منذ القديم في عرف الإنسان إله يشرف على نظام هذا الكون الفسيح، ويرعى حياة كلّ الخلائق. ومسيرة الديانات هي مسيرة نضج الإنسان على كافة المستويات، فهل هذه المسيرة بعيدة عن إدراك الله؟
ففي زمنٍ تشاركت فيه عناية الله ونمو الإنسان نحو نضجٍ أهّل الإنسان ليدرك أنّ لهذا الكون إله واحدّ وهو الإله الخالق. ففي الديانة اليهوديّة والمسيحيّة والإسلاميّة إقرارٌ بأنّ الله هو الخالق الذي خلق هذا الكون بكلّ ما فيه من عجائب وأمور أرفع أن تُدرك من قبل عقل الإنسان. فالله في الرؤية الدينيّة هو الخالق وحياة كلّ الخلائق.
وإذا كان الله هو باري هذا الكون وكلّ ما فيه فهل الحياة التي تسري في الكون الذي خلق الله تُشير إلى هذا الباري؟ إنّ العناصر والنباتات والحيوانات كما هو واضح منذ القديم، هي تحت تصرّف الإنسان وكأنّ الإنسان هو السيد الذي له السلطة المطلقة على هذه الموجودات. لذا كلّ ما هو موجود غير الإنسان لا يُحدّد بذاته وجود الله، ولكن سيّدها ، الإنسان، هو الذي يحكم في هذا الموضوع. فالإنسان هو عقل الموجودات وقلبها، وروحه تسمو على كلّ موجود. والسؤال هنا: هل يقدر الإنسان إدراك الله من خلال عناصر الحياة التي تحيط به؟
للخوض في هذا المضمار لا بدّ أن نرى الإنسان في ينابيع حياته أو في بيئته التي تطبعه بطابعها. فالإنسان وعناصر الحياة يلتقيان معاً في هبة الحياة الكامنة في أعماق كلّ منهما، وهكذا فالحياة ترسم بطريقةٍ مباشرة أو غير مباشرة كمالاً مشخّصاً فهل هو الله الخالق؟
لننظر إلى الفلاّح الذي هو إنسانٌ منفتحٌ على الكون الفسيح، فيرى فيه مؤشرات تُفرحه وأخرى تُحزنه. وهو متحسسٌ لمعنى الحياة والنمو والزمن. فعلاقته بمزروعاته التي يقوم بزراعتها والعناية بها، علاقة تنبض فيها نبضات الحياة. فيرى مع نمو الغراس، وتحوّل البذور إلى نباتات حيّة فتيّة، قدرة محيية تحيّره وبنفس الوقت يقف منذهلاً من ذلك.
يتأمل الفصول وتغيّراتها ويرى في نفسه تغيّراتٍ عديدة، فيجد السعادة والفرح أحياناً وعواصف وأزمات أحياناً أخرى، يرى في الزمن ثماراً لحياته وفي وقتٍ آخر لا يجد ثمراً. فعلاقته بمزروعاته علاقة عطاء وأخذ، علاقة رعاية وانتظار الثمر الذي يعود عليه بالخير. فهذا العطاء من الأرض والسماء يشعر به الفلاّح ويشعر بأنّ حياته لا تقف عند ذاته. وبنفس الوقت يعلم أنّ كلّ ما يهتمّ به لا يقدر هو بنفسه أن يشرف على نموّه، فهو مرتبط بشكلٍ أو بآخر بأمور أخرى. لذا استمراريّة الحياة التي يعاينها تهمس في قلبه المتسائل، الذي يتوق إلى التجدد على مثال النباتات والأشجار، وتقول له: تتوق إلى الحياة فانظر إلى حياتك ترى من خلالها أنّ الحياة ، عطيّة وتقبّل، منّة وهديّة، شكرٌ واندهاش، وهل تعتقد أنّ كلّ شيء يسير لوحده دون راعٍ ورقيب؟
إنّ اعتقاد الفلاّح بوجود شخصٍ عظيم هو حقيقي، ولكن ما هي صفات هذا الشخص الذي يشعر به هذا الفلاّح بالذات؟
وإذا تأمّلنا في الفيلسوف فهو شخصٌ علائقي ووحدوي، في كيانه نسيجٌ لوحدة يتوق نسجها، وفي عقله حبّ يرغب أن يُترجمه بأعمالٍ تبني الإنسان وتعطي للمجتمع معنىً أفضل. وهو مشتل للأفكار وهذا الواقع الذي يشعر به يجعله ينفتح أكثر على الكون وعلى بداياته وأسبابها،وعلى نهايته ومعناها.
ففكرة المجتمع الماورائي هي فطريٌّة في عقل وقلب الفيلسوف. ولكن ما هي صفات هذا الحاكم والملك والمشرّع الذي يُشرف على هذا المجتمع العلوي، بالنسبة إلى هذا الفيلسوف؟
وإذا تأمّلنا في الراعي فهو شخصٌ يرتزق من رعاية القطيع الذي يؤتمن عليه. ويعيش في عالم الولادة والنمو، وفي علاقة عطاء وأخذ مع كائنات حيّة. فيرى في سرّ الحياة الذي يعاينه أنّ هناك راعٍ في السماء يُشرف على رعاية قطيعه ويمنحها قوّة للإخصاب لتعطي كائنات حيّة جديدة.
ولكن ما هي صفات الراعي المطلق الذي يملك القدرة العظيمة، الكامنة في ذهن هذا الراعي؟
وقياساً على ذلك نجد بشكلٍ طبيعي أنّ الأشخاص الذين يحتكّون بكائنات حيّة نباتيّة أم حيوانيّة أو يملكون فكراً ما ورائياً عندهم فكرة المطلق وهي من المُسلّمات بالنسبة إليهم.
ويصعب حصر المجالات المختلفة في عالم اليوم لكثرتها، منها من كان في الماضي وتتطور ومنها ما هو وليد الحاضر و ولدت كلمات جديدة تعبّر عن هذه المجالات. ومن هذه المجالات: عالم الاقتصاد، وعالم السياسة، وعالم التكنولوجيا، والطبّ، والقضاء، والفلك، والشعر، واللغة، والكمبيوتر،…. نجدها جميعاً تنمو ويزداد نموّها بقدر ما تولد فيها كلمات جديدة.
ومع ظاهرة عدم الإيمان السائدة في عالم اليوم، هل تغيب عن كلمات إنسان اليوم صفات الكائن المطلق
|
|
Discussion about this post