ثانياً: على طريق الاهتداء 1282 – 1283
1 . فيليب، سفير السلام
كان بيريغران استقلالي الطبع، متحكّمًا، عنيفًا: يفضّل أن يتّخذ هو المبادرات على أن يتلقّاها. وكان يردّد على من يريد أن يسمعه: «ما شأن البابا في مسائل فورلي؟ فليفكّر بروما وبالدول البابويّة. لقد ألقى علينا الحرم، وسنجعله يرفع هذا الحرم».
وفي هذا الوقت الحرج من شبابه، بالذات، دخل «على الخطّ» شخص هامّ، أثّر في مجرى حياته كلّها: إنّه فيليب بينيزي Philippe Benizi، المولود في 15 آب 1233 في فلورنسا، والمنتمي إلى رهبنة “خدّام مريم” سنة 1245.
وخلال ولايته كرئيس عام للرهبنة كلّفه البابا بأن يذهب إلى فورلي ليهدّئ النفوس هناك.لقد ملأ الساحة الكبيرة أمام الكنيسة جمهور قلق. وفيليب، ملتفًّا بعباءته السوداء والصليب بيده، أخذ ينظر بطيبة إلى هذا الجمهور المتلهّف. فحصل سريعًا على الصمت، لأنّ هذا الجمهور قد تذكّر الذي، بشفاعته «سيّدة العناية»، قد أطعم بشكل عجائبي إخوته في أريزّو،
ومنذ ذلك الحين لم تعد تنقصهم الضروريات. وقد تذكّروا أيضًا ذاك الذي قد شفى في سان كويريكو رجلاً مصابًا بالبرص إذ أعطاه رداءه الكهنوتيّ، فارتداه الأبرص وشفي حالاً. وتذكّروا كذلك من، في مونتاميانا، قد فجّر من الصخرة مياهًا غزيرة جعلها الربّ شافية. ثمّ اختار فيليب، كالمعتاد، نصًّا من الكتاب المقدّس: «فلتُزَمْجر الشعوب غيظًا، إنّ الربّ لا يزال يملك». (المزمور)
«إنّ البابا هو الذي أرسلني في مهمّة سلام. كفى إراقة دماء. كفّوا إذًا نهائيًّا عن الاقتتال بين الإخوة، وعودوا إلى الهدوء والعمل».
كان فيليب يتكلّم بكثير من الحرارة. ووفقًا للإرشاد السائد في أيّامه، لقد وعد بنعم يغدقها الله على مدينة فورلي إذا هي سمعت الإيمان. أمّا إذا هي لم تفعل فإنّ الربّ سيأتي ومعه: ليس رأفته بل عدله الرهيب.
وقد سكب فيليب من قلبه في كلامه هذا إلى درجة أخذت معها تمتمة متزايدة من الموافقة على كلامه، تسري في الجمهور.
أمّا بيريغران وزمرته فإنّهم، وقد خشوا أن ينتصر موفد البابا، وثبوا نحو المنبر مباغتة لكي يسيطروا عليه بالقوة. فحدثت بلبلة كبيرة في الساحة. فالبعض، وهم الأكثريّة، ولكنّهم خائفون ومتردّدون، انحازوا إلى فيليب،
والبعض الآخر صفّقوا لبيريغران. أثناء ذلك استطاع بيريغران، بمساعدة أنصاره، أن يشقّ طريقه بين الجمهور. فاقترب من فيليب، وإذ أعماه الغضب، صفعه على وجهه. فكان أن حسم هذا العمل المتهوّر مهمّة فيليب.من كلّ صوب كانت تسمع هذه الكلمات:
«أخرجوا أيّها الرهبان؛ إلى الوراء أيّها البابويّون». واستلّت السيوف، ورشقت الحجارة. إلاّ أنّ بعض المتطوّعين وقفوا حاجزًا لحماية فيليب ورفيقه، متيحين لهما هكذا أن يخرجوا من الساحة ويذهبوا إلى الدير.
2. على طريق الاهتداء
غادر فيليب ورفيقه مدينة فورلي خفية. وقد أخذ فيليب في طريق العودة، يصلّي من أجل المدينة المتمرّدة، ومن أجل الشاب الذي صفعه. أمّا رفيقه، وقد أذلّه جدًّا هذا الإخفاق، فلم يجرؤ على قول شيء. وكان ينظر خفية إلى فيليب من وقت إلى آخر، وإذ يراه غارقًا في صلاته، كان يصلّي، هو أيضًا، ويفكّر. من كان يظنّ أن هذه المهمّة كانت ستنتهي بمثل هذه السرعة وعلى هذا النحو السيّء؟
مع أنّ فيليب لم يسبق له أن أجاد بمثل ما قد أجاد في عظته تلك. فالجمهور كان إلى جانب السلام بشكل ظاهر. فلماذا اغتاظ أهالي المدينة؟ إنّ السفير لا يُمسّ! فالخطأ كلّه كان مسؤولاً عنه ذلك الشاب الثائر. وإذ التفت إلى الوراء تلاقى ناظراه بناظري فيليب الذي ابتسم.
قال رفيق فيليب لفيليب: «أبتِ، إنّك لا تزال كما كنت. إنّهم يهينونك أو يسيئون معاملتك، ويضربونك، ويطرودنك من المدينة كما لو كنت مصابًا بالبرص، ومع ذلك إنّك ما زلت مسرورًا. فهل يكون البابا في مثل سرورك هذا لو أنه حدث له ذلك؟».
– «ولكن لِمَ لا؟ إنّ خدّامه قد حملوا مهمّة السلام التي قد حمّلهم إيّاها!»
– «وقد أجابوهم بصرخة الحرب».
– «نعم، ولكنّها مقاومة أخيرة، وفشلنا ليس حاسمًا».
– «ليس حاسمًا؟»
– كلاّ، إنّ الكلمة الأخيرة هي لله ولنعمته ورعايته. لقد تراجعنا، ولكن بصورة مؤقتة. في الظاهر: إنّنا غلبنا وهزمنا، ولكن في الواقع…».
– «في الواقع؟»
– «في الواقع إنّ الربّ يقول لي إنّ القلعة ستسقط قريبًا. الشاب الثائر، الوقح…».
– «ستضربه الصاعقة؟»
– «كلاّ، كلاّ! إنّه سيقع حيًّا بين يديّ. لقد صلّيت من أجل أن تمسّه النعمة».
فنظر هذا الأخ الطيّب إلى فيليب بدهشة على الرغم من كونه معتادًا على لغة فيليب النبويّة. إلتفت فيليب نحو أبراج فورلي ويده اليمنى تدلّ إلى نقطة سوداء في الأفق على الطريق المغبّرة، وقال: «أنظر».
وبعد جهد سلّم رفيقه بوجود مسافر يقترب من بعيد نحوهما. إنّه جنديّ شاب. وها هو يصبح على مسافة مئة خطوة منهما. «ولكن… هل أنه هو؟ هل يكون ذاك الذي يصفع الكهنة؟ لماذا يأتي وحده؟ وماذا يريد الآن؟ ماذا تراه يجترّ في رأسه الفارغ؟»وقبل أن يتمكّن فيليب من إجابته على كلّ هذه الأسئلة، ها هو يرى فيليب يتركه، ويذهب لملاقاة عدوّه. يا إلهي، ماذا سيحدث؟ ها هما الاثنين وجهًا لوجه، وها هو بيريغران يخرّ ساجدًا أمام فيليب وهو يبكي! فأنهضه فيليب وقبّله، ومزج دموعه بدموع بيريغران!
– «أبتِ، اغفر لمتمرّد، ناقم، شاب».
– «ولكن، لقد سامحتك منذ أن صفعتني؛ والله الرحوم هو الذي يسامحك الآن. إنّ الله هو الذي أذن بأن تسقط لكي يطهّرك ويمتلكك».
– «أبتِ، صلِّ لكي لا أعود أسيء إلى الله. لقد أصبح الآن سيفي في خدمة الله وكنيسته. أتوسّل إليك أن نعود معًا إلى فورلي. لقد ضربتك أنا على رؤوس الأشهاد، فأنا أريد أن يكون جميع أهل مدينتي شهودًا على ندمي وتوبتي».
وأضاف فيليب بعض النصائح إلى بيريغران الذي كان يبكي، وحثّه على الانضمام إلى “خدّام مريم” الرهبان. فوضع بيريغران يده على صدره. إنّه يريد أن يتكلّم، ولكن الدموع لم تمكّنه من ذلك. وعاود فيليب ورفيقه الراهب السير إلى توسكانا.
انتظر بيريغران على الجسر حتّى غابا عن بصره، ثمّ رجع إلى فورلي…
جمعيّة “جنود مريم”
No Result
View All Result
Discussion about this post