نبذة عن حياة القدّيسة فيلومينا نور جديد في عصر من الظلمات
العذراء والشهيدة، وصانعة المعجزات
تُعنى بطبعه ونشره
جمعيّة «جنود مريم»
علم وخبر 167/ أ د
يوزّع مجانًا
في 24 أيار / مايو عام 1802، عيد سيّدتنا مريم معونة النصارى، فيما كان الحفّارون يزيلون أكوامًا من الرمال في مقبرة قديمة تُعرف باسم أرض “بريشيلا”،
اصطدمت الفأس بسطح اسمنتي. توّقف العامل ليتفحّص الأمر فعثر على شاهد قبر من الرخام. واستغرب العمّال بعد قيامهم بالحفر حول القبر أنّ المقبرة كانت محفوظة بحال جيّدة ومحاطة بسور من الطوب.
كانت شخصيّات النبلاء والشهداء ذائعي الصيت هي التي تُحفظ في قبور من الرخام وتزيّن بهذه الطريقة. تمّ إعلام حارس المقبرة على الفور، وتوقّفت الأعمال. أمّا شاهد القبر فقد تميّز ببعض الرموز منها النخيل والزنبق ورسوم سهام ومرساة، الأمر الذي يدلّ على أنّ المدفونة كانت عذراء بتولة طُعنت بالسهام وقُيّدت إلى مرساة.
بعد تنظيف شاهد القبر عثر أيضًا على الكلمات اللاتينيّة التالية: « Pax Tecum Filumena »، أي: السلام عليك يا فيلومينا.
ثمّ فُتح القبر وعثروا فيه على هيكل عظميّ وجمجمة محطّمة لفتاة صغيرة السنّ حيث أكّد الباحثون أنّ الفتاة كانت تبلغ 12 – 13 عامًا عندما توفّيت وكانت مطعونة بحربة.
عثروا أيضًا في القبر على إناء صغير مكسور قليلاً كان بها مادّة جافّة لونها أحمر داكن يميل إلى البنّ تبيّن بعد الفحص أنّها دم جامد.
كانت تلك عادة المسيحيّين في القديم، جمع دماء الشهداء في إناء ودفنه مع الشهيد. فيما كان العلماء يحاولون إلصاق القطع المكسورة من الإناء لاحظوا وجود تفاعل كيميائي غير طبيعيّ.
عندما فصلوا الأجزاء المهشّمة من المزهريّة ووضعوها في وعاء زجاجي لفحصها في المختبر لاحظوا ظهور الحجارة الكريمة البرّاقة، تبيّن أنّها حجارة كريمة ثمينة عليها بريق من الذهب والفضّة.
حدّق العلماء والحاضرون بهذه الظاهرة الفريدة بكلّ ورع وخشوع.
تدلّنا حقيقة أنّ رفات القدّيسة فيلومينا قد تمّ العثور عليها في المقبرة الواقعة في أرض “بريشيلا” لهو دليل أكيد على سمو مكانتها. فأرض “بريشيلا” كانت سراديب قبور مميّزة برسومات غير عاديّة على جدرانها. في هذه المقبرة نجد أقدم التصاوير للعذراء مريم وابنها مرسومة على الجدران. تزيّن الجدران أيضًا رسمة للعشاء الأخير الذي يرتدي فيه الرسل أكاليل الزهور. في المقبرة أيضًا عثر على أطلال بازيليك صغيرة بناها البابا سيلفستر حيث دفن فيها هو وأربعة بابوات آخرين.
بعد ثلاث سنوات وتحديدًا في 10 آب / أغسطس عام 1805، نقلت رفات القديسة فيلومينا من نابولي إلى كنيسة كونيانو، إيطاليا. عندما اقترب الموكب من المنـزل الذي ستحفظ فيه رفات القدّيسة فيلومنيا مؤقتًا، تكوّنت شبه زوبعة شديدة بثّت الرعب في نفوس الجموع المحتشدة في انتظار العربة.
فلمّا بلغ الإعصار إلى حيث رفات القدّيسة فيلومينا توقّف فجأة واختفى. فاشتعل الحماس في نفوس الحاضرين وصاح أحد الكهنة بصوت جهوري: أيّها المسيحيّون لا تخشوا شيئًا، إنّما هذه فزاعات أرسلها أمير الظلمات الذي يعرف جيّدًا هذه القدّيسة ويذكر انتصاراتها ضدّه ويعرف منبتها وأصلها العريق. ها نفسها المنتصرة تواصل من السماء حربها ضدّ الأرواح الشريرة المتمرّدة وذلك بسبب الحظوة التي لقيتها في عينيّ الربّ.
لا شكّ في أنّها ستنال نعمًا كثيرة لسكّان هذه المنطقة التي أرسلها الله لحمايتها. لذلك أظهر أعداء قدّيستنا القبيحين أنفسهم في علامات غير اعتياديّة معذّبين مذلولين يائسين.
لكن يبقى السؤال: من هي القدّيسة فيلومينا؟
لمعرفة ذلك علينا أن نلجأ إلى الوحي الإلهي الخاص الذي نالته الراهبة الدومنيكانية مريم لوسيا ليسوع في آب / أغسطس عام 1833.
كانت الراهبة تصلّي أمام تمثال للقدّيسة فيلومينا وتدور في رأسها التساؤلات حول حياة هذه القدّيسة، إذا فجأة بالتمثال يحدّثها قائلاً:
“أختي العزيزة، أنا ابنة أمير من الأمراء وحاكم ولاية صغيرة في اليونان، وأمّي سليلة عائلة ملكيّة، لم يكن لوالدي أبناء. فقدّموا الذبائح والتقادم للآلهة المزيّفة بلا انقطاع.
عاش في قصر والدي طبيب اسمه بوبليوس وكان يدين بالمسيحيّة. عندما رأى معاناة والديّ، دفعه الروح القدس إلى تبشيرهما بالمسيحيّة فوعدهما بأنّه سيصلّي لأجلهما إذا وافقا على نيل سرّ المعمويّة.
ورافقت النعمة كلماته فأنارت فهمهما وانتصرت على إرادتهما فصارا مسيحيّين ونالا أخيرًا السعادة التي طالما انتظراها والتي أكّد لهما بوبليوس أنّهما سينالانها مكافأة لإيمانهما.
عندما حانت ولادتي، أسموني لومينا إشارة إلى نور الإيمان الذي كنتُ أنا ثمرته. وعند عمادي سموني فيلومينا أي ابنة النور، لأنّني ولدت ذلك اليوم إلى الإيمان. كانت محبّة والديَّ لي عظيمة جدًّا بحيث لم يفارقاني لحظة واحدة.
لهذا السبب اصطحباني معهما إلى روما في رحلة اضطرّ إليها والديّ بسبب الحرب التي هدّدت والدي وكنت قد بلغت حينئذٍ الثالثة عشرة من عمري.
عندما وصلنا إلى عاصمة العالم، توجّهنا إلى قصر الإمبراطور ومثلنا في حضرته. ما أن رآني ديوكليسيانوس حتى تسمّرت عيناه عليّ. بقي نظره موجّهًا إليّ طيلة الوقت الذي كان والدي يحادثه خلاله بكلّ ما من شأنه أن يسهم في الدفاع عنه. عندما انتهى والدي من الكلام، أعلن الإمبراطور لوالدي أنّ أحدًا لن يزعجه بعد اليوم وأنّه يستطيع أن يعيش بهدوء ولا يفكّر إلاّ في سعادته.
وقال ديوكليسيانوس لوالدي: “سأضع جميع قوّات الإمبراطوريّة رهن إشارتك وذلك مقابل شيء واحد أطلبه إليك، وهو يد ابنتك”.
غمر أبي شعور بالنشوى لهذا الشرف العظيم الذي لم يكن ليحلم به وأعلن على الفور موافقته على طلب الإمبراطور. عندما توجّهنا بعد ذلك إلى مخدعنا، حاول أبي وأمي جاهدين إغوائي بالنـزول عند رغبة ديوكليسيانوس ورغبتهما. فبكيت قائلة:
“هل تريدانني أن أحنث بوعدي للمسيح يسوع بسبب حب رجل؟ طهارتي عذريتي كرّستهما للمسيح ولم أعد أملك حقّ التصرف بهما”.
“ولكّنك كنت طفلة حينئذٍ يا بنيتي صغيرة جدًّا لتتخذي قرارًا مثل هذا”. أجاب والدي، ثم راح يهدّدني بمختلف الأمور لكن نعمة إلهي جعلتني لا أُقهر.
وعجز والدي عن تخليص نفسه من الوعد الذي قدّمه للإمبراطور فاضطرّه ذاك إلى إحضاري إلى مخدعه مرغمًا. واضطررت إلى احتمال ثورة غضب أخرى من أبي لبعض الوقت.
وضمّت والدتي جهودها إلى جهود أبي في محاولة لإقناعي بلطيف الكلام حينًا والتوعّد والتهديد حينًا آخر. استخدما كافّة الوسائل لإرغامي على طاعة أوامرهما.
في آخر الأمر، جثا أبواي على ركبتيهما والدموع في أعينهما قائلين: “ابنتي، أشفقي على أبيك وأمك، وعلى بلادك، بلادنا وعلى أهلها”. “لا! لا! أجبتهما، عذريتي التي نذرتها لله هي قبل كلّ اعتبار، أهمّ منكما وأهمّ من بلادي. مملكتي في السماء”. أصابتهما كلماتي هذه باليأس. فأحضراني أمام الإمبراطور الذي حاول استمالتي إليه بكلّ الوسائل لكن وعوده وإغراءاته وتهديداته باءت كلّها بالفشل. انتابته عندئذٍ ثورة غضب وأثاره الشيطان فأمر بحبسي في إحدى زنزانات القصر حيث كبّلوني بالقيود معتقدًا بأنّ الألم والعار سيضعفان شجاعتي.
بعد بضعة أيام، أصدر الإمبراطور قرارًا بفكّ قيودي وسمح لي بتناول بعض الخبز والماء. ثمّ جدّد هجماته التي، لولا نعمة الله، لكانت هجمات مميتة ضدّ الطهارة.
وكانت هزائمه المتوالية مقدّمات للمزيد من التعذيب القاسي. كانت الصلاة تدعمني وتؤازرني، حيث لم أتوقّف يومًا عن الاتكال على يسوع وأمّه. دام أسري 37 يومًا.
ثمّ فجأة رأيت أنوارًا سماويّة وفي وسطها مريم تحمل طفلها الإلهيّ على ذراعيها. وقالت لي: “يا بنيتي، ثلاثة أيّام أخرى في السجن، ثمّ وفي اليوم الأربعين ستتخلّصين من العذاب”. فجدّدت سعادة اللقاء شجاعتي للاستعداد للمعركة المرعبة المنتظرة، وذكّرتني سلطانة الملائكة باسمي الذي نلته إبان المعموديّة وقالت: “أنتِ نور” كما أنّ عريسك هو أيضًا النور. لا تخشي شيئًا فأنا سأكون في عونك، الطبيعة التي تؤكّد على ضعف نفسها تحاول الآن إذلالك ولكن عند لحظة الصراع فستحلّ عليك النعمة لتمنحك القوة. الملاك الذي لي، جبرائيل، والذي يدلّ على اسمه على القوّة، سيهبّ لنجدتك وأنا سأعيّنه لحمايتك”.
انتهت الرؤيا مخلّفة وراءها رائحة بخور زكية. اختبرتُ فرحًا ليس من هذا العالم، أمرًا لا يمكن تحديده أو وصفه. وسرعان ما اختبرت العذاب الذي أعدتني له سلطانة الملائكة. فقد يئس ديو كليسيانوس وأيقن أنّني لن أكون له لذلك قرّر أن يخدش فضيلتي على الملأ. فأمر بتعريتي وجلدي على مثال عريسي الذي فضّلته عليه. كانت كلماته المرعبة كما يلي: “بما أنّها لا تخجل أن تفضّل على إمبراطور مثلي مجرمًا محكومًا عليه بعار الموت على أيدي شعبه، فإنّها تستحقّ أن يعاملها عدلي كما عومل هو من قبل”.
لكن الحرّاس تردّدوا في تعريتي تمامًا، وقيّدوني إلى عامود في حضرة عظماء رجال البلاط، وجلدوني بقسوة إلى أن غرقت في دمائي وبات جسدي كجرح واحد مفتوح ينـزف.
لكنّي لم أفقد الوعي. ثمّ أمر ديوكليسيانوس بسحبي إلى زنزانتي متوقّعًا موتي وأنا أتوقّع اللقاء أخيرًا بعريسي السماوي والانضمام إليه.
وظهر لي ملاكين مضيئين بنور لمع وسط ظلمة الزنزانة. فسكبا على جروحي بلسمًا مسكّنًا فملأني قوّة لم أشعر بمثلها قبل ذلك العذاب. وعندما علم الإمبراطور بالتغيّر الذي طرأ على حالتي أمر بمثولي في حضرته، فنظر إليّ بشهوة كبيرة وحاول إقناعي بأنّني شفيت بفضل جوبيتر ومنه نلت قوّتي. وحاول إثارة انطباعي بأنّ جوبيتر انتقاني لأكون إمبراطورة روما. ثمّ أضاف لكلماته وعودًا بالشرف العظيم، مفعمة أكثر بأكثر كلمات العطف والحنان التي استطاع ديوكليسيانوس تذكّرها. ولكنّه حاول إتمام أعماله الشيطانيّة التي بدأها. أمّا الروح الإلهيّ الذي أدين له بالمحافظة على طهارتي، فملأني نورًا ومعرفة، عجز ديوكليسيانوس وجميع معاونيه عن الإجابة على جميع البراهين والأدلّة التي وضعتها على صلابة وقوّة إيماني.
حدّق بي الإمبراطور بنظرة مسعورة، ثمّ أمر الحرّاس بتقييدي إلى مرساة ودفني في مياه نهر التايبر العميقة. تمّ تنفيذ الأمر وألقوا بي في الماء. لكن الله أرسل ملاكين فحلاّ وثاقي من المرساة. فغاصت إلى قاع النهر حيث هي باقية إلى اليوم بلا شك. ونقلني الملاكين بلطف إلى حيث رآني الجموع المحتشدة على ضفتي النهر معافاة غير مبتلّة. فصدرت عن الجموع صرخة ابتهاج وفرح واعتنق الكثير منهم المسيحيّة وأعلنوا إيمانهم بالربّ إلهي، أمّا ديوكليسيانوس فعلّل نجاتي بسحر غامض سرّي.
ثمّ أمر بجرّي في طرقات روما ليرميني الرماة بالسهام حتّى فاضت دمائي. ولمّا ظنّ ديوكليسيانوس أنّني أحتضر أمر بإعادتي إلى الزنزانة وهناك تعطّفت عليّ السماء مرّة أخرى وتعافيت تمامًا وغرقت في سبات عذب. ثمّ حاول الطاغية مرّة أخرى طعني بالسهام المسمّمة فشدّ الرماة أقواسهم بكلّ عزم وقوّة لكن السهام أبت الانصياع لنواياهم وكان الإمبراطور حاضرًا فاستشاط غضبًا ولقّبني بالساحرة.
فأمر أخيرًا بتسخين رماح خفيفة في أتون النار وتوجيهها إلى قلبي ظنًّا منه أنّ النار كفيلة بتحطيم السحر، فأطاعوه. لكنّ الرماح التي اخترقت صدري في طريقها إلى قلبي، غيّرت مسارها وعادت صوب قاذفيها الذين أطلقوها فمات ستّة منهم ونبذ غيرهم الوثنيّة.
بدأ العديد من بين الحاضرين إعلان شهادتهم بقدرة الله العليّ الذي يحميني. فأثارت هذه الكلمات غضب الطاغية الذي قرّر التعجّل في موتي بطعني بحربة في عنقي. فطارت حينئذٍ روحي إلى عريسي السماوي الذي كلّلني بإكليل العذارى وسعف الشهادة ووضعني في مكان مميّز بين مختاريه. وكان اليوم الذي شهد دخولي إلى المجد السماوي يوم جمعة وكانت الساعة الثالثة من بعد الظهر وهي الساعة عينها التي لفظ فيها المعلّم الإلهيّ الروح على الصليب”.
كانت هذه كلمات قدّيستنا الجميلة فيلومينا التي قدّمت حياتها ليسوع وماتت عذراء شهيدة وهي في الثالثة عشرة من عمرها.
بعد 25 عامًا من اكتشاف رفات القدّيسة فيلومينا، عام 1827، بدأت إجراءات دعوى تطويبها. كان البابا غريغوريوس السادس عشر البادئ في التحقيق في الأمر غاية في الحذر. وقد شهد شخصيًّا شفاء بولين ماري جاريكو العجائبي. وبولين هذه هي التي أسّست جمعيّة نشر الإيمان وجمعيّة القدّيسة فيلومينا للورديّة الحيّة.
أعطى البابا غريغوريوس السادس عشر بركته الرسوليّة للمسكينة بولين ماري جاريكو قبل فترة طويلة من حملها على حمالة إلى كنيسة القدّيسة فيلومينا في مونيانو، إيطاليا. عندما التقاها، كان البابا موقنًا أنّها ستموت لا محالة. فقد كانت بولين تعاني من مرض قلبي بلغ مرحلة متطوّرة خطرة، ازدادت سوءًا حتّى بات موتها مؤكّدًا. وقد اشتدّت ضربات قلبها حتّى تخال أنّك تسمعه عن مسافة بعيدة مسبًّا لها آلامًا مبرحة. أدنى حركة شديدة كانت كفيلة بتدافع الدماء إلى قلبها المريض تشعر معها أنّها ستختنق وتوشك أنفاسها أن تتوقّف فلم يكن من الممكن تسجيل نبضها.
سمعت بولين عن القدّيسة فيلومينا، فقامت بتكريس تساعية صلوات للقدّيسة ساعدت بولين وخفّفت عنها آلامها. وصار ذكر اسم القدّيسة فيلومينا يجلب الغبطة والسرور إلى قلب بولين. فأعربت عن رغبتها في زيارة مزار القدّيسة فيلومينا في مونيانو على أن تذهب أوّلاً لزيارة البابا غريغوريوس السادس عشر في روما لتنال منه البركة الرسوليّة قبل سفرها.
وصلت بولين إلى روما بحالة صحيّة واهنة جدًّا وأقامت عند راهبات القلب الأقدس. لم تكن حالتها تسمح لها بزيارة البابا فقام البابا غريغوريوس السادس عشر بزيارتها. قدّم لها جزيل الشكر لعملها الرائع في سبيل الإيمان الكاثوليكي وباركها عدّة مرّات وطلب إليها أن تصلّي لأجله عندما تصعد إلى السماء. عندها قالت بولين للبابا إن عادت من رحلتها إلى مزار القدّيسة فيلومينا سالمة معافاة بأن يسمح هو بأعمال التقوى والإكرام للقدّيسة فيلومينا. فأجابها البابا:
“نعم، نعم يا ابنتي، لأنّ ذلك سيكون معجزة من الدرجة الأولى”. كان البابا في غاية القلق على حالتها الصحيّة وقال لرئيسة الدير الذي نزلت في ضيافته: “كم هي مريضة ابنتنا هذه، تبدو وكأنّها آتية من القبر. لن نراها مجدّدًا فهي لن تعود من رحلتها هذه”. لكن الله كان يحتفظ لبولين بخطط مغايرة.
انطلقت بولين وحاشيتها إلى مونيانو وكان شهر آب / أغسطس مرتفع الحرارة. فسافروا في الليل واستراحوا في النهار ليتجنّبوا القيظ. بلغوا مدينة مونيانو عشيّة الاحتفال بعيد القدّيسة فيلومينا وكانت الجموع تنتظر وصولها لأنّ أعمال بولين جاريكو كانت ذائعة الصيت كما وعرفوا أيضًا طبيعة حالتها المرضيّة السيّئة وكانوا متلهّفين جدًّا للقائها.
وصاحوا بأعلى أصواتهم: “يجب أن تشفيها أيّتها القدّيسة فيلومينا! لقد قدّمت الكثير لله وللسيّدة العذراء، لذلك يجب أن تشفيها”. في صبيحة اليوم التالي، عيد القدّيسة فيلومينا، تناولت بولين القربان الأقدس قرب رفات القدّيسة، فأصابت جسدها رعشة وأغمى عليها. اعتقدت الجماهير الحاضرة أنّها ماتت. فعلا صراخهم فاستيقظت بولين وانهمرت الدموع من عينيها وعاد اللون إلى خدّيها ولاح على وجهها شعاع الحياة وامتلأت روحها بفرح سماوي واعتقدت أنّها أوشكت على مغادرة الأرض إلى الحياة السماويّة. لكن الأمر لم يكن كذلك بعد.
كانت القدّيسة فيلومينا قد شفتها فعاشت عدّة سنوات تعمل في خدمة الربّ وكنيسته. امتلأت الجموع الحاضرة في الكنيسة بالغبطة والسرور وصرخت مردّدة: “لتحيا السيّدة الفرنسيّة الطيّبة”. وأخذت الأجراس في الدير القريب تقرع بلا توقّف. بقيت بولين في مونيانو بضعة أيّام لتقدّم شكرها للقدّيسة العزيزة ثمّ غادرت المدينة حاملة معها جزءًا من رفات القدّيسة فيلومينا أرسلتها إلى خوري رعيّة آرس. في طريق عودتها إلى روما تجمّعت الجماهير على جوانب الطرقات تصيح: “أعجوبة، أعجوبة”. عندما بلغت روما، وهي معافاة كليًّا، تفاجأ البابا بهذه الأعجوبة وتذكّر وعده ووفى به. وأقامت بولين في روما سنة كاملة نزولاً لرغبة البابا حتّى تتمّ معاينة شفائها وتسجيله. كانت هذه فاتحة الإجراءات التي أدّت في نهاية المطاف إلى إعلان قداسة القدّيسة فيلومينا.
كان البابا بيوس التاسع الذي أعلن عقيدة الحبل بالعذراء بلا دنس من المتيقّن للقدّيسة فيلومينا والمكرّمين لها. هو الذي صلّى على مذبح مزارها في مونيانو في 7 تشرين الثاني /نوفمبر 1849 وبارك الكنيسة.
عند وفاته خلع عن عنقه الصليب الذي ارتداه طيلة سنوات طويلة وقدّمه هبة ليزيّن به جسد رفاة القدّيسة فيلومينا. أما البابا ليو الثالث عشر، الذي أصدر العديد من الرسائل الرعويّة حول الورديّة ومشاكل العصر،
وكان يتمتّع برؤية واسعة فقد رفع منـزلة أخويّة القدّيسة فيلومينا من رتبة أخويّة محليّة إلى رتبة أخويّة أبرشيّة وأغدق عليها الهبات والغفران. وهو الذي وافق على منح كلّ من يرتدي حبل القدّيسة فيلومينا امتياز الغفران.
في 3 نيسان /أبريل 1901 أعلن قداسة البابا بيوس العاشر أنّ جميع التصريحات والقرارات بشأن القدّيسة فيلومينا لا يجب أن يتمّ تغييرها أو الانتقاص منها بأيّ طريقة من الطرق. ورفع رتبة أخويّة القدّيسة فيلومينا إلى أخويّة دوليّة وعيّن القدّيس يوحنّا فياني حاميًا لها وشفيعًا. قدّم البابا بيوس العاشر وهو على فراش الموت خاتمه ليزيّن رفات القدّيسة فيلومينا وما زال يزيّن أصبعها في كنيسة مونيانو في إيطاليا إلى يومنا هذا.
فيما كانت إجراءات تطويب القدّيسة فيلومينا قيد الدراسة عام 1835، عاش في تلك الفترة قدّيس عظيم هو كاهن رعيّة “آرس”، القدّيس يوحنّا فيانّي شفيع الكهنة. عاش هذا القدّيس ببساطة وتواضع ولم يكن يتمتّع بثقافة كبيرة. استصعب جدًّا اللغة اللاتينيّة واعتبره رؤساؤه قليل الذكاء. ما إن أنهى دراسته التي أتمّها بصعوبة بالغة حتّى عيّنه رؤساؤه كاهن رعيّة مدينة آرس في فرنسا.
كان رؤساؤه واثقون بأنّ الروحانيّة في رعيّة آرس متدنّية للغاية وعليه لن يتمكّن القدّيس يوحنّا فيانّي من زيادة الأمر سوءًا أو التسبّب بأيّ ضرر.
حال بلوغه البلدة، باشر كاهن الرعيّة الجديد بزيارة الناس ولكنّه عرف أنّ كثرة الملاهي الليليّة منتشرة في البلدة وقلّة المرتادين للكنيسة جعلت الناس في حالة روحانيّة مزرية. فما كان من القدّيس يوحنّا إلاّ أن كرّس نفسه للعمل الوحيد الذي أجاده فعلاً ألا وهو الصلاة. فصلّى وصلّى وصلّى أيضًا. بدأ سكّان البلدة بالتساؤل عن حال كاهنهم الجديد وأين عساه يكون. ولمّا بحثوا عنه وجدوه في الكنيسة. مرّ النهار وهبط الليل.
في طريقهم إلى الملهى لاحظ الناس أنوار الكنيسة مضاءة، وعندما استعلموا الأمر وجدوا كاهنهم يصلّي. وفي طريق عودتهم من الملهى إبان الفجر لاحظوا أنوار الكنيسة مازالت مضاءة وكاهنهم مازال جاثيًا هناك يصلّي , يصلّي لأجلهم! دفع الفضول أهل البلدة إلى الذهاب للكنيسة لاكتشاف كاهنهم الجديد هذا. وكان القدّيس يوحنّا بارعًا في المواعظ بليغًا، تبدو المواعظ التي نسمعها اليوم إزاء مواعظه ركيكة ضعيفة وكأنّي بها قشورًا خفيفة.
وكان كاهن رعيّة آرس يمتلك موهبة أخرى أيضًا وهي قوّة الاعترافات وقراءات الضمائر فكرّس قرابة 12 – 15 ساعة يوميًّا في كرسي الاعتراف.
سرعان ما ذاع صيت كاهن آرس في المنطقة المجاورة وأخذ الناس يتوافدون عليه من جميع أرجاء فرنسا في رحلة حجّ إلى آرس. بل أنّ المؤمنين من أنحاء دول أوروبا أخذوا في التوافد على بلدة آرس وسرعان ما لحق بهم المؤمنون من أمريكا عابرين المحيط قادمين إلى آرس. وبات الراعي قدّيسًا ذائع الصيت في زمانه.
تميّز قدّيسنا يوحنّا بتقوى خاصّة للقدّيسة فيلومينا وقد ظهرت على يديه من خلال شفاعتها عجائب عديدة. واشتهر كاهن آرس المتواضع قليل العلم بمنطقه وقدرته الواسعة على فهم الأمور ونعمة النبوءة.
وقد عزا المعجزات التي اجترحها إلى الفتاة الوحيدة بحياته وهي القدّيسة الصغيرة العزيزة إلى قلبه، القدّيسة فيلومينا. كان الراعي قليل الكلام بخصوص الحوادث فائقة الطبيعة في حياته، ولكنّه اعترف بصراعات ونزاعات مع الشيطان.
قال يومًا بأنّ الشيطان أشعل النار بسريره لكن النار توقّفت عندما بلغت صورة القدّيسة فيلومينا المعلّقة على الحائط.
عندما علم الراعي بأنّ البابا غريغوريوس السادس عشر أعلن تطويب القدّيسة فيلومينا، لم يضع الوقت في تكريس كنيسة صغيرة لشفيعته المختارة. كان ينصح المرضى بالصلاة للقدّيسة فيلومينا على مذبحها، ولم تذهب صلاتهم سدى.
قامت بين الراعي والقدّيسة علاقة مميّزة. وكان قدّيسنا يعزو إلى فيلومينا جميع النعم والعجائب التي ينالها الحجّاج إلى آرس.
“هذا كلّه من صنع يديها” كان يقول لهم. كما وإنه ائتمن القدّيسة فيلومينا لتشفع من أجله فكانت هي تستجيب طلباته.
Discussion about this post