البحث عن السعادة
الشماس جورج اسكندر
العالم الماديّ من حولنا يبحث لنا عن السّعادة، ولا يبخل بنصائحه على أحد. مئات الأبواق تهتف وتصرخ، وآلاف الصور والدعايات تتتابع، وتتدفق لتنفث في آذاننا وعيوننا سمومها.
السعادة في نظرهم هي في التّملك والاستئثار
إّنهم يصوّرون السعادة في شراءِ قصر أو منتجع على البحر، أو في شراء سيارة حديثة. كلّ الأبواق والصّور تنصحنا… السعادة هي أن نشتري، ونقتني ونمتلك ونستهلك، السعادة هي أن نستأثر. لا يهمُّنا إذا كان الآخرون لا يملكون ولا يستهلكون، ولا يحصلون على الحاجات الضروريّة لحياتهم. المهم نحن إن جلسنا أمام موائدنا فعليها أن تعمر بكلّ ما لذ وطاب، وإن لبسنا فلكلّ مناسبة ثوباً جديداً. ليس علينا إلاّ أن نقبع في قصرنا المزيّن بالأرائك، واللوحات والتماثيل ومقتنيات العظماء لنحصل على السعادة. ولا ينسون أن ينصحونا أيضاً بإحكام إغلاق أبوابنا ونوافذنا، فعلينا أن نغلق كلّ شيء، لأنّ كلّ الذين حولنا هم أعداء لنا وسارقون طامعون, قد يحاولون النفوذ من أيّة ثغرة فيشاركوننا فيما نملك، لذلك فهناك الأقفال الحديثة التي تستعصي على أمهر السارقين، وهناك الأسلاك الشائكة والأبواب الإلكترونيّة.
السّعادة بنظرهم هي في اختفاء المشاعر الإنسانيّة
بنظرهم من واجبنا أيضاً لنكون من السّعداء, أن نحكم إغلاق قلوبنا وعيوننا وآذاننا. فلا يجوز لنا أن نشعر مع الجائع والفقير والمحروم والمشرّد وعلينا أن نضع نظارة سوداء تحجب عنّا كلّ الصور المؤلمة والمحزنة، وأن نصُمّ آذاننا عن سماع التأوهات والتنهدات وصرخات الألم، التي تتصاعد من الأكواخ والبيوت المتواضعة والفقيرة، فكلّ هذه تخفّف من سعادتنا وتعكّر صفونا، فكلّ إنسان هو غريب، يجب أن يبقى بعيداً عنّا، وليس لنا أن نهتمّ به أو أن نسأل عنه. يريدون منّا أن نبني أسوار الأنانيّة من حولنا وأن نتحوَّل إلى لوحة من اللوحات الميتة، أو إلى تمثال من التماثيل العارية الباردة، وهكذا نكون من السعداء.
الإنسان مخلوق على صورة الله
لا ندري إن اتبعنا نصائحهم ماذا يتبقى من إنسانيتنا، الّتي أرادها الله على صورته، وكيف يمكن للربّ أن يتعرف علينا..؟ من خلال هذه الإنسانيّة المشوّهة، التي مسخوها فجعلوها في أبشع صورة. ونتساءل أيّة سعادةٍ يمكن أن تتحقق بعيداً عن الإنسان، وبعيداً عن تيّار المحبّة الجارف المتدفّق الذي من فيض محبّته خلقنا لنشاركه في بناء عالم من النور والمحبّة يشعّ على الجّميع خيراً وبركة. وأين سنكون بعد ذلك من الكلمة المتجسد الذي أخلى ذاته، فنـزل إلى عالمنا ليفتدينا ويخلّصنا……
وهو القائل: “للثعالب أوجرة ولطير السماء أوكار، أمّا ابن الإنسان فليس له ما يضع عليه رأسه”. وكم سنكون بعيدين عن الذي كان حياة للموتى وشفاء للمرضى، ونوراً للعميان وقوتاً للجياع، وغفراناً للخطأة. هل سنعكس صورته صورة الفقير المتواضع الوديع والمحب..؟ وهل يمكن لأحد أن يتعرف عليه من خلالنا..؟ وهل يمكن بعد ذلك أن تظهر ملامحه ملامح الرحمة والمحبّة والعطف والحنان والبركة على وجوهنا وفي سلوكنا..؟
يا لها من صورة سوداء قاتمة تلك التي يريدونها على وجوهنا، وكم هي تعيسة وشقيّة تلك الحياة التي يرغبونها لنا…! ألا فلتختف كلّ الصور الخادعة البراقة, الملونة والمتلونة، ولتظهر صورة القلب المطعون بالحربة، الذي ينـزف آخر نقطة من الدم ومن الماء. تلك الصورة يجب أن تنطبع في قلب كلٍّ منّا، ولتصمت كلّ الألسنة التي تتلوى كالأفعى لتزيّن لنا المادة وتجعلنا أسرى وعبيداً لها، وليرتفع صوت الروح القدس ينبوع كلّ قداسة عالياً مدوّياً في آذاننا ليهدينا وينير طريقنا.
السعادة هي في اللقاء مع الإنسان ومع الله
وأنت أيُّها الغافل عن الحق, يا من تبحث عن السعادة باتباع إله المادة. يا من تبحث عنها في رصيد ضخم وفي قصر منيف، لقد أخطأت الطريق فلن تجدها بل ستضرب برأسك الجدران الأربعة التي سجنت نفسك بينها. إن أردت السعادة، فعليك أن تخرج من قصرك ومن ثوبك الأنيق العتيق لتلبس ثوب الإنسانيّة الواسع الفضفاض حينئذ ستجد السعادة الحقيقيّة بمشاركة أخيك الإنسان ومساعدته في فقره ومرضه وحزنه وشقائه وضعفه، وسيتضح لك بعد ذلك أنّ سعادة العمر كلّه مهما بلغت، لن تعادل.. لحظة لقاء حار مع الذي أبدع كلّ الخير والجمال.. مع ينبوع المحبّة المتدفق دون توقف…… مع الله
Discussion about this post