مسرح خيال الظل
الأب سامي حلاّق اليسوعي
تاريخ مسرح خيال الظل
يلاحظ كلّ مَن يمرّ بين جهاز إسقاط مضيء والشاشة أنّ صورته تظهر على الشاشة بشكل ظل. إنّه أوّل اختبار لاحظه الإنسان حين كان يجلس في الكهوف أمام النار. فقد لاحظ أنّ ظلّه يظهر على الجدران. وهو اختبار كثيرٍ من الأطفال. فهم يقضون ساعاتٍ في التسلية بظلالهم.
يقول المؤرّخون إنّ مسرح خيال الظلّ، المستعمل للترفيه والتربية، له تاريخ طويل. ويُرجِعون هذا التاريخ إلى ألفي سنة تقريباً. ويُرجِعُ بعضهم هذا التاريخ إلى القرن الرابع قبل الميلاد، إلى أيّام أفلاطون، حيث روى هذا الفيلسوف قصّة الكهف: تطواف من الظلال الّتي تتحرّك على جدار الكهف، ولهذه الظلال أشكال مصدرها أجسام حقيقيّة، تبدو في الظلال مثل الدُمى. لكنّنا لا نعرف هل اعتمد أفلاطون على مسرح ظلٍّ معروفٍ في أيّامه أم نسج قصّته من ملاحظته للضلال الّتي يصنعها النور الخلفيّ.
في الصين، كانوا يستعملون مصباحاً زيتيّاً، ويضعون أمامه قطعة قماشٍ حريريٍّ مشدودة، وبين المصباح والقماش قطعة من الكرتون أو الجلد المقسّى، مقصوصة بشكلٍ معيّن. فلا يرى الناظر من الجهة الأخرى سوى خيال هذه القطعة.
تقول الرواية إنّ أحد ملوك أسرة هان منع النساء من رؤية المسرح. وكان المسرح في ذلك الحين من وسائل الترفيه الشائعة. فلكي يخفّف من وطأة هذا القرار، سُمِحَ للنساء بمشاهدة العروض من وراء الشاشة في أماكن مخصّصة لهنّ، وتمّ تطوير تقنيّة النور والظلال كي يتمكّنّ من رؤية المسرحيّات بطريقةٍ مرضية. وهكذا، حوّل المنع أبعاد الجسد الثلاثة إلى بعدين. وتحوّل المسرح من ثلاثة أبعاد إلى قطعة مستوية، وانقطعت العلاقة بين المؤدّي والجمهور … باختصار، كانت هذه المرحلة بداية لفنٍّ سيشقّ طريقه ويطوّر نفسه، وسيتّخذ اسماً هو مسرح الظل، قوامه مهارة التلاعب بالأنوار والظلال.
في القرن السابع عشر، بدأ التبادل التجاريّ بين آسية وأوروبا يزداد، ووصل مبدأ مسرح الظلّ إلى العالم الغربيّ، لكنّه لم يلقَ رواجاً إلاّ في القرن الثامن عشر والتاسع عشر. ويعود ذلك إلى شعبيّة صورة ظلّ في البلاد الإنكليزيّة.
كانت هذه بدايات التصوير. فرسم ظلّ أمر رخيص الثمن وسهل التحقيق. يكفي المرء أن يجلس في وضعيّةٍ معيّنة، ويُلقى ظلّه على قماش اللوحة أو على الورق، كي يتمّ رسمه. فالأمر لا يتطلّب مهارة ولا معدّات غالية الثمن: كرسي، لوحة ومصباح.
يجلس الزبون على الكرسي بين المصباح واللوحة، ويخطّ الرسّام ظلّه من الطرف الآخر.
في القرن التاسع عشر، شاع أيضاً أسلوب تشكيل ظلالٍ بوساطة الأيدي. وهي أبسط أشكال الظلال. وتمّت طباعة كتب عديدة تصوّر كيفيّة إظهار صور حيوانات وأشخاصٍ بشكل ظلالٍ على الحائط، من خلال جعل الكفّين والأصابع بوضعيّاتٍ معيّنة.
في القرن التاسع عشر، ظهر أيضاً نمط آخر من خيال الظل، وهو الظلّ الأبيض. تستعمل فيه ورقة معتمة، وتُفرَّغ بطريقة يظهر فيها الشخص من خلال الظلّ الأبيض حين يتعرّض للنور من الخلف.
في أيّامنا، يتبع مسرح الظلّ أسلوب جاوة (أندونيسيا) الآسيويّ أو الأسلوب التركيّ، الّذي شاع في عهد العثمانيّين، أو الأسلوب الصيني. كان مسرح جاوة يُستعمل لتعليم الأولاد الديانة الهندوسيّة، لذلك يشبه مسرح الظلّ الهنديّ. وأشهر النصوص الّتي كان يقدّمها هي رامايانا و مهاباراتا المنقولة شفهيّاً. كانت الشخصيّات تُصنع من جلود الحيوانات، وتلوّن وتزيّن، على الرغم من عدم ظهور الألوان أو الزينة في الظل. فقد كان الرجال يجلسون أمام الشاشة، ويشاهدون المسرحيّة عن قرب، فيرون الألوان. أمّا النساء، فيجلسن بعيداً، ولا يرين إلاّ الظلال. وكان شخص واحد يحرّك العرائس بوساطة العيدان، أي من تحت الشاشة، ويقلّد وحده جميع الأصوات. وترافقه فرقة قوامها صنج وطبل وبوق تؤمّن له الموسيقا التصويريّة.
استُعمِلَ المسرح التركيّ منذ القرن الرابع عشر، ولكنّه تطوّر كثيراً بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، خصوصاً في شهر رمضان. في البداية، كان يقوم شخص أو شخصان بتسلية العمّال في المسجد من خلال تصوير مشاهد مضحكة تتمّ في ورشات العمل. ومن شدّة إتقان هذه المهنة، تأثّر شخص يدعى صايح قصطري، وصنع لهؤلاء الممثّلين دمى من جلد الجمل، واستعملها في عرض الدمى الم
صُنِعَت الدمى التركيّة من جلد الجمل أو البقر، وكان الصانع يحفّ الجلد حتّى يصبح نصف شفّاف، ثمّ يلوّنه. ومن أشهر المسرح يّات لهذا الفن مسرحيّة كراكوز وعيواز. لم تهتم قصص مسرح خيال الظل التركي بالمواضيع الدينيّة، بل كانت ساخرة، وتتضمّن جدالاً بين شخصٍ ساذج (كراكوز) وصديقه الذكيّ (عيواز). ويكمن سرّ الضحك في هذه المفارقة، وينتهي العرض بانتصار كراكوز، الشخصيّة الطيّبة البسيطة الساذجة. كان يؤدّي الأدوار شخص واحد يسمّى الكراكوزي، يحرّك الشخصيّات بوساطة الحبال، أو الخيوط، أي من فوق الشاشة. وآخر أو فريق يؤدّي الأغاني. وقد أدّى ظهور السينما والتلفزيون إلى تقلّص عدد العروض من هذا النوع، لكنّها ظلّت من العروض المحبّبة لدى الأطفال.
مسرحيّ
ولا يختلف المسرح الصينيّ لخيال الظلّ كثيراً عن مثيله الأندونيسيّ أو التركيّ. فشخصيّاته مصنوعة من جلد الحمار، ومزخرفة بنقوش التفريغ (زخارف تحوي فراغات). ومن شدّة سماكة الجلد، لا تظهر الألوان بتاتاً. ويحرّك الدمى عدّة أشخاص بوساطة قضيبٍ من الخلف، ويراعون ألاّ يظهر ظلّ القضيب. ويوضع النور قريباً من الشاشة لهذا الغرض. أمّا المواضيع الّتي تتناولها العروض، فهي شديدة الاختلاف: عسكريّة، تاريخيّة، قصص فلكلوريّة، مضحكة، اجتماعيّة، توجيهيّة …
بعض المعلومات التقنيّة
تصنع الشاشة في الصين من الجلد الشفّاف. وفي مصر وتركيّا يستعملون ورق البردي أو الورق الشفّاف. أمّا الهند وأندونيسيا، فيستعملون القماش القطنيّ الخفيف. وفي أيّامنا، يشيع استعمال الكالك، خصوصاً للشاشات الصغيرة. لون القماش أبيض أو عاجيّ. ويمكن استعمال ألوانٍ أخرى بحسب موضوع المسرحيّة.
قبل اكتشاف الكهرباء، كانت تستعمل المصابيح أو الشموع للحصول على الظلال. كانت الدُمى تُصنَع من الجلود المقسّاة. لذلك أطلق الصينيّون على فنّ المسرح هذا اسم بي يينغ، أي ظلال الجلد. واليوم، يمكن صناعتها من الكرتون أو الخشب الرقيق أو المعدن. وكلّما أردنا إظهار ألوان الشخصيّة، كان علينا اختيار مادّة شفّافة.
يقف مسيّر الدمى خلف دماه أو فوقها أو تحتها بحسب طريقة التحريك الّتي تبنّاها. وعليه أن يتدرّب على تقديم مشاهده كثيراً، وبمساعدة شخصٍ يرى من الطرف الآخر. أمّا التمثيل الحي، أي بوجود ممثّلين بدل الدمى، فقد ظهر في القرن العشرين، وهو تقنيّة أصعب، وتحتاج إلى مهاراتٍ أشد.
Discussion about this post