الصوم عند آباء الكنيسة وفي التراث المسيحي
د. جريس سعد خوري
مدير مركز اللقاء
هذه الدراسة محاولة للبحث في تاريخ الصيام في المسيحية وما قال فيه وبمعانيه الكتاب المقدس وبعض آباء الكنيسة وعدد من اللاهوتيين العرب المسيحيين في العصور الوسطى.
الصوم في الكتاب المقدس
إن الكتاب المقدس بعهديه القديم والجديد يذكر الصوم في عدد كبير من آياته مع التركيز على أهميته ودوره وحاجته للمؤمن في حياته. كما ونستنتج من الآيات الكثيرة التي تذكر الصوم، أن هناك صوما مفروضا وصوما طوعياً.
ففي العهد القديم توجد بعض الآيات التي تشير إلى أن الصوم فرض على كل مؤمن. ففي سفر العدد نقرأ: “وفي اليوم العاشر من الشهر السابع هذا، محفل مقدس يكون لكم، تذلّلون فيه أنفسكم، ولا تعملون فيه عمل خدمة”(1). وسفر الأحبار يقول: “هذه تكون لكم فريضة أبدية في اليوم العاشر من الشهر السابع، تذلّلون أنفسكم ولا تعملون عملاً، لا ابن البلد ولا النزيل المقيم فيما بينكم… لأنه في هذا اليوم يكفر عنكم لاطّهاركم… هو سبت راحة لكم، تذللون فيه أنفسكم: إنه فريضة أبدية”(2). وفي سفر الأحبار يقول الرب لموسى:” أما العاشر من الشهر السابع هذا، فهو يوم التكفير… يكفر فيه عنكم أمام الرب الهكم… لا تعملوا أي عمل: فريضة أبدية مدى أجيالكم في جميع مساكنكم. إنه سبت راحة لكم، فتذللون فيه أنفسكم من التاسع من الشهر عند المساء، من العِشاء، تستريحون سبتكم.” (3)
لقد رأينا في الآيات المذكورة أعلاه أمرين مهمين ألا وهما ان الصوم المذكور فيها هو “فريضة أبدية”، والأمر الثاني هو تحديد يوم وساعات هذا الصوم، أي اليوم العاشر من الشهر السابع ومن مساء اليوم التاسع إلى مساء اليوم العاشر، أي أربعاً وعشرين ساعة. من الواضح ان هذه الآيات تتكلم عن يوم الغفران وتذكر أنه “يوم التكفير” عن الخطايا. وبالرغم من أن كلمة “صوم” لم ترد في الآيات، إلا أن المقصود من كلمة “تذللون” هو الصوم والامتناع عن الأكل والشراب والتقشف. إننا نجد في آيات أخرى في العهد القديم أن كلمة “تذللون” هي مرادفة لكلمة “صوم”. فالنبي عزرا يقول: “فناديت بصوم هناك، عند نهر أهوى لنتذلّل أمام الهنا”(4). والنبي داوود يقول في مزاميره: “وأنا عند مرضهم كان لباسي مسحاً وكنت بالصوم اذلّل نفسي.”(5)
إذن الصوم المفروض في العهد القديم هو صوم ليوم واحد وهو يوم الغفران عند اليهود.
ولكن إضافة إلى هذا الصوم، هناك آيات عديدة تتكلم عن الصوم الطوعي الذي قام به بعض الأنبياء ومنهم داوود الذي صام على أمل ان يرحمه الرب وأن يحيا الصبي الذي ولد له من امرأة أورّيا: “لما كان الصبي حيا، صمت وبكيت، لأني قلت في نفسي: من يعلم؟ قد يرحمنى الرب ويحيا الصبي.”(6) وفي مواقع كثيرة في العهد القديم نرى أن الصوم الطوعي هو عبادة وإيمان وتقشف وتواصل مع الله بالصلاة، ومناشدته وطلب رحمته ومغفرته ومساعدته في وقت الضيق. وهذا ما نجده على سبيل المثال في مزامير داوود وسفر يهوديت وما نقرأه عن النبية حنة في إنجيل لوقا. (7) كما أن الصوم الطوعي هو تحضير وتهيئة النفس والجسد روحياً قبل القدوم على أمر مهم ومقدس، أو عمل شيء استجابة لطلب من الله.
إننا نرى النبي موسى يصوم أربعين يوما قبل ان يستلم الكلمات العشر:”وأقام موسى هناك عند الرب أربعين يوما وأربعين ليلة، لا يأكل ولا يشرب ماء، فكتب على اللوحين كلام العهد، الكلمات العشر”؛(8) والنبي إيليا عند توجهه إلى جبل الله حوريب، قد صام أربعين يوما: “فقام وأكل وشرب وسار بقوة تلك الأكلة أربعين يوماً وأربعين ليلة الى جبل الله حوريب.” (9)
إذن الصوم في العهد القديم هو مسيرة ارتداد وعودة الى الله، وهو مسيرة توبة حقيقية وتواصل مع الله من خلال الصلاة والتأمل وعمل الرحمة والخير ومحبة الحق والسلام كما يقول النبي زكريا: “احكموا حكم الحق واصنعوا الرحمة والرأفة…” (10) لذا، كانت الأصوام مشروطة بالتقوى وبطاعة كلمة الله ومحبة الإنسان وبالابتعاد عن ظلم الآخرين والإساءة إليهم واستعمال العنف ضدهم. وفي هذا المجال يقول النبي أشعيا: “لا تكثروا الصلوات لي لأني لا أقبل ذلك منكم لأن أيديكم مملوءة دما” (11). والنبي إرميا يقول أيضاً: “قال لي الله أما انت، فلا تصل على هذه الأمة ولا تدع لهم لأنهم إن صلوا لم أسمع منهم صلواتهم وإن قربوا قربانا لم أُرِده.” (12)
الصوم في العهد الجديد
إن العهد الجديد لا يأمر بالصوم ولا يحدده كفريضة على المؤمنين ولا يحدد فترة زمن الصوم. لكننا نرى أن السيد المسيح يشير إلى أهميته وفعاليته عندما يخاطب التلاميذ قائلاً: “وهذا الجنس من الشيطان لا يخرج إلا بالصلاة والصوم.” (13) لذا، يصبح الصوم أمرا مهما في حياة المؤمن تماما كما ان الصلاة مهمة؛ وضروري في حياة التعبد والتقشف كما يخبرنا الإنجيلي لوقا عل هذا عندما يتكلم عن النبية حنة بنت فانوئيل: “وكانت هناك نبية هي حنة ابنة فانوئيل من سبط آشر، طاعنة في السن، عاشت مع زوجها سبع سنوات ثم بقيت أرملة فبلغت الرابعة والثمانين من عمرها، لا تفارق الهيكل، متعبدة بالصوم والصلاة ليل نهار.” (14)
كما نجد في العهد الجديد أن الصوم هو أمر نافع وجيد وضروري في حياة المؤمنين لأنه كالصلاة يقوي الإيمان ويعتبر جسراً قوياً للتواصل مع الله، ومسيرة توبة وعودة إلى الرب وتكفير عن الخطايا والذنوب، ومصدر قوة روحية لقهر الشر وللصمود أمام التجارب والإغرءات الدنيوية. إننا نرى في صوم المسيح أربعين يوما وأربعين ليلة، مثلاً ومدرسة لصمود المؤمنين أمام التجارب وقهر الشر والشيطان، وذلك يكون فقط بالإكثار من صلواتنا وأصوامنا وبعبادة الرب وحده: “اذهب يا شيطان لأنه مكتوب: للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد.” كما ونلاحظ أن صوم المسيح وصموده أمام كل أنواع التجارب قد سبق الإعلان عن بدء البشارة بالخبر السار، أي بملكوت السماوات: “وقد بدأ يسوع من ذلك الحين ينادي فيقول: توبوا، قد اقترب ملكوت السماوات.” (15)
لذا، نلاحظ أن التلاميذ كانوا يصومون ويصلون قبل أي عمل وقبل اتخاذ أي قرار مهم بالنسبة للحياة المسيحية وللكنيسة الأولى، وهذه إشارة تؤكد على أهمية ودور الصوم والصلاة في حياة المؤمنين وفي القرارات التي يتخذونها: “قال لهم الروح القدس: افردوا برنابا وشاول للعمل الذي دعوتهما إليه”. فصاموا وصلوا، ثم وضعوا عليهما أيديهم وصرفوهما” (16)، وفي موقع آخر نقرأ أن الرسل أيضا قد صاموا وصلوا قبل اتخاذ قرارهم بتعيين مسؤولين في الكنيسة: “فعيّنا شيوخا في كل كنيسة وصليا وصاما، ثم استودعاهم الرب الذي آمنوا به.” (17)
وهناك آيات عديدة تشير إلى أن الصوم يقوي المؤمن ويساعده على الثبات في الإيمان رغم الشدائد والضائقات التي يواجهها كما يقول لنا بولس الرسول: “بل نوصي أنفسنا في كل شيء على أننا خدم الله بثباتنا العظيم في الشدائد والمضايق… والتعب والسهر والصوم” (18)؛ ويقول بولس أيضا على أن الصوم هو من الأعمال الصالحة في حياة المؤمنين إضافة إلى أمور اخرى: “جهد وكدّ، سهر كثير، وجوع وعطش، صوم كثير….” (19)
من خلال قراءتنا للعهد الجديد لا نرى أية إشارة تدل على أن الصوم فريضة ولا نجد تحديدا لزمن ومدة الصوم. ولكن، العهد الجديد مليء بالآيات التي تؤكد على أهمية وضرورة ومنفعة الصوم في حياة المؤمنين والسيد المسيح يذكر أنه “ستأتي أيام فيها يرفع العريس فحينئذ يصومون.” (20) وفي موقع آخر يؤكد المسيح على أهمية الصدقة والصلاة والصوم كعمل توبة وعودة إلى الله شرط أن يكون بخشية وتواضع وصدق ومحبة، وأن الله يكافئ المتصدقين والمحسنين والمصلين والصائمين الحقيقيين. وبالنسبة للصوم يطلب المسيح من الصائم أن يكون فرحا ومبتهجا وسعيدا وصادقا في صيامه وأن لا يتظاهر أو يتفاخر بصومه أو بعمل الخير أو بتعبده وبتوبته أمام الآخرين كما يفعل المراؤون: “وان صمتم فلا تعبسوا كالمرائين، فانهم يكلحون وجوههم ليظهر للناس انهم صائمون. الحق أقول لكم إنهم أخذوا أجرهم. أما أنت، فإذا صمت، فادهن رأسك واغسل وجهك، لكيلا يظهر للناس أنك صائم، بل لأبيك الذي في الخفية، وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك.” (21)
الصوم في المسيحية
كما ذكرت سابقا لا نجد في العهد الجديد أية إشارة على أن الصوم “فريضة” بل كل الآيات التي ذكرته تؤكد على ضرورته وأهميته في حياة المسيحيين.
وإذا نظرنا إلى تاريخ الكنيسة في القرون الثلاثة الأولى نجد أن الصوم الأربعيني لم يكن معروفا، والصوم الذي مورس دعي بالصوم الفصحي.
ولكن من كتابات عدد من مؤرخي الكنيسة، نفهم أن عادة الصوم كانت متبعة عند الموعوظين وهم الذين كانوا يستعدون للمعمودية المقدسة بسماع الوعظ والإرشاد والتعلم عن العقائد المسيحية وكان يستمر تحضيرهم لمدة ثلاث سنوات ومن بعدها يقضون خمسين يوما عند الأسقف للتعلم وللاستعداد لعمادهم حتى يوم سبت النور. وهناك إجماع على أن هؤلاء الموعوظين هم الذين بدأوا بالصوم لينقطعوا عن خبز الأرض استعداداً لقبول خبز السماء الذي هو كلمة الله. وكان الموعوظون الذين تعمدوا من قبل، يتضامنون بالصوم مع الذين يتحضرون للعماد فرحاً وابتهاجاً لدخولهم كنيسة المسيح. وهكذا انتشرت عادة الصوم ورتبتها الكنيسة فيما بعد، علما أن تقاليد الصوم تختلف من كنيسة الى كنيسة، واختلفت من مكان لآخر، ويوجد هناك أكثر من صوم في المسيحية حسب ما سنرى لاحقاً.
ومن الأهمية بمكان التنويه أولا إلى ما ذكره اسابيوس القيصري من مؤرخي القرن الرابع، في اختلاف المسيحيين في العصور الأولى حول اليوم الذي ينتهي به الصوم المقدس ويقول: “إن جميع أبرشيات آسيا اعتقدت – بناء على تقليد قديم – أن اليوم الرابع عشر القمري، وهو اليوم الذي أمر فيه اليهود أن يذبحوا خروف الفصح، هو الذي يجب أن يحفظ كعيد فصح مخلصنا. لذلك كان يجب أن ينتهي صومهم في ذلك اليوم، بغض النظر عن وقوعه في أي يوم من الأسبوع. ولكن لم تجر العادة في سائر كنائس العالم إنهاء الصوم في ذلك الوقت، لأنه جرت عادتهم، التي تسلموها من التقليد الرسولي، أن لا ينهوا صومهم في أي يوم آخر سوى يوم قيامة مخلصنا” (22) ويتابع أسابيوس قائلاً أن عددا من الأساقفة لم يقبل موقف رئيس كنيسة روما البابا فكتور الذي أراد أن يحرم كنائس آسيا بسبب موقفهم هذا، وكان من بينهم ايريناوس الذي بعث إليه برسالة يستشف منها أن الصوم كان يشمل الأيام الأخيرة من جمعة الآلام، ويقول: “إن النزاع ليس محصوراً في يوم الفصح فقط، بل يتعلق أيضاً بطريقة الصوم. فالبعض يظنون أنهم يجب أن يصوموا يوماً واحداً وغيرهم يومين وغيرهم أكثر… وهذا الاختلاف في حفظ الصوم لم ينشأ في أيامنا، بل في أيام آبائنا… ومع ذلك فقد عاش جميع هؤلاء بسلام… وعدم الاتفاق في الصوم يؤيد الاتفاق في الإيمان.” (23)
أما القديس ترتليانس يذكر أنه لا يعرف صوما فرضته الكنيسة غير يوم عيد الفصح، والفصح هنا يعني الجمعة العظيمة: “كانت كنيسة روما تصوم الصوم الكامل يومي الجمعة والسبت العظيمين” (24)، وذلك تبعاً لأمر الرب “ستأتي أيام يرفع فيها العريس عنهم، فحينئذ يصومون في تلك الأيام.” (25) وفي موقع آخر يذكر ترتليانوس: “كانوا يصومون بعض الصوم يوم الأربعاء والجمعة من كل أسبوع مكتفين بالخبز والماء فقط”.(26)
والقديس ديونيسيوس الاسكندري (+264) يقول أن “الصوم كان في كل أيام أسبوع الآلام.”(27) وفي كتاب “الديداسكالي” نقرأ: “الصوم هو من اليوم العاشر من القمر الذي هو الاثنين من الساعة التاسعة إلى الخميس تصومون ولا تتناولون سوى الخبز والملح والماء، والجمعة والسبت تنقطعون بتاتاً عن الطعام ولا تتناولون شيئاً”.(28) وفي مجلدات آباء الكنيسة نقرأ لديونيسيوس ايضا: “كان الصوم في الاسكندرية لا يتجاوز الأسبوع وهي عادة قديمة والاختلاف فيها كثير. فمنهم من صام يومين متواصلين ومنهم ثلاثة ومنهم أربعة ومنهم من إذا لم يصم الأربعة الأيام الأولى طوى يومي الجمعة والسبت العظيمين صائماً.”(29)
نستنج مما سبق انه حتى النصف الثاني من القرن الثالث لم يكن يمتد الصوم إلاّ إلى يومين أو إلى ستة أيام. أما في القرن الرابع نرى أن القانون الخامس من المجمع النيقاوي يتكلم أو يذكر “الأربعينية”: “يعقد المجمع المحلي قبل الأربعينية والثاني إبان فصل الخريف.” (30) وقد اختلف بعض المفسرين أو المؤرخين ومنهم “سلا قيل” “لكلمة الأربعينية” وقالوا إنها تشير إلى عيد الصعود كما تدل كلمة “الخمسينية” على عيد العنصرة أي بعد خمسين يوماً من القيامة. كما واعتبرت “الأربعينية” من البعض وقت استعداد للعماد او لحل التائبين. ولكن من المؤكد أن “الصوم” ذكر في مجمع نيقيا بحيث نجد ذكراً للصوم بعد المجمع عند عدد من آباء الكنيسة. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن القديس يوحنا الذهبي الفم (387م) يشير في مواعظه إلى الصوم الأربعيني. والقديس كيرلس الأورشليمي (348) يتكلم عن الصوم الأربعيني؛ والسائحة إيثريا (385 وَ 396) تتكلم عن الصوم الأربعيني أيضاً. أما في الاسكندرية فالقديس اثناسيوس ( 330) يخبرنا على أنه في كنيسة الاسكندرية “لم يكن إلاّ الصوم الفصحي، ثم أضيف إليه الصوم الأربعيني ولكن لم يلتزم به الكثيرون. ولكن بعد عام 340م أوعز اثناسيوس إلى الأساقفة أن يأمروا الكنائس بالصوم الأربعيني، ولم تتجاوز مدة الصوم ستة أسابيع”. (31) وفي روما نستنتج من روايات بعض الكتاب والمؤرخين أنه كان الصوم الأربعيني بشكل مؤكد في العام 340م، وأنه كانت مدة الصوم في روما في القرن الخامس ستة أسابيع ولم يصوموا يوم الأحد فقط. لذا كان عدد أيام الصوم عندهم ستة وثلاثون يوماً. ومن المؤكد أنه كانت أكثر الكنائس تصوم منذ القرن الخامس ستة وثلاثون يوماً ولا تبيح إلا بأكل وجبة واحدة في النهار؛ وبعد القرن السابع جعلوا الصوم أربعين يوما اقتداء بصوم المسيح.
مدة الصوم الأربعيني
1. كان الصوم في أنطاكية سبعة أسابيع، ستة أسابيع منها كانت الصوم الأربعيني وأسبوع عبارة عن صوم فصحي، وعدد أيام الصيام هو ستة وثلاثون يوماً. هذا ما نجده أيضا في كتابات يوحنا فم الذهب الذي يقول: “ها قد بلغنا إلى غاية الأربعينية وأتممنا سفر الصوم والحمدلله أدركنا المرفأ”؛ ويتابع قوله: “والآن وقد انتهينا إلى الجمعة العظيمة يجب أن نضاعف أماتاتنا وتقشفاتنا”. (34)
2. أما في القدس فكانت مدة الصوم ثمانية أسابيع أي أربعين يوماً، وذلك اقتداء بصيام المسيح وموسى وأيليا أعظم الأنبياء.
3. أما مدة الصوم في روما والاسكندرية كانت ستة أسابيع لا غير.
مما ذكر أعلاه، يظهر جلياً وجود اختلافات في الصوم، والتراث العربي المسيحي في العصور الوسطى يشهد أيضا على وجود هذه الاختلافات بين المسيحيين بالنسبة للصيام. اذكر على سبيل المثال ما ذُكر في كتاب “اجتماع الأمانة” لداوود الأرفادي: “وأما اختلافهم في الصلوات فإنما هو بزيادة ما يقرأ أو نقصانه ورتبة الأعياد وتبجيل الكنائس وتقديم أوقات الصلاة وتأخيرها وزيادة صوم بعضهم على بعض وما أشبه ذلك.” (35) وهذا الخلاف نجده في ساعات الصوم. ففي أنطاكية وحسب ما ورد في كتابات يوحنا الذهبي الفم، كانت تقدم وجبة واحدة في النهار وذلك عند المساء. وفي نصوص أخرى نجد أن الصوم كان حتى الثالثة بعد الظهر. وفي مصادر ثانية نقرأ أن الصوم كان بمثابة امتناع عن الطعام من مساء الخميس حتى فجر الأحد. وساويرس بن المقفع، يذكر في كتاب “مصباح العقل”: “صيامنا إلى تسع ساعات من النهار.”(36) وفي القدس يكتب القديس ابيفانيوس: “الصوم ينتهي عند المساء”.(37) ومن الأهمية بمكان أن نذكر هنا على أن الكنيسة القبطية تصوم أسبوعا كتحضير للصوم الأربعيني الذي يرمز إلى صوم المسيح؛ وبالإضافة تصوم أسبوع الآلام. والأقباط يصومون أكثر من 210 أيام خلال السنة ولا يسمح فيها تناول الطعام من شروق الشمس حتى غروبها. وبالنسبة لأصوام المسيحيين فمنذ العصور الوسطى معروف في الكنائس أكثر من صوم وما ذكر عنه ما زال مقبولا ومتعارفا عليه من غالبية الكنائس مع وجود بعض الاختلافات في التوقيت ومدة الصوم. وفي هذا الصدد يكتب ساويرس بن المقفع (ق 10م) في كتابه “مصباح العقل”: “وعلينا بعد هذه الأربعين يوماً صيام يومين في كل أسبوع وهما الأربعاء والجمعة ولا بد منها. أما سائر الأيام التي تصام فهي: صيام الرسل، والصيام في مدخل الميلاد والصيام الذي يصومه أهل المشرق ونسميه صيام البتول مريم ، وهو في خمسة عشر من مسرى، وصيام العذارى؛ وصيام نينوى.” (38) (39)
معنى الصوم
– الصوم ليس هدفا بل وسيلة للقيام بالصلاة على أفضل وجه: “فصاموا وصلّوا ثم وضعوا عليهما أيديهم وصرفوهما.” (40)
الصوم هو زهد حقيقي: “والزهد الحقيقي حالة نفس تلازم المرء وتلاحقه… وبكلمات ثانية: “ربما ينبغي أن لا نهتم كثيرا بالزهد كزهد، بل فلنمارس الصلاة والانفتاح للآخرين والمحبة، فيأتينا الزهد”.. (41)
– الصوم ليس مجرد طاعة أمر أو وصية، بل يجب أن يكون بدافع من رغبتنا الشخصية مع روح التواضع والفرح: “وإن صمتم فلا تعبسوا كالمرائين… أما أنت فإذا صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لكيلا يظهر للناس أنك صائم، بل لأبيك الذي في الخفية…”(42)
– الصوم هو الارتداد عن طريق الشر، وذلك ما حدث مع أهل نينوى عندما آمنوا وتابوا: “فآمن أهل نينوى بالله ونادوا بصوم ولبسوا مسوحا من كبيرهم إلى صغيرهم… فرأى الله أعمالهم وأنهم رجعوا عن طريقهم الشرير.”(43)
– الصوم هو دافع للحكم بالعدل، والحق، والرحمة، والرأفة، ومعاملة الأرملة، والبائس والمسكين. وهذا يؤكده لنا النبي زكريا بقوله: “حين كنتم تصومون وتفرحون في الشهر الخامس والسابع… هل كان صيامكم لي أنا؟ وحين تأكلون وتشربون ألا تأكلون لكم وتشربون لكم؟”… هكذا تكلم رب القوات قائلاً: “احكموا حكم الحق واصنعوا الرحمة والرأفة، كل إنسان إلى أخيه، لا تظلموا الأرملة واليتيم والنزيل والبائس… ولا تُغمروا شدا في قلوبكم، الأحد لأخيه،… فلم يسمعوا كلام الله فكان غضب عظيم…”. والراهب ابراهيم الطبراني في مجادلته اللاهوتية التي جرت بينه وبين الأمير عبد الرحمان بن عبد الملك الهاشمي في بيت المقدس، يقول: “والأمة الفاضلة هم الذين يدمنون الصيام، ويقيمون الصلاة، ويكثرون الصدقات، ويتلون آيات الحق بالليل والنهار، الباذلون أنفسهم وأموالهم، مع احتمال الضيم الشديد وسفك دمائهم في أنواع العذاب المختلف، حفظا لسيدهم وحبا له”.(44)
– الصوم هو عمل البر والاحسان، وهذا ما يذكره المطران شقور في رسالة الصوم الأربعيني: “إن الصوم لا يكتمل إلا بركيزتين هامتين اخريين: أولهما الصلاة والثانية الصدقة”.(45)
– الصوم توبة واستعداد لليوم الآخر، والنبي يوئيل يعرب عن هذا بقوله: “أوصوا بصوم مقدس… فإن يوم الرب قريب”. وفي آية ثانية يقول: “ارجعوا إلي بكل قلوبكم وبالصوم والبكاء والانتحاب… مزقوا قلوبكم لا ثيابكم وارجعوا إلى الرب إلهكم…”(46)
– الصوم ترويض للنفس وللجسد وأجمل ما ذكر في هذا الصدد هو قول اللاهوتي ساويرس بن المقفع: “علينا صيام الأربعين يوما نقيه من الخطايا والآثام، كما أمرنا الرسل بلا رفث ولا فسق، ولا غش، وأن نتجنب فيها الغضب والكذب والمكر والخديعة والحلف. فمن صام على غير ما ذكرنا، فقد قصَّر وأخطأ ولعله لم يصم.”(47)
وفي هذا الصدد يقول ايضا عيسى بن يحيى: “فأما الصوم فهو الامساك النفساني والجسماني بغير رياء ولا تظاهر به وهذا الإمساك النفساني هو أن يمسك الإنسان حواسه الخمس الباطنة الفكرية والذكرية والتخيلية والتمييزية والوهمية عما نهت عنه الشريعة وحذرت منه كتب البيعة.” (48) ويتابع عيسى بن يحيى قوله: “واعلم أن مقاصد الصوم كثيرة وأعظمها طهارة النفس والجسد. وثانيها لنتشبه فيه بالملائكة السمائيين الذين غذاؤهم التسبيح والتقديس. وثالثها كلما أحس الصائم بألم الجوع فيرحم الفقير الجائع ويذكره صومه به. ورابعها لنعبد الله به من جهة حيوانيتنا. وخامسها لنتشبه بسيدنا المسيح بصومه حسب طاقتنا وبصوم موسى وايليا وأمثالهما وفضائل الصوم لا تحصى ولا تستقصى.” (49)
– الصوم مع الصلاة مصدر للقوة الروحية التي تتغلب على الشر والشيطان وهذا ما علمنا إياه السيد المسيح بقوله: “هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم”(متى، 17، 21) . الصوم هو عبادة نتقرب من خلاله إلى الله ويقول أبو الفرج هبة الله المعروف بابن العسّال: “الدين هو على قسمين: الايمان والأعمال العباداتية… أما العبادات كالصوم والصلاة وغير ذلك مما نتقرب به اليه ونتشبه بملائكته فيه.” وفي المجادلة اللاهوتية التي جرت بين الأمير عبد الرحمان بن عبد الملك الهاشمي في بيت المقدس نحو سنة 820م مع الراهب ابراهيم الطبراني، يؤكد الراهب على أهمية الصوم ويقول للأمير:” لأن النبي كان، إذا أراد أن يفعل أمرا صام وصلى وتضرع وطلب وزاد في صلاته، وتشفع بعد ذلك.(50)
– الصوم هو بهدف مراقبة كلامنا ويساعدنا على الصمت والهدوء من أجل التأمل، وذلك بهدف إغناء عالمنا الداخلي؛ وهذا ما علمنا إياه السيد المسيح: “أقول لكم إن كل كلمة باطلة يقولها الناس يحاسبون عليها يوم الدينونة…”(51)
– الصوم هو مشاركة المؤمن في خبرة المسيح التي عاشها مجرّبا في البرية من الشيطان. لذا صومنا هو إدانة وتحدٍّ للشيطان وللخطيئة وللشر، وصمود وثبات في إيماننا القويم، وعدم ضعفنا أمام المغريات والشهوات والتجارب التي نتعرض إليها في حياتنا اليومية، جسدية كانت أم مادية. وكما ذكرنا سابقا لقد علمنا السيد المسيح إن التغلب على الشر والتجارب لا يمكن أن يتحقق إلا بالصلاة والصوم: “هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم.” وفي هذا الصدد يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: “لقد أشار ربنا أن الصوم مع الصلاة يخرج الشيطان. فسبيلنا أن ننهض من غفلتنا ونحافظ على الأصوام المَرضِيّة لإلهنا، لنفوز بنعيم ملكوته…” (52). ويقول أيضا في الصوم:
v إذا ابتدأت بالصوم في جهادك الروحي، فقد أظهرت كرهك للخطيئة، وصار النصر منك في منال الباع.
v الصوم بدء طريق الله المقدس، وصديق ملازم لكل الفضائل.
v الصوم مقدمة لكل الفضائل، بداية المعركة، تاج النصرانية، جمال البتولية، حفظ العفة، أبو الصلاة، نبع الهدوء، معلم السكوت، بشير الخير.
v بمجرد أن يبدأ الإنسان بالصوم، يتشوق العقل عِشرة الله. (53)
– الصوم ليس الامتناع عن الأكل أو معرفة ما هو مسموح وما هو ممنوع، بل هو جهاد روحي وبدون هذا الجهاد الروحي يصبح الصوم بلا معنى. يقول المطران شقور: “الصوم الحقيقي هو جهاد روحي للدخول في الباب الضيق الذي وحده يؤدي الى الخلاص”. (54) وثيودور ابو قرة (+825) في “ميمر في وجود الخالق والدين القويم” يقول: “كانت الأمم في نعيم طعام الدنيا وشربها وسكرها، فانقدتهم من ذلك والزمتهم الصيام الشديد والاقتصار على الخبز والماء.” (55) وساويرس بن المقفع يردد هو أيضاً ما قد قاله الآباء في معنى ومفهوم الصوم: “فاما الصائم عن الخبز والماء فقط فالمفطر خير منه؛ إذ لم يأت بشيء مما ذكرناه عن الصوم.” (56)
– الصوم ليس معاقبة الجسد بالجوع، ومن أجمل ما كتب في التراث العربي المسيحي عن هذا هو ما كتبه المطران سليمان الغزي (ق 10) في قصيدته التي اختار عنوانا لها:
“ليس الصيام عذاب الجسم بالجوع”(57)
ليس الصيام عذاب الجسم بالجـوع ولا كلامـا لذي جهـلٍ بمسمـوع
ولا رِفَاعَـك عمـا كنـت تـأكلـه قبل الرفـاع الى حيـن بمرفـوع
لكن صيامـك ترك الشـر، فأتركـه وأوصل الخير وصلا غير مقطوع
واكـرم النـاس اكـرامـا يبلِّغُهُـم منك المـرادَ، فهذا نعـمَ مرجـوع
لن يحصُـد المـرء الا مـا يقدمـه، ومِـن بِـذارك يبـدو كلُّ مزروع
الصوم صون حواس النفس من ضرر وليـس ما كان من ضَرٍّ بمنفـوع
– الصوم “هو دواء النفس للتخلص من الخطيئة”، والقديس باسيليوس الكبير يعبر عن أهمية وروحانية الصوم بالكلمات التالية: “بدأ الصوم في الفردوس عندما قال الرب لآدم: “لا تأكل من شجرة الخير والشر”. وقد طرد أبوينا الأولين بسبب عدم الصوم. فالصوم إذن هو الذي به ندخل إلى الملكوت. لا ترتجف ولا تخف من الصوم. ألا يحتاج جسدك إلى دواء؟ كذلك نفسك هي بحاجة أحيانا كثيرة إلى دواء. فالصوم هو دواء النفس للتخلص من الخطيئة… ولا دواء يشفي الإنسان من الخطيئة إلا التوبة والارتداد إلى الله. لكن يا ترى ما معنى التوبة دون صوم؟
إن الصوم دواء للنفس ودواء للجسد أيضاً… الامتناع عن الأكل فقط هو حط لكرامة الصوم. المطلوب ليس الامتناع بواسطة الفم بل بواسطة العيون والآذان والأيدي وكل الجسم. يا ترى، ما معنى أن ننقطع عن أكل اللحم ونحن لا ننقطع عن أكل لحم قريبنا بالنميمة والغيبة؟ وما معنى أن نصوم عن الأكل ونحن لا ننقطع عن الأفكار الرديئة والزنى والحقد والبغض؟ الصوم بالحقيقة هو الذي يلد الأنبياء، ويشد الرجال بالعزم. إحذر أن تصوم فقط عن اللحم وتفتكر أن هذا هو ما يطلب منك. إن الصوم الحقيقي هو الامتناع عن كل رذيلة. إنك ربما لا تأكل لحما لكنك تنهش أخال؛ إنك تمتنع عن شرب الخمر ولكنك لا تلجم الشهوات الحمراء التي تلتهب في نفسك: إنك تنتظر حتى المساء لتأكل بعد الصيام…
تأمل أخيرا في المسيح سيدك وربك، إنه صام لكي يعلمنا أن الصوم هو طريق الملكوت… إن الصوم هو جناح الصلاة لترتفع إلى السماء وتخترق إلى عرش الله… إن الفضيلة لا تستقيم إلا بالنسك لأن النسك يلم الشهوات… والفضيلة دوما قرنت النسك بالصوم… ولست أعني بالصوم ترك الطعام الضروري لأن هذا يؤدي إلى الموت. ولكن أعني ترك المأكل الذي يجلب لنا اللذة ويسبب تمرد الجسد. الصائم الحقيقي هو الذي يتغرب عن كل الآلام الجسدية حتى الطبيعية.” (58)
والقديس يوحنا الذهبي الفم ترك لنا إرثا روحيا غنيا عن الصوم ومعانيه وعن أهميته في حياة المؤمنين ويقول: “إن الصوم هو الإمساك عن جميع الرذائل والتمسك بجميع الفضائل بمنع النفس عن اللذات البدنية كالأطعمة والأشربة وسواها. وعلى ذلك قول الله لبني اسرائيل، إذ كانوا يظنون أن الصوم هو الامتناع عن الطعام حتى الليل فقط، ثم يقبلون على الطعام ياكلون ويشربون. فيبكتهم الله قائلاً: ها سبعون سنة مرت، ألعلكم صمتم لي فيها صوما، يا اسرائيل، وإن أكلتم وشربتم، أفلستم أنتم تأكلون وتشربون؟”
ليس الصوم أن يضع الإنسان نفسه ويحنى عنقه ويفترش له مِسحا ورمادا، بل أن تحل أغلال الاثم، وتقطع ربط الظلم، وتجانب المكر والغش، وتعيق المستعبدين، وتكسر خبزك للجائع، وتؤوي الغريب إلى بيتك، وتنصف الأيتام والأرامل، ولا تتغاضى عن لحمك ودمك. فإن تفعل ذلك، فيشرق نورك في الظلمة، ويظهر بِرك سريعا، وينفجر ضياؤك مثل الصبح، وتجمع كرامة الرب شملك… فإذا كان هذا قول الله لأولئك الذين مواعيدهم جسدية، فما عساه يقول لنا؟ وإذا كان لم ينظر إلى أصوامهم سحابة سبعين سنة لخلوها من هذه الفضائل، فكيف يبالي بأصوامنا؟ وإلى مثل هذه أشار ربنا، قال: إن الصوم مع الصلاة يخرج الشيطان. فسبيلنا أن ننهض من غفلتنا ونحافظ على الأصوام المرضية لإلهنا، لنفوز بنعيم ملكوته، الذي له المجد إلى الأبد. آمين.
لا تصوموا في الوقت الذي يصوم فيه المراؤون. إنهم يصومون في يومي الاثنين والخميس من الأسبوع. أما أنتم، فصوموا إما خمسة أيام، وإما يومي الأربعاء والجمعة: لأنه في يوم الأربعاء صدر الحكم على الرب، وقبض يهوذا ثمن الخيانة ليسلمه، وفي يوم الجمعة احتمل الرب آلام الصلب بأمر بيلاطس البنطي. وأقيموا العيد يومي السبت والأحد، لأن الأول ذكر للخلق والثاني للقيامة. يجب أن تحافظوا على سبت واحد في كل سنة، هو السبت الذي كان فيه الرب في القبر، فصوموا في هذا اليوم ولا تعيّدوا فاليوم الذي كان فيه الخالق تحت الثرى هو يوم بكاء ونواح، ولا يحسن فيه الابتهاج والعيد، لأن الخالق يفوق جميع خلائقه في الطبيعة والإكرام.
وصوموا أيضا أيام الفصح (أسبوع الآلام) مبتدئين من الاثنين إلى التهيئة والسبت، ستة أيام تستعملون أثناءها الخبز والملح والبقول والماء للشرب. وامتنعوا عن الخمر واللحوم في تلك الأيام لأنها أيام حزن وليست أعيادا. صوموا يومي الجمعة والسبت معا، من استطاع. لا تأكلوا شيئا حتى صياح الديك في الليل، وإذا لم يستطع أحد أن يصوم اليومين معا فليحافظ أقله على السبت لأن الرب يقول عن نفسه في موضع: متى يرفع العروس عنهم فحينئذ يصومون في تلك الأيام.” (59)
– الصوم هو الابتعاد عن الشر بهدف تنقية وتطهير الجسد والنفس ،ويقول في هذا واحد من آباء الكنيسة السريانية أفراهات الحكيم الفارسي (+345) التالي: “صام موسى صوما نقيا يوم صعد إلى الجبل… صام مرتين أربعين يوما، فاشتد ونال مجدا عظيما، فسطع وجهه وأبعد الغضب عن شعبه. صام إيليا، الرجل القوي، يوم طاردته ايزابيل، ثم بلغ جبل حوريب بعد أربعين يوما من الصوم. ولقد سُر إيليا بتجلي ربه في أثناء صومه الكامل. إن الصوم عن المآثم كان أبدا الأفضل. إنه أفضل من الصوم عن الخبز والماء… الصلاة واجب وأعمالها جميلة. والصلاة مقبولة عندما تجلب الراحة، تستجاب هي عندما تشمل الغفران. محبوبة هي إذ تخلو من كل غش، قوية هي إذ تسكن فيها قدرة الله…”(60)
– الصوم هو طريق الى خلاص النفس ومفتاح ملكوت الله. والقديس أنطونيوس الكبير يعبر عن هذه الرؤية بكلمات ذات معنى روحي عميق ويقول: “ابغضوا العالم وكل ما في العالم، امقتوا كل راحة جسدية. ازهدوا في هذه الحياة لتحيوا لله… كابدوا الجوع والعطش والعري والاسهار… امتحنوا أنفسكم هل أنتم أهل لله… تهاونوا بأجسادكم لتخلصوا نفوسكم”.(61)
– ومار أفرام السرياني (أواخر القرن السابع) في واحد من أناشيده يؤكد للصائم الذي يتقشف ويصلي أنه سيكافأ على عمله عند ربه وسيجلس إلى مائدة الملكوت الأبدية عوضاً من الجلوس إلى موائد الأرض وينشد قائلا:
وكــان صومهــم حلـــــــمٌ
واستيقظوا كما من نوم فوجدوا الفردوس
مائــدة الملكــوت مبسوطة أمامهـم(62)
ومن أقوال مار اسحق السرياني: (63)
v حين ينحل الجسد بالأصوام والإماتة، تتشدد النفس بالصلاة
v الجوع أكبر معين على تهذيب الحواس
v كل كفاح للخطيئة وشهواتها يجب ان يبتدئ بالصوم، خصوصا اذا كان الجهاد يتناول خطيئة داخلية
– وفي الصوم يقول غبطة البطريرك كيرلس الثامن في منشوره البطريركي: “الصيام الأربعيني المقدس هو زمن المراحم والنعم ووقت الامانة والتكفير”…، “إن الصوم يسهل لنا اقتصاص آثاره (المسيح) وممارسة فضائله فهو إذن مقدس ثم أنه مفيد لأن صوم الجسد يساعد صوم القلب أي نقاوته من الرغائب الفاسدة وصيانته في الطهارة والتوبة والمحبة وخلوه من الحسد والبغض وكل الشرور والأباطيل…” (64)
– والبابا بندكتوس السادس عشر يركز على أهمية الصوم في تجديدنا الروحي وعلى أنه ضرورة لا غنى عنها لتجسيد إيماننا في حياتنا اليومية قائلاً: “إن الهدف من الصوم الكبير هو أن يبقى حيّاً في ضمائرنا وحياتنا المبدأ القائل بأنه “أن أكون مسيحياً لا يمكن إلا أن تعني أن “أصير” مسيحياً في تجدد مستمر؛ فهذا الواقع ليس أمراً منتهياً أو من المسلّمات بل مسيرة تفترض ممارسة مستمرة.”(65)
إننا نستنتج مما ورد من قول آباء الكنيسة ومن أدبيات عدد من اللاهوتيين العرب ومن تعاليم الكنيسة أن هناك صوم مقبول عند الله وصوم غير مقبول وهذا ما يؤكده أيضا الكتاب المقدس. وأجمل وصف للصوم المقبول وغير المقبول هو للنبي أشعيا حيث يقول أن الصوم المقبول عند الله هو:
“إن صمتم فلا تعبسوا”
أليس الصوم الذي فضلته هو هذا:
حل قيود الشر وفك ربط النير
وإطلاق المسحوقين أحرارا
وتحطيم كل نير؟
أليس هو أن تكسر لجائع خبزك
وان تدخل البائسين المطرودين بيتك
وإذا رأيت العريان ان تكسوه
وأن لا تتوارى عن لحمك؟
حينئذ يبزغ كالفجر نورك
ويندب جرحك سريعا
ويسير برك أمامك
ومجد الرب يجمع شملك” (66)
أما صوم المرائين، فهو صوم كاذب وغير مقبول، لانه ليس نتيجة تقوى وقناعة داخلية بل هو من أجل المظاهر والتفاخر، أو من أجل القيام بقشور الصوم والابتعاد عن معناه المقدس الذي يريده الله من خليقته. وهذا الصوم غير المقبول يحدده النبي أشعيا بهذه الكلمات:
ما بالنا صمنا وأنت لم تر وعذبنا أنفسنا وانت لم تعلم؟
في يوم صومكم تجدون مرامكم وتعاملون بقسوة جميع عُمالكم
انكم للخصومة والمشاجرة تصومون ولتضربوا بلكمة الشر
لا تصوموا كاليوم لتسمعوا أصواتكم في العلاء
أهكذا يكون الصوم الذي فضلته اليوم الذي فيه يُعذّب الانسان نفسه
إذا حنى رأسه كالقصب وافترش المِسح والرماد
تسمي ذلك صوما ويوما مرضيا للرب؟ (67)
إذن، الصوم هو موسم جهاد روحي تتجدد فيه علاقة المؤمن بربه وتقوى، ويتحرر فيه من خطاياه لأنه عمل جهادي من أجل التوبة وطلب المغفرة والعودة الى الله. الصوم الذي يقترن بالصلاة دوما هو ولادة جديدة للمؤمن يهدف إلى إنجاب إنسان جديد، إنسان القيامة. وكم من أبرار حسن صومهم لله فصامت عنهم التجارب، “فدانيال النبي ورفاقه الفتيان الثلاثة صاموا لله في بابل من أعماق قلوبهم يأكلون القطاني ويشربون الماء فقط ولم يتنجسوا بطعام الملك وخمر شرابه”(68)….. لذا صامت نار الأتون البابلي عن التهام الفتيان الثلاثة وصامت الأسود عن افتراس دانيال، لان رائحة صومهم انطادت صعدا إلى العلاء بخوار لله نقيا مرضيا، ما حدا الرسول أن يشيد ببطولتهم قائلا: “سدوا أفواه الأسود وأطفأوا حدة النار.”(69)
الصوم هو زمن الصمت والتأمل والصلاة وقراءة الكتاب المقدس وسيرة الآباء والقديسين وما تعلمه الكنيسة. زمن الصوم هو زمن التواضع والطاعة والإصغاء إلى كلام الله وإلى كلام القريب. الصوم هو زمن الرحمة والمحبة، زمن التقرب من البائسين والفقراء والمهمشين ومساعدتهم وتكريمهم والقيام بالأعمال الصالحة. لذا، في هذا الموسم بخاصة، علينا أن نتذكر دائما عندما نردد في الصلاة الربانية “أعطنا خبزنا كفاف يومنا”، ان لا نهتم بشأن الغد وأن نفكر أن الخبز الزائد هو للفقراء والجائعين، لأن التصدق على البائسين مستحبا عند الله بشكل عام، فكم بالحري في أيام الصيام المقدسة التي تعتبر ميدانا للتباري في الصدقات وعمل المكرمات. “إن الصوم عن الخبز والماء فقط يعتبر صوما صغيرا ولكنه عظيما إذا تخللته الصدقات”.الصوم محطة في حياة المؤمن للصلاة وللتأمل ولتصفية القلب والضمير.
لذا، اعتقد أن الصائم وبقوة الصلاة وحده قادر على تذوق روحانية الصوم وسموها ووحده قادر أن يقترب أكثر من غيره من المسيح الذي كلما اقتربنا منه عرفناه أكثر، ومعرفتنا له ولتعاليمه تقودنا اليه سائرين في الطريق التي رسمها لنا وحثنا على السير فيها حتى لا نعثر ولا نضعف أمام الشر والخطيئة، بل نبقى صامدين ثابتين في إيماننا مجسدين تعاليمه في حياتنا حتى يكون راضياً عنا وحتى نحصل على الملكوت السماوي الذي وعد به المؤمنين الصالحين الحافظين لتعاليمه ووصاياه. فالصوم نزهة روحية، نجدد فيها الإيمان والرجاء والمحبة وهي طريق العودة الى حضن أبينا الذي في السماوات.فالصوم والصلاة جناحا الإيمان، بهما يحلق المؤمن إلى السماء.
وأجمل ما أنهي به هذه المقالة صلاة القديس أفرام السرياني التي نرددها أيام الصوم المبارك:
“أيها الرب وسيد حياتي اعتقني من روح البطالة والفضول، وحب الرئاسة والكلام البطال، وأنعم علي أنا عبدك الخاطئ، بروح العفة واتضاع الفكر والصبر والمحبة. نعم يا ملكي والهي هب لي أن أعرف ذنوبي وعيوبي، وألاّ أدين اخوتي فانك مبارك إلى الأبد آمين”.
المراجع
1. العدد، 29، 7
2. الأحبار، 16، 29-31
3. الأحبار، 23، 26-32
4. عزرا، 8، 21
5. مزمور، 35، 13
6. 2 صومائيل، 12، 22
7. عزرا، 8، 21؛ مز، 35، 13، يهوديت، 8، 6؛ لوقا، 2، 36-38
8. خروج، 34، 28
9. 1 ملوك، 19، 8
10. زكريا، 7، 9-14
11. أشعيا، 59، 1-3
12. ارميا، 15، 11
13. متى 17، 21
14. لو 2، 36-38
15. متى، 4، 17
16. أعمال الرسل، 13، 2-3
17. أعمال الرسل، 14، 23
18. قو، 6، 4-5
19. قو، 11، 27
20. متى، 9، 14-15
21. متى، 6، 16-18
22. أسابيوس القيصري؛ تاريخ الكنيسة؛ ترجمة القمص مرقس داود؛ ط2، 1979، مكتبة المحبة، مصر؛ الكتاب الخامس، فصل 23، ص 275-276
23. المرجع نفسه؛ ص 278
24. مجلة المسرة، 2، 1911، ص 777؛ نصر الله، نصر الله، مجلة المشرق، 30، ص 16-17
25. لوقا، 5، 35
26. نصر الله، مجلة المشرق، 30، مصدر سابق، ص 17
27. Patr. Gr. T. X, col. I, 277
28. شميمن، الكسندر؛ الصوم الكبير مع شرح صلوات أسبوع الآلام، المنشورات الارثوذكسية، دار الكلمة، الطبعة الثانية، 1986، ص 127-128
29. Patr. Gr. T. X, col. I, 255
30. نصر الله، نصر الله، الصوم الأربعيني في القرن الرابع، في: مجلة المشرق، 30، ص 17-21
31. المصدر نفسه، ص143
32. ابن خلدون، كتاب التاريخ ،ج 2،ص 47؛ القلقشندي ؛المسعودي، التنبيه والإشراف، جـ1؛ تاريخ ابن الوردي
33. رسالة الهاشمي الى الكندي ورسالة الكندي الى الهاشمي، ص 11
34. نصر الله، الصوم الأربعيني، مصدر سابق، ص 139-140
35. الأرفادي، داوود، كتاب اجتماع الأمانة وعنصر الديانة وفخر الارثوذكسية المجيدة، تحقيق جيرارد تروبو، ص 19
36. ساويرس بن المقفع، كتاب مصباح العقل، تقديم الأب سمير خليل، التراث العربي المسيحي (1)، القاهرة، 1978؛ ص 80
37. نصر الله، نصر الله، مجلة المشرق؛ 30، ص 219-220
38. ساويرس بن المقفع، مصباح العقل، مصدر سابق، ص 79-80
39. صوم نينوى: ما هو صيام نينوى (الباعوثة) وما هي فترته ومتى؟
v قبل حلول الصوم الكبير بثلاثة أسابيع
v هو اشارة الى توبة أهل نينوى بالصلاة والصيام وخلاصهم.
v مدته ثلاثة أيام: من الاثنين الى الأربعاء.
v سمي بالباعوثة (كلمة سريانية)، ومعناها الطلبة والدعاء.
v كل الطوائف في الكنائس الشرقية عرفت صيام نينوى إلا الروم الملكيين.
v لماذا هذا الصوم:
· كان يعتقد انه اشارة الى صيام وتوبة أهل نينوى وصلواتهم التي كانت سببا في خلاصهم.
· في كتاب المكتبة الشرقية للسمعاني نقرأ:
· “تشاجر قوم مع أبي العباس الفضل بن سليمان في أمر صوم نينوى… فكتب هذا الى يوحنا الجاثليق وسأله عن هذا الصوم. وكان الجواب من يوحنا كالتالي:
“انه حدث في بلاد باجرمي (اليوم في منطقة كركوك) موت جارف… وكان أسقفهم يسمى سبر يشوع… فجمع رعيته لإقامة الباعوث وقال لهم: “ان كان الله قد سمع ورحم أهل نينوى… فأحرى ان يرحمنا ونحن شعبه ونحن نؤمن بمسيحه وروحه… فاجتمع أهل باجرمي وعملوا الباعوث على أحسن ما يكون فدفع الله ذلك الموت الجارف عنهم… وهكذا بدأ هذا الصوم كفريضة أي صوم (الفريضة) لا صوم (نينوى).”
40. أعمال الرسل، 13، 3
41. نصر الله، مصدر سابق
42. متى، 6، 16-17
43. يونان، الفصل الثالث
44. زكريا، 7، 9-14؛ مجالس إبراهيم الطبراني، مجادلة لاهوتية جرت مع الأمير عبد الرحمن بن عبد الملك الهاشمي في بيت المقدس نحو سنة 820م؛ تقديم المطران د. بولس مارقوتسو، روما، 1986، ص 285
45. المطران د. الياس شقور (متروبوليت عكا وحيفا والناصرة وسائر الجليل)؛ رسالة الصوم، 2007
46. يوئيل، 1، 14-15؛ 2، 12-13
47. ساويرس بن المقفع، مصباح العقل، مصدر سابق، ص 76
48. شيخو، لويس؛ مقالات دينية قديمة لبعض مشاهير الكتبة النصارى؛ المطبعة الكاثوليكية، 1906، ص 116
49. المصدر نفسه، ص 117
50. ابن العسال، أبو الفرج هبة الله، مقالة في أقسام الدين، ص 110؛ مجالس إبراهيم الطبراني، مجادلة لاهوتية جرت مع الأمير عبد الرحمن بن عبد الملك الهاشمي في بيت المقدس نحو سنة 820م ، تقديم المطران د. بولس مارقوتسو، روما، 1986، ص 387
51. متى، 12، 36
52. يوحنا الذهبي الفم
53. المصدر نفسه
54. المطران شقور، رسالة الصوم 2007
55. أبو قرّة، ثيودور، ميمر في وجود الخالق والدين القديم، تحقيق الأب د. اغناطيوس ديك، سلسلة التراث العربي المسيحي، رقم 3، المطبعة البولسية، جونيه، 1982، ص 266
56. ساويرس بن المقفع، مصباح العقل، مصدر سابق، ص 77
57. سليمان الغزي؛ شاعر وكاتب مسيحي ملكي (ق 10-11)؛ تحقيق وتقديم المطران ناوفيطوس أدلبي؛ الجزء الثاني؛ سلسلة التراث العربي المسيحي، رقم 8؛ المطبعة البولسية – جونيه، 1985، ص 67-69
58. القديس باسيليوس الكبير؛ للأب الياس كوتير، المطبعة البولسية – جونيه، 1989، ص 288-290
59. يوحنا الذهبي الفم؛ للأب الياس كوتير؛ المطبعة البولسية – جونيه، 1988، ص 143
60. أفراهات الحكيم الفارسي، قراءات زمن الصوم، ص 629.
من هو أفراهات الحكيم الفارسي:-
أفراهات الحكيم الفارسي أحد آباء الكنيسة السريانية، إنه علم من أعلام الكنيسة السريانية المشعة في القرن الرابع الميلادي التي أغنت الحياة النسكية والرهبانية بفكرها اللاهوتي والروحي وهي لم تكن بعد قد تأثرت بتيارات ثقافية أخرى كالحضارة اليونانية تحديدا.وقد أشار قداسة البابا بندكتس السادس عشر في واحد من دروس الأربعاء (22/11/2007) إلى أن أصل أفراهات من منطقة سهل نينوى الموصل في العراق الحالي وكان رئيسا على أحد الأديار كما تشير بعض المصادر. وقد كتب خلال أسقفيته ثلاثة وعشرين خطابا بأسلوب بسيط وسهل عرفت بالمقالات او بالبيانات وتمحورت حول مواضيع الحياة المسيحية كالصلاة والايمان والصوم والمحبة والتواضع والحياة النسكية والروابط بين اليهودية والمسيحية وكذلك بين العهد القديم والجديد. وكان ينتمي الى جماعة مسيحية عرفت بمحافظتها على التقاليد اليهودية المسيحية المرتبطة بكنيسة أورشليم.
61. القديس انطونيوس الكبير، رقم 6، منشورات النور 1983، ص 181
62. مار افرام السرياني، منظومة الفردوس، الكسليك، 1980، ص 24-25
63. مار افرام السرياني، قراءات زمن الصوم
64. المنشور البطريركي في الصوم للبطريرك كيرللس الثامن الصادر في 10شباط 1911؛ المسرة، ص 586-587
65. قداسة البابا بندكتس السادس عشر؛ تأمل في الصوم، 16 شباط 2008؛ (انظر zenith.org)
66. اشعيا، 58، 6-8
67. اشعيا، 58، 3-5
68. دانيال، 1، 8-16
69. عبرانيين، 11، 33-34