كنيسة مار تقلا ومار اسطفان – شامات
بين كنائس شامات، هناك كنيسة مُزدوجة وقديمة جداً هي كنيسة مار تقلا ومار إسطفان. تَقوم تلك الكنيسة على أنقاض هيكلٍ وثنيّ، ولا يُمكِن تحديد زمن تَحوُّلها إلى كنيسة، إنما نستطيع أن نَردّ هذه المرحلة تقريبيًّا إلى العهد البيزنطيّ..إستناداً إلى طريقة تنسيق الفُسيفساء التي وُجدت في أرضها. وما بقي من آثار الهيكل الوَثنيّ سوى أعمِدَة ذات أطنافٍ من الطِراز الأيوني قائمة داخلَ الكنيسة وخارجَها. وقد وُجد في هذه الكنيسة أحد الكُتُب البيعية الذي دُوّنَ على هامشه أن البطريرك دانيال الشاماتي (1230-1239) قَد كَرَّس هذه الكنيسة، وحَفَر رَسم الصليب على أحد حِجارتها الكائن في الحائط القبليّ منها تَذكارًا لهذا التكريس، وهذا الرَسم عَثر عليه العُمّال بينما كانوا يَقشِرون طبقات الطين عن وجه الحائط المذكور
وتفصيل الكنيسة أنها عبارة عن سوقَين تَفصُل بينهما قَنطرتان نافِذَتان، وفي كل سوقٍ منهما حَنيَّة شَرقية نصف دائرية غائرة، ويَفصُل تكويرتها عن قاعدتها إفريز حَجَريّ في الجِهة المُخصَّصَة لتكريم مار تقلا، بينما يَغيب الإفريز الحَجَريّ عن الحَنيَّة الثانية المُخصَّصَة لتكريم مار إسطفان. وفي الكنيسة مَذبحان هما عِبارة عن لوحٍ حَجريّ يقوم على قاعدة عامودٍ ضخم. فلَوحة مار تقلا تَرتفِع فوق الإفريز الحجريّ، وهي مَرسومة بيد كنعان ديب، المعروف برَسمِه اللوحات الدينية في ذلك العهد، ومؤرخة سنة 1863، وقد رَمَّمها الفنّان بيار شديد في حزيران سنة 2006. أمّا اللوحة التي تُمثّل مار إسطفان فهي من دون تاريخ، كما وتَرتَفِع على الحائط الجنوبي للكنيسة لوحة زيتية للسيّدة العذراء تحملها الملائكة، وهي من دون توقيع ولا تاريخ. وفي الماضي كان هناك رَواق حَجَريّ خارجي، ذات عَقدَين يُغطّي مسافةً أمام الكنيسة ولا تزال بقاياه بارزة. ولهذه الكنيسة بابان يقومان في جِهتها الغربية.. ويؤدّي كلٌّ منهما إلى سوق من سوقَيها، أمّا أعتابهما فهي عبارة عن أجزاء من أغطية نواويس حجرية، يبرز في أحدها حَفرٌ متقنٌ لرأسَي عجلَين.
ويروي Levon Nordiguian في كتابه “Chateaux et Eglises du Moyen Age au Liban” : “ليس أقلّ من ثلاث حِقَب تَتَمثَّل في هذا البناء الذي يعود، في حالته الحاضرة، إلى العصر الوسيط، وقد قام على الدوام ككنيسة رعائية للقرية. وقد صُعِقَ رينان بدَوام وجود أماكن عبادة في الموضع نفسه منذ العصور المُتناهية في القِدَم حتى يومنا هذا. وإنه لَيُمكننا ان نَلحَظ وجود عددٍ كبيرٍ جداً من الأماكن المُماثلة في معاد وبلاط أو في بقُسميّا… والحَقبَة الرومانية تَتَمثَّل بصورةٍ واضحة في غطاءَين لناووسَين يُستعملان الآن كعَتبَتين لبابَي الكنيسة ذات الجِناحَين. فذلك الّذي فوق الباب الشمالي تَظهَر فيه شرائط مُزخرفة مُعلَّقة، وهي طريقة تزيينية مألوفة جداً في نووايس العَصر الروماني. وقد تكون أيضاً عائدة إلى العهد الروماني جذوع العُمدُ الحالَّة مَحلَّ سابقاتها والمَرصوفة على شكلِ مُعارِضات على الجانبَين العَرضيَّين من الكابيلاّ. والرَكيزتان الأولَيان، المؤلَّفتان من كِتلتَين مَنحوتتَين ومرتَّبتَين، هُما رُبمّا في المَوضِع المُناسب ويُمكنِهما أيضاً أن تكونا عائدتَين إلى الحَقبة الرومانية.. إلاّ إذا كانتا تنتميان إلى الطور البيزنطي الذي تَشهَدُ عليه بعض الأجزاء من الفُسيفساء الماثِلة على أرض الجِناح القبلي. ولهذه الكنيسة جِناحان يُدخَل إليهما من بابَيها اللذين كانا في الماضي يَستظِلاّن رواقاً ذات معزبتَين تمتدُّ فوقهما قنطرتان.. حيث نرى من هُناك المصابيح الثلاثة المُعلَّقة على الجدران وفوقها فَتحَتان صغيرتان مُستطيلتان تُساعدان على دخول الضوء إلى الجناحَين “.
هذا ما جَرى به قَلَم نورديغيان عن هذه الكنيسة، أمّا ندى حلو في كتابها “La Fresque (I)” فهي تَذكُر باختصارٍ عنها أنها ذات جِناحَين، ومَبنيَّة بعناصِر عائدة إلى العُهود القديمة، ومن ذلك غطاء ناووس مُستعمَل فيها كَعَتبة باب. ونَجِد في الداخل آثار ألوان في المِحراب وبقايا من الفُسيفساء في البلاط. وهذه الفُسيفساء تَشهَد على أصل هذا البلاط العائد إلى العُصور المسيحية الأولى (أي من القرن الرابع حتى القرن السادس).
وفي كتاباتٍ عن الكنائس الأثرية في لبنان، نقرأ أن الدِهان التزيينيّ فيها عند تَنظيفَه في الجِناح القبلي، أظهر آثار تَصاوير مَرسومَة باللون الأحمر من ترابٍ صِلصاليّ، مِمّا يُمكن معه تَشبيهها إلى حدّ ٍما بالرسوم الأثيوبية الموجودة في قاديشا.
وللأب يوحنّا صادِر الأنطوني، في كتابٍ له بعنوان “الصلبان والرموز في الفنّ المارونيّ القديم”، حَديث عن كنيسة مار تقلا في شامات، يقول فيه أنها ذات جناحَين ينتهيان بصدرَين (مِحرابَين) سُوّيا في الحائط الشرقي، وهما مُقعَّران في الداخل ومُستديران في الخارج. قوس الصَدر الشماليّ، المُرتفع، ينحدِر مُتَّسعاً قليلاً، بينما الصدر الجنوبي هو أعرض ومقوَّس تماماً. وهذان الجناحان، المُقنطران بشكلٍ نصف أسطواني، تفصل واحدهما عن الآخر ثلاث قِطَعٍ من الأعمدة، وهذه الأجزاء من الأعمدة موصولة بثلاثة أقواسٍ تامة الاستدارة ومرصوفة استطالياً، وقوس الجِهة الشرقية يُحيط بالمساحة القائمة بين الصَدرَين. ويُضيف الأب صادر أن هذا المَعبد مُكرَّس لمار تقلا، هذه القديسة التي ماتت في نهاية القرن الأول، وهي إحدى قدّيسات الشرق الأكثر قِدَماً وشُهرة، والموارنة يُحْيون ذِكراها في الخامس عشر من أيلول، والسِريان في الثاني والعشرين من تشرين الثاني. وأضاف إنّ الصَدر الجَنوبيّ لهذا المَعبد يضمُّ صورةً لها، بينما الصَدر الشماليّ مُخصَّص لمار إسطفان. ويُسهب كتاب صادر في الحديث عن هذه الكنيسة، فيقول إنها كانت قديماً مَسبوقةً ببهوٍ واسعٍ لم يَصمُد منه إلى اليوم سوى بعض البقايا.
ومن الناحيتين التاريخية والأثرية العلمية، يبدو أنّ كنيسة شامات مُشيَّدة في مَوضعٍ هيكلٍ فينيقيّ مُقامٍ للإله “كسيما” الذي قد يكون أعطى اسمه هذا لشامات، وبالركام المُتبقّي من هذا الهيكل..وقد شَهِد هذا الأخير مَصير الهَياكِل المُماثلة كلّها التي انهدمت في عهد الامبراطور جوستينيان على إثر سلسلةٍ من الهزّات الأرضية، وقد أخلى مكانه للمَعبَد المسيحيّ، الذي شُيِّدَ بدلاً منه. وهذا المَعبَد، الذي كان في الأصل مُتواضعاً، جرى تَوسيعه من جانِب الصليبيين الذين، حَسب عوائدهم، كانوا يُدَعّمون جِدرانهم بأعمدة مُقطَّعة كما هو الأمر في كنيسة مار جريُس إدّه وفي كنائس لبنانية عدّة…
ويبدو، حَسب التقليد المُتواتَر، ان إعادة بناء كنيسة شامات هذه جرت في عهد البطريرك الماروني دانيال الشاماتي (1230-1239).. الذي افتتح هو بنفسه هذا المَعبَد كما يُشير إليه حجر الأساس الموضوع في الحائط الجنوبيّ داخلَ البناء حيث نرى نقشين نافرين عبارة عن دائرة يتوسّطها صليب ذات أطراف متساوية الحجم والطول تمتدُّ متَّسعة تدريجياً.
ويَستَطرِد صادر في كتابه قائلاً إن ما يُهِمُّنا في شامات، عدا عن المَعبد الحاليّ الذي يستأثر باهتمامنا بصفته بناءً أثرياً رائعاً جداً، هو أن هذه القرية كانت مَوقعاً يُشكّل مُعتزَلاً للرهبان المُتوحّدين، ثم أصبح بعد وقتٍ قصير مَحجَّةً للقاصدين، إذ إن هذا ما توحي به النقوش الأثرية الماثلة على الجدران. والواقع أنه قد وُجِدَت فيه ثلاثة صُلبان ثنائية القرن، وعِدَّة رُموز تُشير إلى هذه الفِئة من المُتوحّدين.
وعلى الحائط الشماليّ، في الخارج، يوجد صَليب ذات قرنَين مَنقوش على حَجرٍ طويل أُدرِجَ في الزاوية الغربية من الواجهة، وهو العلامة الوحيدة من الخارج للمعبد، لأن أيَّ رمزٍ مسيحيّ ٍآخر غير مَوجودٍ لا على العَتبات، ولا على صَواعد الأبواب والنوافذ، ولا على الواجهات الأخرى. إلاّ أننا نُلاحظ أيضاً وجود مَنحوتتَين على العَتبة العَتيقة للباب الشمالي تُمثّلان رأسَي ثورَين مُزدانَين بإكليلَين مُزخرفَين. وهذه الفِكرة، العائدة لدى الفينيقيين إلى عبادة الزَرع، تُذكّرنا بذلك الرأس الرائع للثور الذي يُزيّن صاعِد باب المَعبد المارونيّ الصغير لمار ريشا الذي لم يَعُد اليوم قيد الاستعمال بل أصبح مُجرَّد مَحجَّة في قرية غِرفين، وقد جرى نَقرُه على ضِفَّة مسيلٍ مائيّ.
وفي داخل مَعبَد شامات، يوجد صليب آخر ثُنائيّ القَرن مَحفور على الجهة الجنوبية الأخيرة لقوس الصَدر الشماليّ، مع صليبٍ ثالث على الحائط الشماليّ قُربَ جِرن المَعمودية، ورابعٍ على تجويف الصَدر الشماليّ.
وهناك نقوشٌ أثرية أخرى مرسومة أيضاً باللون الاحمر.. على طلاء الحائط المُقعَّر للصَدر الجنوبيّ، وهي تبدو لنا بليغة التعبير. وكذلك توجد عَموديةُ مُخترَقة بحوالي عشرة خطوط مُتوازية وهي ترمز إلى مُعتزَلٍ، هذا مع رسومٍ مُماثلة ترمز إلى الزاهد المُتقشّف، وقد اكتُشِفَتْ مثيلات لها في سوريا الشمالية، في قريتَي سوركانيا ودَيرونيه، وذلك على جِدران الكابيلاّت.. كما على حجرٍ من حجارة “برج حيدر”.
والخط العرضيّ البسيط، المُوازي للشَكل السابق، لا بُدّ أنه رمز من الرموز، لأن خطاً مُماثلاً له مُرتسمٌ بين النقوش الأثرية المُكتشَفة على الحائط الشرقيّ لكابيلاّ معبد مار سابا، وخطاً آخر نُشاهده على قبور مدفنٍ رهبانيّ عائد لمَعبَد برَيج في جبل باريشا، ويُحتمَل أشَدَّ الاحتمال ان يكون كلاهما تمثيلاً رمزياً لتقيّ ٍمُعتزِلٍ او مُعْتَلٍ عموداً.
وهذا المبدأ نفسه يَنطبِق على قوسٍ مُجاور للعرضية هو، بِدَوره، يتضمن قوساً آخر، وكلاهما تجتازهما خطوط وأقواس نِصفية، وهذا الرمز هو على الأرجح شاهد على وجود راهبٍ مُتقشَّفٍ مُتوحِّد. وقد اكتُشفَ نَقشٌ مُشابهٌ إلى حدّ ٍما بين نقوشٍ أثريةٍ أخرى مَحفورة على الجدران الجنوبية للبازيليك الشرقيّ وجرن المعمودية في دير كسيجبه، وآخر مُماثل على الحائط الشرقيّ لكابيلاّ عائدة إلى القرن السابع في جنوب بورجكي، وكلاهما يرمزان إلى مُتقشّفين ومُعْتَلي أعمدة.
والرَسم الماثِل إلى يمين القوس السابِق هو عبارة عن عرضية تنتهي بِمُعَيَّنٍ يتضمَّن صليباً ويرتكز على قاعدة أتلفتها الرطوبة، وهذا الرسم يمثّل مُعتليَ عمود. وقد اكتُشف رَسمٌ مُماثِل في بورجكي، وهي قرية قديمة تقع على بُعد 500 متر غربيَّ فافرتين، يُمثّل أيضاً مُعتلياً لعمود. وعلى نفس قَنطَرة الصَدر الجنوبيّ تُمثّل النقوش الأثرية الأخرى، إمّا خُطوطاً وإمّا مُستطيلات، وهي تَلِفَة وبالتالي تَصعَب معرفة حقيقتها. وعلى أرضية المعبد، إلى يسار مَدخله الجنوبيّ، لا تزال مَحفوظةً قِطعة من فُسيفساء مؤطَّرة ومُستطيلة، ولكنّها مُتلفة بمرور العصور عليها وقد صُبِغت بالسواد ربما على أثر حريق. وهذه الفُسيفساء المؤطرة مُحاطة من شَرقِها وغَربِها بصفَّين من المُكعَّبات السوداء المزدانة بمُعَيَّناتٍ مَصنوعةٌ يُمناها من مَجموعة من القَطْع الإهليليجي وموصولة، هذه المعيَّنات، في ما بينها بأقواسٍ صفوفُ المكعَّبات فيها مختلفةُ الألوان.
ومن الجِهتَين القُبلية والغربية للإطار، يبدو صوبَ الداخل اثنان من الصُلبان النِصفية ذات الأطراف المُشعَّبة التي تُظهر أن التبليط قد حصل في القرن السادس، وذلك على شرف وتذكاراً لمُعتلي العمود في ذلك المكان. والواقع ان هذا النوع من الرُسوم الفُسيفسائية يُذكّرنا بفُسيفساء الكنيسة العائدة إلى العصر البيزنطي الموجودة في بيت مري، وهو نوع نادر، وقد صُمِّم خصّيصاً لتزيين المعابد المسيحية المُشيَّدة في مَوضِع هيكلٍ فينيقيّ، مِمّا يشير إلى وجود مُعتزلٍ هناك أو مُعتلي عمود.
ويُتابِع الأب صادر قائلاً إنّه بالنظر إلى مَعبَد شامات فإن المَنسكَين القديمَين لمار أنطونيوس ومار سمعان الموجودَين في هذه المنطقة (في وادي البواليع جنوبي بلدة عبيدات) يؤيّدان رأيَه.
Location: https://goo.gl/maps/rFFc734cDbFqAF3A8
https://youtu.be/rCFjk7B1jBw Video
No Result
View All Result