عظة الابن الضال
يصوِّر مثل الابن الضال مشاعر الله الذي يريد أن يردَّ الضال. إنه يصور حالة الضال قبل عودته، فهو يثور ضد أبيه ويرفض تكليفاته، ويحيا في خطاياه، ويتصرَّف مثل أهل المدينة الذين قالوا عن حاكمهم: «لاَ نُرِيدُ أَنَّ هٰذَا يَمْلِكُ عَلَيْنَا» (لوقا 19: 14)، ومثل المستأجرين الأشرار الذين رفضوا أن يقدِّموا ثمر الكرم لصاحبه، فلما أرسل إليهم ابنه لعلهم يهابونه، قالوا: «هٰذَا هُوَ ٱلْوَارِثُ. هَلُمُّوا نَقْتُلْهُ وَنَأْخُذْ مِيرَاثَهُ!» (متى 21: 38)، فأضرّوا أنفسهم أبلغ الضرر، كما أضرَّ الابن الأصغر نفسه بصورة مؤقَّتة، أنهاها برجوعه، وكما أضرَّ الابن الأكبر نفسه بصورة دائمة، إذ انتهت قصته به خارج بيت أبيه.
ونرى في مثل الابن الضال ثلاث شخصيات: الابنين الأكبر والأصغر، والأب الذي هو بطل القصة. ومع أننا نسمّي المثل «مثل الابن الضال» إلا أننا يجب أن نسميه «مثل الأب المحب» فليس هناك بطولة في الضلال، لكن هناك بطولة عظيمة في قبول الضال الراجع.
أولاً – الضال
١-خطوات سقوطه:
ضجر من العيشة مع أبيه: بدأ الضلال فكراً في عقله، فكانت أول كلمة قالها وسجَّلها لنا الوحي: «أعطِني». لم يفكر في انزعاج أبيه لو أنه هجر البيت، ولا اهتمَّ بأن يعرف إرادة أبيه، بل انحصر كل فكره في أن الحياة في بيت أبيه هي مصدر ضجره وضيقه. فكان ضلاله في أنانيته سابقاً لضلاله في الكورة البعيدة، وكان اتجاهه الفكري السلبي أساس تصرُّفه المنحرف.. لقد تنكَّر لمكانه الطبيعي وبيته وماضيه وأبيه ونفسه وإيمانه، وأراد أن يبتعد عن بيت أبيه بقدر ما يستطيع، لأنه ظنَّ أن هذا يحرِّره، ويجعله شخصاً آخر أسعد حالاً. ولكن عندما يغترب الإنسان عن أبيه وعن نفسه كما يجب أن تكون، يفقد الأمان، لأن الله خلقنا بهدف معيَّن، فإذا لم نحقِّقه ضاع منّا معنى حياتنا.
ظنَّ أنه يقدر أن يستقل عن أبيه: رسم الفكر الخاطئ للابن الأصغر أوهاماً زائفة، منها أنه يقدر أن يعيش سعيداً بعيداً عن أبيه، فطلب نصيبه من الميراث بدون أن يكون له الحق في طلبه، لأن أباه ما زال على قيد الحياة. وكان خطؤه أنه اعتبر أباه مصدراً للماديات، يأخذ منه، ولم يعتبره شخصاً ينتمي إليه ويحبه. وكان يمكن أن الأب يرفض طلب ابنه ويخيِّره بين البقاء في البيت أو الخروج منه خالي اليدين، ولكن الأب في محبته أراد أن يعلّمه درساً مكلفاً لكنه أساسي، فالدروس التي نتعلمها بدون ثمن سرعان ما تُنسى، أما الدروس التي تكلفنا كثيراً فتبقى في أعماقنا. وأراد الأب لابنه أن يتعلم بالطريق الصعب. ثم أنه لو أجبره على البقاء لحرمه من إنسانيته، ولكانت نتيجة الإجبار تأجيل انفجار ثورة الابن. لهذا منح الأب الحكيم ابنه حرية الاختيار.
ومن الغريب أن الخاطئ اليوم يحيا بكل ما يمنحه الله له من خيرات، وفي وقت الحاجة يدعوه: «أَبَانَا ٱلَّذِي فِي ٱلسَّمَاوَاتِ… خُبْزَنَا كَفَافَنَا أَعْطِنَا ٱلْيَوْمَ» (متى 6: 9، 11)، لأنه يعلم أننا «بِهِ نَحْيَا وَنَتَحَرَّكُ وَنُوجَدُ» (أعمال 17: 28)، ويعرف قول المسيح: «بِدُونِي لاَ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْعَلُوا شَيْئاً» (يوحنا 15: 5).. ولكنه يريد أن يستقلَّ عنه، ويردِّد قول فرعون: «مَنْ هُوَ ٱلرَّبُّ حَتَّى أَسْمَعَ لِقَوْلِهِ ؟.. لاَ أَعْرِفُ ٱلرَّبَّ» (خروج 5: 2).
ستخدم مال أبيه استخداماً سيئاً: بحسب الشريعة الموسوية كان للوالد سلطان كامل على ممتلكاته، فكان يمكن أن يسند إدارتها لأولاده، لكنه لم يكن يملِّكها لهم. ولكن بطل قصتنا كان حكيماً، فأعطى ابنه نصيبه من المال، وترك له حرية التصرف، وسمح له بالبقاء في بيته لفترة باع أثناءها ما أعطاه له. بعدها حمل مال أبيه، الذي اعتبره ماله، وسافر إلى بلد بعيد، فتجمَّع حوله أصدقاء السوء، وأخذوا يتملقونه ويسهِّلون له طرق الغواية، فبذَّر ماله بإسراف حتى انتهى، فانفضَّ أصدقاؤه عنه. ولم يجد إلا واحداً منهم سمح له أن يرعى خنازيره. وواضحٌ أنه غير متديِّن، لأنه كان يخالف شريعة موسى التي أمرت بعدم أكل لحم الخنزير (لاويين 11: 7 وتثنية 14: 8).
وصل إلى نهاية سيئة: نهاية الاغتراب عن الله خراب ودمار، وهذا ما انتهى إليه أمر الابن الضال. ففي نهاية المطاف أخذ يتأمل ما وصل إليه: إنه وحيد، رث الثياب، جائع، تفوح منه رائحة الخنازير! وبعد وقت اكتشف أن الخنازير كانت أفضل منه حالاً، لأنها كانت تأكل الخرنوب الذي لا يجده هو ليأكله! لقد انتقل من الغنى إلى الفقر، ومن الكرامة إلى الهوان، ونال الشوك من قدميه، وضاعت منه صورة أبيه، وشعر بالخجل من نفسه. لكن المؤسف أنه تمادى في الطريق الخاطئ، ولم يفكر في تصحيح مساره، ولسان حاله ما قاله رُديارد كبلنج في قصيدته «الابن الضال»:
أبي ينصحني عابساً،
وأخي ينظر إليَّ باحتقار.
أمي تستجوبني،
حتى رغبتُ أن ألعن الكل وأهرب!.
٢ – اكتشاف مؤلم:
اكتشف خطأ التحلُّل من قيود أبيه: صار الابن الضال سجين اختياره وأسير ذاته، بلا عائلة ولا أصدقاء. وقد وصف أبوه حالته بأنه «ميت وضال» فالضلال موت روحي بالانفصال عن الله، وأبدي بالنهاية المرعبة في جهنم. كان الابن الضال قد تساءل: لماذا أسير على قضيبين، هما وصاية أبي ونصائحه، يحدّان حريتي؟.. ولكنه اكتشف بعد أن خرج عنهما أنه اصطدم بالذل والجوع والضياع، فإنه «تَكْثُرُ أَوْجَاعُهُمُ ٱلَّذِينَ أَسْرَعُوا وَرَاءَ آخَرَ» (مزمور 16: 4).. لم يدرك هذا الابن أن القضيبين نعمة، وأن الحرية المنظمة هي الاستقلال والأمان، فاستيقظ ليرى أنه يحتاج إلى قوانين أبيه وحمايته. وقادته حاجته إلى تساؤل آخر: لماذا أبقى حيث أنا وعبيد أبي أفضل حالاً منّي؟.. وكان فُقدان أمله في إصلاح حاله بداية العمل الإلهي في قلبه.
اكتشف قِصر لذة الخطية: نعم في الخطية لذة، والذي ينكر هذا يخدع نفسه، لكنها لذة مؤقتة، فالخطية كالماء المالح الذي يزيد شاربه عطشاً. وبعد السكرة تجيء العبرة، وبعد أكل الحصرم تضرس الأسنان، وبعد شُرب الكأس تحمرّ العينان!
٣ – نهوض الروح:
نهض فكره: كأنه كان سكراناً فأفاق، أو تائهاً فعثرت قدماه على بداية الطريق الصحيح. إنه يذكِّرنا بالملك نبوخذنصر الذي ضلَّ ضلالاً بعيداً، ومدح نفسه واغترَّ، وقال عن عاصمته: «أَلَيْسَتْ هَذِهِ بَابِلَ ٱلْعَظِيمَةَ ٱلَّتِي بَنَيْتُهَا لِبَيْتِ ٱلْمُلْكِ بِقُوَّةِ ٱقْتِدَارِي وَلِجَلاَلِ مَجْدِي!» فطار عقله وأخذ يأكل العشب كالثيران، إلى أن عاد إلى نفسه، فعادت إليه نفسُه، ورفع عينيه إلى السماء، فرجع إليه عقله، وسبَّح وحمد الله الحي إلى أبد الآبدين، صاحب السلطان الأبدي، فعاد إلى جلال مملكته ومجده وبهائه، وطلبه مشيروه وعظماؤه (دانيال 4: 28-37).
نهض فكر الابن الضال، فقال: «أَقُومُ وَأَذْهَبُ إِلَى أَبِي وَأَقُولُ لَهُ: يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ». وهذه بداية الاعتراف الصحيح، لأن إصلاح علاقتنا بالله يسبق إصلاح علاقاتنا بالناس، فكان كمال الاعتراف قوله: «يَا أَبِي أَخْطَأْتُ إِلَى ٱلسَّمَاءِ وَقُدَّامَكَ، وَلَسْتُ مُسْتَحِقّاً بَعْدُ أَنْ أُدْعَى لَكَ ٱبْناً. اِجْعَلْنِي كَأَحَدِ أَجْرَاك».
كانت خمس طبقات من الناس تعيش في البيت العبري، أولها الأبوان، ثم الأبناء، ثم العبيد الذين يشترونهم بالمال ويقيمون في البيت، ثم الخدَم الذين يجيئون يومياً للمساعدة، ثم الأجرى الذين يجلسون في السوق ينتظرون أن يستأجرهم من لا يهمُّه حتى أن يعرف أسماءهم. وفكَّر الابن الضال أنه لا يستحق أن يكون ابناً لأنه أضاع كل امتيازات بنويته، وهو لا يصلح أن يكون عبداً لأن صحته تدمَّرت، وهو لا يظن أنهم سيقبلونه خادماً فيرون وجهه في البيت كل يوم بعدما ارتكب في حقِّهم كل حماقة. فلم يبقَ له إلا استجداء عمل الأجير، وكأنه يقول لأبيه: إن قبلتني كأحد أجراك، سأبقى بعيداً حتى تستدعيني عندما تحتاج إلى عملي. وسأبقى بعيداً حتى لا أحرجك.
نهضت عزيمته: كان جالساً في التراب عندما نهض فكره بعد أن جاءه الخاطر الصالح بالرجوع إلى أبيه، فنهضت عزيمته وأطاع، وترك الخنازير التي ترمز إلى الخطايا وأصدقاء السوء، فهي تتمرغ في الوحل وتأكل الفضلات. ولم يفكر في بُعد المسافة التي تفصله عن بيت أبيه، ولم يقف في سبيل عودته عائق!.. وما أن وصل إلى بداية الشارع الذي يقع فيه بيت أبيه حتى رآه أبوه قبل أن يرى هو أباه. وكانت دهشته شديدة، لأنه انتظر الرفض فلقي الترحيب، وكان يتوقَّع الإهانة فوجد الخاتم علامة الرضى والإكرام، وأُلبِس الحذاء علامة البنويَّة (كان العبيد حفاةً). وكان يظن أن نصيبه سيكون العمل الشاق فوجد الوليمة. ثم كانت مكافأة التوبة أنه صار ضيف الشرف.. لقد أظلمت حياته وتكدَّر بيت أبيه بسبب عصيانه، ولكن غفران الأب أنهى الظلام، فضاءت أرجاء البيت بأنوار الحفل المبهج. فما أجمل الرجوع إلى الآب لأنه الرجوع إلى الأصل.
بدأ الابن الضال ثائراً، وقادته ثورته إلى الحسابات الخاطئة والضياع، فبدأ يحتاج ويجوع. وقاده الجوع والحاجة إلى تذكُّر امتيازات بيت أبيه، فتاب ورجع وفرح، وهكذا شُفيت جروح الخطية وسمومها. أما ندوب الجروح وآثار السموم فلا تُمحى كلها، فالمال الذي أُنفق لن يعود، والوقت الضائع في الكورة البعيدة لن يُسترجَع، وستبقى ذكريات خيانة الأصدقاء وصُحبة الخنازير وطعم الخرنوب عالقة في ذاكرة التائب الراجع.
دعونا نرجع إلى الله تائبين إن لم نكن قد فعلنا هذا. ليس أبوك غاضباً عليك، بل هو حزينٌ لبُعدك. لا تخف من الرفض. ارجع إليه تلقَ القبول، وتسمعه يقول: «أَخْرِجُوا ٱلْحُلَّةَ ٱلأُولَى وَأَلْبِسُوهُ، وَٱجْعَلُوا خَاتَماً فِي يَدِهِ، وَحِذَاءً فِي رِجْلَيْهِ، وَقَدِّمُوا ٱلْعِجْلَ ٱلْمُسَمَّنَ وَٱذْبَحُوهُ فَنَأْكُلَ وَنَفْرَحَ، لأَنَّ ٱبْنِي هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاّ ًفَوُجِدَ».
ثانياً – الابن الأكبر
قصد المسيح بالابن الأصغر العشارين والخطاة الذين هم خارج الهيكل، وقصد بالأكبر الفريسيين والكتبة الذين هم حسب الظاهر داخل الهيكل، لكن قلوبهم خارجه. والفريقان متشابهان في أنهما محرومان من العلاقة الشخصية برب الهيكل. وكلاهما خاطئ، ولو أن أحدهما كالابن الأصغر تتقدَّمه خطيته رافعةً أعلامها، والآخر تتبعه خطيته ولا تكاد تُرى. كان الابن الأكبر ضالاً داخل البيت، بينما ضلَّ أخوه الأصغر خارج البيت. وكل الذين يعبدون الرب كواجب ويؤدّون واجباتهم الدينية كفروض يشبهون الابن الأكبر، الذي كان يمتلك كل ما لأبيه، ولكنه لم يكن فرحاناً. وكم كنا نتمنى لو أن هذا المثل انتهى برجوع الابن الأصغر، والجميع يحتفلون بعودته بمن فيهم الابن الأكبر. ولكن المثل ينتهي بالابن الأكبر خارج البيت غاضباً على أبيه وأخيه.
ونرى تصويراً للابنين الأكبر والأصغر في مثل «الفريسي والعشار»، فالفريسي يقول: «اَللّٰهُمَّ أَنَا أَشْكُرُكَ أَنِّي لَسْتُ مِثْلَ بَاقِي ٱلنَّاسِ… وَلاَ مِثْلَ هٰذَا ٱلْعَشَّارِ» (لوقا 18: 11)، والعشار لا يشاء أن يرفع عينيه نحو السماء بل قرع على صدره قائلاً: «ٱللّٰهُمَّ ٱرْحَمْنِي أَنَا ٱلْخَاطِئَ» (لوقا 18: 13)، فنزل إلى بيته مُبرَّراً.
عندما رجع الابن الأكبر من عمله في الحقل، وعرف أن أخاه الضال قد عاد، كان يجب أن يقول: «ما أسعدني لأن أبي فرح بعد أن انزاح عن قلبه حِمل همِّه الثقيل، ولأن أخي الذي كان ضالاً متعَباً اطمأن واستراح». لكنه كان أنانياً ومنفصلاً عن مشاعر أبيه بسبب طباعه المتكبِّرة ومحبته لنفسه دون الآخرين. كان أخوه الأصغر يأكل خرنوب العالم أما هو فكان يأكل خرنوب عقله الثائر على مشاعر أبيه، وهو يظن أنه صالح بار، في غير حاجة إلى طبيب مع أنه المريض الحقيقي، فأقام حواجز نفسية بينه وبين أبيه. وربما كان بكبريائه وتعنُّته سبب ضلال أخيه الأصغر. فتعالوا نتأمل أخطاءه لنحترس منها:
كراهيته لأخيه: البيت هو المكان الذي نعيش فيه على طبيعتنا، ونطمئن فيه لبعضنا، فإذا فرح أحد أفراده فرح الجميع، وإذا تألم أحدهم تألم الكل، لأنهم عائلة واحدة. ولكن الابن الأكبر لم يكن يملك هذه المشاعر العائلية الطيبة. ومع أنه عاش في البيت إلا أن قلبه كان خارج البيت. وعندما سمح الأب بسفر الابن الأصغر ومعه نصيبه من المال تضايق الأكبر من أبيه ومن أخيه، ولكنه كتم غيظه لأن أباه صاحب الكلمة الأخيرة. وعندما رجع أخوه زاد غضبه لأنه ظن أنه رجع ليقاسمه في ما بقي من ميراث. ولا بد أنه تساءل: لماذا يقبل أبي من لا يستحق القبول؟ لماذا يرحِّب بمَن بدَّد ماله بعيش مسرف ولوَّث سمعة الأسرة؟
لم يفرح الابن الأكبر بعودة الضال، بل تحدث عنه باحتقار. لم يقل «أخي» بل قال: «ابنك هذا»! لأنه لا يحبه ولا يشفق عليه، ولم يقدِّر آلام أبيه أثناء غيبة أخيه، ولا قدَّر الثمن الذي دفعه أخوه في بُعده عن بيت أبيه من شقاءٍ وحرمان وندم. ولكنه ضخَّم خطايا أخيه وقال إنه «أكل معيشتك مع الزواني» مع أن المثل لم يذكر للابن الضال هذه الخطية. وقال: ذبحت «له» العجل المسمَّن، ولم يقل: ذبحت «لنا».
كان الابن الأكبر مثل قايين الذي أبغض أخاه هابيل وقتله (تكوين 4: 8)، لا بسبب ضيقٍ اقتصادي، فقد كانت الأرض متَّسعة أمامهما، لكنه قتله بسبب شرِّ قلبه.. وتصرَّف الابن الأكبر مثل عيسو الذي (لأنه البكر) كان يجب أن يكون كاهن العائلة. وكان نصيبه المضاعف من الميراث بمثابة مكافأة له لأنه قائد الأسرة الروحي، والمحافظ على كتبها المقدسة، والمسؤول عن العبادة فيها (تكوين 25: 27-34 و27: 41). ولكنه احتقر مسؤوليته الدينية، فأخذ يعقوب (أب الأسباط) منه امتيازه. فحقد عيسو على أخيه وعزم أن يقتله بعد موت إسحاق أبيهما.. وكان الابن الأكبر مثل إخوة يوسف الذين باعوه عبداً في مصر، لأن أباه كان يميِّزه عنهم (تكوين 37: 18-24).
عدم احترامه لأبيه: لم يفهم الابن الأكبر مشاعر أبيه، ولم يقدر أبداً أن يدرك مقدار حزنه على ضلال ابنه الأصغر. ونسي أن رجوع الضال هو رغبة قلب أبيه واستجابةٌ لصلواته الكثيرة.. ولم يفهم حياة أبيه الإيمانية، فقد كان قلب الأب عامراً بالإيمان والرجاء والمحبة: الإيمان في ابنه الأكبر الذي يعيش معه، وفي عودة ابنه الضال.. والرجاء في حياة أفضل بعد لمّ شمل العائلة، فيكون الغد المشرق قادماً.. والمحبة للابنين الأكبر والأصغر، القريب والبعيد. لكن لم يكن في قلب الابن الأكبر إيمان ولا رجاء ولا محبة! كان يحيا وسط البَرَكة دون أن تمسَّ البركةُ قلبه!.. ولم يفهم امتياز العمل مع أبيه ولا تمتُّعه بالرعاية والأمان في القرب منه، فقال له: «هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هٰذَا عَدَدُهَا» فاعتبر العمل المفرح في حقول أبيه خدمة عبودية وعبئاً ثقيلاً، وكان الواجب أن يدرك أنه يعمل لخيره ولخير العائلة كلها. صحيحٌ أنه كان يعمل باجتهاد، وكان في الحقل عندما عاد أخوه، لكنه أدّى العمل بتذمر، ولم يكن فرحاناً به. إنه يذكِّرنا بالعمال الذين كانوا يقطعون الأحجار في الجبل، فسألهم شخصٌ عمّا يعملون، فقال أحدهم: أكسر حجارة. وقال الثاني: أعول أولادي. وقال ثالث: نبني كنيسة. والإجابات الثلاث صحيحة، ولكن روح صاحب كل إجابة تكشف عن نظرته للحياة. فالأول كان يعمل بتذمُّر، ولا بد أن مشاعره النفسية تركت أثرها على صحته. وكانت دوافع الثاني إنسانية، لأنه يرى عمله خدمةً لأسرة يحبها. أما الثالث فقد رأى إلى جوار العمل وإعالة الأسرة علاقةً مفرحة مع الله، فهو يبني كنيسة، ويقدم خدمة للرب. وكان الابن الأكبر يفكر كالعامل الأول بدليل قوله لأبيه: «هَا أَنَا أَخْدِمُكَ سِنِينَ هٰذَا عَدَدُهَا».
ولعل قمة التعبير عن عدم احترامه لأبيه أنه «غَضِبَ وَلَمْ يُرِدْ أَنْ يَدْخُل» البيت احتجاجاً على تصرفات أبيه، فخرج أبوه إليه، وشرح له ما حدث، ولكنه استمر خارج البيت.
إحساسه الزائد بصلاحه: قارن نفسه بأخيه الضال فوجد أنه أفضل منه لأنه لم يخطئ، فقال لأبيه: «قَطُّ لَمْ أَتَجَاوَزْ وَصِيَّتَكَ». واعتبر أنه أفضل حكماً على الأمور من أبيه الذي قبل أن يقسم معيشته بين ولديه في حياته، ونسي أن كل «مَنْ يَرْفَعْ نَفْسَهُ يَتَّضِعْ، وَمَنْ يَضَعْ نَفْسَهُ يَرْتَفِعْ» (متى 23: 12).
إحساسه بأنه مظلوم: اعتقد أنه لم ينل المكافأة الواجبة، فقال لأبيه: «جَدْياً لَمْ تُعْطِنِي قَطُّ لأَفْرَحَ مَعَ أَصْدِقَائِي». ولا بد أن أباه صُدم وفزع من إجابته، فقال له: «يَا بُنَيَّ أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ، وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَك». ثم عاتبه عتاب الحب، وحاول أن يفتح بصيرته لمباهج يومهم بعودة أخيه، وهي أفراحٌ كان يجب أن تغسل كل شكوى وضغينة.. وإحساس الابن الأكبر بالظلم ورثاء الذات إحساسٌ طفولي أناني، لأنه أراد أن يكون وحده مركز الاهتمام، فنسي أن يشكر أباه، وتناسى أن كل ما عنده هو من فضل أبيه عليه. خطيته غير معلَنَة: كان الجميع يحترمونه، ويقارنون بينه وبين أخيه الأصغر العاق، فيزيدون احتراماً له. ولكن خطاياه كانت داخلية نفسية مختفية، حتى جاء وقت تفجير مشاعره المكبوتة وإعلانها. لقد عاشت خطيته في قلبه بالرغم من أنه يعيش في بيت أبيه. وينتهي المثل به خارج البيت غاضباً، بينما أخوه داخل البيت فرحاً.. ولم يطرده أحدٌ، لكنه طرد نفسه بإرادته، بعد أن حجبت كراهيته لأخيه وعدم احترامه لأبيه باب السعادة عن عينيه.
ثالثاً – الأب
الشخصية الرئيسية العظمى في هذا المثَل هي شخصية الأب، لأن المثَل يبدأ بالقول: «إنسان» كان له ابنان، فالأداء الأكبر في المثل هو أداء الأب. صحيح أن الابن الضال شخصية رئيسية، لكنه ليس الشخصية الأساسية الرئيسية، فالشخصية الرئيسية هي شخصية الأب الذي حرَّك كل شيء، فهو الذي منح الابن الضال حرية الاختيار، وهو الذي استقبله بالترحيب عندما رجع، وهو الذي احتمل بأسى تصرفات ابنه الأكبر الذي لم يفارقه بجسده ولكنه كان منفصلاً عنه بمشاعره، وبقي يمدُّ له يد المحبة. والحوار الذي دار بين الأب وابنه الأكبر أطول من الحوار الذي دار بينه وبين الابن الذي ضلَّ. وكان حوار الأكبر حوار الاحتجاج والغضب والإحساس بالظلم، ورفض كل توضيح قدَّمه الأب له. أما الحوار مع الابن الضال فكان بالعمل أكثر منه بالكلام، فقد أعطاه الأب نصيبه في الميراث حسبما طلب، ومنحه حرية التصرف. ولما رجع تائباً لم يعاتبه، بل قَبِلَهُ وأغدق عليه عطاءً غير محدود. وفي الحالتين كان حوار الأب مع ابنيه حوار المحبة المتأنية الغافرة المحتمِلة.
١ – الأب وابنه الأصغر:
في توضيح مشاعر الأب نحو ابنه الضال الراجع شرح لنا المسيح مشاعر الله الحقيقية من نحو البشر. لقد ظنَّه اليهود قاضياً جباراً لا يرحم في قضائه، يطالب الإنسان دائماً بدفع ثمن أخطائه. فأعلن لنا المسيح أنه الأب المحب الشفوق الذي يحب الخاطئ ولو أنه يكره خطيته. هنا نرى الأب الذي أُسيء إليه، وأُخذ ماله ليُنفَق بطريقة خاطئة. ولكن ما أن رجع الضال تائباً حتى استقبله بالفرح. ولم يتوقع الابنان مثل هذا الغفران من الأب!
حكى قسيس قصة عن نفسه عندما كان صبياً، فقال إنه كان يحترم أباه ويجلُّه جداً، ولكنه كان يخشاه ويخاف منه. وكان الأب متديِّناً يأخذ عائلته كلها إلى الكنيسة بانتظام. وذات يوم حار رطب ذهب الصبي مع أبيه إلى الكنيسة، فثقُلت أجفانه وبدأ يغمض عينيه، فمدَّ أبوه ذراعه نحوه، فخاف، لأنه ظن أن أباه سيعنِّفه ويهزُّه ليوقظه. ولكنه لدهشته وجده يحتضنه ويسنده في وضعٍ مريح لينام، فانفتحت عيناه على حب أبيه له. وقال الابن بعد ذلك: «كنت أظن أبي قاسياً، لكني منذ ذلك اليوم عرفت حقيقة أبي، فهو يحبني ولا يمدُّ يده ليرعبني، لكن ليسندني». ثم قال: «وهكذا قدرت أن أفهم مشاعر أبي السماوي من نحوي».
أظهر الأب تعاملات محبته لابنه التائب، حتى بعد أن أخذ منه كل ما أخذ، وأنفقه بطريقة سيئة. فلما عاد، أعطاه الحُلّة، والخاتم، والحذاء، وقدَّم للجميع وليمة الفرح. حقاً إن عدم أمانتنا لا يبطل أمانة الله، ونقص حبنا للرب لا ينقص حبه لنا أبداً (2تيموثاوس 2: 13).
٢ – الأب وابنه الأكبر:
«خَرَجَ يَطْلُبُ إِلَيْهِ». لم يدخل الابن الأكبر البيت بعد أن عرف سبب الاحتفال البهيج، فترك أبوه الوليمة والضيوف وابنه التائب، وخرج إليه يرجوه أن يدخل، لأن سعادته لا تكمل إلا وولداه معه في بيته. مع أن الواجب كان أن الابن الأكبر يدخل ليشارك أباه وأخاه فرحة التوبة والعودة.
قال الأب للابن الأكبر: «يا بنيَّ» فذكَّره ببنوَّته ودعاه ابناً مع أنه لم يدعُه أباً، لأنه أراد أن يطفئ نار الغضب داخله على أبيه، ونار الحسد والغيرة من أخيه.
ثم قال له: «أَنْتَ مَعِي فِي كُلِّ حِينٍ» فذكَّره بصُحبته وإقامته الدائمة معه في البيت. إنه لم يغِب عن أبيه، ولم يذُق مرارة الفراق، ولا وصل إلى حافة الهاوية، فلم يكن هناك ما يدعو إلى احتفال خاص به، بعكس الأمر مع الأخ الأصغر.
وقال له: «وَكُلُّ مَا لِي فَهُوَ لَكَ» فذكَّره بممتلكاته، وأنه لا داعي لخوفه من قسمةٍ أخرى للمال، فقد أخذ الأصغر نصيبه، وكل ما تبقّى الآن هو للأكبر.
وختم الأب حديثه بقوله: «وَلٰكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ نَفْرَحَ وَنُسَرَّ، لأَنَّ أَخَاكَ هٰذَا كَانَ مَيِّتاً فَعَاشَ، وَكَانَ ضَالاًّ فَوُجِدَ» فذكَّره بضرورة تغيير موقفه الفكري من نحو أخيه الراجع، لأن الضال وُجد والميت عاش، فالأخ أخوه أينما كان، ولا يمكن أن تنقطع صلة الرحم، ومن الأبهج له أن يكون أخوه داخل البيت عن أن يكون ضالاً.
٭ ٭ ٭
يعلِّمنا هذا المثل أن الله يغفر للتائب مهما كانت خطاياه. وحتى عندما لا يرى أملاً في الغفران يمنحه الله الأمل، لأنه أبٌ غفور رحيم، فيقول التائبون: «أُنْظُرُوا أَيَّةَ مَحَبَّةٍ أَعْطَانَا ٱلآبُ حَتَّى نُدْعَى أَوْلاَدَ ٱللّٰهِ!» (1يوحنا 3: 1). و «حَيْثُ كَثُرَتِ ٱلْخَطِيَّةُ ٱزْدَادَتِ ٱلنِّعْمَةُ جِدّاً» (رومية 5: 20).
ويعلِّم المسيح الآباء أن يتحلّوا بالصبر والمحبة وطول الأناة نحو أولادهم المخطئين الراجعين بتوبة حقيقية، ولا يعاملوهم بقسوة، طاعةً للوصية: «أَيُّهَا ٱلآبَاءُ، لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ لِئَلاَّ يَفْشَلُوا» (كولوسي 3: 21). فلنستقبل أولادنا التائبين فور توبتهم، ولنفتح قلوبنا لهم كما يفتح الآب السماوي قلبه لهم ولنا.. افتحوا بيوتكم لأبنائكم الضالين، سواء كانوا كالابن الأكبر أو كالابن الأصغر، كما أن أباكم السماوي يفتح باب السماء دائماً لكم.
ويعلّم المثل الأبناء أن يطيعوا والديهم، ولا يغترّوا بمباهج العالم الزائلة. ويقول الحكيم: «اِسْمَعْ لأَبِيكَ ٱلَّذِي وَلَدَكَ، وَلاَ تَحْتَقِرْ أُمَّكَ إِذَا شَاخَتْ» (أمثال 23: 22).
فإذا زلَّت القدم فثِق أن الرب المحب ينتظر عودتك في شوق ومحبة وقلب غافر صفوح.