سراج الجسد العين
للأب د. جورج عطية
في إنجيل اليوم والذي هو مقتطع من عظة يسوع على الجبل- يعلّمنا الربّ:
“سراج الجسد العين. فإن كانت عينك بسيطة فجسدك كله يكون نيّرًا، وإن كانت عينك شريرة فجسدك كله يكون مظلمًا“.
فهو يُشبّه العين بالنسبة لظلمة الجسد، كالسِّراج المضيء بالنسبة لظلمة الليل. ولكن، ولكي تكون العين مضيئة، يجب أن تكون بسيطة، وإلاّ يبقى الجسد – ويقصد به الإنسان ككل مظلمًا.
فما الذي عناه الرب يسوع بكلمة بسيطة؟ وما الفرق بين العين البسيطة والعين الشريرة؟
الفرق الوحيد بين الإثنتين هو كيف تنظر كل منهما إلى الأمور. فعلى سبيل المثال، ثمة قول للرب في عظته على الجبل نفسها:
“قد سمعتم أنه قيل للقدماء لا تزنِ. وأما أنا فأقول لكم إن كل من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه” (مت28:5).
العين البسيطة على عكس العين الشريرة- لا تشتهي، أو تحسد، أو تتمنّى الشرّ، بل تنظر بطهارة، ولا تطلب ما هو لذاتها، بل ما هو لخير الآخر. وإذا سألنا لماذا تنظر العين الشريرة باشتهاء، أو بحسد، أو بتمنٍّ للشرّ؟ يجيبنا الرّب يسوع نفسه:
“لأن من القلب تخرج أفكار شريرة مثل زنى فسق سرقة شهادة زور تجديف. هذه هي التي تنجّس الإنسان” (مت19:15).
المشكلة إذن في القلب، أي في داخل الإنسان، والذي تصدر عنه أفكار – وهي ما يمكن أن نسميها أيضًا أهواء – تنجّس وتُظلم العين، وبالتالي الإنسان ككلّ. ولذا فالداخل بحاجة ماسّة إلى تنقية:
“ويل لكم أيها الكتبة والفريسيّون المراؤون لأنكم تنقّون خارج الكأس والصحفة وهما من داخل مملوءان اختطافاً ودعارة. أيها الفريسيّ الأعمى نقّ أولاً داخل الكأس والصحفة لكي يكون خارجهما أيضاً نقيًا” (مت25:23-).
فالقلب اذا تنقّى لا تعود تصدر عنه أفكار نجاسة، تجعل العين تنظر نظرة شريرة. فتكون عندها العين بسيطة والجسد كلّه يكون نيّرًا.
ولكن من أين يأتي النور الذي يجعل العين سراجًا مضيئًا للجسد؟ فالجواب هو أيضًا عند الرّبّ يسوع:
“أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة” (يو12:8).
أي أن النور الذي ينير العين البسيطة هو نور الله غير المخلوق الذي يخترق الإنسان، ذا القلب النقي، فيجعله كلّه نيّرًا. اكثر من ذلك، فنور الله مع نقاء القلب يفسح المجال وحتى لرؤية الله نفسه:
“طوبى للأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله” (مت8:5).
واذا أُهِّلَ انسان لهذه المعاينة، فهذا معناه أنه قد اقتنى الروح القدس، الذي يجعله في شركة مع الله أي الآب والابن والروح القدس الاله الواحد- وصار ملكوت الله في داخله (لو21:17).
على هذا الأساس صار بامكاننا الآن أن نفهم اكثر لماذا أضاف الرب:
“لا يستطيع أحد أن يعبد ربّين… لا تقدرون أن تعبدوا الله والمال“.
لأن عبادة المال – أي اعطاءه المكانة الأولى من الاهتمام، وتكريس الحياة من أجل جمعه- تجعل من المستحيل على إنسان في هذه الحالة أن يعبد الله، وأن يحصل على ملكوت السموات.
وهنا قد يتبادر إلى الذهن السؤال الآتي: إذا لم يعمل الإنسان بكل طاقته، ويكون الهدف من عمله الحصول على المال، فكيف بامكانه أن يؤمّن الاحتياجات الضرورية لحياته وحياة عائلته، كالطعام والشراب واللباس، والتي تشترى جميعها بالمال؟
على هذا السؤال أجاب الرب يسوع باسهاب في انجيل اليوم، لافتاً الانتباه بصورة خاصة إلى عناية الله، ودوره الأساسي والخفي في مساعدة جميع مخلوقاته. فإذا كان يهتم باطعام طيور السماء، وإلباس زهور الحقل، فكيف لا يهتم بمساعدة الإنسان -وهو أفضل مخلوقاته – على تأمين متطلبات حياته الأرضية، ولا سيما إذا طلب أولاً ملكوته السماوي.
وبالطبع فكلام يسوع لا يتضمن رفضاً لاستعمال المال الذي يحصل عليه الانسان كنتيجة لتعبه في عمله. فالله قد رسم للإنسان منذ بدء الخليقة: “بعرق وجهك تأكل خبزًا” (تك19:3).
ولكن يسوع لا يريد أن يكون اهتمام الانسان منصبًّا على ما يأكل ويشرب ويلبس، بل على ما يحرّر وينقّي، كي لا يخسر حياته الأبدية. كذلك يريده أن لا يقلق على تحصيل رزقه ناسيًا أن له أباً في السموات يعينه ويهتم بأمره.
أيها الأحباء:
بكلمات قليلة لخّص الرّب يسوع ما هو الأفضل لنا: “فلا تهتموا (تقلقوا) قائلين ماذا نأكل أو ماذا نشرب أو ماذا نلبس. فإن هذا كلّه تطلبه الأمم. لأن أباكم السماويَّ يعلم أنكم تحتاجون الى هذا كلّه. فاطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه وهذا كله يزاد لكم”.
لأبينا السماوي الشكر والطاعة والمجد والسجود إلى أبد الدهور آمين.
Discussion about this post