الكنيسة تعلمنا أن نبكي كل يوم
والكنيسة تعلمنا أن نبكي، في كل يوم..
فكل مِنّا يقف ليصلي في الهجعة الثانية من صلاة نصف الليل في كل يوم ليقول: “أعطني يا رب ينابيع دموع كثيرة، كما أعطيت منذ القديم للمرأة الخاطئة..”. وتعطينا الكنيسة فصل الإنجيل الخاص بهذه المرأة التي بلّت قدمي المسيح بدموعها ومسحتهما بشعر رأسها (لو 7: 36-50)، لكي نقرأه، ونتخذ هذه المرأة مثالا لنا في البكاء على الخطية “لكي نقتني لنا عمرا نقيا بالتوبة”.
فإن صليت هذه الصلاة في نصف الليل، قل: “أعطني يا رب ينابيع دموع كثيرة، لأبكي على كذا وكذا..”، واذكر أمام الله كل خطاياك وضعفاتك ونقائصك وسقوطك.. وليتك تذكرها بدموع قدامه.
تقول: ولماذا أذكرها، وقد غفرها المسيح..؟
هنا، ويناسبنا جدا أن نتذكر قول القديس العظيم الأنبا أنطونيوس: “إن ذكرنا خطايانا، ينساها لنا الله، وإن نسينا خطايانا، يذكرها لنا الله.” نعم اذكر خطاياك لكي تعرف ضعفك فتحترس وتدقق في حياتك. واذكرها لكي تعرف كم غفر الله لك، وكم حمل عنك على الصليب، فتحبه. وتكون دموعك علامة حب، كما كانت دموع المرأة الخاطئة.
القلب الرقيق هو الذي يبكي. أما القلب القاسي فلا يبكي.
فليكن قلبك رقيقا في توبتك. وليكن بُكاؤك نوعا من الاعتذار تقدمه للرب الذي أخطأت إليه، وليكن بُكأوك دليلًا على خجلك مما فعلت. وثِق أن الذي يبكي على خطاياه، لا يرجع إليها بسهولة مرة أخرى. لأنه ذاق مقدار الألم الذي تجلبه الخطيئة للقلب وللضمير..
والله يدعونا إلى بكاء التوبة هذا..
فيقول في سفر يوئيل النبي: “ارجعوا إلىّ بكل قلوبكم، وبالصوم والبكاء والنوح. ومزقوا قلوبكم لا ثيابكم، وارجعوا إلى الرب إلهكم..” (يوء 2: 12، 13). ويقول في سفر ملاخي النبي: “مغطين مذبح الرب بالدموع بالبكاء والصراخ” (ملا 2: 13). كما يقول أيضا: “طوباكم أيها الباكون الآن” (لو 6: 21)، “طوبى للحزانى، لأنهم يتعزون” (متى 5: 4).
ابكِ إذن على خطيئتك. وحينئذ سيُعزيك قول المزمور: “الرب سمع صوت بُكائي.. الرب لصلاتي سمع” (مز 6). قال داود هذا بعد قوله “بدموعي أبّل فراشي”.. إن الدموع علامة للتوبة، ولها استجابة عند الرب. لها صوت يسمعه الرب، فيحن قلبه. وما أجمل قول المرتل: “الذين يزرعون بالدموع، يحصدون بالابتهاج” (مز 126: 5). هذا الابتهاج هو التعزية التي يحصدها الإنسان من دموعه.
ولكن احذر من أن تكون دموعك مُصطنعة، أو أن تكون سببا للبِر الذاتي، بدلا من أن تكون دموعك سببًا لانسحاق القلب، أو نتيجة له، أو علامة على التوبة. وعلى رأى أحد القديسين: “إذا أتتك الدموع، فتذكر السبب الذي من أجله جاءت”. أي تذكر خطيئتك التي سببت لك الدموع. حينئذ لا ترتفع بدموعك بل تنسحق..
ولكن ربما يقول أحدهم: “ومن أين لي الدموع؟ وهل إذا لم أبكِ لا أكون تائبًا، أو لا يقبل الله توبتي”. كلا، يقبلك الله. ولكن ابحث لماذا هربت منك الدموع.
إن للدموع أسبابا تجلبها، وأسبابا تمنعها.
ولعل السبب الأول هو نوعية القلب. فالقلب الرقيق بطبعه، يكون سهل التأثر وسهل البكاء، مثل قلب إرمياء النبي ومثل قلب داود.. وهناك قلوب أخرى ليس من السهل أن تبكي. وإن بكت، فلابد أن يكون هناك سبب دفعها إلى البكاء كان أقوى من مقاومة طبعها. ويكون تأثرها أكثر.
رقة القلب إذن تجلب الدموع. وتمنعها القسوة والعنف.
إذن اسع إلى هذه الرقة في حياتك، وابعد عن العنف. واعرف أن القسوة لا تتفق مُطلقًا مع حياة التوبة. فالتائب إنسان يترجى مراحم الله. والكتاب يقول: “طوبى للرحماء فإنهم يرحمون” (متى 5: 7). فعليه إذن أن يكون رحيمًا، لكي يعامله الله بنفس الرحمة. لأنه يقول: “بالكيل الذي به تكيلون، يكال لكم”(متى 7: 2).
وإدانة الآخرين أيضا تمنع الدموع.
لأن الذي يدين غيره، لا يكون منشغلا بخطاياه، وإنما بخطايا الآخرين. ويكون ناسيًا ضعفاته وسقطاته، ومُركِّزا على ضعفات غيره، فكيف يبكي مثل هذا؟ وعلى من؟ ويزداد مثل هذا بُعدا عن الدموع، إن كانت إدانته لغيره فيها قسوة أو عنف أو تَجّنِ، أو كان شديدًا في توبيخ غيره على أخطائه.
ومن الأسباب التي تمنع الدموع: الغضب.
فالمفروض أن يغضب الإنسان التائب على نفسه وليس على غيره. فإن غضب على غيره، تتركز كل عواطفه وأفكاره في أخطاء غيره. وحينئذ تُفَارِقَهُ الدموع حتى إن كانت له من قَبْل. وفي الغضب أيضا قسوة وعنف..
ومن الأشياء التي تمنع الدموع أيضًا: المتعة واللذّة.
فالذي يحيا في رفاهية ومتعة، في ملاذ العالم المتنوعة، من الصعب أن تأتيه الدموع. وعموما أمثال هذه الأمور لا تتفق مع حياة التوبة، التي يُضَيِّقْ فيها الإنسان على نفسه، ويُعاقب ذاته، ويحرمها من كثير من المُتع، ويَفرض عليها أصوامًا..
ولهذا كانت التوبة عند كثيرين مصحوبة بالصوم والمسوح والتذلل وأشباهها، كما في الصوم أيام يوئيل، وكما في صوم نينوى. وهذه تتفق مع التوبة ومع الدموع.
وطبعا مما يُبْعِدْ عن الدموع: الضحك والفرح
حقًا إنَّ لكل شيء تحت السموات وقت “لِلْبُكَاءِ وَقْتٌ وَلِلضِّحْكِ وَقْتٌ” (جا 4:3). ولكن الضحك والمزاح ليس هو زمان التوبة ولا وقتها. وحياة اللهو والتهكم والفرح ومباهج الدنيا المختلفة.. كل هذه لا تتفق مع الدموع، بل تعوقها، لأنَّ الذي يبكي على خطاياه، هو إنسان يعصره الحزن على سقطاته..
ومن الأشياء التي تجلب الدموع، الشعور بغربة العالم.
شعور الإنسان إنَّه غريب على الأرض، لا يصح أنْ يضع آماله فيها. بل على العكس عليه أنْ يزهد العالم وكل ما فيه، ويستعد لأبديته.. كل ذلك يساعد على الدموع.
وهكذا تذكار الموت والدينونة والعالم الآخر.
كل ذلك يجلب الدموع. ولذلك وضعت لنا الكنيسة أنْ نتذكر الموت في صلاة النوم، ونتذكر مجيء المسيح الثاني في صلاة نصف الليل، ونتذكر في كليهما وفي صلاة الستار أيضًا الدينونة العتيدة أنْ تكون.. وهذا كل يوم.. لأنَّ كل هذه التذكارات نافعة لنا، تساعدنا على التوبة والاستعداد، كما أنَّها تجلب الدموع. وهكذا كانت زيارة القبور تجلب الدموع أيضًا، إذ فيها يقول التائب مع داود النبي “عَرِّفْنِي يَا رَبُّ نِهَايَتِي وَمِقْدَارَ أَيَّامِي كَمْ هِيَ فَأَعْلَمَ كَيْفَ أَنَا زَائِلٌ” (مز 4:39).
كذلك حياة الاتضاع والانسحاق تساعد على الدموع.
بينما الكبرياء والعظمة ومحبة المديح.. كل هذه لا تتفق مع مشاعر التوبة، ولا تتفق مع الدموع.
ولهذا يحسن أنْ ننتقل إلى هذه النقطة من علامات التوبة.