لماذا نصلي للموتى وما هي الصلاة، ولمن تقدم؟ ثانيا: الموت وإكرام الموتى. ثالثا: المسيحية وصلاة الموتى.
زُر اليوم المدافن لا تتأخر عن أن توقد في القبر زيتا” وشمعا” داعيا” المسيح الإله لأن ذلك مقبول عند الله فإن كان الميت خاطئا” تُحَلُّ خطاياه وإن كان صدِّيقا” تحصُل له زيادة أجرٍ وإن اتفق وكان غريبا” وليس له من يهتم بذلك فالله بما أنه عادلٌ يرجح له الرحمة حسب الإستحقاق بواسطة فقره القدّيس أثناسيوس الكبير
أولا: ما هي الصلاة، ولمن تقدم:
الصلاة هي “الكلام مع اللـه” فالذي يصلي “يتكلم مع اللـه”. هذا ما يؤكده يسوع في الإنجيل بقوله: “وأنت متى صليت ادخل غرفتك، وأغلق عليك بابَها، وصل لأبيك الذي في الخفية” (متى 6:6) يقدم تعريف القديس يوحنا الدمشقي للصلاة فيصفها بأنّها “رفع النفس نَحو اللـه أو إلتماس الخيرات الصالِحة منه”. من هذا نستشف بأن الصلاة هي فعل يربط جهتين أو طرفين: أنا – اللـه (عند الصلاة الفردية)، أو نَحن – اللـه (عند الصلاة الجماعية).
الصلاة هي حركة عمودية من تَحت إلى فوق، تخرج من الإنسان وتتجه نَحو اللـه. إن اللـه لا يحتاج إلى صلاة البشر، وكما يقول طقسنا الكلداني البديع في صلاة الصباح أيام الآحاد: “انّه الخالِق الذّي لا يَحتاجُ إلى تَسبيحِ الخَلائِق”. كما أن اللـه لا يصلي على البشر كائنا من كان (رغم اعتقاد بعض الأديان بذلك)! ذلك لأن فعل الصلاة يتطلب أفعالا كثيرة: كالتضرع، والطلبة، والالتماس، والشفاعة، والتذلل، والسجود …الخ وهذه كلها لا تليق باللـه سبحانه بل بالبشر. يضيف كتاب التعليم المسيحي قائلا: “إن التواضع هو أساس الصلاة”، مستشهدا بقول القديس بولس الذي يعترف بكل “تواضع” بأنه لا يجيد الصلاة: “إنّنا لا نَعرِفُ كيفَ نُصلّي كَمَا يَنبَغِي” (روم 8: 26). فالتواضع هو الاستعداد لتقبل عطية الصلاة مجانا: لأن الإنسان “يستجدي” النعم من اللـه.
ثانيا: الموت وإكرام الموتى:
يُمكن تعريف الموت دينيا على أنه: انفصال الروح عن الجسد وعودة الروح إلى اللـه خالقها وباريها. أما طبيا فيُعرّف الموت بأنه: توقف الحياة عند الكائن الحي.
أ- إكرام الموتى لدى الأمم: إن إكرام الموتى نتج عن قناعة الإنسان بوجود حياة أخرى من بعد هذه الحياة القصيرة. وهذا ناتِج أيضا من فكرة الخلود التي اختمرت لدى كلكامش ملك اوروك في أرض بابل (2700 ق.م.) والذي رفض الرضوخ للموت الذي سرق حياة رفيقه انكيدو. كما أن كثيرا من الأباطرة والملوك وَقّروا أمواتَهم وصنعوا لهم نُصبا تذكارية أوقفوا عليها جنودا حاملي شُعَل لحراستها، ولا زال بعض هذه النصب شاخصا إلى يومنا هذا (كتاج مَحل في الهند). أفهل هذا كله هو شيء تافه؟ ألا يوحي هذا الإكرام بوجود نوع من العلاقة ما بين الحي وبين الميت رغم رحيل وغياب الآخر؟ حتى الملحدين والشيوعيين ما كان بإمكانِهم الغاء ذكرى موتاهم، اذ كانوا يُحنّطون زعماءَهم، ويؤدون لهم الإكرام والوقار، رغم عدم اعترافهم بالحياة الأبدية! أفنخجل نَحن المؤمنين اذن من اكرام موتانا والصلاة من اجلهم؟
ب- إكرام الموتى في العهد القديم: اكتشف الإنسان المؤمن بأن ألنجاة النهائية من الموت تتجاوز حدود الحياة الأرضية إلى الحياة ألابدية. يشهد على ذلك قلق أيوب الذي يقرب القرابين والمحرقات عن أولاده حتى قبل أن يموتوا (ايوب 1: 5). فالناس منذ الحياة الأرضية يبقى جل تفكيرهم في الموطن السماوي”رَجاؤهُم مَملوءٌ خُلوداً” (حكمة 3: 4). هذا يفسر لنا كيف استطاع الشهداء في زمن المكابين، الذين كان قد أنعشهم إيمان كهذا، أن يواجهوا العذاب ببطولة (2 مكابين 7: 9، 14، 23، 33 و 14: 46). لا بل إننا نرى كيف يقيم يهوذا المكابي الصلاة من أجل الموتى ” … لانّه لَو لَم يَكُن مُتَرَجِياً قِيامَةِ الذّينَ سَقَطُوا لَكانَت صَلاتُهُ مِن أجلِ الموتى باطِلا وعَبَثاً … ” (انظر 2 مكابين 12: 40- 46). كما ان ارسال يهوذا المكابي الحسنات لتقديم الذبائح في هيكل اورشليم للتكفير عن ذنوب الموتى لا يعني أنه اخترع ذلك بنفسه بل يشير إلى أن ذلك كان عادة ماشية ومقبولة عند اليهود حتى قبل زمن يهوذا المكابي.
ج- إكرام الموتى في العهد الجديد: لنرى الآن موقف يسوع من الموت والموتى. إن يسوع بذل جل وقته التبشيري في خدمة البشر وقد أشار مرةً إلى ما قد يفهم “حرفيا” انه عدم الاكتراث للموتى إذ قال للتلميذ الذي طلب منه رخصة للذهاب لدفن والده: “إتبعني، ودَع ألموتى يَدفِنون مَوتاهُم” (متى 8: 22) {يقصد يسوع بالموتى كل من لا يهتدي إلى الملكوت}. ولكن علينا أن نعرف أن يسوع هو معلم، والمعلم له سالوب خاص في مخاطبة تلاميذه (الذين سيصبحون خلفاءَه في رسالته)، هذا الأسلوب يختلف تماما عن أسلوبه عند مخاطبة الناس والعامة، والانجيل صريح بهذا الخصوص: “فَتَقَدَّمَ إِلَيْهِ التَّلاَمِيذُ وَسَأَلُوهُ: «لِمَاذَا تُكَلِّمُهُمْ بِأَمْثَالٍ؟» فَأَجَابَ: «لأَنَّهُ قَدْ أُعْطِيَ لَكُمْ أَنْ تَعْرِفُوا أَسْرَارَ مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ؛ أَمَّا أُولَئِكَ، فَلَمْ يُعْطَ لَهُمْ ذَلِكَ”! (متى 13: 10-11) وهذا الشيء يطبقه البشر في سائر مجالات الحياة. فلو أراد عالم نووي أو فيزيائي أن يلقي محاضرة للمتخصصين أو الدارسين عن الذرة، فإنه يشرحها بالتفصيل والمعادلات الرياضية الصعبة، ولكن نفس الشخص لن يجيب بنفس الأسلوب إذا ما ألقى محاضرة عامة لناس، أي من غير المتخصصين، وهذا الحال كان مع يسوع ايضا! من هذا المنطلق علينا ان نعرف جيدا الموقف عند قراءة الانجيل، ولا نكون متسرعين مثل الذين ياخذون آية واحدة مجردة لوحدها اينما كانت ويستخدمونها حسب هواهم! فدراسة الكتاب المقدس وفهمه يجب ان تكون ضمن السياق الكامل، وليس بأخذ آيات مجردة وتفسيرها انفراديا.
– المسيح يصلي قبل إقامة لعازر: لو كان المسيح فعلا لا يكترث للموتى “دَع الموتَى يَدفِنونَ مَوتاهُم”، لما تأخر عن المجيء لرؤية لعازر! نعم، فتأخير يسوع كان مقصوداً، لأنه كان قد علم بمرض لعازر لكنه تأخر لإظهار “مَجد اللـّه، ولِيَتَمَجَد بِه إبنُ اللـهِ” (يوحنا 11: 4). يذهب يسوع إلى القبر بصحبة أختّي لعازر، مريم ومرتا، بكى ولمى رآه الجميع بكوا هم أيضا ويبكي عند رؤيته الجميع يبكون. لكنه “يصلي” قبل أن يقيم لعازر! لماذا يصلي يسوع على الميت؟ فإذا لم يكن هناك من مفعول للصلاة على الأموات -كما يدعي البعض- فلماذا يصلي يسوع يا ترى على لعازر الميت! لقد كان يسوع رجل صلاة”وقَضَى اللّيلةَ كُلَّها في الصَلاة للـّه” (لوقا 6: 12). فيسوع يستخدم الصلاة كسلاح ضد الموت ايضا.
– المسيح يصلي قبل إحياء ابن الأرملة (لوقا 7: 11-17): مرة أخرى وبعد أن يقضي يسوع الليل كله في الصلاة يبدأ بعمله التبشيري. ما كان يسوع ليعمل شيئا دون أن يصلي إلى الآب. هكذا فإنه يتوكل على اللـه ويختار الرسل، ويلقي التطويبات والإرشادات في موعظته عند نزوله من الجبل (في متى الموعظة هي على الجبل)، ثم يشفي عبد قائد المئة، ويحي ابن أرملة نائين. أوليس هذا سبباً اخرا للصلاة “طوال الليل” أوليس لأجل “تمجيد اللـه” في النهار وإقامة الموتى؟ وبالفعل يسوع نفسه يجاوب على هذا السؤال بقوله: «اذْهَبَا وَأَخْبِرَا يُوحَنَّا بِمَا قَدْ رَأَيْتُمَا وَسَمِعْتُمَا: أَنَّ الْعُمْيَانَ يُبْصِرُونَ، وَالْعُرْجَ يَمْشُونَ، وَالْبُرْصَ يُطَهَّرُونَ، وَالصُّمَّ يَسْمَعُونَ، وَالْمَوْتَى يُقومُونَ، وَالْمَسَاكِينَ يُبَشَّرُونَ. وَطُوبَى لِكُلِّ مَنْ لاَ يَشُكُّ فِيَّ!» (لوقا 7: 22-23).
– بطرس يصلي قبل إقامة طابيثا (اعمال 9: 36-42): لا شكَ في أن معجزة بطرس هذه منقطعة النظير. فبعد موت طابيثا، يسمع الناس بوجود بطرس في المنطقة فينادونه ليصلي عليها. ما إن يصل بطرس حتى يخرج الجميع من العلية كما فعل معلمه في إحياء ابنة يائيرس (لوقا 8: 49-56) ويقول سفر أعمال الرسل:”فَطَلَبَ بُطْرُسُ إِلَى جَمِيعِ الْحَاضِرِينَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ الْغُرْفَةِ، وَرَكَعَ وَصَلَّى، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَى الْجُثَّـةِ وَقَالَ: «يَاطَابِيثَا، قُومِي!» فَفَتَحَتْ عَيْنَيْهَا”. فلماذا يصلي بطرس على الميتة إذن؟ أليس لأنه يؤمن بأن للصلاة تأثيراً ليس فقط على الأحياء بل وعلى الأموات ايضا؟