجاء في عدالة الله. الإيمان بالمسيح لم يكن ينظر فقط إلى الوراء ولا دوماً إلى فوق، بل دائماً أيضاً إلى الأمام نحو ساعة العدالة التي أنبأ عنها الربّ مرّات عديدة. هذه النظرة إلى الأمام أكسبت المسيحيّة أهميّة بالنسبة إلى الحاضر. في هيكليّة الأبنية المقدّسة المسيحيّة، التي كانت تريد إبراز عظمة الإيمان بالمسيح التاريخيّة والكونيّة، كان عاديّاً إظهار الربّ العائد كملك للجهة الشرقيّة – صورة الرجاء – وللناحية الغربيّة على العكس من ذلك، صورة الدينونة الأخيرة كصورة للمسؤوليّة في حياتنا، صورة تنظر إلى المؤمنين وترافقهم على طريق حياتهم اليوميّة. مع ذلك، ومع تطوّر فنّ الصورة، أعطوا دائماً بعد ذلك أهميّة أكبر لمنظر الدينونة المهدِّد والكئيب، والذي كان يفتن الفنّانين أكثر من بهاء الرجاء الذي غالباً ما كان يختبىء وراء التهديد.
- في التاريخ الحديث، توقّف الاهتمام بالدينونة الأخيرة: الإيمام المسيحي أصبح فرديّاً وتوجّه خاصّةً نحو الخلاص الشخصي للنفس. التفكير بالتاريخ العالمي على العكس من ذلك، خضع إجمالاً للإهتمام بالتقدّم. مع ذلك، فالمحتوى الأساسي لانتظار الدينونة لم يتوارَ بسهولة وهو يأخذ شكلاً مختلفاً تماماً. الإلحاد في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر هو، بالنظر لجذوره وغايته، إلحاد أخلاقي: اعتراض على ظلم العالم والتاريخ العالمي. هذا العالم حيث يوجد هذا القدر من الظلم وآلام الأبرياء وصفاقة الحكاّم لا يمكن أن يكون عمل الإله الصالح. الإله المسؤول عن عالم كهذا لا يمكن أن يكون إلهاً عادلاً وبالأحرى أن يكون إلهاً صالحاً. فباسم الأخلاق يجب مقاومته. بما أنّه لا يوجد إله يخلق عدالة، يبدو أن الإنسان ذاته مدعوّ الآن إلى نشر العدالة. وإذا كان الاعتراض على الله مفهوماً تجاه آلام هذا العالم، فالادّعاء بأنّ الإنسانيّة تستطيع ويجب أن تصنع ما لم يصنعه أيّ إله ولا يقدر أن يصنعه هو غرور وخطأ أساسي. أن ينتج من هذا الادّعاء أفظع القساوات وأبشع انتهاكات للعدالة، فهذا ليس من قبيل الصدفة بل هو مؤسّس على الخطأ الداخلي لهذا الادّعاء. عالم يريد أن يخلق من ذاته عدالته هو عالم بدون رجاء. لا أحد ولا شيء يقدر أن يبرّر آلام الأجيال؛ لا شيء ولا أحد يكفل أنّ صفاقة الحكم، تحت أيّة عباءة إيديولوجيّة قويّة ظهر، لا تظلّ تحكم العالم. لذا فالمفكّرون الكبار من مدرسة فرنكفورت، ماكس هورخايمر وتيودور أدورنو، انتقدوا بالشكل ذاته الإلحاد والإيمان بإله غامض. ينفي هورخايمر نفياً باتاً أن يكون ممكناً وجود كائن بديل متأصّل في طبيعة أخرى، ويرفض في الوقت عينه صورة إله صالح وعادل. في جذريّة تامّة، كما منع أيّ صُوَر العهد القديم، هو يتكلّم على الحنين إلى شيء هو «الآخر تماماً» الغير المدرك، إلى صرخة – رغبة موجّهة إلى التاريخ العالمي. كذلك أدورنو، تقيّد راسخاً برفض كلّ صورة كما يرفض صورة الإله المحبّ. وهو أيضاً، ودائماً من جديد، يشدّد على هذه «السلبيّة» ويؤكّد أنّ العدالة، العدالة الحقيقيّة، تتطلّب عالماً «حيث ليس فقط الألم الحاضر يزول، بل ايضاً ينفي تماماً ما مضى بدون رجعة[30]. مع ذلك، فهذا يعني، بتعابير رمزيّة إيجابيّة وفي نظره غير مناسبة، أنّ العدالة لن تكون لنا بدون قيامة الأموات. مع ذلك، هذه النظرة تتطلّب «قيامة الأجساد» – شيء بقي دائماً غريباً عن المثاليّة، عن ملكوت الروح المطلق»[31]
- من الرفض المطلق لكلّ صورة، وهذا جزء من وصايا الله الأولى (خر20/4)، يستطيع أيضاً المسيحي ويجب أن يتعلّم دائماً جديداً. حقيقة اللآهوت السلبي ظهرت بوضوح في المجمع اللاتراني الرابع الذي أعلن جليّاً أنّه مهما كان كبيراً الشبه الذي رأوه بين الخالق والخليقة يبقى الفرق دائماً أكبر فيما بينهم[32]. في نظر المؤمن، مع ذلك، فالتخلّي عن كلّ صورة لا يجب أن يصل إلى التوقّف، كما يريده هورخايمر وأدورنو، عند «اللا» للطرحين، للإله الغامض وللإلحاد. فالله ذاته أعطى عن ذاته «صورة» بالمسيح الذي صار إنساناً. في المسيح المصلوب، رفض الصور الكاذبة عن الله يصل الى ذروته. الآن يكشف الله وجهه في وجه المتألم الذي يشترك في وضع الإنسان المتروك من الله ويحمله على عاتقه. هذا المتألّم البريء صار رجاءً أكيداً: الله موجود وهو يعرف أن يخلق العدالة بطريقة لا نفهمها ومع ذلك في الإيمان نستطيع أن نستشفها. نعم، قيامة الأجساد موجودة[33]. هناك عدالة[34]. إلغاء الألم الماضي والتعويض الذي يردّ الحق إلى نصابه موجودان. لذلك فالإيمان بالدينونة الأخيرة هو قبل كلّ شيء وبنوع خاص رجاء – الرجاء الذي أصبحت ضرورته واضحة في اضطرابات هذه القرون الأخيرة. أنا مقتنع بأنّ قضيّة العدالة تكوّن البرهان الأساسي، على كلّ حال البرهان الأقوى، لصالح الإيمان بالحياة الأبديّة. الحاجة الشخصيّة لتعويض في هذه الحياة فقط مرفوضٌ عَنّا كما لخلود الحبّ الذي ننتظره، هو لا شكّ سبب هامّ لكي نؤمن بأنّ الإنسان مخلوق للأبديّة، لكن فقط بالارتباط بأنّه مستحيل أن تكون عدالة التاريخ كلمة نهائية. ضرورة عودة المسيح والحياة الأبديّة والحياة الجديدة تصبح مُقنِعة تماماً.
- الاعتراض على الله باسم العدالة لا يفيد شيئاً. عالم بدون الله هو عالم بدون رجاء (أف 2/12). وحده الله قادر أن يخلق العدالة؛ والإيمان يؤكّد لنا ذلك. صورة الدينونة الأخيرة هي قبل كلّ شيء لا صورة مُرعِبة بل صورة رجاء: ويمكننا القول الصورة الحاسمة للرجاء. ولكن ألا يمكن أن تكون أيضاً صورة خوف؟ أقول: إنّها صورة تدعو إلى المسؤوليّة؛ ثمّ صورة لهذا الخوف الذي يقول عنه القديس هيلاريوس إنّ كلّ نوع من أنواع خوفنا له مكان في الحب[35]. الله عادل وخالق للعدالة. هنا تعزيتنا وهنا رجاؤنا. إنمّا في عدالته توجد أيضاً النعمة. هذا ما نعرفه عندما نحوّل نظرنا إلى يسوع المصلوب والقائم من الموت. العدالة والنعمة يجب أن ننظر إليهما في علاقتهما الداخليّة الصحيحة. النعمة لا تنفي العدالة؛ وهي لا تحوّل الخطأ إلى حقّ؛ ليست إسفنجة تمحو كلّ شيء بحيث أنّ كلّ ما يحدث على الأرض يقود في النهاية إلى القيمة ذاتها. مثلاً، في قصّته «الأخوة كرامازوف» Karamazov، يعترض دوستويوفسكي Dostoïevski هذا النوع من النموذجيّة الناتجة عن السماء والنعمة. في النهاية، في الوليمة الأبديّة لا يجلس الأشرار، بدون تمييز، بقرب الضحيّة كما لو لم يكن شيء قد حدث. بهذا الصدد أريد أن أذكر نصّاً من أفلاطون يعبّر فيه عن شعور مسبّق لدينونة عادلة التي، بجزء كبير منها، تبقى ايضاً صحيحة في نظر المسيحي. حتّى بصور أسطوريّة، التي مع ذلك تعبّر عن الحقيقة بكلّ وضوح، يقول إنّ الأنفس، في النهاية، تظهر عارية أمام الديّان. آنذاك لا يُحسَب شيءٌ مّما كانت عليه في التاريخ، بل ما هي عليه في الحقيقة فحسب. «غالباً عندما يضع يده على المَلِك الأكبر أو على أحد الأمراء أو على مؤسّس سلالة حاكمة، يلاحظ أن ليس في نفسه ولو جزء صغير سليم وأنّها كلّها مقروحة ومجروحة بالكذب والظلم […] وأن كلّ ما فيها تشوّه بالكذب والباطل وأن لا شيء مستقيم لأنها عاشت خارج الحقيقة، ولأن الإباحيّة والتخنّث والكبرياء والتطرّف في السلوك مَلأَها فوضى وبشاعة: أمام هذا المنظر، يرسلها رادامانت Rhadamante رأساً، وقد سقطت من حقوقها، إلى السجن لكي تُسام العذابات المناسبة […]؛ بعض مراّت، يرى نفساً ثانية عرف أنّها عاشت بالقداسة في ممارسة الحقيقة […]. فيُعجب بجمالها ويُرسلها إلى جزر السعداء»[36]. في مَثَلِ الغني المتنعِّم ولعازر الفقير (لو 16/19-31)، ينبهّنا يسوع بإظهار صورة نفس اجتاحتها الغطرسة والثراء فهي خلقت حفرة لا يُعبر منها إلى الفقير؛ إنّه الحبس في الشهوات الماديّة، حفرة نسيان الآخر، عدم إمكانيّة الحبّ الذي يتحوّل إذّاك إلى عطش مُحرق وغير قابل الشفاء من الآن فصاعداً. يجب أن نسجّل هنا أنّ يسوع، في هذا المَثَل، لا يتكلّم على المصير الأخير بعد الدينونة العامّة، لكنّه يردّد نظرة موجودة في اليهوديّة القديمة، أي النظرة إلى حالة وسطيّة بين الموت والقيامة، نظرة لم يلفظ فيها بعد الحكم النهائي.
- هذه الفكرة اليهوديّة القديمة حول الحالة الوسطيّة تتضمّن فكرة أنّ النفوس لا توجد في حالة حجزٍ مؤقّت. لكنّها تنال قصاصاً، كما يبيّن مَثَل الغني المستنعّم، أو على العكس، تتمتّع بنوع من السعادة وأخيراً هناك فكرة أنّه في هذه الحالة يمكن أن تكون هناك تطهيرات وشفاءات تُنضج النفس للاتحاد بالله. أخذت الكنيسة الأولى بهذه النظريّات ومنها، فيما بعد، في كنيسة الغرب، تطوّرت تدريجيّاً عقيدة المطهر. لسنا بحاجة هنا إلى تحليل للطرق التاريخيّة المعقّدة لهذا التطوّر؛ فلنتساءل فقط ما المقصود بذلك حقّاً؟ مع الموت يصبح اختيار الحياة الذي أقرّه الإنسان نهائيّاً – حياته أمام الدياّن. اختياره الذي أخذ شكله طوال حياته قد يأخذ عدّة صفات. قد يوجد أناس هدموا فيهم تماماً الرغبة في الحقيقة والاستعداد للمحبّة. أناس أصبح كلّ شيء في حياتهم كذباً، أناس عاشوا لأجل البغض وداسوا المحبّة في حياتهم. إنّها رؤية مرعبة؛ إنّما بعضهم في التاريخ يَدَعُوننا نميّز بطريقة مخيفة صوراً جانبيّة. من هذا النوع. في أشخاص كهؤلاء، لم يكن هناك شيء قابل الشفاء، وهدم الخير أصبح متعذّراً تغييره. هذا ما يُسَمّونه «الجحيم»[37]. كما أنّ هناك أشخاصاً أطهاراً تركوا الله يلج حياتهم وبذلك انفتحوا بكلّيتهم على القريب – أشخاص اتّحادهم بالله يوجّههم منذ الآن بكلّيتهم، ومِسيرتهم نحو الله تقودهم فقط إلى كمال ما هم عليه منذ اليوم[38].
- مع ذلك، بعد اختباراتنا، لا هذه الحالة ولا تلك هو ما يجري عادة في الحياة المسيحيّة. لدى غالبيّة الناس، كما نظّن، هناك في قرارة ذواتهم انفتاح أخير داخلي على الحقيقة والحبّ والله. في الاختبارات العمليّة الحياتيّة، يبقى هذا الانفتاح مُغطّى منذ البدء بتسويات جديدة مع الشر – كثير من الأوساخ تُغطّي الطهارة مع ذلك فالعطش باقٍ وهو، بالرغم من كلّ شيء، يظهر دائماً من جديد وسط الأوساخ ويبقى حاضراً في النفس. ماذا يحلّ بهؤلاء الأشخاص عندما يمثلون أمام الديّان؟ كل الدناءات التي كدّسوها في حياتهم تصبح، كما يظنّ البعض وببرهة لا قيمة لها؟ أو ماذا يحدث غير ذلك؟ في الرسالة الأولى لأهل كورنتس، يعطينا القدّيس بولس فكرة عن التأثير المغاير لدينونة الله للإنسان بحسب وضعه. بقوله، بصور هدفها نوعاً ما التعبير عمّا لا يُرى من دون أن نستطيع تحويل هذه الصور إلى معاني مجرَّدة – بكلّ بساطة، لأنّنا لا نستطيع النظر إلى عالم الموت اللامنظور ولأنّنا لا نملك أيّ اختبار عنه. يقول بولس، قبل كلّ شيء، عن الاختبار المسيحي، أنّه مبنيّ على أساس مشترك، هو يسوع المسيح. هذا الأساس يقاوم. إن بقينا ثابتين على هذا الأساس وإن بنينا عليه حياتنا، نعرف أنّ هذا الأساس لا يمكن رفعُه وإن بالموت. ثم يتابع بولس: «نستطيع متابعة البناء بالذهب أو بالفضة أو بالحجر الكريم أو بالخشب أو بالعشب أو بالقشّ؛ إنّما عمل كلّ إنسان يُعرض للنور يوم الدينونة. لأنّ هذا الكشف يتمّ بالنار والنار تسمَح بتثمين نوعيّة عمل كلّ واحد. إذا كان عمل أحدهم يقاوم. فهذا يقبل أجره، إن انهدم بالنار يفقد أجره. أمّا هو فيخلص ولكن كما لو كان قد مرّ بالنار» (3، 12-15). على كلّ حال، يبدو واضحاً في هذا النصّ أنّ خلاص البشر قد يأخذ أشكالاً متعدّدة: فبعض الأشياء المبنيّة قد تحترق بكاملها؛ ولكي يخلص هو عليه المرور بالنار لكي يصبح نهائيّاً قادراً على الاتحاد بالله ولكي يشارك في وليمة العرس الأبدي.
- بعض اللاهوتيّين المعاصرين يقولون إنّ النار التي تحرق وفي الوقت عينه تخلّص هي المسيح ذاته الديّان والمخلّص. اللقاء به هو العمل الحاسم للدينونة فأمام ناظريه يذوب كل كذب. فاللقاء به، وإن أحرق، يحوّلنا ويحرّرنا ليجعلنا حقّاً ما يجب أن نكون. الأشياء التي بنيناها في الحياة قد تبدو آنذاك قشّاً ناشفاً وتبجّحاً فارغاً وتنهار. إنّما في ألم ذلك اللقاء، حيث الفاسد والموبوء في كياننا يبدو لنا بوضوح، نجد الخلاص. نظر المسيح، نبضات قلبه تشفينا بتحويل حقّاً مؤلم كما «في النار». مع ذلك، إنّه ألم سعيد حيث قدرة حبّه القدّوس تلج كياننا كشعلة نار وتسمح لنا، في النهاية، أن نصير ما نحن عليه بكليَّتنا وكذلك لله بكلّيتنا. هكذا أيضاً يبدو واضحاً ولوج العدالة والنعمة: طريقة حياتنا ليست تافهة، بل إنّ أوساخنا لا تلزمنا إلى الأبد إذا كنّا، أقلّه، بقينا مشدودين إلى المسيح، إلى الحقيقة، إلى الحبّ. وفي النهاية، هذه الأوساخ قد حُرقت في آلام المسيح عند الدينونة، نختبر ونقبل سلطة الحبّ هذه على كلّ شرّ في العالم وفينا. ألم الحبّ يصبح خلاصنا وفرحنا. من الواضح أنّ «زمن» هذا الحرق المحوِّل، لا نستطع أن نكيلّه بموازين هذا العالم الزمنية. «البرهة» المحوِّلة في هذا اللقاء نقلت من حساب الزمن الأرضي – إنّه زمن القلب، زمن العبور إلى الاتحاد بالله في جسد المسيح[39]. دينونة الله رجاء، إن من حيث هي عدالة أو من حيث هي نعمة. لو كانت نعمة فحسب، التي تجعل كلّ ما هو أرضي تافهاً، فالله يبقى مَديناً لنا بالجواب عن العدالة – سؤال حاسم لنا نحو التاريخ ونحو الله ذاته. ولو كانت عدالة فحسب، يمكن أن يصبح في النهاية لنا كلّنا سبب خوف. تجسّد الله في المسيح ربط الواحدة بالأخرى إلى حدّ – عدالة ونعمة – العدالة تبقى ثابتة: ننتظر جميعاً خلاصنا «في خوف الله والرعدة» (في 2/12). بالرغم من هذا، تسمح النعمة لنا جميعاً أن نرجو وأن نذهب ملأى، ثقة إلى لقاء الديّان الذي نعرفه كمحامينا (البارقليط) parakletos (1 يو 2/1).
- دافع آخر يجب ذكره هنا لأنّه مهمّ، لكي نحيا الرجاء المسيحي. في اليهوديّة القديمة، نجد فكرة أنّه بالامكان مساعدة الموتى، في وضعهم الوسيط، بالصلاة (2 مك 12/38-45: القرن الأول ق.م.). الممارسة المماثلة تبنّاها عفويّاً المسيحيّون وهي مشتركة بين الكنيسة الشرقيّة والكنيسة الغربيّة. فالشرق يجهل الألم المطهِّر والتعويض للنفوس في ما وراء عالمنا، لكنه يعرف فعلاً درجات للسعادة أو أيضاً للألم، في الحالة الوسيطة. مع ذلك، بفضل الإفخارستيّا، والصلاة والإحسان، «الراحة والعذوبة» يمكن منحهما لأنفس الموتى. أن يستطيع الحبّ أن يصل إلى ما وراء الطبيعة وأن يكون ممكناً عطاء وقبول متبادلان، حيث الجميع يبقون متّحدين بعلاقات الودّ ما بعد حدود الموت – كان هذا اقتناعاً أساسيّاً للمسيحيّة عبر كلّ العصور ويبقى اليوم اختباراً مشجعّاً. من لا يشعر بضرورة إيصال علامة حلوة لذويه وعرفان جميل أو طلب أو غفران، للذين مضوا إلى العالم الثاني؟ والآن بالإمكان التساؤل أخيراً: إذا كان المطهر يقوم فقط بالتطهير بالنار، في اللقاء بالرب، الديّان والمخلّص، فكيف يمكن لشخص ثالث أن يتدخّل وإن كان قريباً قرباً خاصاً؟ عندما نطرح سؤالاً كهذا، يجب أن نعرف أن لا أحد «جوهر فرد» منغلق على ذاته. حياة الفرد مع حياة الآخرين متّحدة بالعمق فيما بينها؛ إنّها مرتبطة الواحدة بالأخرى بواسطة تفاعلات عدّة. لا أحد يحيا وحده. لا أحد يخطىء وحده. لا أحد يخلص وحده. فدائماً حياة الآخرين تتدخّل في حياتي، بكلّ ما أفكّر فيه، بكلّ ما أقول وأعمل وأحقق. والعكس صحيح: حياتي تتدخّل في حياة الآخرين: في الشرّ كما في الخير. لذا فتشفّعي بإنسان ليس ابداً شيئاً غريباً عنه، خارجيّاً حتى بعد الموت. في هذا التبادل الكياني، الشكر الذي أؤدّيه له وصلاتي لأجله قد تعنيان مرحلة صغيرة من تطهيره. ومع ذلك، فليس من الضروري تحويل الزمن الأرضي الى زمن إلهي. في إتّحاد الأرواح، نتخطّى الزمن الأرضي المحض. وليس أمرأً متأخّراً أن نمسّ قلب الآخر وهذا ليس أبداً أمراً نافلاً. هكذا يتضح لاحقاً عنصر مهمّ من عناصر الرؤية المسيحيّة للرجاء. فرجاؤنا هو دائماً في الأساس رجاء للأخرين؛ وهكذا فقط هو رجاء لأجلنا[40]. وبصفتنا مسيحيّين، لا يجب أبداً أن نتساءل فقط: كيف يمكنني أن أخلّص ذاتي؟ علينا أن نتساءل أيضاً: ما يجب أن أعمل لكي يَخلُص الآخرين وأن تطلع لهم نجمة الرجاء؟ هكذا أكون قد فعلت كلّ ما في وسعي لأجل خلاصي الشخصي.
مريم نجمة الرجاء
- في أحد الأناشيد – ما بين القرنين الرابع والتاسع، تحيّي الكنيسة مريم أمّ الله «كنجمة البحر»:السلام عليك يا نجمة البحر Ave Maria stella. حياة الإنسان في مسيرة؛ نحو أيّ هدف؟ كيف نجد الطريق؟ الحياة سفر في بحر التاريخ، غالباً ما هو مظلم وسط العواطف. سفر تسير فيه نجوم حياتنا التي تدلّنا على الطريق. نجوم حياتنا الحقيقيّة هم الأشخاص الذين عاشوا في الاستقامة. إنّهم أنوار الرجاء. لا شكّ في أنّ يسوع المسيح هو النور في ذاته، الشمس التي تشرق على كلّ ظلمات التاريخ. لكن للوصول إليه، نحن بحاجة إلى أضواء قريبة – اشخاص يعطون ضوءاً يستمدّونه من نوره ويقدّمون هكذا توجيها لعبورنا. وأيّ شخص أكثر من مريم يستطيع أن يكون لنا نجمة الرجاء – هي التي بقولها «نعم» فتحت لله ذاته طريق عالمنا؛ هي التي أصبحت تابوت العهد الحقيقي، حيث الله تجسّد وأصبح واحداً منّا ونصب خيمته فيما بيننا (يو 1/14)؟ وهكذا ندعوها.
- يا قديسة مريم، أنتِ إحدى النفوس الكبيرة والمتواضعة في إسرائيل؛ مثل سمعان الشيخ، كنتِ تنتظرين «عزاء اسرائيل» (لو 2/25) ومثل حنّة النبيّة كنتِ تنتظرين خلاص أورشليم. كنتِ على علاقة حميمة بكتاب إسرائيل المقدّس – بالوعد المعطى لإبراهيم ونسله (لو 1/55). هكذا نفهم الخوف المقدّس الذي اعتراكِ لمّا دخل ملاك الربّ بيتكِ وقال لكِ بأنكِ ستلدين مَن سيكون رجاء إسرائيل وانتظار العالم. بكِ وبـ«النعم» التي تلّفظتِ بها، كان يجب أن يصبح رجاء الأجيال حقيقة ويدخل هذا العالم وتاريخه. أنتِ انحنيتِ أمام عظمة هذه الرسالة وقلتِ «نعم»، ها أنا أمة الرب فليكن لي بحسب قولك (لو 1/38). عندما، مررتِ بسرعة في جبال يهوذا لتصلي إلى نسيبتكِ إليصابات، وأنتِ ملأى فرحاً، أصبحت صورة الكنيسة الآتية التي، في أحشائها، تحمل رجاء العالم وسَط جبال التاريخ. ولكن مع الفرح الذي نشرت في الأجيال في نشيدكِ «تعظّم نفسي» Magnificat، بالكلام وبالنشيد، كنتِ تعلمين أيضاً تأكيدات الأنبياء الغامضة بخصوص آلام خادم الله في هذا العالم. على الولادة في مذود بيت لحم، شعّ بهاء الملائكة الحاملين البشرى السارّة للرعيان وفي الوقت عينه اختبر الانسان كثيراً فقر الله. كلّمكِ سمعان الشيخ على السيف الذي يجوز في قلبكِ (لو 2/35)، وعلى علامة التناقض الذي سيخلقها ابنكِ في العالم. وبعد ذلك، عندما بدأ نشاط حياة يسوع العلنيّة، انسحبتِ لكي تكبر العائلة الجديدة التي لأجل بنيانها جاء والتي كان يجب أن تنمو بمساهمة من كانوا يسمعون الكلمة ويحفظونها (لو 11/27…). بالرغم من العظمة كلّها وفرح بداءات نشاطات يسوع، اختبرتِ أنتِ أيضاً في مجمع الناصرة حقيقة الكلمة بخصوص «علامة التناقض» (لو 4/28…). هكذا شاهدتِ قوّة العداوة والرفض المتزايدين تدريجيّاً يشدّان حول يسوع حتّى ساعة الصليب حيث كان عليكِ أن تَري مخلّص العالم، وريث داود، ابن الله، يموت كإنسانٍ مُنِي بالفشل معرَّضاً للهزء بين المجرمين. فقبلتِ آنذاك الكلمة: «يا امرأة، هذا ابنكِ» (يو 19/26). قبلتِ على الصليب رسالة جديدة. أصبحتِ مذّاك أمّاً بنوع جديد: أمّ كلّ الذين يريدون أن يؤمنوا بيسوع ويتبعوه. سيف الألم جاز قلبكِ. هل كان الرجاء قد مات؟ هل بقي العالم حتّى النهاية بدون نور والحياة بدون هدف؟ في هذه الساعة قد تكونين سمعتِ في أعماقكِ من جديد كلمة الملاك الذي بها كان قد أجاب خوفكِ في ساعة البشارة: «لا تخافي يا مريم!» (لو 1/30). كم من مرّة كان الربّ ابنكِ قد قال ذات الكلام للتلاميذ: لا تخافوا! في ليل الجلجلة، سمعتِ هذه الكلمة من جديد. كان قد قال للتلاميذ قبل ساعة الخيانة: «ثقوا، أنا غلبت العالم» (يو 16/33) «لا تضطربوا ولا تخافوا» (يو 14/27). «لا تخافي يا مريم!» في ساعة الناصرة، كان الملاك قد قال لكِ أيضاً: «لن يكون لملكه انقضاء» (لو 1/33). أيكون قد انتهى قبل أن يبتدىء؟ كلاّ. فقرب الصليب، وانطلاقاً من كلمة يسوع ذاتها، كنتِ قد أصبحتِ أمّ المؤمنين. في هذا الإيمان، الذي أصبح أيضاً، في ظلمة السبت العظيم، تأكيداً للرجاء، ذهبتِ إلى لقاء صباح الفصح. فرح القيامة مسّ قلبكِ ووحّدكِ بطريقة جديدة بالتلاميذ المدعويّن لأن يكونوا عائلة يسوع بالإيمان. هكذا كنتِ وسط جماعة المؤمنين الذين كانوا، فيما بعد الصعود، يصلّون بقلب واحد لأجل قبول عطيّة الروح القدس (أع 1/14) الذي قبلوه يوم العنصرة. «مملكة» يسوع كانت مختلفة عمّا كان الناس يتصوّرون. هذا «الملك» بدأ في هذه الساعة ولن يكون له انقضاء. هكذا تبقين وسط التلاميذ كأمٍّ لهم، كأمّ الرجاء. يا قدّيسة مريم، يا والدة الله، يا أمّنا، علّمينا أن نؤمن ونرجو ونحبّ معكِ. دلّينا على الطريق نحو الملكوت. يا نجمة البحر، شعّي علينا وقودينا على طريقنا!
أعطي في روما، قرب القديس بطرس، في 30 تشرين الثاني 2007، عيد القديس أندراوس الرسول، في السنة الثالثة من حبريّتي.
بندكتوس السادس عشر
فـهـرس
صفحة
مقدمة [1] . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . | 3 |
الايمان هو رجاء [2-3] | 3 |
معنى الرجاء المبني على الإيمان في العهد الجديد وفي الكنيسة الأولى [4-9]. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . | 8 |
الحياة الأبدية ما هي [10-12] . . . . . . . . . . . . . . . | 18 |
هل الرجاء المسيحي أناني؟ [13-15] . . . . . . . . . . . | 23 |
تحوّل الايمان-الرجاء المسيحي في الأزمنة الحديثة [16-23] | 28 |
وجه الرجاء المسيحي [24-31] . . . . . . . . . . . . . . . | 38 |
«أماكن» التنشئة والتدريب على الرجاء
أولاً: الصلاة كمدرسة للرجاء [32-34] . . . . . . . . . . |
48 |
ثانياً: نعمل ونتألم كأمكنة للتنشئة على الرجاء [35-40] . . | 52 |
ثالثاً: الحكم لمكان للتدرّب والتمرّن على الرجاء [41-48]. | 61 |
مريم نجمة الرجاء [49-50] . . . . . . . . . . . . . . . . | 74 |
[1] مجموعة الكتابات اللاتينيّة، الجزء السادس، رقم 26003.
[2] راجع، الأناشيد العقائدية، 5، 53-64: مجموعة آباء الكنيسة اليونان 37، 428-428.
[3] راجع، التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 1817-1821.
[4] الخلاصة اللاهوتيّة، 2 أ- 2 أو ق. 4، أ. 1.
[5] كوستير هـ، المعجم اللاهوتي للعهد الجديد. الجزء الثامن (1969)، صفحة 585.
[6] عظة في مناسبة موت أخيه ساتوريوس، 2، 47: مجموعة كتّاب الكنيسة اللاتين، 73، 274.
[7] المرجع نفسه، 2، 46: مجموعة كتّاب الكنيسة اللاتين 73، 273.
[8] راجع الرسالة 130 في التمرين على الصلاة، 14، 25-15، 28: مجموعة كتّاب الكنيسة اللاتين 44، 68-73.
[9] التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 1025.
[10]يوحنا جيونو، الغنى الحقيقي، باريس (1936)، مرجع مذكور في مقمة الكتاب: هنري دو ليباك، التعليم المسيحي. الأبعاد الإجتماعية للعقيدة. باريس (1983)، صفحة 7.
[11]الرسالة 130 في المرشد الى الصلاة، 13، 24: مجموعة كتّاب الكنيسة اللاتين 44، 67.
[12]الأقوال 3، 118: مجموعة الكتابات المسيحيّة اللاتينية 6/2، صفحة 215 .
[13]المرجع نفسه 3، 71: مجموعة الكتابات المسيحية اللاتينية 6/2، صفحة 107-108
[14]النظم الجديدة 1، 117.
[15]راجع المرجع نفسه، 1، 129.
[16]راجع، أطلنتا الجديدة.
[17]عمانوئيل كانت، الدين ضمن حدود العقل البحث. الفصل الثالث: انتصار مبدأ الخير على الشر وتأسيس ملكوت الله على الأرض. الأعمال (4). وليم فايشيديل (ناشر). 1964. صفحة 140
[18]عمانوئيل كانت، النهاية في غاية جميع الأشياء. الأعمال (4). وليم فايشيديل (ناشر)، 1964. صفحة 190.
[19]فصول في المحبة، المجموعة الأولى، الفصل الأول: مجموعة آباء الكنيسة اليونان 90، 965: مجموعة المصادر المسيحية (9)، باريس (1943)، صفحة 73.
[20]راجع المرجع نفسه: مجموعة آباء الكنيسة اليونان 90، 962-966: مجموعة المصادر المسيحية 9 (1943)، صفحة 69-75.
[21]الاعترافات 10، 43، 70: مجموعة كتّاب الكنيسة اليونان 279: الأعمال، باريس (1998)، ص 1028.
[22]العظة 339، 4: مجموعة آباء الكنيسة اللاتين 38، 1484؛ راجع فريديريك فان ديرمار، القديس أغوسطينوس، راعي النفوس، كلامور-باريس (1959)، صفحة 407-408.
[23]العظة 339، 4: مجموعة آباء الكنيسة اللاتين 38، 1481.
[24]الاعترافات 10، 43، 69: الأعمال، باريس (1998)، صفحة 1027.
[25]راجع تعليم الكنيسة الكاثوليكية، رقم 2657.
[26]راجع، في 1 يوحنا 4، 6: مجموعة آباء الكنيسة اللاتين 35، 2008وما بعد: مجموعة المصادر المسيحية 75، باريس (1961)، صفحة 231-233.
[27]الكردينال تغويان فان توّان، رجاء يحملنا. فرايبورغ 2001، صفحة 21. أو حسب الترجمة الفرنسية: شهود الرجاء. مونتروج (2000) صفحة 157-159.
[28]كتاب صلاة الساعات الروماني، خدمة القراءات، 24 تشرين الأول.
[29]عظات حول نشيد الأناشيد، عظة 26، 5: مجموعة آباء الكنيسة اللاتين 183، 906.
[30]راجع تيودور ف. ادورنو، الجدلية السلبية (1966). القسم الثالث، 11 الأعمال المجموعة، الجزء السادس. فرانكفورت/ماين (1973)، صفحة 395.
[31]المرجع نفسه، القسم الثاني، صفحة 207.
[32] DS 806: الإيمان المسيحي، رقم 225.
[33] راجع، التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، صفحة 988-1004.
[34] راجع، المرجع نفسه، رقم 1040.
[35]بحث حول المزامير، المزمور 127، 1-3: مجموعة كتّاب الكنيسة اللاتين 22، 628-630.
[36]غورجياس 525 أ-526 س: Les belles lettres، باريس (1966)، صفحة 221-223.
[37]راجع، التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكية، رقم 1033-1037.
[38]راجع، المرجع نفسه، رقم 1023-1029
[39]راجع، المرجع نفسه، رقم 1030-1032.
[40]راجع، المرجع نفسه، رقم
Discussion about this post