القسم الثاني / الفصل الأول
حياة الله اللامتناهي
الله محبّة (1 يو 4/8). إنّها الحقيقة الأكثر “حقيقة” (بمعنى الأكثر بديهيّة)، والأجمل والأكثر بعثًا على الطمأنينة.
إنّها أساس البناء الروحيّ والإيمانيّ المسيحيّ بأكمله، لا بل للبشريّة بأسرها.
الله محبّة! الله صالح: “لا صالح إلاّ الله” (لو 18/19) لقد خلق كلّ شيء بمحبّة، ولأجل المحبّة، “لأنّك تحبّ جميع الأكوان ولا تمقُت شيئًا ممّا صنعت” (الحكمة 11/25).
إنّ نظرة حقيقيّة إلى الله، خصوصًا بعد مجيء السيّد المسيح، الكلمة المتجسّد، الإله والإنسان الحقّ، المولود طفلاً والمائت لأجلنا، غافرًا لنا ومبرّرًا إيّانا على الصليب. لا يمكن أن تؤدّي أبدًا إلى الارتياب كون تاريخ البشريّة بأكمله، وتاريخ كلّ إنسان، يُقرأ بالمنظار التالي: لديّ في السماء أب صالح، هو المحبّة بذاتها، وهو أبي الذي يسهر عليّ ويحوّل كلّ الأمور إلى ما يؤول لخيري، إن كنت أؤمن به، وألجأ إليه، وأضع ثقتي فيه، إن كنت أدعوه للقيام بذلك.
لا يمكن دخول الملكوت إلاّ عبر براءة الأطفال وثقتهم العامرة بالله: “إن لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السماوات” (متى 18/3).
والحقيقة أنّ ذلك الملكوت هو الحبّ بالذات، هو النور بالذات، هو السلام بالذات.
هذا ما نتعلّمه من حياة القدّيسة فيرونيكا. فهي باستسلامها ووعيها العميق لصغرها بل لصغر كلّ خليقة أمام “كلّ” الخالق،
قد أعطيت أن تسبّح في الله “وتذوب في الله”، في الحبّ، وقد ختمت حياتها الطوباويّة بهذه الكلمات التي سبق ذكرها:
“المحبّة كشفت عن ذاتها! هذا هو سرّ تألّمي! قولوا ذلك للجميع! قولوا ذلك للجميع!”
نعم، لا يتمّ فهم الألم والقبول به إلاّ عن طريق الحبّ. لماذا؟
لأنّ الله قدّوس؛ والحياة الأبديّة هي الاتحاد بالله، بـ “القدّوس”، بالقداسة عينها. فلن نستطيع الاتحاد به إن كنّا ما زلنا ملطّخين.
هوذا سرّ تحمّل الألم، الذي يطهّرنا ليجعلنا نتّحد بالله، كي نذوب ونفرح به إلى الأبد، بدءًا من هذه اللحظات، بمقدار قبولنا وتحمّلنا هذا التطهّر الذي استدعته الخطيئة.
بهذه النظرة المتواضعة والصائبة، نفهم أنّ حكم الله على الإنسان الأوّل، بعد الخطيئة الأصليّة، لا ينظر إليه كعقاب، بل كعلاج: إنّه الدرب التي لا مفرّ منها للتطهّر من أوزار الخطيئة الهائلة.
هذه النظرة “التطهّريّة” بواسطة الألم، تقدّم خير تفسير لواقع المطهر، فالقدّيسة فيرونيكا تؤمن بأنّ النفوس تسرع مسرورة إلى مطهرها، رغم ما ستلقاه من العذابات، كي تتطهّر، وتتمكّن من التمتّع بعناق إله جميل للغاية، نقيّ وقدّوس للغاية. وتتصرّف الأنفس المطهريّة على هذا النحو، لأنّها قد عاينت، خلال الدينونة الخاصّة بعد الموت فورًا، حقيقة هذا الإله الصالح، الرحوم، المهان من كثرة خطاياها، كما قد عاينت أيضًا، بوضوح، هول الخطيئة التي تلطّخ النفس، مانعة إيّاها من الاقتراب من “القدّوس”، ولهذا تسرع إلى العلاج.
هذا ما تكشفه لنا القدّيسة فيرونيكا بما خبرته في حياتها. فطوبى لنا إن آمنّا بذلك ولو لم نعاين: “طوبى للذين آمنوا ولم يعاينوا” (يوحنّا 20/29).
أمّا النظرة إلى جهنّم، فتنبثق من المنطق نفسه، فجهنّم ليست عقابًا، بل نتيجة حتميّة للذين يرفضون هذه المحبّة، الذين لا يؤمنون، الذين لا يقبلون أن يتمّ تطهيرهم،
الذين لا يبتغون “النظام” الذي وضعه الله للحياة الأبديّة، من خلال وصاياه وشرائعه التي هي شرائع حياة، محبّة، وبمخالفة الشرائع، نفقد الحياة لكوننا نرفض قبول شرائع الفردوس.
فالله، بمحبّته اللامتناهية، لا يلزم الإنسان الذي خلقه بأمر ما. وفي المقابل، لا يبتغي حرمانه من الحياة التي وهبه إيّاها “فمواهب الله ودعوته هي بلا ندامة” (روما 11/29)،
لكن بكشفه الحقيقة للإنسان، إنّما يدعوه إلى اختيار الحياة:
“لقد وضعت أمامك الحياة والموت؛ اختر الحياة” (تث 30/19)؛ وفي خضمّ هذه الحقيقة، يُظهر له أيضًا جهنّم، لا لتهديده، بل ليجعله يعي نتيجة اختياره، نتيجة عصيانه؛
لكي يساعد على رفض الخطيئة، لكي يحثّه على الجهاد، لما فيه خيره وخلاص نفسه، فالله إذًا، يُظهر جهنّم للإنسان بدافع الحبّ والرحمة والعدل، لئلاّ يلوم الإنسان الله يوميًّا، متّهمًا إيّاه بعدم إعلامه بذلك، وبكونه أبقاه في الحيرة، دون نور الحقيقة كاملةً.
هذا هو الدور الفائق الأهميّة للقدّيسة فيرونيكا الذي أسهم في “انتصار محبّة الله للإنسان”.
نعم! الله محبّة، وفردوسه رائع، لكن جهّنم معدّة في الوقت نفسه، لمن يرفض هذه المحبّة التي هي أيضًا نظام، وطاعة
“من أحبّني حفظ وصاياي” (يو 14/23). “من لا يحبّني لا يحفظ وصاياي؛ والكلمة التي تسمعونها ليست لي، بل للآب الذي أرسلني” (يو 14/24).
لكن الشيطان وطبيعتنا المتكبّرة يريدان منّا أن نرى الأمور على عكس حقيقتها.لماذا؟
فالشيطان لكونه “أبا الكذب” (يو 8/44)، يكرهنا، ويريد منّا أن نعتقد بأنّ الله ليس محبّة لأنّه خلق جهنّم، وأسوأ ما في كذبه، أنّه يريد خداعنا بأنّ الله غير صادق، وجهنّم غير موجودة.
أمّا لماذا طبيعتنا البشريّة تحذو حذو الشيطان: فإمّا لكونها متكبّرة، متغطرسة، فوضويّة، تبحث عن حريّة كاذبة لا تبتغي الخضوع لنواميس الله… وإمّا لكونها مجروحة، وضعيفة، ترفض التخلّي عمّا يطيب لها من “ملذّات”، وأفراح، وما شاكلها.
لا شكّ أنّ الله خلق الإنسان لأجل أن يكون سعيدًا، لذا هو يبحث عن السعادة تلقائيّا. غير أنّنا، من خلال تأمّلنا لكتابات القدّيسة، ونحن منذهلون أمام الله، هذا الإله المالك، المسيطر، الفاعل، بحر الحبّ اللامتناهي، النور اللامتناهي، السلام اللامتناهي. سوف ندرك بأنّ ما نعتبره “أفراحًا وملذّات”، هو مجرّد أوهام،
بل أكثر من ذلك، سوف نعي خطورة السُمّ الذي يدسّه لنا الشيطان فيها، تمامًا كما في ثمرة جنّة عدن التي بدت “جميلة وشهيّة” (تكوين 2/6).
عند ذلك، سنقتنع ببطلان هذا العالم الزائل، مردّدين مع القدّيس فرنسيس “عظيم مقدار الخير الذي ينتظرني، حتّى أنّ كلّ عناء هو لذّة لي”.
كم هي صحيحة هذه الكلمات! وكم عاشتها قدّيستنا بحذافيرها!
فالقدّيسة فيرونيكا، بفيضً من معرفة الله ونوره ومحبّته، كانت تبكي كالقدّيس فرنسيس لكون “المحبّة غير محبوبة”. كانت لترغب أن تجوب العالم بأسره صارخةً بأنّ الله محبّة، إله خالق، فادٍ، لا يستطيع بطبيعته سوى العطاء والمحبّة حتّى الجنون، جنون الصليب، الذي لامسته القدّيسة فيرونيكا وأجادت في وصفه.
إنّها تدعونا بكلّ قوّة إلى التوبة والارتداد عن الخطيئة لكي نستطيع تذوّق تلك النِّعَم: “توبوا فإنّ ملكوت الله قريب!” (متى 3/2).
لنقرأ بعض المقاطع من أنشودة الحبّ الرائعة المنتقاة من يوميّات قدّيستنا هذه “المختارة بين المختارين”:
– … بقدر ما أنّ هاوية عدمي عميقة، بقدر ما أرتاح في التأمّل بالأوصاف الإلهيّة وأتوقّف عند الرحمة، وأرى، كما في مرآة، بأيّة محبّة أحبّني الله ولا يزال يحبّني. رجائي في هذا الحب…”.
– “لقد اختبرتُ الحبّ. نفسي منغمسة في رحابة هذا البحر؛ يحوّل الحبّ نفسي إلى الحبّ نفسه. نفسي في الله. الله في نفسي.
يتكلّم الله بصوت الصمت، وتجيب النفس، لكنّ جوابها هو صدى لصوت الله الذي يحبّ ذاته فيها. نفسي، بالحبّ تبدو وكأنّها تعرف الله في ذات الله، وتشاطره سعادته الأبديّة. الله يجذبها نحوه بفعل انجذابات، واندفاعات، وانخطافات، هي من ثمار الحبّ. إنّ معرفة الله الجديدة تنتج تحوّلاً جديدًا في الله”.
– “أيا أبا حياتي، عروس نفسي، قلب قلبي، عد إلى قلبي! أيّتها النجوم التي تسطعين أمامه، قولي له بأنّي أذوب من الحبّ…”.
كان الله يتمتّع بتلهّب القدّيسة فيعود ويعزّيها:
“أنا الحبّ بشخصه؛ إنّني أحبّك وأحملك في قلبي. قلبي هو حياة قلبك.أنت عروسة قلبي! فيسألها:
“هذا القلب الذي أراه في صدرك، لمن هو؟. “لكَ يا ربّ”. “إذًا سوف آخذه”. فيضعه على قلب مريم الحاضرة؛ ثمّ يعود ويضعه من جديد على صدره.
“والآن، أي هو قلبي؟” تسأل القدّيسة. فيجيبها يسوع: “قلبك هو أنا… لقد حوّلتك لذاتي؛ لقد أصبحتِ أنا بالذات”.
كم مرّة كانت تصل إلى الاتّحاد بالله: تكلّمت أوّلاً عن الاتحاد الوثيق جدًّا (Unione strettissima) حيث تشعر النفس خلاله بأنّها منجذبة كما الحديد من المغناطيس، “موثوقة” بعذوبة، “ماخرة” في بحر محبّة الله.
بعد ذلك، أضافت اختبار شعورها “متحوّلة إلى واحد معه” (uniformata)، “محوّلة” في الله. وفي الله المرحلة الأخيرة، عندما كانت تنال لدى كلّ مناولة “نعمة الثلاث نعم”، وصلت إلى ذروة التذوّق لاتحاد الطوباويّين في السماء:
إنّها لحظة “الاتصالات الحميمة” (comunicazione intime) التي تمرّ بين الله والنفس، فهي إذًا لا توصف؛ “لا يمكن وصفها”، هكذا كانت تؤكّد، لكنّها كانت تنجح في أن تنقل للمعرّف النتائج التي تتركها في شخصها بأكمله.
– “… في غضون لحظة، بدا لي أنّي أشعر بأنّ الحبّ الإلهيّ يتغلغل في كلّ نفس، فتضحي كيانًا واحدًا مع الحبّ الإلهيّ… لم أكن أدري إن كنت في السماء أم على الأرض؛ كنت في حالة معرفة كبيرة لذاتي، فبدا لي أنّني أحقر دويدة على وجه الأرض…
كنت أرى أنّني عدم، وقد عزّز هذا الشعور لديّ إدراكي بأنّني ناكرة لجميل الله… إنّه إله خيّر للغاية، رحوم للغاية، مهانٌ جدًّا من قبل خليقة عاقّة مثلي!… كنت مشدوهة بالله… أعاين الصفات الإلهيّة. الله كان ذاكرتي، الله كان عقلي، الله كان إرادتي؛ كلّ الله في النفس، وكلّ النفس في الله. ما اختبرته في تلك اللحظات لا يمكن التحدّث عنه… كانت نفسي تغدو متجرّدة دومًا أكثر من كلّ ما هو ليس الله… كان يبدو لي وكأنّي في بوتقة وتحت الحصار.
“إنّ الطبيعة البشريّة تتحمّل عذابًا كثيرًا جدًّا في “أعمال” الحبّ الإلهيّ… تريد أن تتذمّر. لكنّها تبقى صامتة، وكان الروح يصرخ بشدّة: يا حبّ! يا حبّ! أيّها الحبّ الذي لا تكاد تدركك المخلوقات، ولا حتّى قلبي الحزين، أعدك بأنّه لن يكون الأمر كذلك فيما بعد، لأنّني أبتغيك أنت وحدك، ومعك أبقى…”.
– “… اختبرتِ النفس حينئذٍ في ذاتها بعض “أعمال” الحبّ الإلهيّ… فبدا لي بأنّني ألاحظ في الله عظمة محبّته اللامتناهية، تلك التي كانت تُعتلن لهذه النفس؛ وهي، من خلال هذه الاتصالات الحميمة بين الله والنفس،
كانت تبقى متّحدة بأكملها بالخير الأعظم… كانت بأكملها، في كلّ شيء، محوّلة إلى إله حبّها… والحبّ عينه كان يفعل ولأجلها، هي المنغمسة بكليّتها في الله الذي كان يمنح ذاته بكليّتها لها…
هذه الأمور التي يعجز الكلام عن شرحها… أقول فقط إنّ النفس تبقى مأخوذة في الله لدرجة أنّها، لدى عودتها إلى حواسها، يبدو لها كلّ شيء جديدًا! آه، كم تتألّم لرؤية نفسها مسجونة في الجسد المائت! إذّاك، يتّحد في داخلها شعور بالاشمئزاز من كلّ الأمور الأرضيّة…”.
– “… بينما كانت نفسي تسبح بكليّتها في بحر الألوهيّة اللامتناهي، تراءى لي يسوع: في الشكل عينه الذي خرج به إلى النور ليفتدينا نحن الخطأة… فتمّ لي حينها أمرٌ لا يسهل إدراكه: بدا لي وكأنّه بدّلني إلى أخرى؛ وبدا لي أنّ الله، في تلك اللحظات بالذات، وضعني في ذاته وملأ قلبي ونفسي بكليّتهما بالحبّ. كنت أشعر باندفاعات تنـزع نفسي من نفسي، وكنت أشعر بالوقت عينه بأنّني متّحدة كليًّا بالخير الأعظم…”.
أيّها القارئ العزيز، إنّ اليوميّات مليئة بهذه التعابير السامية. إنّ خيرًا عظيمًا كهذا يستحقّ القليل من التقشّف من الحرمان.
وإذا كان الاقتداء بالقدّيسة غير مستطاع في أمور عديدة، فليت هذه التأمّلات تساعدنا، بعونه تعالى، على أن نتواضع بعمق، مدركين المستويات التي يدعو الله إليها الإنسان المخلوق على صورته ومثاله،
وكيف أنّنا لا نزال بالمقابل، “نتجرجر” في وحل الملذّات الكاذبة، التي يقدّمها لنا العالم، وسيّد هذا العالم.
جمعيّة “جنود مريم”
No Result
View All Result
Discussion about this post