أيقونة الإبن الشاطر
الأيقونة من محفوظات أبرشيّة قبرص المارونيّة
شرح وتأمل روحي للأيقونة:
محظوظين بالربّ
في غفلةٍ من الزمن، كلّنا كنّا قد مررنا بعمر التفتّح ورغِبنا بالإبتعاد عن والدينا لتثبيت هويتنا المتحرّرة وتأكيد إستقلاليّتنا بعد أن كنّا نتحرّك ونعيش في ظلّ جناحيهما.
نغامر، نسافر بأحلامنا، نختبر، ونشعر بامتلاكنا الدنيا ولا أحد سوانا إلى حين وقوعنا في أوّل فخًّ، ثمّ تتتالى الأفخاخ وتكثر المطبّات، فنجد أنفسنا عراة أمام الجميع، محطّمين وما من أحدٍ يترأف أو يتحرّك حشاه تجاهنا لِيَسترنا ويأخذ بيدنا من على الأرض. عندها، و كوميض الشمس، تسطع صورة ذاك الوجه المنتظرِ الّذي رآنا نغادر وفي قلبه غصّة، ولم يودّعنا متأكّدًا من عودتنا، وتتكشّف لنا تلك العلاقة الإيجابية الجميلة، التي نمت على الحبّ الأصيل، فتنضج بلحظات وتردّنا إلى الحضن الّذي لطالما غمرنا.
قصّتنا البشرية هذه، هي انعكاسٌ لمسيرتنا مع الله، فيض الحبّ والغفران.
أنا الإبن الشاطر
كبرتُ على الطفولة وأخذت شخصيتي وجسدي بالنموّ، وبدأت رغبتي تهمس في أذن نفسي:” حاجتك الوحيدة هي أن تتحرّري من كلّ أشكال الخضوع، لقد نضج فيك الفكر وبدأت تكبرين. بتّ قادرةً أن تكوني سيّدة نفسك وجديرةً باتّخاذ خياراتك الشخصية من دون أيّ تدخّل من أحدٍ، حتّى “من الله”: له وقته ولكِ وقتك!…
وكالرمل المُنسلِّ من بين الأصابع تنسال حرّيتي منّي دون أن أدري وأصبح عبد تلك الهمسات الرغائبيّة حتّى أعود لا أرى أبعد من جدران سجني وينحجب النور عنّي شيئًا فشيئًا إلى أن أقع في بؤرة “الخنازير” بكلّ قرفها، ومن فَقرِ روحي أُضْطرّ لأن آكل معها كلّ نفايات العالم. وللأسف، حتى في لحظةِ أتّخاذي قرار العودة، أعكس بشريّة تفكيري على طريقة استقبال من ينتظرني، أبي، وأبحث عن طرقٍ شتّى أظهر له فيها مدى توبتي فأختار العبودية لأسدّد ما له عليَّ من ديون، أعني ديون قسوتي وانفصالي عنه بسلوكي طرقًا خطرة، ولكنّي بذلك أكون أكسر حلقة الحبّ الحقيقي بينه وبيني بجهلي.
أنا الإبن الأكبر
فغالبًا ما أتشبّث بسجلّ حساباتي وأتصرّف مع محبّة أبي السماوي لي على أساس البيع والشراء. أبيعه أعمال خيرٍ وصلوات وتقويّات كي يبادلني “التوفيق في الحياة والنجاح واعتلاء المناصب والمراتب وغيرها. ألتصق بجدران الكنائس وأمضي فيها الساعات، لكنّي لا أدرك مفهوم علاقتي بالآب وأجهل أن حبّي له لم ينضج بعد بل ما زال جنينًا، وأنّه لا يُقاس بترداد الكلمات بل بعيشها، كما وأجهل أن حبّه المقرون بالرحمة، شاملٌ كاملٌ لا عيب فيه، حبٌ لا يعرف الحقد ولا التهميش، حبٌ ينتظر عودة كلّ من ضلّ الطريق صوبه، فكيف لي أن أرفض كائنًا من كان، أن يعود إلى البيت الّذي خرج منه وهناك أبٌ يتلهّف لاحتضانه؟ كيف لي أن أثور وأغضب وأنا لكنت بائسًا يائسًا لولا عطف الله عليّ ورأفته بي؟
حقًا إنّني ما زلت أعمى البصيرة عن علاقة الحبّ والثقة الّتي خصّنا بها الله.
الأب
قلب الأب لا يقدر إلاّ أن يحبّ ويغفر ويسامح. لا يستطيع إلاّ أن يرمّم ما انكسر من حبّ في قلب أي ابنٍ له، أكان “شاطرًا متمرّدًا” أم ” مقيمًا حاسدًا منافقًا”، لأنّ الحبّ في عينيه لا يخضع لأيّ حساب، ولا يعرف إلاّ الغفران حتّى الثمالة، حتّى الصليب، ولا يعرف المشاركة تحت قوانين العالم بل بقانون الثقة ولامحدوديّة الحبّ:” كلّ ما هو لي هو لك”(15:31). إنّه لا يفيض سوى بالفرح الغامر:” كان ضالاً فوُجِد”، ولا ينبض سوى بالحياة:” أخوك هذا كان ميتًا وعاش”.
إنّنا محظوظين بأنّ الله هو إلهنا الوحيد الحقيقي، الأمين على وعوده لنا، والمعطي دون حسابٍ حتّى ذاته. وحده الّذي لا يملّ من البحث بشغفٍ وحبّ عنّا وانتظار عودتنا إليه. بفعل مغفرته لنا كل إساءاتنا مهما بلغت ذروتها وتنبُّهِنا بأنّنا محبوبين، ندخل بعلاقة بنوّةٍ حقيقية معه: أنْكَبَبْتُ على رجليه أم لا، لا يهمّ؛ المهمّ أن أغوص في أعماق نفسي حيث أجده، أصمت، لا أدين بفكري، أنظر في الآخر، أفهم، أقبله، أغمره بقلبي تحت نظر الآب، ثمّ أتهيّأ لما عليّ فعله، فأنهض وإيّاه، وسويًا نرتقي صوب الربّ الغفور فيرفعنا من الموت إلى القيامة، إلى الحياة.
No Result
View All Result