سرّ أمومة مريم: السرّ الأخير الذي أتمّه يسوع على الصليب
الأب أنطوان يوحنّا لطّوف
كان يسوع يعرف أنّه سوف يُصلب، فلماذا انتظر حتّى الصليب ليُعطي أمّه لتلميذه يوحنّا؟
في العشاء السريّ قال: “(هذا هو) جسدي. (هذا هو) دمي”، فأسّس سرّ الأفخارستيّا. ثم قال: “إصنعوا هذا لذِكري”، فأعطى التَّلاميذ سُلطانَ الاحتفال بالإفخارستيّا وأسس بذلك سرّ الكهنوت؛ وبذبيحة الصليب اكتملَ سرُّ الأفخارستيّا ونال الرسل سلطان الكهنوت.
عند تفوّه الربّ بعبارة (هذا هو)، تحوَّلَ الخبز إلى جسده والخمر إلى دمه. ففي عبارة (هذا هو) قوّة الروح القُدس الذي حوّل القرابين. وكما تفوّه في العشاء السريّ مرّتين بعبارة (هذا هو)، تفوّه من على الصليب مرّتَين بالعبارة عينها: “قال لأمّه (هذا هو) ابنُكِ”، وقال للتلميذ: (هذه هي) أمّك”.
لو أراد أن يستعمل عبارةً مألوفةً لربما قال: “هو بمثابة ابنِكِ؛ هي بمثابة أمّك”، لكنّه استعمل عبارة (هذا هو) التي تفوّه بها لتحويل الخبز والخمر.
بعبارة (هذا هو) حدث بفعل الروح القدس تحوُّلٌ في شخص مريم، وفي أمومة مريم، جعلها على نحوٍ سريّ أمّ يوحنّا، وحدث تحوُّلُ في شخص يوحنّا جعله على نحوٍ سريّ ابنًا لمريم. وكما تحقّق وتمّ سرّ الأفخارستيّا على الصليب، كذلك تحقّق وتمّ سرّ أمومة مريم لنا وسرّ بنوّتنا لمريم على الصليب. لأنّنا ببنوّة يوحنا لمريم صرنا أبناء لمريم وإخوة يسوع.
العذراء كانت “أمّ المسيح”، لكنّ الربّ لم يشأ أن تكون مريم، بعد ارتفاعه، غريبةً عن المؤمنين ولا دورَ لها في حياة الكنيسة. بل شاء أن يجعلها أمّا لنا على نحوٍ سريّ، تأكيدًا على دورها في تدبير الخلاص وإثباتًا أنّ ذلك الدّور لا ينتهي بارتفاعه إلى السماء. والربّ أعلن هذه الأمومة وأتمّها على الصليب، تمامًا كما أعلن سرّ الأفخارستيّا وأتمّه على الصليب. فقولُه “لقد تمّ” يعني إتمام النبوءات بشأن تدبير الخلاص، وكذلك إتمام سرّ الأفخارستيّا.
شاء الربّ أن يجعل العذراء أمًا لنا لكي ننال الامتياز عينه الذي امتاز به هو، أي أن يكون لنا حنان أمومة مريم وعنايتها، وخصوصًا شفاعتها، وأن نُكرمها كأمٍّ لنا كما أكرمها هو. والأمر الأهمّ في هذا كلّه هو أنّ سرّ أمومة مريم لنا، وسرّ بنوّتنا لمريم، الذي أعطي لنا من على اصليب، ينبثق من سرّ الأفخارستيّا الذي أتمّه يسوع على الصليب. ولهذا لم يُعطِ يسوع أمّه ليوحنّا قبل الصلب.
وهذا يجعل أمومة مريم لنا هي أمومة إفخارستيّة، وبنوّتنا للعذراء هي بوّةٌ إفخارستيّة. فنحن لا نكون أبناء لمريم إلّا من خلال سرّ الأفخارستيّا، أي من خلال معانقتنا لسرّ الافخارستيّا إيمانًا وممارسةً.
ويلي ذلك أنّ شفاعة مريم لنا هي شفاعة إفخارستيّة. فعندما نكرم مريم ونستشفع بها، تحمل مريم إكرامنا لها واستشفاعنا بها إلى الربّ يسوع عبر الأفخارستيّا، أي عبر جسده ودمه اللّذَين بُذلا على الصليب. ولا يمكن الاستشفاع بمريم إلّا من خلال الأفخارستيّا، ومن أنكر الأفخارستيّا ومارس إيمانه خارجها، لا شفاعة له عند مريم. وبالمقابل، فإكرامنا للإفخارستيّا يفرح قلب أمّنا مريم جدًا، لأنّ سرّ أمومتها لنا قائم على سرّ الأفخارستيّا. فالعذراء لا تشفع لنا إن لم نكن أشخاصًا أفخارستيّين.
ونجسر على القول إنّ إكرامَنا لسرّ الأفخارستيّا هو إكرامٌ لمريم التي هي أمّ الأفخارستيّا، لأنّ الربّ أخذ جسده ودمه من جسدها ودمها. وهي حملت جسده ودمه في حشاها وكانت أوّل بيت قربان، كما قالت صلواتنا: “إفرحي يا حشا التجسد الإلهيّ. فرحي يا مائدة حيّةً حوت خبز الحياة” (أكاثستس، تسبحة 3) .
وحيث أنّ أمومة مريم هي أمومةٌ أفخارستيّة، فمن الطّبيعيّ أن يُنكر سرّ أمومة مريم وشفاعتها ودورها في تدبير الخلاص أولئك الذين ألغوا سرّ الكهنوت وسرّ الأفخارستيّا. والعكس صحيح، فإنكار أمومة مريم يلازمه إنكارٌ لسرّ الأفخارستيّا، لأنّ العذراء مريم هي أمّ الأفخارستيّا. أمّا نحن فنشكر الربّ يسوع لأنّه منحنا هذا السرّ الذي جعل أمّه مريم البتول أمًّا لنا، وقد علِمنا يقينًا أنّ شفاعتها كأمّ لنا وكأمّ للكنيسة لا تُردّ. وهذا هو السرّ الأخير الذي لا تدركه العقول، الذي أتمّه الربّ يسوع على الصليب.
No Result
View All Result