القسم الأول / الفصل الأول
الطفولة (1660 – 1677)
وُلدت من أبوين إيطاليّين، والدها فرنسوا جولياني، كان ذا شخصيّة مرموقة مميّزة بالذكاء وبطموح قاده ليصبح ذات يوم ناظرًا لماليّة دوقية “بارما”.
إمّها بنوات منشيني، زوجة عميقة التقوى، كانت تسهر بغيرة على نفوس بناتها السبع (اثنتان منهنّ توفّيتا بسن مبكرة). كانت تبثّ فيهنّ رهبة كلّ ما هو عالميّ، وتنشئتهنّ على مخافة الله.
عُمّدت أورسولا الصغيرة، في اليوم التالي لولادتها، لا بكاء، لا صراخ، بل هدوء طوباويّ. إنّ طبعها الحيويّ ملأ المنـزل فرحًا وحياة. كانت تلعب، تركض، تبكي، تحتدّ… ستقول عن ذاتها في اليوميّات:
“كنت الأصغر، لكنّني كنت أبغي أن أكون فوق الجميع، وكنت أرغب بأن يعمَلْنَ جميعهنّ بحسب ذوقي. وبالفعل كُنَّ يرضينني في كلّ شيء… وكان الجميع يدعوني لهيبًا.
على الرغم من حيويّتها وطبعها المتأجّج كانت تائقة بكلّيتها نحو الله. كانت تُحبّ أن تلعب في بناء المذابح، مُمضية في ذلك ساعاتٍ طوالاً.
لقد تجلّى في باكورة حياتها ما هو فوق الطبيعة البشريّة. من علامات —-
أ – رفضها للحليب الأموميّ أيّام الأربعاء والجمعة والسبت، وهي، في الحقيقة الأيّام المكرّسة تقليديًّا للتوبة.
ب – انزلاقها من ذراعيّ أمّها وهي في الشهر الخامس من عمرها، نحو صورة الثالوث الأقدس المعلّقة على الحائط، في يوم عيده، وركوعها أمامها منتشية.
ج – تأنيبها لبائع زيت غشّاش، في السنة الثانية من عمرها، وقولها له: أقم العدل! الله يرنا”!
د – ظهور الطفل يسوع لها وهي تلعب وسط حديقة قائلاً لها: “أنا هو زهرة الحقول”.
كم من مرّة حملت الطعام للطفل يسوع في لوحة يُرى فيها محمولاً من العذراء: “تعالَ، خُذْ إن لم تأكل، فلن آكل أنا أيضًا”.
ومن ثمّ تتوجّه نحو العذراء: “أيا مريم، أعطني إيّاه، أستحلفك بذلك، أعطني إيّاه، فلا أستطيع أن أحيا دونه. سأغذّيه كما لو كنتِ أنت”. وقد أضحى حيًّا بين يديها بضع مرّات. وقد قال لها مرّة: “سوف أكون فعلاً عريسك”، ثمّ خاطب أمّه الإلهيّة: “هذه أورسلتنا! ستكونين أمًّا ومرشدة لها”!
رؤيتها الطفل يسوع مرّات عديدة في القربانة المكرّسة، وهي في سنواتها الأولى، وشعورها بعطر يخرج من أفواه أخواتها بعد المناولة: “آه يا لرائحتكنّ العَطِرة”!
توفّيت والدتها وهي في الخامسة من عمرها، فجاء الكاهن يحمل إليها الزاد الأخير.
فصرخت الطفلة: “أريده أريده!”. “إنّه لأمّك”، قال لها الكاهن بجديّة. فألحّت الطفلة: قطعة صغيرة فقط وسآخذه بأكمله، شأن أمّي”. استمع الجميع للاّهوتيّة الصغيرة، وقد أبْكَمَهم الذهول.
وقبل أن تسلم الروح، عانقت أمّ أورسولا بناتها الخمس، موصية إيّاهنّ بتنمية وتهذيب الحبّ الإلهيّ فيهنّ، وخصّت كلّ واحدة منهنّ بإحدى جراحات المخلّص. واستبقت لأورسولا جرح الجانب الأقدس. يا للرسم الإلهي: سوف تسكن أورسولا فعلاً في قلب يسوع.
في الثاني من شباط 1670، وبعد انتقال العائلة إلى بياشنـزا، اقتبلت أورسولا المناولة الأولى وهي في سنتها العاشرة. لم تستطع النوم في الليلة السابقة. كان يتردّد في داخلها دويّ صوت عذب: “أنا هو! أنا معكِ! أحسّت نار أحرقتها بعد المناولة. فلمّا وصلت إلى المنـزل، سألت بسذاجة أخواتها: “كم من الوقت نحترق؟”
لكنّ الناحية الأبرز منذ ذلك الحين هو حبّها للألم. فقد كان يُتلى في البيت حياة وأعمال القدّيسين. تُقرأ ويُقْتدى بها. فصدى عمليّات جَلْد أخواتها كان يطال أذنيها.
وكأنّ الله يدعوها بذلك إلى التوبة. وقد رسّخ في نفسها علم التكفير: “سأتألّم؛ سأكفّر”. صنعت مِجْلَدة. فاجأتها أمّها يومًا وهي تجلد ذاتها. لم تقل شيئًا، بل انسحبت وهي تذرف دموع العزاء.
عزيزتها القدّيسة روزا من ليما، كانت قد سحقت طوعًا إصبعًا من أصابعها، أمّا أورسولا فقد سحقت أصابعها مجتمعة، بينا كانت إحدى أخواتها دون علم منها، تغلق الباب بعنف.
فنفرت الدماء… لم تهتمّ أورسولا بالأمر؛ أسرع الطبيب الجرّاح يعمل المِبْضع في اللحم. “لماذا تعتنون بي؟ يجب أن نتألّم”! قالت الطفلة.
كانت رغبتها أن تقضي حرقًا على خطى العذارى الشهيدات! ها هي تُدخل يدها في مجْمرة متّقدة. وقد تمّ إنقاذ اليد في اللحظة الأخيرة بوصول إحدى أخواتها.
“يجب أن نتألّم” كانت تردّد. فبعد أنّ دعاها، من خلال العائلة، لتُضحي ذبيحة، ها هو يسوع يظهر لها مصلوبًا، مُثْخنًا بالجراح الدامية:
“أنتِ عروستي، شريكتي في التكفير: الصليب ينتظرك”.
أخذت تعتاد على التضحية، وإماتة اللذة والأباطيل. فإماتة اللذة تجلّت عندما طلب منها يسوع أن تعطي الفقراء كيسًا من الحلوى، ذاقت إحداها،
فشعرت على الفور أنّها اقترفت خطيئة الشراهة، فقرّبت التكفير عنها. أمّا إماتة الأباطيل، فقد تجلّت فيها عندما ابتيع لها حذاء جديد، وقد جاءها فقير يطلب الحسنة حُبًّا بالله، فتذكّرت الطفلة كلمات يسوع.. فأهدته الحذاء… وقد علمت لاحقًا بأنّ المتسوّل كان يسوع نفسه.
غدت صبيّة الآن. إنّها جميلة. العالم يتودّد لها، يجذبها. كان الأب يفرط بتدليلها لحبّه الزائد: “كان يريدني دومًا إلى جانبه”. كان يُرغِّبها بأزياء جميلة بحسب الموضة، آخذًا إيّاها إلى الحفلات؛ كان الشبّان يتملّقونها بكلام معسول، “لكنّها كانت ترمي باقات الورود من الشبّاك”… إنّها حرب بين العالم والله. قلبها الله، لكنّ الأصوات الإلهيّة أضحت خافتة تحت تأثير إغراءات هذا العالم.
دخلت سنّ المراهقة، جاهلة أسرار الحياة، ولكم تساءلت دون خبث هل جرحت يسوع؟ كم ستقمع بزيّها الرهبانيّ نزوات طفولتها وتهوّر سنّ المراهقة! ستذرف دموعًا من دم، ذاكرةً إلى ما لا نهاية ما سوف تدعوه خطايا”.
إنّه صراعٌ تصفه اليوميّات جيّدًا، تختبره كلّ الدعوات تقريبًا، ولو بمستويات مختلفة؛ لَمِنَ المفيد التعمّق به وتأمّله لكيما نعي كم يمانع الشيطان والعالم والجسد تحقيق دعوة حقيقيّة.
كانت تشعر بجانب دومًا أكبر نحو الصلاة. وبقدر ما كانت تسترسل بها، بقدر ما كانت تشعر بفراغ كلّ الإغراءات البشريّة.
ثلاث من أخواتها أصبحن راهبات. “سأصبح راهبة” كانت تجيب الجميع… وفي النهاية، ستنتصر على والدها الذي كان يُعيقها علنًا، ويريدها دومًا معه قائلاً:
“إنّي أحبّك. لكن عليّ أن أُحبّ الله أكثر منك. سأذهب إليه، وبتركي إيّاكَ أقودُك إليه”.
عندما فشل والد فيرونيكا في تدمير دعوتها الرهبانيّة، أوكل هذه المهمّة إلى أخيه أثناء إقامتها لديه وقعت فريسة المرض، لدرجة أنّ أعلن الطبيب أنّ شفاءها مرهون فقط بتلبية رغبات قلبها.
اختارت الدير الأشدّ فقرًا والأكثر تقشّفًا، وهو دير الكبّوشيّات اللواتي ينذرن قانون القدّيسة كلارا. وهؤلاء كنّ قد استوطنّ منذ فترة قليلة في شيتا دي كاستلو. كانت فيرونيكا تزورهنّ من حين إلى آخر، بغية الالتحاق بهنّ، وقد أبدت الراهبات إعجابهنّ بشخصها وكلامها.
غير أنّ عدد الأخوات المثبت في السلطات الكنسيّة كان مكتملاً، ما حال دون قبولها في الدير. نُصحت بزيارة الأسقف المسؤول، فوجدها فتيّة، وهي ابنة السادس عشرة، فرفض قبولها بحجّة اكتمال العدد.
تنـزل الأدراج آسفة.
لكنّها ترجع بعد ذلك بعزم: ها هي من جديد عند قدَمَي الأسقف. تُقبّل ثوبه وترجوه بحرارة أن يقبلها.
يبدأ فورًا بالفحص المعتاد، معجبًا بإيمانها وتصميمها.
يقدّم لها كتاب الفرض: “اقرأي”. تقرأ دون خطأ، دون تردّد أو تلعثم، فترتسم ملامح التعجّب على وجه العمّ الذي يعلم بأنّ ابنة أخيه لا تعرف اللاتينيّة! تجيب عن بعض الأسئلة بتواضع ودقّة متناهية. ثمّ تخطّي كلّ العوائق. عُيّن موعد دخولها في 28 تشرين الأول 1677.
واستمرّ الشيطان في هجومه: أورسولا تعاني اضطرابات وقلقًا شديدًا. أبوها لن يشارك في الاحتفال… لكنّها تحدّت كلّ العواصف والعوائق.
حلّ النهار الموعود. تمّ إلباسها كعروسة المسيح. الأسقف يترأس. تتمّ المراسيم بفخامتها المهيبة. يسقط الشعر أمام المقصّ.
يمنحها الأسقف إسم “فيرونيكا” ويتنبّأ عن قداستها المستقبليّة. يُفتح باب الحصن… ويشنّ العالم هجومه الأخير عبر شبّانًا متملّقين، لتثبيط عزيمتها.
وقد روت فيرونيكا ذلك في “يوميّاتها”: كانوا يخاطبونني: أيّتها السيّدة العروس، ما يزال لديك مُتّسع من الوقت؛ إن كنتش تريدين أن تقولي لا، فما زلتِ تستطيعين ذلك”.
كرّروا ذلك مرّات عديدة، فكان بمثابة تجربة كبيرة لي، لكنّي بنفس سخيّة استدَرْتُ وقلتُ:
“لق فكّرت جيّدًا، وإنّي لآسفة بأنّي لم أُتمّم هذا منذ عدّة سنوات”.
“بدأتُ أنتـزع عنّي كلّ الحلى والزينة. لم تُرِد ذلك السيّدات اللواتي يرافقنني، فقلتُ: “لا أريد تقبّل الصليب مع هذه الأباطيل. فانزعوها عنّي بكلّيتها”.
“هكذا فعلت؛ وبينما كنت أتخلّص منذ ذلك كلّه، كنت أسعى جاهدة لأبقي فكري في الله، مكرّرة تقديم ذاتي للربّ. لم أُرِد رؤية أحد من الذين كانوا في الكنيسة. فما فتحتُ عينيّ إلاّ عندما وَطئتْ قدماي الحصن”.
هنا ستعيش سنواتها الخمسين ببطولة فائقة.
طوبى لها، طوبى لشيتا دي كاستلّو، طوبى لدير الكبّوشيّات الذين سيعاين السماء منفتحة فوقه بفَيضٍ لم يُرَ قطّ، الأمر الذي دفع الأسقف إلى القول:
“لو أنّ المواطنين يعلمون ماذا يجري خلف جدران هذا الدير، لقبّلوا حجارتها من الخارج”.
جمعيّة “جنود مريم”
Discussion about this post