عصبيّة الأطفال وعنادهم
الأستاذ توفيق قيروع
العصبيّة، النرفزة، توتّر الأعصاب، سلوك كثير الإزعاج للآخرين، وللأهل خاصة، يتصف بطابع التوتر النفسي، ويتخذ شتّى التعابير كالحركة الدائمة والمضطربة، لطم الرأس بالحائط، قضم الأظافر، خفقان القلب، القلق، الأرق، انعدام الحزم والتقرير وغيرها
وقد يحسّ العصبيون بأنهم مضطهدون، مقصود أذاهم، إنهم لا يرغبون في الألعاب التي تقوم على المنافسة والمزاحمة خوفاً من الفشل، وهم عاجزون عن أن يظهروا البراعة في الأعمال التي تتطلب من صاحبها قدراً معقولاً من الثقة بالنفس.
فعندما يكون المرء غير واثقٍ من نفسه، ينزع عادةً إلى أن يخاف السخرية والنقد، وإذا كان ذلك يجرح كبرياءه الذاتيّة، تجده يأخذ في اختراع أنواع الحيل لاتقاء أيّما نقد غير منتظر، وغير مرغوب فيه حفاظاً على هذه الكبرياء أن تُخدش، أو تُكلَمْ.
يعاني العصبيون من شعورٍ بالنقص يجعلهم دائمي النقد لأنفسهم، يفكرون فيما عملوا، وما يعملون، وما يقوله الناس عنهم، وما سيقولون. إنّ أكثر العصبيين ليس لهم فلسفة حياة، وهم لذلك خاضعون لتأثير كلّ ما يقرؤون أو يسمعون، ومن هنا تعوزهم الحرارة، وينقصهم الإخلاص والتعلق بالمبادئ الأساسية. وإذا سألهم إنسان عن رأيهم في أمرٍ ما، لم يستطيعوا أن يجيبوا إلاّ أجوبة ضعيفة، سقيمة، عصبيّة.
إنّ في مقدور كلٍّ منّا أن يكوّن لنفسه فلسفة في الحياة، والأشخاص العصبيون بخاصة يجب أن يبذلوا بعض الجهد لفهم معنى الحياة، وما الذي ينتظره المجتمع من أفراده. ويمكن لأكثر الناس عصبية أن يكتسبوا الشجاعة الاجتماعية إذا درسوا أنفسهم جيداً، وعملوا على تحليلها لأن العزلة تساعد على التأمل الباطني، وهذا التأمل يؤدي بدوره إلى الخوف، وعدم الثقة بالنفس، وهكذا كلّما ابتعد الشخص عن الناس وجد أنّه من العسير عليه أن يختلط بهم في طلاقة وحرية.
إنَّ الإنسان اجتماعي منذ البدء، ولم يُخلق ليعيش وحده، فإذا كنت راغباً في الاتصال بالناس فابحث عمّا يفعلون، وعمّا يفكرون، ثمّ خذ ذلك كله، اختر الهواية أو الرياضة نفسها، التحق بالنادي عينه وبالمنظمة نفسها. فمن يعتزل الحياة الاجتماعية إنما يحيط نفسه بحاجز وهمي من خلق خياله. وإذا كنت ممن يخافون المجتمع، ويبعدون عن الناس فليس عليك إلاّ أن تحطّم هذا الحاجز السخيف، والرغبة وحدها لا تكفي فاتبع الرغبة بالعمل والمحاولة متذكراً أنّ الإنسان يخسر كثيراً إذا استسلم لعوامل ودوافع العصبية دون أن يدرسها جيداً.
فقد يتخذ الأهل أولادهم كنوع من “صمّام الأمان” للتنفيس عن عصبيّتهم نظراً لضعف الولد وتبعيته لهم، فإذا بالصراخ ينصبّ عليه لأقل هفوة، وإذا بالتهديدات والعقوبات تنهال كوابل المطر. وكثيراً ما يتشددّ الأهل وبشكل مفرط فيما يطالبون به أولادهم، فعلى الولد أن يكون مهذباً، نظيفاً، مجتهداً في دروسه، مهتماً بأخوته وأخواته الأصغر منه سنّاً، مؤدياً الخدمات المطلوبة منه في المنزل. وما هو أدهى من ذلك فقد يطالب الأهل الولد بصفات متناقضة، كأن يكون كليّ الخضوع لهم، طيّعاً كالخاتم في إصبعهم، وأن يكون في الوقت نفسه، شخصية تفرض ذاتها، شجاعاً، معتمداً على نفسه، وبعبارة أخرى يطالبانه في أن يجمع بذاته صفات الطفل، وصفات الراشد.
فإذا شعر الطفل بأنه مطالب بما يفوق طاقته، وبما هو عاجز عن الاستجابة له، أحسّ بأنّ عدواناً يُمارس عليه، ممّا يدفعه إلى عدوانية قد تعبّر عن ذاتها بالعصبيّة في السلوك.
وعلى النقيض من هذا الموقف الوالدي المفرط في تشدده، هناك موقف آخر يقود إلى نفس النتيجة ألا وهو الغلو في تدليل الولد، وقلق الأهل المفرط والدائم على صحته، وعلى تحصيله الدراسي ومعاشراته، والمبالغة في السهر على راحته وحمايته، فارضين عليه رقابة خانقة، فيجد الولد نفسه مجمّد الطاقات، معطّل الحرية، مقيّد الحركة والتصرف، معزولاً عن أترابه، فيعاني من جرّاء ذلك حرماناً شديداً يؤدي إلى إثارة عدوانيته، وتفجير عصبيّته.
إنّ هذا النمط من التربية يجعل الطفل غير قادر على احتمال أيّ إحباط، علماً بأنّه لابدَّ من مواجهة قدر من الإحباط يفرضه واقع الحياة. لذا فمهما نال هذا الولد من عطفٍ وهبات، شعر بأنّه محروم، مغبون، ممّا يثير عدوانه وقد يدفعه إلى سلوكٍ عصبيّ.
فكلّ تربية تشددّ على العقوبات قد تُحدث عدوانية كبيرة عند الطفل حتى ولو كان العقاب غير جسدي، وكلُّ تربية تستند أساساً على العقاب تولّد معاناة مستمرة لخيبة الأمل عند الطفل، وعندئذٍ يفقد الطفل الحسَّ بالأمان وتقدير الذات.
وقد يهمل الكثير من الوالدين حاجة الولد إلى اللعب بغية التركيز على المجهود المدرسي فقط، فنراهم يضيّقون إلى أبعد حدّ المجال الزمني المخصص للعب معتبرينه مضيعة للوقت، متناسين أنه بالنسبة للولد حاجة حيوية ملحّة للتعبير عن ذاته، وضرورة لاستعادة توازنه بعدما يعانيه من إرهاق وجمود في الساعات التي يقضيها في المدرسة وهكذا تضيع منه فرصة ذهبية للاستجمام، فتتوتر أعصابه وينخفض مردوده المدرسي.
يجب أن تُعطى للطفل إمكانية تحقيق رغبته في الحركة، يجب أن تُعطى له إمكانيّة تصريف الطاقة الفائضة عنده باللعب حيناً، وركوب الدراجة والسباحة حيناً آخر. ويشير المحلل النفسي أنطوني ستّور إلى أهميّة الألعاب ذات الطابع “القتالي” الرمزي كالشرطة واللصوص في التنفيس عن العدوانية، والمساعدة على ضبطها وتهذيبها، مخالفاً بذلك رأي بعض الوالدين الذين يخشون من أن ينمو لدى أولادهم حبُّ القتال، فيحرّمون عليهم استعمال اللعب التي تمثل أسلحة، أو الانصراف إلى ألعاب تقلّد القتال. ويقول ستّور إنهم بهذا السلوك يعرّضون أولادهم إلى الخطر الذي يريدون تجنيبهم إيّاه. نستطيع أن نفهم نرفزة وعصبيّة الكثير من الأطفال إذا علمنا أنّها وسيلة يرجو بها الطفل أن يلفت نظر الذين حوله، ويحظى باهتمامهم وانتباههم.
ولمعالجة عصبيّة الطفل لا بدّ من عرضه على طبيب أولاً لمعالجة العوامل العضوية التي تساهم في إثارة العصبية لديه، وتفهم عصبيّته بدلاً من تصنيفه “عصبيّاً” ملقين التبعة كلّها على طبيعته، متهربين من إعادة النظر في نمط العلاقة القائمة بينه وبيننا، ذلك النمط الذي يكون له أبلغ الأثر في التسبّب بعصبيّته. ومن أجل فهم أفضل لتلك العصبيّة يجدر بنا أن نلاحظ بانتباه متى وكيف ولماذا تظهر العصبيّة لديه؟ فقد يساعدنا ذلك على إدراك أسبابها ومعالجتها بالتصدي لتلك الأسباب.
يقول الدكتور “أندريه برج” بهذا الصدد: “لكي يجد ولد ما توازنه العصبي، ينبغي أن تُلبّى حاجاته الأساسية وهي على الصعيد الانفعالي ثلاث: الأمان والعطف والنشاط الحر”. على الأسرة أن تُشبع حاجات الطفل الانفعاليّة الأساسيّة التي تقود إلى ضرورة توفير جوٍّ من الهدوء والصفاء حول الولد العصبي، والتلطيف من وطأة السلطة الوالدية عليه، وعدم مقابلة عصبيّته بعصبيّة مماثلة بل نساعده على الانتقال من صعيد التعبير الجسدي المباشر عن انفعالاته إلى صعيد التعبير الكلامي عنها، ونعطيه فرصاً مناسبة لينفّس عن عصبيّته.
إنّ استقرارك العصبيّ لفي يديك بأكثر ممّا تتخيل، وتعديلك لعاداتك الخاصة، وإقلاعك عن الضيق بعادات الآخرين هما الطريقان اللذان يقودانك بعيداً عن الأعصاب الواقفة على الحافة. فإذا كنتَ عصبيّاً تذكّر أنَّ الآخرين قد يشعرون بمثل ما تشعر به من توتر الأعصاب إن لم يكن أكثر. إنَّ عليك أن تصطنع دائماً موقفاً جريئاً، انظر إلى وجوه الآخرين وأنت تخاطبهم. احتفظ بتوازن جسمك، وتكلّم في رويّة وأناة. لتكن حركاتك هادئة لأنَّ الاضطراب الجسماني يقود إلى الاضطراب الذهني ، فليس في الحياة فنّ أكبر من فنّ العيش الناجح، وليس من نصرٍ أعظم من انتصار المرء على مواطن ضعفه.
أمّا العناد فهو سلوك يعبّر عن نزعة الطفل إلى مخالفة الوالدين، وتأكيد مواقف تتنافى مع مواقفهم ورغباتهم وأوامرهم ونواهيهم. إنّه تأكيد للذات يحمل إلى حدٍّ ما طابعاً عدوانياً تجاه الوالدين، متخذاً شكل المعارضة لإرادتهم. إنَّه مزعج دوماً للوالدين إذ يبدو لهم بمثابة محاولة
قد يتخذ العناد شكل التصدّي الفاعل لمشيئة الوالدين فيكون صريحاً كالغضب، والتمرّد، والإمعان في الجدل، وقد يكون مبطّناً يتستر فيه العدوان وراء رعونة ظاهرية، كما يتخذ شكل التهرّب من تنفيذ مشيئة الوالدين، مع تحاشي المجابهة معهما.لإفشال إرادتهم.
فالعناد وسيلة طبيعيّة لتأكيد الشخصيّة النامية من خلال إقامة تمايز بينها وبين الوالدين، بعد أن كانت إلى حدٍّ ما امتداداً لهم في أول عهدها. إنَّ “أناه” لم ترتسم حدوده بعد بوضوح، لذا يحيا وكأنه جزء من أبويه وكأنهما جزء منه.
تتكلم المحللة النفسية الفرنسية “فرانسواز دالتو” عن هذا الموضوع فتقول: “لقد كان فيما مضى يمتثل دوماً لإرادة أمّه، لأنّه كان وإيّاها واحداً. أمّا الآن فهو بصدد التوصل إلى تمييز أناه الخاص عن “الأنت” الذي كان سابقاً مندمجاً به، وبصدد تكوين ذاتية خاصة به يجاري بها خصوصية ذاتيّة أمّه. تلك هي مرحلة “اللا” التي هي مرحلة إيجابية جداً إذا فهمتها الأم على حقيقتها”. وتشير دالتو إلى أنّ الولد في تلك المرحلة بعد أن يقول “لا” لأمّه لا يلبث أن ينفّذ بعد قليل ما طلبته منه. إنّه يقول “لا” ليفعل “نعم”، وهذا معناه: “لا” لأنكِ تطلبين أنتِ هذا الأمر منّي، و”نعم” لأنني أريد أنا أن أفعله.
ومن جهة أخرى يقول الأخصائي النفسي الإنكليزي “هادفيلد” عن فترة العناد التي يدخلها الطفل في السنة الثانية من العمر: “إنَّ العناد هو المادة الخام التي عليها سوف تُبنى الإرادة. إنّه مصدر التصميم، والثقة بالنفس، والحزم، والمثابرة، وكلُّ الصفات التي تكوّن الشخصيات القويّة”.
إنَّ للعناد في هذه الحالة وظيفة إيجابيّة باعتباره وسيلة من وسائل النمو العاطفي الذي به ينسلخ الولد تدريجيّاً عن كنف الوالدين ليؤكدّ وجوده المستقلّ، ويسير في دربه الخاص، ويبني إرادته، مختبراً اقتداره على مواجهة ما يحيط به.
فمن أجل أن لا تتحوّل رعاية الوالدين للأولاد التي هي في الأصل في خدمة نمو الولد إلى تحكّم القوي بالضعيف يفرَز العناد بشكل شبه حتمي كدفاع مستميت يمارسه الولد عن كيانه الشخصي، علينا أن نمتنع عن الإفراط في إصدار الأوامر، مكتفين بالحدِّ الأدنى منها، وأن لا ننهي عن أمرٍ إلاّ عند الضرورة آخذين بعين الاعتبار إمكانيّات الولد فيما نطالبه به، مراعين حاجاته التي تختلف باختلاف مراحل العمر، ومتحاشين إصدار التوجيهات بشكل أوامر جامدة تقيّد الولد، وتشلُّ مبادراته.
وعلى وجه العموم، يمكن القول بأنَّ الطفل لا يستطيع أن ينمو نموّاً سليماً إلاّ إذا هيأنا له فرصاً لتحقيق حاجاته الأساسيّة بصورة كافية في كلّ مرحلة من مراحل نموّه.
المراجع:
1. مشاكل الآباء في تربية الأبناء، تأليف د.سبوك، ترجمة منير عامر، الهيئة المصرية العامة للكتاب 1988.
2. عناد الولد وسلطة الوالدين، كوستي بندلي، منشورات النور، بيروت طـ 1981.
3. توتّر الأعصاب، السلسلة السيكولوجيّة رقم 20، تأليف ولفردنورثفيلد، دار العلم للملايين، بيروت طـ 1946.
4. النرفزة، السلسلة السيكولوجية رقم 7، دار العلم للملايين، بيروت طبعة 1946.
5. عصبيّة الولد، كوستي بندلي، منشورات النور، بيروت لبنان 1981
No Result
View All Result
Discussion about this post