دير القديس جاورجيوس الحميراء البطريركي
يقع دير مار جرجس الحميراء البطريركي في قرية المشتاية في وادي النضارة قضاء تلكلخ (55كم غرب مدينة حمص)، بين حمص و طرابلس وبالقرب من قلعة الحصن.
يرجع عهده إلى القرن السادس الميلادي في زمن الإمبراطور يوستنيانوس كما تذكر المراجع العربية والأجنبية.
تاريخ الدير:
يرجع عهد بنائه الأول إلى القرن السادس زمن الامبراطور حسن العبادة يوستنيانوس الذي بنى دير سيدة صيدنايا البطريركي ودير القديس حنانيا الرسول في محلة الميدان بدمشق كما يذكر التاريخ الكنسي والمراجع العربية والأجنبية.
في التسمية
اسم الحميراء من المرجح أنه منسوب إلى الموقع الأثري الذي اسمه الحميراء بالقرب من هذا الدير ويرجح أن يكون موقعا لقرية قديمة تحمل هذا الاسم نسبة لإله المطر عند الشعوب القديمة
يرجع بعض علماء الآثار لفظة حميراء إلى الكلمة اليونانية ( خوميروس) التي تعني السيل . فالمنطقة معرضة للأمطار الغزيرة والسيول في فصل الشتاء. كما يقال أن الدير شيد على أنقاض هيكل وثني للإله هوميرا . وهذا الهيكل هو الذي أصبح أساسا للدير المعروف حاليا بالدير القديم وهو الطابق الأرضي الأول.
ومن المحتمل أيضاً أن تكون تسمية الدير معربة عن الكلمة اليونانية (أُمويِّيرس) وتعني (الأخوية الروحية ذات الحياة المشتركة).
بني هذا الدير على الطريق الروماني العام المؤدي من السواحل البحرية إلى البلاد الداخلية كحمص وتدمر وعبر الصحراء. وقد كان في بداية الأمر كهفاً تحيط به بعض المساكن البسيطة للرهبان الذين كانوا موجودين في تلك المنطقة.
هندسة الدير
يتميز الدير بكبر حجمه الذي يجذب انتباه الناظر إليه بخاصة من الجهة الجنوبية. الأسلوب العمراني غير متجانس بما أن الدير من العصور المسيحية الأولى ما انفك ينمو ويتبنى أشكالا عمرانية جديدة.
الحياة الرهبانية في هذا الدير نعمت باستمرارية ناشطة على مدى قرون من الزمن.
أسوار الدير تجعله أشبه بقلعة. وهو يتألف من أربعة طوابق ويحتوي كنيستين وخمس وخمسين غرفة تستخدم لأهداف متنوعة: فمنها الصوامع ومنها غرف الاستقبال والأقبية فالمخازن والإسطبلات. الجزء الأقدم وهو اليوم يشكل الطابق السفلي كان في الأصل مغارة تحوط بها صوامع النساك. الواجهة الجنوبية تعود إلى العهد المسيحي القديم فبابها وعتبتها المبنية من الحجر البركاني الملبس بأناقة كانا يكونان المدخل الرئيسي للدير وهما شاهدان على أقدم حقبة في تاريخه. الباب منخفض جدا بحيث يتوجب على المرء الانحناء ليمر عبره. ثمة أبواب صغيرة متماثلة تعود إلى المرحلة الممتدة بين القرنين الرابع والسادس وقد حفرت على بعضها رموز مسيحية. بجانب المدخل توجد نافذة صغيرة كان الرهبان يوزعزن عبرها الطعام على المحتاجين ويبشرون بمبادئ الإيمان.
يؤدي الباب إلى أربع غرف متلاصقة تعلو جميعها قبب اسطوانية. الغرفة الأولى طويلة وضيقة ويخترق جدارها الغربي باب. الثانية مظلمة وفي وسطها بئر جدارها الخلفي يتكون من الصخر الصلب. أما الغرفة الثالثة فتنيرها فتحة في السقف. جدران هذه الغرفة مبنية بحجارة غير متناسقة وغير مصقولة.
تكاد الكنيسة التي شيدت في عهد الصليبيين تحتل الطابق الأرضي بكامله. وكلن مدخلها الغربي الأصلي بابا خفيضا مبنسا من الحجر البركاني. تتألف الكنيسة من صحن واحد تعلوه ثلاثة قبب مضلعة ترتكز على أفاريز مزدوجة اللون يتكون كل منها من تاج أبيض يستند على عمودين أسودين قصيرين. وعلى هذه التيجلن حفرت أزهار الزنبق أو أقواس في داخلها صلبان وأوراق. شكل التاج ومظهره وبخاصة استخدام اللونين هي ميزة خاصة بالفن المملوكي.
يقسم إيقونسطاس أنيق الصحن عن الهيكل الذي ينتهي بحائط مستقيم وتعلوه قبة أسطوانية عرضية الامتداد. ومن الملاحظ في أسفل الإيقونسطاس الخشبي وجود جدار خفيض مغطى بالآجر الخزفي. في الجدار الشمالي للهيكل كوة كبيرة مربعة الشكل مغطاة بشعرية براقة قوامها حجارة سوداء وبيضاء وهذا نموذج من الفن المملوكي أيضا وتتميز هذه الشعرية وأفاريز الهيكل إلى أن الكنيسة وإن شيدت في عهد الصليبيين إلا أنها رممت في العهد المملوكي.
نجد أمام الإيقونسطاس شكلا خزفيا من الفسيفساء الملونة المنسقة بطريقة هندسية.
أبينة الدير الرئيسية نجدها على مستوى الطابق الأول. يوجد ساحة كبيرة معبدة تدخل من خلالها الدير عبر بوابة تعود للعصر الوسيط رممت حديثا وتتألف من باب استحدث في قنطرة مزينة بالنقوش ثم يقودك ممر مقبب إلى الساحة الداخلية التي يحدها على اليمين مكتب استعلامات ومحل بيع وغرف انتظار. إلى اليسار يمتد رواق ضخم مقنطر خلفه مكتب الأسقف وقاعة محكمة وغرفة استقبال وهذا القسم يرقى إلى العهد العثماني.
ثمة في الساحة الداخلية أدراج تؤدي إلى الكنيسة القديمة في الطابق السفلي.
يتألف القسم شمال الساحة الداخلية من رواق مقنطر يؤدي إلى الكنيسة الجديدة التي بنيت بين عامين ١٨٥٧_ ١٨٦٣ والتي تتكون واجهتها الخارجية البسيطة من الحجر الكلسي المغري اللون وتقتصر زخرفتها على بعض الكوات المستديرة. تعلو الكنيسة قبة نصف دائرية وتغطي السطح باستثناء القبة حجارة قرميدية حمراء تضيف لمسة من الابتهاج إلى بساطة البناء الخارجي. الكنيسة تشبه كنائس العصور الوسطى الفرنسية من حيث هندستها الغوطية المحدثة التي كانت رائجة جدا في القرن التاسع عشر. يتبع مخطط الكنيسة شكل الكاتدرائية مع قبة نصف دائرية. وثمة صفان من الأعمدة المفصصة التي تنتهي بتيجان تسند الأقواس المسننة تقسم الكنيسة إلى ثلاثة أجنحة كما ثمة أعمدة ذات تيجان جعلت في جدران الجناحين الجانبيين كدعائم لها وهي تشبه من حيث الشكل أفاريز الكنيسة القديمة.
أما ارتفاع الكنيسة فهو على مستويين: المستوى الأول يحتوي على قناطر مسننة وعريضة والثاني على قناطر مستديرة الرأس مزودة بنوافذ تمتد بمحاذاة الجدران العلوية مايسمح بإنارة جيدة للداخل . وقد كشفت الجدران فبرز الحجر الجميل المتناسق وكانت الرسوم تغطي هذه الجدران إلا أنها تضررت بسبب الرطوبة وامحت. وفي الهيكل ثلاثة موائد روسية الصنع.
تفيد الرسائل الرسمية المحفوظة من القرن التاسع عشر أن ثمة خانا كان يقوم في الطابق الأرضي بجانب الكنيسة القديمة. أطلق عليه اسم خان الموسم الحار ثم تحول لاحقا إلى طاحونة وبعدها إلى معصرة زيتون مايزال راقودها الحجري موجودا. أما اليوم فيستخدم هذا الخان كقاعة كبرى لإقامة النشاطات الديرية المتنوعة.
فن الأيقونات:
في الكنيسة القديمة صنع رهبان الدير أيقونسطاس خشبي غاية الدقة والإتقان محفور حفرا فنيا والجميل فيه عدم غزو السوس له عبر الزمن. فيه مجموعة رائعة من الأيقونات من أول القرن الثامن عشر ورثت الفن الرومي وأعطته سمات محلية لذلك اصطلح على تسميتها ( الأيقونة السورية).
وقد استهوى هذا الفن هواة الأيقونات فقامت عصابة بسرقة أيقونة القديس جاورجيوس وبلغت إلى لندن حيث عرض فيها مبلغ ٢٥ ألف جينيه استرليني فاسترجعها الانتربول وأعيدت للدير سنة ١٩٧٩.
أما الطابق الثالث الحديث ففيه كنيسة فخمة من القرن التاسع عشر من فن البناء القوطي لها قبة عالية ترى من بعيد وفيها أيقونسطاس خشبي بديع النقش يعد من أهم الأيقونسطاسات الخشبية في كنائس سوريا ولبنان وقد دام صنعه ة أربع وثلاثين سنة وأيقوناته من صنع مدرسة القدس في القرن التاسع عشر.
ويوجد في خزانة الدير أواني كنسية من كؤوس وصواني وصلبان وغيرها، تعد من أهم الكنوز الفريدة في العالم المسيحي، كما توجد أيضاً مخطوطات ووثائق أخرى وكتب تواصي وامتيازات من العهد العربي وهدايا من ملوك الأرمن والكرج والروس
والدير يتبع لبطريركية الروم الأرثوذكس وهو مسجل بين آثار سورية المهمة والذي يشكل مع قلعة الحصن مكاناً سياحياً هاماً، حيث يقع في وادٍ تحيط به تلال دائمة الخضرة وبالقرب منه نبع ومنتزه الفوار، هذا فضلاً عن قيمته الدينية الخاصة إذ يؤمه الناس من جميع الأديان والطوائف والأجناس، يحملون إليه النذور والهدايا ويكرمون عجائب شفيعه.
في الدير نحو خمس وخمسون غرفة صالحة للسكن تغص بالزائرين مرتين كل عام في احتفالين كبيرين الأول في (6) أيار عيد مارجرجس، والثاني في (14) أيلول عيد الصليب.
سوق الدير
يقع السوق حاليا التي يقام فيه المعرض، مرتين في السنة، شمال الدير وتحتوي على مائة محل. وقد بنيت في العام 1913، بمبادرة من البطريرك غريغوريوس حدّاد، في عهد الأرشمندريت كيرللس اليونانيّ الأصل، يتكون البناء من سلسلة من القناطر التي تشكل ممراً يمتد مقابل الجدار الشمالي للكنيسة العليا. يتبع هذا البناء المخطط ذاته الذي كانت تشيد وفقه الأسواق في المنطقة، خلال القرن التاسع عشر، وكانت البُسط هي السلعة الرئيسة في هذا المعرض.
مدرسة الدير
تشكل مدرسة الدير محط خاصة في تاريخه الحديث. ففي السابع من آب 1913، وجه الأرشمندريت شعيا رسالة إلى البطريرك، يسأله فيها الإذن بافتتاح مدرسة ، تتسع لسبعة وعشرين طالباً داخلياً وعشرين طالباً خارجياً. وبعد ذلك بوقت قصير افتُتحت المدرسة التي ضمّت طالبين إضافيين زيادة على العدد المرجوّ. لكن الدروس ما لبثت أن توقفت بسبب اندلاع الحرب العالمية الأولى، وفي 14 آب 1920، طلب رئيس الدير مجدداً الإذن بإعادة فتح المدرسة، نزولاً عند طلب سكان القرى المجاورة الملح. ذلك بأن هؤلاء اتفقوا على التعاون في سبيل إعادة فتح المدرسة، فجمعوا مبلغاً قدره 575 ليرة ذهبية استرلينية – وهو مبلغ ضخم- ما مكّنهم من البدء بأعمال البناء. بعد ذلك بفترة وجيزة، فتحت المدرسة أبوابها، برعاية غبطة البطريرك غريغوريوس الرابع، المثلث الرحمة.
كانت السنوات الأربع الأولى أفضل عهد عرفته المدرسة، إذ قدمت التعليم وفرصاً لمستقبل أفضل لأطفال المنطقة. والمواد التي دُرّست فيها كانت: العربية والفرنسية والإيمان الأرثوذكسي. وقد بلغ عدد التلاميذ في العام 1923 ثلاثة وثلاثين تلميذاً داخلياً وخمسة عشر تلميذاً خارجياً، من بينهم بعض السنّة وتلميذ علويّ. قام بالتعليم في المدرسة ثمانية أساتذة، أما الأعمال التدبيرية الأخرى من طبخ وخدمة فكانت تتكفل بها مجموعة من الموظفين، وكانت تقدم الدولة منح لأطفال العائلات الفقيرة. مع ذلك، نشأت مشاكل حادة في السنة الخامسة من عمر المدرسة، فقرر رئيس الدير ألكسندروس حجا إغلاقها بسبب قلة عدد التلاميذ.
أعيد افتتاح المدرسة في العام 1926، ولكن عدد تلاميذها لم يتجاوز الخمسة والعشرين، وقد عمل فيها ثلاثة أساتذة فقط. أما أهم المواد التي درّست فيها فكانت الدين، واللغتين العربية والفرنسية مع آدابهما، والرياضيات باللغتين، وتاريخ سورية والعالم وجغرافيتهما، والفيزياء والكيمياء وعلم الأحياء. كما أُدخلت مواد أخرى منها اللغة الإنكليزية والرسم والرياضة والخط والموسيقى إلى البرنامج الدراسيّ، وخصّت الحكومة المدرسة بمائتين وخمسين ليرة سورية سنوياً. كما زار المستشار الفرنسي، الدير في العام 1927، وأبدى إعجابه بالمدرسة وتقديره لها فقدّم ستّة آلاف فرنك فرنسي للإدارة.
في العام 1935، تحولت المدرسة إلى مؤسسة تعليمية إكليريكية مدّة الدروس فيها بين الثلاث والأربع ساعات يومياً، كان الطلاب يمضون وقتهم بعدها في القيام بأعمال مختلفة ضمن الدير. كما قدمت المدرسة للطلاب دروساً في الموسيقى واللاهوت واللغة اليونانية. وظلت المدرسة تعمل على هذا النحو حتى العام 1954، عندما أُقفلت رغم احتجاج السكان المحليّين.