رابعاً: المشفيّ بمعجزة 1325 – 1345
1. صبر رجل مريض
في الستّين من عمره سمح الله الحنون، الرحوم، أن يُصاب بيريغران بمرض خطير سببه التعب والتكفير المتواصل، المستمر. فقد ورمت ساقه إلى درجة أنها كانت تُبْكي من يراها. وكان الجرح يتفاقم يومًا بعد يوم حتّى انتهى إلى السرطان.
أرغم بيريغران هكذا على ملازمة سريره. كانت قروحه تسبّب له ألمًا مبرّحًا. فتحوّل الدير إلى محجّة، لأنّ مواطنيه كانوا يريدون أن يعرفوا كيف حال «أيوب الجديد»، لأنّهم كانوا يلقّبونه هكذا.
أقنعه رهبان الدير وأصدقاؤه أن يلجأ إلى الطب. عاينه الجرّاح بول سالازيو، ولمس ساقه، فأحنى رأسه. لا أمل بعد شفاء الساق، والوسيلة الوحيدة لإنقاذه هي أن تبتر هذه الساق.
وعلّق بيريغران فرحًا على قرار الطبيب بقوله: سيتمّ ما يشاء الله. وبانتظار أن أضحي بحياتي من أجله سأقدّم له على الدوام شيئًا ما، ولو كان هذا ساقي بالذات!»
لم يستطع بيريغران أن ينام في ذلك الليل. وفضلاً عن ذلك كان جرحه يؤلمه. فنهض واتكأ على عصاه، وباحتياطات كبيرة نزل الدرج بجدّ وعناء قاصدًا مجلس الكهنة حيث يُكرّم رسم جداري جميل لصلب المسيح.
كم من مرّة سبق له أن صلّى في هدأة الليل أمام هذه الصورة لمأساة الجلجلة! كم من النعم قد حصل عليها لخير مدينته العزيزة فورلي، من أجل الخطأة المساكين، من أجل المرضى، من أجل المعدمين الذين كانوا يستنجدون به.
أمّا في هذه المرّة، وقد دفعه صوت داخليّ، فقد أتى ليصلّي من أجله هو. أكيد أنه كان مستعدًا لينفّذ تضحيته. ولكن إذا نقصته ساق فسيصبح عديم الفائدة كواعظ رسولي… لا سيّما في الحالة التي كانت عليها الطرقات في ذلك الزمن ووسائل النقل البدائيّة آنذاك.
من هنا نفهم كيف أنّ الأخ بيريغران، الخاضع تمامًا لمشيئة الله المقدّسة، ومع كونه سعيدًا وسط مرضه، يجد نفسه، في النهاية، راضيًا أن يلتمس من المصلوب أن يشفيه: «أيّها الرب يسوع، إذا شئت، اشفني، وابقِ على أوجاعي».
2. المَشْفيّ بأعجوبة
كان الأخ بيريغران يستجاب دائمًا عندما يصلّي من أجل الآخرين. فماذا سيحدث الآن من أجله هو؟ لا شيء ينقص في صلاته: ها هو يصلّي بتواضع، وحماسة وورع، وصلابة وثبات. «يا فادي البشر، إنك ? من أجل غفران خطايانا ? قد شئت أن تقاسي عذاب الصليب، وموتًا مريعًا، مبرّحًا. وعندما كنتَ على الأرض شفيتَ من المرض والبرص. لقد أعدّت البصر إلى رجل أعمى حين قال لك:
“يا يسوع، يا ابن داود، ارحمني”. فتكرّم كذلك، يا ربّي وإلهي، بتخليصي من الاثم، وشفائي من الداء الملمّ بساقي، إذا كانت هذه هي إرادتك المقدّسة».
ولكن النعاس قد تغلّب عليه بالرغم من ألمه الشديد، فغفا وهو يصلّي أمام لوحة يسوع مصلوبًا. فظهر له الربّ يسوع أثناء نومه؛ وها هو المصلوب يتحرّك، ويداه الداميتان تفارقان خشب الصليب. نعم، ها هو الربّ ينحني بحبّ ملتهب نحو الأخ بيريغران الذي يتضرّع إليه، تلمس يده الإلهيّة برفق جرح بيريغران. وعند هذه اللمسة الإلهيّة زال الألم. وإذ شعر الأخ بيريغران بأنّه قد شفي فقد نهض.
إنّ الجهد الذي كان يبذله قد أيقظه. ها هو يجد نفسه واقفًا، بدون عصى ودون وجع، ثمّ يدنو من «النوّاسة» المضيئة أمام اللوحة. وها هي ضماداته تقع على الأرض، وجرحه يختفي.
فركع وظلّ ساجدًا في صمت مدّة طويلة، يعبد الله ويشكره.
في اليوم التالي حضر الطبيب إلى الدير مصطحبًا ممرّضين يحملون رباطات رهيبة تستعمل في عمليّة بتر كتلك. فدنا منه الأخ بيريغران وسط رهبانه المبتهجين، وقال له:
«ارجع إلى مقرّك. لقد أتيت لتبتر ساقي؟ إنّ الطبيب الذي شفاني قد قال لي هذا:
“أنا من يسمح بالصحة الجيّدة والصحة السيئة، ويهتمّ بالنفس والجسد. أنا من أعاد البصر إلى العميان، وشفى البرص، والمقعدين، وأقام الموتى”. والذي قال لي ذلك وهو نفسه طبيب قد شفاني كليًّا».
أمّا الطبيب فقد ظنّ أنّ بيريغران يهذي من وطأة المرض؛ فقال له: «أرني ساقك حتّى أتمكّن من تخليصك من مرضك الساري».
فأجابه بيريغران: «أيّها الطبيب، أنت اشفِ نفسك، فأنا محتفظ بساقي. لست بحاجة إلى خدماتك، فأمير الطبّ وصانع الخلاص، قد أزال عجزي بقدرته»؛ وأراه ساقه.فاستولى الذهول على الطبيب وهو يفحص الساق، فلم يجد أي أثر للسرطان. فقال: «هذا شيء خارق!» وأخذ الطبيب يروي هذا الحدث المذهل، الرائع، إلى كلّ من كان يحتكّ به، كأعجوبة حقيقيّة منَّ الله بها على خادمه بيريغران. على أثر هذا الشفاء ذاع صيت الأخ بيريغران بشكل استحقّ له أن يدعى، وهو ما زال في حياته، «قدّيس فورلي».
3. أيّامه الأخيرة
منذ اهتداء الأخ بيريغران أخذ يعيش معموديّته بحبّه الرب يسوع وأمّنا مريم، في خدمة متواضعة، محبّة، لمحيطه. لقد مضى الآن 62 عامًا على انتمائه إلى رهبنة “خدّام مريم”.
وجهه الشائخ، الوديع، الهادئ، المشرق، الباسم، وكلامه المشجّع، كلّ ذلك هو بمثابة عظة وتبشير ينبثق من هذا الأب العطوف والمحبوب من إخوته.
وعندما بلغ الرابعة والثمانين، وقد أنهكته التكفيرات والأشغال التي كان يمارسها، أصابته الحمّى. أحسّ إخوته الرهبان بدنوّ أجله فاجتمعوا حول سريره. وكانت آخر كلماته تلك التي قالها القدّيس يوحنّا الانجيلي:
دعوة إلى السلام، والمحبّة، وتقديس الذات، والحماس الرسوليّ، وحبّ الكنيسة ويسوع والرهبنة التي أسّستها مريم للحفاظ على تذكّر آلامها. ثمّ بارك إخوته للمرّة الأخيرة وانخطف إلى الصمت الأبديّ. ها هي نظرته تتألّق فرحًا. منذ الآن يتراءى له بيت الآب. هذه هي أمّه مريم، وفيليب معلّمه، وكثير غيرهما ينتظرونه. جمدت قسمات وجهه، وضمّ يديه ليصلّي بينما عادت روحه إلى الربّ يسوع. كان ذلك في الأوّل من أيّار 1345.أمّا على باب الدير في الخارج فقد تجمّع جمهور من الذين كان الأخ بيريغران قد شفاهم، ولكن بعض الرهبان لم يتركوهم يدخلون. وبدأت أجراس الحزن تدقّ ببطء، فأخذ أهل مدينة فورلي ينحنون أو يركعون أو يصلّون: لقد فقدوا «قدّيسهم».
ها هو تدفّق مدهش من البشر يصعد من الوادي ويملأ الطرق المؤدّية إلى فورلي. أمّا جثمان بيريغران المسجّى في الكنيسة بين أربع شمعات طويلة فقد أخذ ينشر رائحة عطرة…
جمعيّة “جنود مريم”
No Result
View All Result
Discussion about this post