السيّد المسيح المعلِّم الصالح
الأب شكري توما
مهداة إلى جماهير المعلَّمين الشموع النيّرة في المجتمَع
للمعلَّمين على الإنسانيَّة فضل لا ينكر، فالكثير من الأيادي البيض التي كانت للبَشَر على المدنيَّة لم تكن للساسة ولا للمخترعين، بل كانت للمعلَّمين. ولهذا كان حقّاً أن نقف حيناً عند ذكرى بعض عظماء المعلَّمين لنرى ما قدّموه للمجتمَع البَشَريّ عامّة وللمعلَّمين بعدهم خاصّة. ولا أجد في هذه المناسبة من عظماء المعلَّمين أحقّ بالحديث من السيّد المسيح المعلِّم الصالح، بل أستاذ البَشَريَّة الأعظم.
يحتاج المفلس إلى إمهال، والمريض إلى علاج، والجاهل إلى تعليم، والمجرم إلى عفو..
هكذا أيضاً الخاطئ فإنه يحتاج إلى مسامحة وغفران. وهذا هو الهدف الذي ترمي إليه تعاليم يسوع المعلَّم الصالح التي ترسل أشعّة الرجاء إلى الضالّين والخائفين. إنّ تعاليم السيّد المسيح بشارة الخاطئ، نصفة المظلوم، سند المسكين، نصيرة المرأة، حضانة الطفل الصغير. ولقد قدّم المعلَّم الصالح في تعاليمه، بالنظام الذي رسمه للحياة، سبيلاً عامّاً يستطيع كلّ مَن يسير عليه، بأمانة وإخلاص، أن يبلغ النجاح كائناً مَن كان. فلو عمل كلّ فرد بتعاليم المعلَّم الصالح لتعالت أناشيد السعادة من أفواه الجميع. ولو اتّخذت كلّ عائلة تعاليم السيّد المسيح دستوراً لها لزالت في الحال انقساماتها، واضمحلّت خصوماتها، وانـزوت فاجعاتها في زاوية النسيان. ولو اتّخذ العالَم ما حَوتْه هذه التعاليم من قواعد نبراساً يضيء ظلمته، وقائداً يقوده إلى مراعي الأمن والطمأنينة لزالت جميع متاعب الإنسانيَّة ولم يبقَ من أثر لأوجاعها
حقّاً.. إنّ تعاليم السيّد المسيح المعلِّم الصالح هي الوحيدة في ذاتها، المنفردة في عظَمتها، السرّيَّة في سموّها. فلا عجبَ، إذاً، إن استحقّت أن تعلو فوق سائر التعاليم كما علت السموات فوق الأرض. وكما ارتفع ابن الله فوق بَني البَشَر
وكما كانت تعاليم السيّد المسيح ذاتها فذّة سامية، كانت طريقته في التعليم كذلك فذّة رائقة فريدة في نوعها. فتعالوا نستعرض الدعائم التي عليها تعتمد طريقة السيّد المسيح المعلِّم الصالح في التعليم.
الدعامة الأُولى: العفويَّة في الحديث
إنّ أحاديث المعلَّم الإلهيّ كانت مُرسَلة عفو الساعة لا يسبقها إعداد أو تنظيم كما يفعل العلماء والفقهاء، لأنّه كان يلقيها حيث يتّفق أن يجد مجالاً للحديث. فأحياناً يتحدّث ردّاً على سؤال وجّهه إلى تلاميذه في أمر من الأمور أشكل عليهم. وأحياناً يتحدّث ردّاً على سؤال ألقاه عليه خصومه متعمّدين إحراجه وهكذا.. ولم تكن هذه الأحاديث متّصلة طويلة، كما جرت العادة، بل كانت مقسَّمة إلى فقرات كلّ منها آية. وكان يلقيها متمهّلاً ويفصل ما بينها بوقفات لتحدث وقعها في النفوس وتثبت كذلك في الذاكرة
الدعامة الثانية: استخدام الأمثال والقصص
كان السيّد المسيح يستخدم ويضرب الأمثال التي يستمدّ تشبيهاتها من مظاهر الطبيعة المحيطة ومن ظروف البيئة التي كان يعلَّم فيها، فجاءت أقرب إلى أفهام سامعيه. وذلك كمثل الزارع الذي خرج ليزرع، ومثل الخميرة التي خبّأتها المرأة في أكيال الدقيق وغيرها. وكان أحياناً يجعل درسه في صورة قصّة تعجب سامعيه وتقع في نفوسهم ولكنّها تنطوي على عظة بالغة ومغزى عميق الأثر كبير الدلالة، مثل قصّة الابن الضالّ وقصّة الإنسان المسافر الذي دعا عبيده وسلّمهم أمواله: واحد خمس وزنات وآخَر وزنتَين وآخَر وزنة، وغيرها…
الدعامة الثالثة: اعتماده على الأفعال
كانت طريقة السيّد المسيح في التعليم تعتمد على الأفعال أكثر من اعتمادها على الأقوال. فالأفعال عنده إشارات للمعاني. فكان يلجأ إلى الأفعال التي تدلّ على المعنى المقصود منها. وذلك لأنّ الفعل كثيراً ما يكون أجدى في التعليم من القول. وذلك كما فعل لمّا أحضر لـه الجمع المرأة الزانية وسألوه عن رأيه فيها، فأطرق قليلاً وجعل يكتب بإصبعه على الأرض، ثمّ قال: “مَن كان منكم بلا خطيئة فليرجمها” (يوحنّا 8/7). وكما فعل مع الصيارفة وباعة الحمام حين رفع السوط في وجوههم وطردهم من الهيكل قائلاً لهم: “مكتوب: بيتي بيت الصلاة وأنتم جعلتموه مغارة لصوص!” (لوقا 19/46).
الدعامة الرابعة: في نشر تعاليمه الإلهيَّة
إنّ الأثر الكبير الذي أحدثته تعاليم السيّد المسيح في المجتمَع البَشَريّ يرجع إلى تلاميذه الذين درّبهم على نشر تعاليمه والنسج على منواله في تدريب رُسُل آخَرين ليواصلوا نشر رسالته التعليميَّة في أنحاء المسكونة. وعلى مرّ الأجيال وكرّ الأعوام وإلى يومنا هذا. وهو مثل نادر بين المعلَّمين. فلم يسبق أن فعل أحد منهم مثل ذلك في تاريخ البَشَريَّة الطويل
الدعامة الخامسة التي تعدّ بحقّ من أقوى الدعائم: القدوة
وهي التي يمكن أن تستند إليها طريقة السيّد المسيح في التعليم والتي لم نسمع أنّ أحداً من عظماء المعلَّمين قد اعتمد عليها إلى أقصى الحدود. فقد مارسها يسوع عمليّاً وطبّقها تعليميّاً على نَفْسه. بمعنى أنّه جعل حياته تلائم تعليمه كلّ الملائمة. وتقدّم لنا قدوته ذلك المستوى السامي عينه الذي دعتنا إليه كلماته. فقد كان السيّد المسيح يدعو الناس إلى الطهارة الخلقيَّة. فكان طاهراً في حياته طهارةً ملموسة حتّى استطاع بحقّ أن يقول: “مَن منكم يُثبت عليّ خطيئة؟”(يو 8/46). أمرنا بالتواضع فكان هو متواضعاً إلى أقصى حدود التواضع، وليس أدلّ ولا أبلغ ولا أعمق من تواضعه حين غسل بنَفْسه أقدام تلاميذه (يو 13/5). دعانا كذلك للوداعة فكان هو وديعاً “لا يصيح ولا يرفع صَوته ولا يُسمع صَوته في الشوارع، قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة خامدة لا يُطفئ، بالأمان يخرج الحقّ” (أشعيا 42/2-3). علّم الغفران فنفّذ تعاليمه حرفيّاً حين قال وهو على خشبة الصليب: “يا أبتِ اغفر لهم، لأنهّم لا يعلمون ما يفعلون” (لوقا 23/34). وأخيراً علّم الناس أنّ الموت هو الباب لحياةٍ أسمى وأمجد، فطبّق هذا التعليم على نَفْسه حين مات على خشبة الصليب المجيد
المعلَّم كالشمعة يحترق لينير دروب الآخَرين
حقّاً إنّ طبيعة عمل المعلَّم تجعله أقرب إلى الشمعة التي تذوب وتحترق لكي تنير دروب الآخَرين. فإنّ المنغّصات التي تزخر بها رسالة التعليم أكثر من أن تُحصى أو تعدّ إن كان على الصعيد المادّيّ أو المعنويّ. ولكنّ عزاء المعلَّمين في ذلك هو السيّد المسيح معلَّم البَشَريَّة الأكبر. فقد جاء إلى أرض الشقاء مضحّياً بالعظَمة التي له كإله. وأفنى وقته في تعليم تلاميذه من الفقراء والعامّة. وهو الذي لو أراد أن يختار من عِلية القوم لسارع إليه الكثيرون من العظماء والوجهاء والأغنياء. وقد شقّ طريقه في الصخر والشوك، ولاقى في سبيل دعوته من النصيب والألم ما يفوق طاقة البَشَر. فقد كان خصومه يتعمّدون إحراجه بالأسئلة المحيّرة ويحاولون أن يصطادوه بكلمة واحدة ليشتكوا بها عليه. وأكثر من ذلك كانوا يكيلون لـه الاتّهامات ويوجّهون لـه الإهانات جزافاً. بل كثيراً ما تكاتفوا عليه ليهلكوه على أثر إلقائه بعض الأحاديثه والدروس
Discussion about this post