تأمّلات في نِعم وعيش
القدّيس يوسف البتول
التأمّل الأول: في أنّ محبّة يسوع ومريم هي أوّل نعمة متعلّقة بالعبادة للقدّيس يوسف.
إنّ الكنيسة المقدّسة تعتقد اعتقادًا تقويًّا بأنّ للقدّيسين في السماء قدرة خاصّة على أن ينالوا لمكرّميهم تلك النعم التي امتازوا بها في حياتهم على الأرض.
فماذا تكون إذن قدرة القدّيس يوسف لينال لنا محبّة يسوع ومريم، وهو قد سبق فأحبّهما حبًّا جمًّا مفرطًا؟ فالقدّيس يوسف قد شارك يسوع ومريم في الحبّ والتعب وأصبح لهما كملاك حارس. وخدمهما بإخلاص في جميع أطوار الحياة حتّى وفاته.
فما أعظم حبّك ليسوع ومريم أيّها القدّيس يوسف! وما أقوى شفاعتك لتنيلنا هذه المحبّة لهما! فنسلك من أقصى الفؤاد أن تستمد لنا أيضًا هذه النعمة.
التأمّل الثاني: في أنّ موهبة الطهارة والبرارة هي نعمة ثانية منوطة بالعبادة للقدّيس يوسف.
ماذا يمكننا أن نتصوّر أقدس وأطهر من هذا القدّيس العفيف؟
فإنّه لو لم يكن ملاك طهارة هل كانت العذراء ترتضي أن تعيش معه وتلازمه وتشاركه في الحياة وتبادله أفكارها وعواطفها وتدعه يحمل بين ذراعيه يسوع قدّوس القدّيسين وإله القداسة؟ فكم كان القدّيس يوسف عفيفًا ومتصوّفًا وشديد الحشمة في أفكاره وعواطفه، في الحاظه وجميع حواسه؛
لكي يستحقّ أن يعيش بصحبة التي هي أطهر وأبرّ من جميع الملائكة والقدّيسين معًا وأن يُقام حارسًا لطهارتها وشريكًا لحياتها وفي الاعتناء بالطفل الإلهي! ومن ثمّ يجب أن نستنتج أنّ يوسف هو شفيع الطهارة الحقيقيّ، وأن من أراد أن يحيا بالجسد حياة ملائكيّة وجب أن يضع ذاته تحت حمايته.
فهل نحن أمناء في اتخاذ القدّيس يوسف شفيعًا ومحاميًا لعفّتنا وبرارتنا وفي الاستغاثة به عند التجارب، وفي أن نتّخذه مثالاً وقدوة لنا في حفظ هذه الفضيلة المقدّسة، وضبط حواسنا وروحنا ومخيّلتنا؟
التأمّل الثالث: في أنّ الحياة الداخليّة هي ثالث نعمة منوطة بالعبادة للقدّيس يوسف.
أيّ قدّيس قد امتاز ومَهَر في الحياة الداخليّة أكثر من القدّيس يوسف؟ فليس في حياته ما يدهش ويذهل في الخارج، لأنّ كلّ جماله وكلّ مجده إنّما هو في الداخل.
فقد زهد هذا القدّيس في الدنيا وملذاتها وأباطيلها ومات عن كلّ ذلك وجعل شغله الشاغل العبادة والسجود لله مخلّصه ضمن بيته واعتبر سعادته كلّها ومجده المحبّة ليسوع ومريم ومحادثته إيّاهما فقط معتقدًا أنّ كلّ ما عداهما باطل. فكم يقدر إذن هذا القدّيس أن يستميح لمكرّميه الأخصّاء نعمة الحياة الداخليّة! فهل سألناه هذه النعمة مرارًا؟
وهل رغبنا عن الدنيا ولذاتها وأفراحها، والتمسنا الحياة الداخليّة اقتداء بهذا القدّيس؟
التأمّل الرابع: في أنّ موهبة الميتة الصالحة هي رابعة نعمة منوطة بالتعبّد لهذا القدّيس.
لقد مات القدّيس يوسف بين يدَي يسوع ومريم. فما أشهى هذه الميتة وأسعدها! إنّها ولا شك تولي القدّيس قدرة كبيرة لينال لأخصّائه نعمة الميتة الصالحة.
ومن شأن ذلك أن يبعث فينا كبير التعزية والحرارة والثبات في التعبّد للقدّيس يوسف. لأنّ نعمة الميتة الصالحة إنّما هي أكبر النعم، بل نعمة النعم، وبدونها لا نفع لنا من شيء في الأرض والسماء. وبناء عليه إنّها النعمة التي يجب أن نشتهيها ونطلبها بالأكثر في كلّ يوم من أيّامنا وبأشدّ إلحاح وحرارة.
فإن لم يكن لنا غير هذا السبب، فهو وحده كافٍ ليجعل قلوبنا تتعلّق مدى الحياة بالعبادة للقدّيس يوسف لكونه شفيع الميتة الصالحة.
التأمّل الخامس: في أنّ القدّيس يوسف عاش عيشة خفيّة في الانفراد.
لم يكن هذا القدّيس الجليل يخالط البشر إلاّ عند الضرورة. فذهب إلى بيت لحم حين اضطرّه على ذلك أمر أغسطس قيصر؛ وسار إلى مصر طاعة لأمر الله
وقصد الهيكل إنجازًا لفريضة الناموس الموسوي، وما عدا ذلك لم يشاهد في مكان آخر: ولا في المدينة بين الأحاديث والأفراح العالميّة لأنّ أفراحه ومسرّاته كانت في منـزله على خلوة مبتعدًا عن الضوضاء.
وكان لذته مقصورة على توجيه أفكاره إلى الله، وهذا ما حمله على أن يحبّ يسوع ويواظب على صناعته منفردًا ومتمتّعًا بمناجاة ربّه ومهتمًّا بتقديس أيّامه. فلنتعلّم منه حب الابتعاد عن العالم والضوضاء وعمّا يقلق القلب. فقد قال البابا لاون الكبير: “إنّ غبار العالم لا بدّ من أن يؤثّر في قلوب الأتقياء الذين يخالطونه”.
التأمّل السادس: في أنّ القدّيس يوسف عاش عيشة خفيّة في الصمت.
يتسلسل هذا القدّيس على خطّ مستقيم من أكبر ملوك يهوذا ومن أشهر الآباء في العهد القديم. وبما أنّ الله أقامه وكيلاً ومربّيًا لابنه المتجسّد آوى في بيته يسوع إلهه وابنه.
ومع ذلك كلّه كان يخفي بِصمته منـزلته الكبرى وأصله الملكيّ وعظمته ومجده. فلو كان غيره قد حصل على مثل هذا الشرف لتبادل إلى ظنّه أنّه يضطرّ إلى إعلانه كي يُقبل البشر ويكرّموا يسوع ويذيعوا اسمه في العالم ويسارعوا للسجود له. بيد أن أفكار القدّيس يوسف كانت بخلاف ذلك. لأنّ تواضعه جعله يفضّل الصمت ولا ينبُس بكلمة تعود إلى مدحه، معتبرًا أنّ الله تعالى قادر أن يشهر مجد ابنه يسوع متى شاء وكيف شاء.
فلم يكشف يوسف سرّه لأحد، لا لجاره ولا لصديقه ولا لقريبه. ولمّا بلغ يسوع الثلاثين من العمر لم يكن الناس يعرفونه إلاّ باسم ابن يوسف النجار. فما أعجبك يا يوسف في صمتك وسكوتك، فإن بيتك الحقير من يدهش البشر ويدعوهم إلى الانذهال.
في بيتك الإله المتجسّد وأنت صامت لا تقول عنه شيئًا. أي أب كان يصمت عن إظهار ابن كيسوع ويصون سرّه حتّى موته؟ فإنّ القدّيس يوسف علّمنا بذلك كلّه أن لا نمدح ذاتنا وصفاتنا، ولا نشهر أعمالنا الحسنة، ولا نحادث أحدًا عن أمجادنا واقتدارنا.
التأمّل السابع: في أنّ القدّيس يوسف عاش عيشة خفيّة في الاحتجاب ونسيان العالم.
إنّ هذا القدّيس المعظّم لدى الله كان مجهولاً خامل الذكر لدى البشر، ولم يتعرّف به سوى نفر من المجاورين له كانوا يدعونه نجّارًا فقيرًا حقيرًا. فيوسف المستحقّ الجلوس على أفخر عرش في الدنيا نراه يسكن بيتًا حقيرًا. يوسف القادر أن يطلب من الله ما شاء من المجد والعظمة قد فضّل الاحتجاب والانزواء عن البشر. وذلك لأنّه شاهد كلّ يوم إزاء عينيه اتضاع يسوع، ذلك الإله الذي تعبده السماوات والأرض.
فلدى مشاهدتي إيّاه وديعًا متواضعًا خاضعًا ضعيفًا، أعتقد أنّ مجد الدنيا وزهوها وشهرتها وعظمتها ليست إلاّ جنونًا وحماقة. وأعتبر الحياة المنفردة عن البشر ثمينة شهيّة.
وفضّل بيته الحقير على قصور الملوك، وطعامه وأثوابه الرثّة على الموائد الفاخرة والأرجوان الملكيّ ليست كذلك أفكار أهل العالم وعواطفهم. على أنّ المسيحيّ الحقيقيّ، الذي يعرف يسوع المتجسّد ويفتكـر قليلاً في اتضاعه وذلّه ويطلع على زوال الدنيا وعلى السعادة المهيّأة للأبرار والصدّيقين، لا بدّ له من أن يحتقر كيوسف كلّ جاه أرضي محتسبًا نفسه دنيئًا حقيرًا ويستحقر العالم الباطل الزائل ويرغب في ما هو سماويّ وأبديّ والسعادة الحقيقيّة الخالدة ويصرف كلّ جهده ليبلغ إليها.
فهل حاكينا القدّيس يوسف في مثل هذه الخواطر والعواطف التي تتطلّب الاتضاع والزهد في المجد الباطل والفخر الدنيوي؟
No Result
View All Result
Discussion about this post