حقيقــة الشيطــان وظاهرة عبادته
في المجتمع المعاصر
تُعنى بطبعه ونشره
جمعيّة «جنود مريم»
يوزّع مجانًا
توطئـة
يشهد العالم اليوم، ومنذ سنوات عديدة، ظهورًا واسعًا لبدع وهرطقات، وتيّارات فكريّة وروحيّة غريبة وخطيرة. تزعزع أركان المجتمعات البشريّة، وتجرف معها الكثيرين من ضعفاء النفوس والإيمان، ومن مختلف الأجناس والأديان والاتجاهات والطبقات والأعمار. هذه التيّارات المنحرفة والمشبوهة تتسلّل إلى مجتمعاتنا ورعايانا عبر بعض الوسائل الإعلاميّة خصوصًا التلفزيون والسينما، وبعض المجلاّت، بالإضافة إلى الإنترنت.
تبثّ سمومها في كلّ مكان، وتهدّد بسقوط ما بقي من قيم روحيّة وأخلاقيّة واجتماعيّة. بعدما مهّد لذلك قلّة الإيمان، والاستهتار بالروحانيّات، وعدم العيش الصحيح لوصايا الله وتعليم الكنيسة. ممّا أدى إلى تعاظم الشرّ والفساد في عالم المصلحة والشهوات الرديئة والأهواء الفاسدة.
من هذه الظواهر، وهي موضوع كتابنا، ظاهرة عبادة الشيطان التي نشأت في الولايات المتحدة الأميركيّة، ومنها انتشرت في كثير من دول العالم. والملفت هو أن أكثر المنتمين إليها هم من فئة الشباب، ينضوون تحت راية الشيطان أفرادًا وجماعات منظّمة، يرفضون الله ويمارسون طقوسًا وشعائر غريبة، يستحضرون أرواحًا شريرة، يدنّسون القدسيّات ويعلنون بجهارة، وبشكل علني في بعض الأحيان، عن انتمائهم الشيطاني هذا.
إنّ نشاط هذه البدع والظواهر، هو بالحقيقة امتداد لعمل إبليس أي الشيطان ومخططاته، والحرب الكبيرة التي أعلنها على الله منذ إسقاطه إلى أسفل الجحيم مع ملائكته المتمرّدين . لمّا ظنّ لكبريائه أنّه يتساوى مع الله؛ كما جاء في سفر رؤيا يوحنّا الفصل 12.
هنا كانت بداية معركته ضدّ الله والخير، ومشروعه باختصار هو إغاظة الله وبلبلة كنيسته ودكّ أساساتها، وبالتالي تضليل وهلاك أكبر عدد من النفوس المفتداة بدم المسيح. فهو الذي دفع آدم الأوّل منذ بدء الخليقة، إلى ارتكاب المعصية الأولى (سفر التكوين)، التي جرّت على العالم وما تزال المآسي والشرّ والحروب، بسبب التمرّد على الخالق وتجاهل وجوده وتعاليمه لا بل نكرانه.
جيّش إبليس الكثيرين من ضعفاء النفوس إلى تحقيق أهدافه وتنفيذ أوامره، فبإيحاءاته دخل الفساد إلى كلّ بيت. خصوصًا بواسطة بعض الوسائل الإعلاميّة التي سبق وذكرنا، وعبر بعض الأفلام التي تبشّر بتيّارات تمرّديّة وإلحاديّة مبطّنة، إلى المشاهد الإباحيّة والبرامج الفاسدة والأزياء الخلاعيّة وأفلام القتل والعنف.
كلّ هذا يفسد الأخلاق، ويدعو إلى التفلّت من كلّ القيم، ويحطّم أسس التماسك في العائلات وهي الأكثر تهديدًا اليوم. ممّا أدى إلى هذا الفلتان المستشري في مختلف بقاع الأرض، فضلّ الكثيرون وشرّدوا عن الإيمان الصحيح.
ورغم كلّ هذا، ما تزال فئة من الناس تقول بأنّه لا وجود للشيطان ككائن، وبالتالي هو رمز للشرّ فقط أي نقيض الخير. إنّنا لسنا هنا بوارد الدخول في جدل حول هذا الموضوع، ولكنّنا بكل بساطة نكتفي بتعليم كنيستنا المقدّسة، التي نخضع لها خضوعًا تامًّا. فكتاب التعليم المسيحي للكنيسة الكاثوليكيّة”،
والذي هو ملخّص لكلّ الحقائق الإيمانيّة المتبّعة في الكنيسة، وثمرة أعمال المجمع الـﭭـاتيكاني الثاني الشهير (1962 – 1966) الذي دعا إليه “البابا يوحنّا الثالث والعشرون”، ينهي الجدل في هذا الموضوع بشكل نهائيّ وحاسم. هو الذي استوحى تعليمه من الكتاب المقدّس الغني بالبراهين الساطعة. ونستشهد هنا بما جاء في خطاب السعيد الذكر البابا بولس السادس الذي قال:
“الشيطان عنصر فاعل وكائن حيّ وروحيّ، مفسود، فاسد ومُفسد”.
وأضاف “فإذا رفضنا هذا الواقع نكون قد عارضنا تعاليم الكتاب المقدّس والكنيسة”.
وباختصار، إنّ تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة صريح ثابت وواضح، ولا يجوز لأحد مهما علا شأنه أن ينقضه ببعض الاجتهادات والفلسفات والتحليلات الخاصة. وما انجرار الكثيرين وراء هذه التيّارات الفكريّة وهذه البدع والهرطقات والظواهر الشيطانيّة للأسف، إلاّ دليلٌ ساطعٌ على عدم مناعتنا الروحيّة، وعدم وعينا لمفهوم الإيمان الحقيقي والعيش المسيحيّ الصحيح.
واستهتارنا بالقيم المسيحيّة وفلسفتنا لبعض الأمور الروحيّة، وتفصيلها على قياس مبادئنا وأهوائنا ومسلكنا ورغباتنا. بالإضافة إلى عدم الممارسة الصحيحة والواعية لواجباتنا وفرائضنا الدينيّة. فأعطينا بذلك المثال السيء للعيش المسيحيّ. بعدما أصبحت أعيادنا مناسبات وثنيّة لعبادات الجسد والشهوات، واحتفالات للأكل والشرب والسكر. فقدت جوهرها، لذلك فبدل أن تكون مناسبات لتمجيد الرب وشكره على عطاياه الكثيرة، ومصدرًا للنعمة، أصبحت مصدر نقمة علينا، يُهان فيها الله ويُنكر ويُشتم.
كلّ ذلك أدّى إلى فراغ روحيّ كبير، وسطحيّة مفرطة في التعاطي بالأمور الروحيّة، وفقدان إيماننا وروحانيّاتنا وتاريخنا وتقاليدنا. فتركنا بذلك الأبواب مشرّعة أمام تلك الحضارات الفاسدة، والتيّارات العلمانيّة الجاحدة التي دخلت بدون رادع إلى مجتمعاتنا ورعايانا وبيوتنا ومدارسنا، بعدما أصبحت ساعات التعليم المسيحيّ فيها ضئيلة، إن لم تكن معدومة.
فهلاّ وقفنا، أيّها الإخوة، وقفة ضمير حيّ وواعٍ، أمام مسوؤلياتنا تجاه هذه التغيّرات الخطيرة التي تعصف بالعالم، وهذا الانهيار المريع في الأخلاق!؟ وهلاّ فكّرنا وبموضوعيّة بمستقبل أولادنا والعالم، من دون أن نلقي التّهم واللوم على أحد!؟ كلّنا مسؤولون، إكليريكيّين كنّا أم علمانيّين. ولا سبيل لمقاومة الشرّ وإحلال المحبّة والسلام، إلاّ بالعودة إلى الله كما يقول القدّيس بولس في رسالته إلى أهل أفسس (6/10-12):
“… أيّها الإخوة تشدّدوا في الربّ وفي قدرة قوّته. البسُوا سلاح الله، لتستطيعوا مقاومة مكايد إبليس، فإنّ مصارعتنا ليس ضدّ اللحم والدم بل ضدّ الرئاسات والسلاطين وولاة هذا العالم، عالم الظلمة والأرواح الشريرة في السماويّات”.
إذن فلنسرع بعودتنا إلى الله، وإلى أحضان كنيسته المقدّسة، فهي “الأم والمعلّمة” نحتمي بكنفها، هي ضمانتنا الوحيدة، وملجأنا الأمين، وحصننا المنيع ضدّ كلّ قوى الشرّ. هي التي أعطت قوافل القدّيسين عبر الأجيال، أدلّة ساطعة لا شكّ فيها على صحّة إيمانها وعقائدها وقداسة رسالتها. فلنَصعد جميعًا على متنها، نُبحر معها نحو الألفيّة الثالثة.
هي سفينة الخلاص التي تقلّنا بأمان إلى شاطئ السلام والمحبّة، حيث ملكوت الله والحياة الأبديّة، إلى جانب آبائنا الأبرار والقدّيسين.
ولا شكّ في أنّ العودة إلى الله، تترافق مع خطوات عمليّة، تبدأ بالخضوع الكامل لتعاليم الكنيسة والكتاب المقدّس، وعيش الأسرار المقدّسة. والتقدّم خصوصًا من سرّ الاعتراف، وهو سرّ المصالحة مع الله، وسرّ القربان المقدّس، وهو الغذاء الأبديّ للنفوس، وفي اشتراك فاعل وعميق في الذبيحة الإلهيّة. هكذا فقط نكون دائمًا برفقة الله، مسلّمين إليه نفوسنا وحياتنا، مستقبل أولادنا ووطننا والعالم.
ونتّخذ من العذراء مريم “أم النور” و”سيّدة جميع الشعوب”، شفيعة دائمة لنا، نكرّس لها حياتنا، ونوكل إليها كلّ شيء. فهي القديرة المجيبة، تطلب لنا من الله، بالإضافة إلى النعم الزمنيّة الموافقة لخلاصنا، النعم الروحيّة، خصوصًا نعمة السلام والمحبّة والغفران.
فنصمد أمام مكايد الأشرار، ونقوى أمام التجارب والمصائب، وأمام الظروف الصعبة والكوارث، وكلّ التغيرات التي يمرّ بها العالم اليوم. فنكرّمها بتلاوة ورديّتها كلّ يوم،
لأنّها “السلاح الأقوى لمقاومة الأعداء المنظورين وغير المنظورين”؛ كما قالت هي نفسها للقدّيس عبد الأحد.
فهي الأم السماويّة التي تجوب كلّ أصقاع الأرض، تظهر هنا وهناك، ذارفة الدموع لأجل أولادها، تحثّهم على التوبة، وتدعوهم إلى المحبّة والصلاة ونبذ الشرّ وعدم إهانة الله، الذي ينتظر توبة كلّ خاطئ ليستقبله بفرح عظيم كما استقبل “الابن الضال”.
كما أنّها لا تكفّ عن الشهادة لحنان الله ورحمته للبشر، هي التي خصّها وملأها بالنعم. فكلّ رسائلها للعالم تعكس محبّته لنا. فلنبادله هذا الحبّ، ولنكن أمينين له، ورسلاً حقيقيّين نبشّر بحبّه ورحمته في العالم أجمع، هو السبيل الوحيد إلى السلام، هو وحده “الطريق والحقّ والحياة”.
من كتاب : حقيقة الشيطان
وظاهرة عبادته في المجتمع المعاصر
جمعيّة “جنود مريم”
No Result
View All Result
Discussion about this post