كيف ننشئ عائلة مسيحية
بحسب القديس يوحنا الذهبي الفم
مقدمة
إنَّ كل من يريد أن يتحدث عن العائلة والتربية عند الذهبي الفم لا بد وان يجد نفسه في موقف حَرِج وصعب للغاية ولا يحسد عليه إطلاقا. والصعوبة والحرج لا يأتيان من تقريره لما سيتكلم عنه بل من تقريره لما لن يتكلم عنه. فكل كلمة وعبارة ونصيحة من نصائحه بشأن العائلة والتربية هي مهمة بحد ذاتها وبمثابة كنز عظيم سيكون من الخسارة عدم اكتشافه والتمتع ببهائه. ولا بدَّ أيضا لكل من يقرأ مقالات الذهبي الفم عن التربية وتنشئة الأولاد أن يلاحظ التشابه الكبير بين ما يتكلم عنه قديسنا في القرن الرابع وبين ما نعيشه نحن اليوم وهذا إن دلَّ على شيء فإنما أولا على أنَّ كلمات القديسين وإن كانت موجهة لمجموعة معينة في زمن معين إلاّ أن مفعولها لا ينتهي بزوال تلك المجموعة أو بمرور الزمن، ويدل ثانيا على أن المشاكل التي كانت تعاني منها العائلة في عصره تحاكي وبدرجة كبيرة المشاكل التي تعاني منها عائلاتنا اليوم، والسبب في ذلك على ما يبدو، وخاصة من الوهلة الأولى، أن كلمات ونصائح القديسين غالبا ما تذهب سدى لأنها قاسية من جهة ولأنها مخالفة للكثير من عادات المج
قديسنا العظيم، في معرض حديثة عن العائلة وأسس تكوينها بالشكل الأمثل والموافق لتعاليم السيد المسيح وكنيسته، ينطلق من نقطة اختيار العريس لعروسه، مرورًا بالعرس والاحتفالات المرافقة له، ليصل إلى طرق العيش المشترك بين الزوجين، ولينتهي عند تربية الأولاد وسبل إرشادهم. فإذا سارت كل هذه الأمور على الخطوات المسيحية الصحيحة التي يرسمها قديسنا استطعنا أن نكوّن عائلات مسيحية تكون بمثابة كنائس بيتية، والتي ستكون بالفعل النواة الأساسية للكنيسة الكبيرة. هكذا كلما كانت عائلاتنا صحيحة نقية بلا دنس ولا عيب، كانت كنيستنا نقية طاهرة بلا دنس ولا عيب كما يشتهيها المسيح أن تكون لتستحق بجدارة أن تكون عروسًا له.
تمع من جهة ثانية.
ولننطلق في موضوعنا من النقطة الأولى أي من اختيار الزوج أو الزوجة.
اختيار الشريك
الذهبي الفم يعطي أهمية كبيرة لموضوع اختيار الزوج أو الزوجة، ولهذا ينصح أن يبدأ هذا الأمر بالصلاة وبتسليم الأمر لله حتى ينال بركة منذ انطلاقته: “صلّي إلى الله وسلّمي أمرك إليه وهو يجازيك خيرًا لثقتك به في هذا العمل الخطير. عليك أن تتبعي قاعدتين: أن تسلّمي أمرك لله، وتفتشي حسب مرضاة الله عن رجل أديب صالح”. وهو إذ ينظر إلى الأمر على أنه هام وخطير فهو يحلله بطريقة بسيطة وسهلة ومنطقية جدا. فهو يقول مثلا: عندما نريد شراء بيت أو جلب خَدَمٍ إلى بيوتنا فعادة لا نهمل شيئا من الحيطة والتحفّظ والحذر والسؤال لنعرف كل المعلومات الضرورية. فكم ينبغي بالأحرى من الحيطة والحذر والتعمق عند البحث عن زوجة؟ هذا مع العلم أن الأمر مختلف جدا في الأهمية. لأنَّ البيت الذي تشتريه تستطيع أن تبيعه أو تبدله إذا لم يعجبك، الأمر الذي لا يمكنك فعله مع من ارتبطت بها بواسطة الشريعة والناموس وأمام الله وكنيسته. ينبغي إذًا اتخاذ الحيطة قبل الزواج في التفتيش عن المرأة التي بين طباعي وطباعها توافق، الامرأة الطيبة الكريمة المطيعة. وبعد أن تكون قد فحصت كل شيء، ووزنت النتائج، وإذا حصلت عليها فإنك تربح شيئين مهمين جدا: الأول أنك لا تعود ترغب مطلقا في فصلها عنك. والثاني أنك تستطيع أن تحبها محبة لا حد لها.
كما ويحذر الذهبي الفم عند البحث عن الزوجة المناسبة ألا يكون المال والغنى والجاه ولا الحَسَبْ والنَسَبْ وجمال الجسد هي المعايير التي على أساسها سيتم الاختيار، فهذه الأشياء لا تدوم بينما الزواج دائم لهذا يطلب ممن يرغب بالزواج البحث أولا عن الأخلاق والفضيلة والتقوى وجمال النفس الضروريات جدًا لاستمرار الزواج وتكوين الأسرة الصحيحة لهذا يُنبِّه قائلا: ” فلا نفحص في اختيار الزوجة عن أموالها، بل عن أخلاقها. ولا نفتش عن امرأة ذات مال، بل عن امرأة تعرف أن تستعمل المال. ولنتساءل قبل كل شيء عن هدف الزواج، ولنتذكر لماذا رتَّب لنا الله الزواج وما هو هدفه”. كما ويقول في موضع آخر: ” أطلب إليكم ألا تفتِّشوا عن المال والثروة بل فتِّشوا عن المزايا الصالحة في الفتاة: عن الحِشمة والتقوى والوَرَع، فهذه تُغنيكم عن كنوز كثيرة وتقوم مقامها …لا شيء أفضل من الأخلاق الصالحة، ولا شيء ألذ من الأدب، ولا شيء أكثر جاذبية من الحشمة”.
أمّا في حالة كان الأهل هم من يفتشون عن الشريك المناسب لابنتهم، وهم الذين سيقررون من يكون فهو يخاطب الأم قائلا: “لا تطلبي مالاً ولا شهرة في النسب أو عراقة في الحسب، فإن هذا كله قليل الأهمية، لكن اطلبي التقوى والوداعة والعقل الثاقب ومخافة الله، إن كان يهمك مستقبل ابنتك وحياتها معه”.
بعد الاختيار الصحيح الموافق لإرادة الله ووصاياه تبدأ الخطوات العملية باتجاه تكوين العائلة وهذا يبدأ تماما من حفلة العرس.
الممارسات في العرس
بداية يتكلّم قديسنا عن زينة وحشمة العروس في أثناء حفلة العرس، ثم ينتقل بعد ذلك للتكلم عن ترتيب الحفلة والتكاليف، وعن المدعوين والهدف من دعوتهم، وكيف علينا التشبه بما ورد في الكتاب عن عرس قانا الجليل الذي حضره الرب نفسه وتلاميذه وباركوه وزادوا من فرح العروسين حين كاد انتهاء الخمر يكدر عرسهما. لهذا كان ينصح بدعوة من ينوب عن المسيح، أي رجال الاكليروس بالإضافة إلى الفقراء الذين هم أحباء الرب، لتحصل البركة في العرس ولتحل أيضا في وسط العائلة المزمعة بالتشكل.
ففي شأن زينة ولباس العروس يخاطب الذهبي الفم والدة العروس قائلا: ” لا تزيني العروس بالحلي الذهبية بل بالوداعة والحشمة. ألزميها أن تلبس ثوبًا بسيطًا عاديًا وزينيها بالخجل والحياء قليلا عوضا عن الحلي الذهبية، وعلّميها ألاّ تهتم لها … ولا يجوز أن تُملأ الموائد بأنواع المسكرات، ولا داعٍ للتبذير. فلنفكر بكل هذا ونتجنب وقوع الشر لنرضي الله ونستحق الحصول على الخيرات التي وعدنا بها “.
وعن العرس والمدعوين يقول: “لا نُهن الزواج بمحافل الشيطان، بل فلنتشبه بأهل عرس قانا الجليل الذين دعوا المسيح إلى عرسهم وأجلسوه في وسطهم. إني أعرف أنَّ ما أطلبه منكم سيظهر قاسيًا للكثيرين منكم. إنه من الصعب التنكُّر للعادات القديمة. هذا لا يهمّني كثيرًا، لأني لا أفتش عن إرضائكم وإنما أفتش عن خيركم، و لا التمس ثناءكم وولاءكم وإنما أبتغي كمالكم وخلاصكم”. وفي موضع آخر يقول أيضا: ” ادعوا الفقراء وأقيموا منهم محفلا. آه أتخجلون من هذا؟ يا لها من مخالفة للمنطق رهيبة! عندما تُدخِلون الشيطان إلى بيوتكم لا تخجلون، ولكن عندما نقول لكم أن تُدخِلوا إليها المسيح تجدون في هذا شيئا مخجلا! عندما تدخلون الفقراء إنّما تدخلون المسيح نفسه. إنَّ صلوات الفقراء ودموع الأرامل هي أفضل من رقص المهرجين. إنَّ الفقراء الذين تعطونهم يُباركونكم ويستمطرون لكم بصلواتهم كل أنواع النِعَم. أما الذين يملأ أجوافهم طعامك وخمرك فإنهم يتقيأونها على رأسك بذاءات ورذائل “. وأيضًا: ” في أعراسكم واحتفالاتكم، يوم الزواج، اجعلوها تضيء بالبساطة والحشمة وآداب الكتاب المقدس. لا رقصات خليعة، ولا قهقهات فجّة، ولا كلام قبيح، بلا تزمير وتطبيل ولا أي شيء وثني، ولا أي شيء من مواكب الشيطان. ادعوا الله إلى أعراسكم واجعلوه سيد زواجكم. وإذا أنتم عرفتم أن تنظموا وحدتكم في الزواج، فلا يمكنكم أن تخافوا طلاقا وانفصالا، ولا شبهة الزنا، ولا فرصة للحسد والخصام والنزاع. ستعيشون في سلام وفي وحدة كاملة حيث تزهر بنفس الوقت كل الفضائل، ولا يعكر صفو حياتكم شيء. وسط هذا الزواج يمكن تنشئة الأولاد بسهولة في الفضيلة. هكذا يستطيع الرجل مع امرأته وأولاده وكل أهل بيته أن يقضوا حياة هادئة على الأرض وأن يصلوا إلى الملكوت السماوي الذي أتمناه لكم جميعا بنعمة ومحبة سيدنا يسوع المسيح الذي له القدرة والمجد مع أبيه وروحه القدوس المحيي الآن وكل وإلى جيل الأجيال، آمين “.
بعد العرس ينتقل قديسنا للتكلم عن أمور الحياة الزوجية المشتركة بين الزوجين والتي من شأنها أن تساعد كثيرا في إنماء نواة العائلة والحفاظ عليها كبيئة سليمة مناسبة لاقتبال واحتضان العناصر الجديدة التي ستضاف عليها، أي الأولاد.
الممارسات أثناء الحياة الزوجية
هنا وقد بدأت العائلة فالحيطة والحذر يجب أن ينتهيا لتبدأ حياة الثقة والتعاون ومحاولة إسعاد الشريك الآخر والتفاني أمامه وفي سبيله. فهذه شروط أساسية لدوام ونجاح العائلة. الذهبي الفم يؤكد أن الزواج هو مبارك وحسن طالما هو حاصل ببركة الرب شرط أن لا يُساء استعمالُه: ” إنَّ الزواج هو منبع السعادة لمن يحيا حياة مسيحية. وهو على العكس منبع شقاء وتعاسة لمن يسيء استعماله. فالمرأة يمكن أن تكون سند حياتك، ويمكن أن تصبح سبب دمارك. والزواج قد يكون لك ميناء نجاة، وقد يكون لك بحرًا متلاطمًا للغرق. الزواج بطبيعته هو حسن ولا يصبح سيئًا إلا بإساءة استعماله “.
هنا يجب التشديد على موضوع ممارسة الفضائل والابتعاد كليا عن الرذائل حتى يتحول المنزل إلى ميناء هادئ يستريح فيه الجميع من تعب ومشاكل الحياة: “لا نطلب في الزواج سوى شيءٍ واحدٍ، أعني فضائل النفس، والصفات الأخلاقية، حتى يسود السلام في بيوتنا ونقضي فيها حياتنا في وحدة تامة … فإذا كنا نبتغي السعادة، فلا نلتمس الثروة في الزواج. لنطلب أولا وقبل كل شيء السلام فالزواج جُعِل ليكون لنا عونًا على الحياة، وليكون لنا ميناء ضد الواصف وملجأ في الأعاصير، وتعزية في الآلام”.
الذهبي الفم يُشدّد أيضًا على ضرورة تحمّل الزوجين بعضهما لبعض ومساعدة الواحد منهما للآخر ووقوفه إلى جانبه في كل من لحظات حياتهما المشتركة. فهو ينطلق من الآية ” فيصير الاثنان جسدًا واحدًا “ ليؤكّد أنه حتى في الحالات الصعبة والمعقدة يكون الحل بالمحاولات الجادة والدؤوبة وحتى عند الوصول إلى طريق مسدودة فالحل ليس بالانفصال طالما أن العضو غيرالقابل للشفاء لا يقطع من الجسم. ذلك أن المرأة بالنسبة للرجل عضو لا ينفصل ” لحم من لحمه وعظم من عظامه “.
كما ويؤكّد قديسنا أن الاعتدال في المعيشة وعدم طلب الكثير ومحاولة عيش الفضيلة تشكل الدعائم التي يمكن أن يقوم البيت عليها، وهي عادة التي تعطي الكرامة والمجد للساكنين فيه لا الموجودات المادية: ” الكرامة ليست في جمال البيت، في فخامة السجاد، في تكديس الأغطية، في فراش مزين ولا في عدد الخدام. ما يكفينا هو الاعتدال ومحبة الفقراء وتخطي حدود الطبيعة عن طريق حياة فاضلة، هنا يكمن مجدنا وكرامتنا وجدارتنا “.
أمّا عن أكثر المشاكل التي تهدد عادة الزواج وتُحوِّل البيت من فردوس أرضي إلى جحيم فهو، بنظر قديسنا، موضوع الخيانة الزوجية. حيث لم يعد بنظره من داعٍ لهذا الأمر طالما أن الميول الجنسية يمكن التحكم بها والسيطرة عليها بطريقة شرعية ومباركة، وطالما حلاوة هذا الأمر لا تدوم بينما عاقبته وعقوبته تدوم إلى الأبد، وهذا هو السبب المباشر لدمار وهدم البيوت: “تجنبوا الخيانة الزوجية وإذا داخلكم هذا الأمر فامحوه من مخيلتكم لأن أجسادكم كما يقول الرسول بولس ليست ملككم، بل ملكهن وأثمن ما لديهن. فلا تُفجِعوهُنّ بسلب ما يملكن، ولا تُنْزِلْنَ بهم الضربة القاضية. وإذا أنتم لم تخشوا سخطهن ونقمتهن، فخافوا على الأقل من الإله الذي ينتقم لمثل هذه الجرائم، والذي وعد الزناة بأفظع العقوبات: “بالدود الذي لا ينام والنار التي لا تطفأ (مر9:45) “.
” عندما يكون إلى جانبك نبع نظيف فلماذا تسعى إلى الينابيع العكِرة الفاسدة التي تجرك إلى نار جهنم وإلى العذاب الأبدي؟ إذا كان أؤلئك الذين قبل زواجهم يسلمون أنفسهم للدعارة والتهتك لا يفلتون من الدينونة، كالمدعو إلى العرس وليس له لباس العرس، فإن الذين يفعلون الزنا، ويخونون العهد الزوجي، بعد زواجهم لهم دينونة أعظم وقصاص أفظع. ذلك أنهم يكونون أشد إجراما بكثير من الأولين لأنه يحق لهم أن يستمتعوا بملذّات محللة لهم ويتركونها ليستمتعوا بملذات محرمة، ويقعوا في الزنا والخيانة لزوجية “.
أما في موضوع الطلاق فينصح قديسنا أن لا يتم إلا في حالات الزنا على حسب توصية الكتاب لأنه في كل الأمور الأخرى لن يكون له من داعٍ إذا نحن سرنا من البداية على خُطا هذا الكتاب في اختيار الشريك وطريقة اقتراننا به وكيفية حياتنا وتعاملنا معه: ” كل الذين يُطلِّقون زوجاتهم لغير سبب الزنا، والذين تزوجوا بمطلقات لغير سبب الزنا سيذهبون إلى النار الأبدية. وإني لأنصحكم أيها الرجال وأرجوكم، بل أتوسل إليكم أن لا تتركوا نساءكم، وكذلك النساء بأن لا يتركن رجالهن وتمسكوا جميعا بكلام الرسول بولس: “المرأة مرتبطة بالشريعة ما دام رجلها حيا. فإذا مات رجلها فهي حرة أن تتزوج من أرادت بموجب الناموس والأفضل لها أن تبقى بغير زواج “.
والآن ننتقل إلى النقطة الأهم والأصعب في تكوين العائلة ألا وهي تربية الأولاد وتنشئتهم بطريقة صحيحة متوافقة مع تعاليم الكنيسة وآبائها.
تربية الأولاد
بداية وكما هو متوقع، فالذهبي الفم يضع المسؤولية الكبرى في تربية الأولاد على عاتق الوالدين، ويجعل المنزل البيئة المثالية والنموذجية التي منها سيحصل الولد على تربيته، ولهذا ومنذ البداية يجب أن يقرر الوالدان ماذا يريدان من ابنهما وما هو الهدف الذي سيضعونه نصب أعينهما وأعين أولادهما: “لكي يكون الوالدان مربين صالحين ينبغي أن يتحققا من الأولويات في تربيتهما لابنهما: ” هل نريد لأولادنا أن يكونوا مشغولي البال باكتساب الماديات والشهرة الاجتماعية أولا، أم نريد أن يبحثوا ويتعلموا عن ملكوت السموات والمكافأة العظمى التي تنتظر الذين يعيشون حياة الفضيلة”.
الأهل عادة وللأسف يهتمون بكل ما يحتاجه الطفل من الأمور المادية ويتسابقون لإعداد كل شيء له حتى قبل ولادته، ولا يفكرون بحاجاته الروحية وعندما يفكرون يتصرفون على أنها عادات واحتفالات اجتماعية جميلة يكررون فيها عادة الأخطاء نفسها التي كانوا قد وقعوا فيها يوم زفافهم (التكلفة، المدعوين، الحفلة والرقص…): “ما أن يولد طفل حتى يهيئ أبواه كل شيء لا لتربيته بل لتجهيزه بالملابس والألعاب والهدايا. ماذا تفعل أيها الإنسان؟ ارتدِ أنت هذه الملابس ولكن لماذا تربي ابنك الذي لا يملك بعد خبرة هذا الجنون؟ لماذا تربيه على مثل هذه العادات ولماذا تجعل جواهر حول عنقه؟ إنه يحتاج إلى مربٍ صالح لا إلى الذهب لأجل تربيته. فإذا ما كبر ولدك وكان معاكسا للطبيعة فالله لم يأمر بذلك ولكن أنت وجّهته إلى ذلك. نظّمْ قبل كل شيء نفسه وبعد ذلك اهتم لمنظره الخارجي”.
وقديسنا يؤكد أن نفس الطفل هي كالعجين الطري أو كالشمع اللّين حيث يمكن أن تنحت عليه ما تشاء، وتكتب عليه ما تشاء، وتضعه في القالب الذي تشاء وإذا ما فعلت فبمرور الزمن تتصلّب هذه الأشياء وتأخذ شكلاً ثابتًا يبقى ملازمًا للطفل طيلة حياته، وتكون أنت المستفيد الأول من هذا حيث سيعود عليك بالنفع حسنُ تصرّفه ودماثة خلقه وإن لم تفعل خسِرته وخسّرته حياته وستكون أنت السبب في تعاسته. دور الأهل الأساسي هو تنشئة ولد مجاهد من أجل المسيح يحمل حبه في داخله بمثابة درع يقيه ويحميه من تقلبات الزمن: ” لا أزال أحثّكم، أرجوكم، أتوسل إليكم أن تهتموا قبل كل شيء وفي وقت باكر بتربية أطفالكم. ربِّ شخصًا مجاهدًا من أجل المسيح. أنا لا أقول لك أبعِدْه عن الزواج أرسِلْه إلى العُزلة هيئْه ليعيش حياة الرهبان، أنا لا أقول ذلك. إنّني أرغب وأتمنى أن يعتنق الكل هذه الدعوة، ولكن لكونها تبدو حملا فلا أمارس الضغط. أنت ربّ مجاهدا من أجل المسيح وعلّمه مع بقائه في العالم أن تكون له التقوى منذ حداثته … هكذا نرضي الله في تنشئتنا مثل هؤلاء المجاهدين حتى نستطيع مع أولادنا أن نحصل على الخيرات التي وعد بها للذين يحبونه … ابنك هو بالنسبة لك كائن يرتعد ويخاف من كل نظرة أو كلمة فاستخدم بداية حياته من أجل الخير، فأنت أول من يستفيد من صلاح ولده ومن ثم الله نفسه يستفيد من صلاحه. إن كان لك ابن فاضل فأنت تعمل من أجل نفسك”.
علّمه ما يختص بالطبيعة الإنسانية، ما هو العبد وما هو الإنسان الحرّ قُلْ له يا ابني في القديم لم يكن هناك عبيد عند آبائنا الأولين لكن الخطيئة هي التي أدخلت العبودية. اجتهد إذا أنت أن تكون السيد وأن تبقى هكذا لا من حيث مرتبتك بل من حيث تصرفك خوفا من أن تصبح عبدًا. اسهر إذًا لئلا يحصل معك شيء من هذا القبيل، أنت سيد قرارك.
ولتحيق تربية حميدة وفاضلة يخص الذهبي الفم عدة خصال جيدة أو فضائل يمكن للوالدين أن يساعدا الأولاد على بلوغها، وسجايا رديئة وانفعالات للتخلص منها:
فمن الفضائل: الاعتدال (وعلى الأخص في الأكل والشرب)، الازدراء بالثروة والشهرة، اللطف، التقوى، السمو في الكلام، الرصانة، الاستقامة، تمجيد الله، الصلاة، الوقار، قمع الذات، البساطة، الشكر، التيقّظ، العفة …
ومن الخصال الرديئة: السُكْر، زلاقة اللسان، الحماقة، الحقد، العجرفة، إيذاء الغير، كلام الفسق، المشاكسة، الانحلال الخلقي، الافتراء، الحلف ….
لهذا يُشبّه قديسنا عمل الوالدين بعمل الرسام أو النحات الذي يضيف للوحته ما يراه مناسبًا ويزيل منها ما هوغير مناسب حتى تخرج لوحة جميلة فريدة تثير إعجاب الجميع: ” هكذا يجب أن يكون كل واحد منكم أيها الآباء والأمهات على مثال الرسامين الذين نراهم يعملون على لوحاتهم أو على تماثيلهم بانتباه كبير، هكذا انتم أيضا أعطوا عنايتكم كلها من أجل هذه التماثيل الرائعة. لأنه حين يضع الرسامون لوحاتهم أمامهم فهم يطبقون عليها الألوان المناسبة. نحاتو الحجر هم أيضا يصنعون ذلك مبعدين كل ما هو غير ضروري مضيفين كل ما يلزم. أنتم أيضا على مثال صُنّاع التماثيل اجتهدوا في هذا الفن في كل الوقت الذي عندكم وذلك بصناعتكم هذه التماثيل الباهرة من أجل الله. احذفوا كل ما ليس ضروري. أضيفوا كل ما ينقص انظروا إليهم بانتباه كل يوم ما هي الموهبة الطبيعية التي عليهم أن ينمّوها؟ ما هو العيب الطبيعي الذي عليهم أن يمحوه؟ فبعناية ودقة كبيرة اقتلعوا أولا من نفوسهم النزعة إلى الإفراط وعدم الاعتدال. لأن هذا الهوى مؤذٍ للغاية لنفوس الصغار. قبل أن تكون له الخبرة علِّموه أن يكون صاحيًا منتبهًا ساهرًا مواظبًا على الصلوات طابعًا أعماله وأقواله بإشارة الصليب “.
وبالرغم من أن الذهبي الفم كان يُنبِّه الوالدين إلى ضرورة تعليم وتثقيف أولادهم لكنه في الوقت نفسه كان يشدد على أن المعرفة والعلم بدون ضوابط أخلاقية مسيحية يمكن أن يصبحا سلاحًا ضد الإنسان والإنسانية، والعكس صحيح. فأناس مثقفون متعلمون ممن يحملون مبادئ أخلاقية مسيحية عالية يمكن أن يقودوا الكنيسة والمجتمع نحو التقدم والازدهار وأن يضعوا علمهم وثقافتهم في سبيل تطوير ورفاهية البشر والبشرية. ولتحقيق ذلك يجب أن تكون البيئة التي ينمو فيها الطفل نظيفة خلوقة فلا يسمعن الأولاد شيئا غير لائق لا من قِبَل المربي ولا من قِبَل الخدم ولا من قِبَل أي من المحيطين بهم. ولا يسمعنّ قصص النساء والثرثرات التافهة بل فلينصتوا إلى روايات خالية من المواربات ومن الكلام البطال والكذب. والأخلاق المسيحية الحقيقة تأتي أيضا وتنغرس في النفس من قراءة الإنجيل ومطالعة الكتب الروحية، فكما أن وجود الشجرة على سواقي المياه يعطيها الري الدائم الواقي إياها من تقلبات الطقس هكذا النفس الواقفة أمام ينابيع الكتابة الإلهية تستقي منها الحياة وتنعم بندى الروح القدس أيضا فلا خوف عليها من تقلبات الحياة، وإذا تعرضت لمرض أو لوم أو نميمة أو ذم أو استهزاء أو تهاون فإنها تتغلّب عليها بسهولة وتجد التعزية الكافية في مطالعة الكتب المقدّسة، وبالإجمال لا شيء كمطالعة الكتاب المقدس يُعزّي في الأحزان والشدائد ” التمرين على قراءة الكتب الإلهية هو الميناء الهادي والسور الحصين الذي لا ينهدم، والبرج غير المتزعزع والمجد الملازم والسلاح الذي لا يغلب والسعادة الخالية من الاكدار، والنعيم الدائم ومصدر الخيرات التي لا يقدر العقل البشري أن يتصوّرها. إنّها تطرد اليأس، وتحفظ الوداعة وتُغني الفقير وتُبعد الغني عن الخطأ، وتجعل الخاطئ صدّيقا وتقود الصدّيق إلى المأوى الحصين، وتستأصل الشرور وتزرع الخير وتطرد الحقد والضغينة والحفيظة، وتردّ النفس على الفضيلة وتثبتها. بل هي كالطيب للنفس، ونشيد إلهي سرّي يميت الشهوات ويستأصل أشواك الخطيئة. هكذا الكتب الإلهية تعطينا المنفعة العظيمة لا بكثرة كلامها بل بالقوة الكائنة فيها”.
وطالما أن الإنسان المعاصر اليوم يعيش في تشويش وضياع رهيبين مبهورًا من تقدم العلم وإنجازات التكنولوجيا، إلاّ أنه يشعر نفسه مسجونا في عالم يُهمِّش إنسانيته ويخنقه وسط مجموعة من النظريات والأفكار المتناقضة، ويُغرِقه في بحر من الهستِريا الشرائية الاستهلاكية، ويُشتِّته في قبول الأمر ونقيضه، ويحبطه لشعوره بالوحدة القاتلة في عالم يحوطه من الضجة والصخب. لهذا فاليوم نحن بحاجة أكثر من أيّ وقت مضى إلى التنشئة الصحيحة والتربية العملية الواقعية التي يتكلم عنها الذهبي الفم: “علّموا أولادكم ما هو الأهم أعني به الحكمة العملية. بالنسبة لهذه النقطة علينا أن نتعب كثيرًا من أجل إعطائهم فهمًا طارحين عنه كل جهل. دور الفلسفة في ذلك كبير وعجيب، وهي تساعد في معرفة أمور الله وما يخصّنا هنا على الأرض. لنسعَ في أن تتولَّد في ذهنهم الحكمة العملية، ولندربهم فيتعرفوا على أمور العالم من غنى ومجد وسلطة لكي يزدروا بها، ولكي يندفعوا إلى الأمور الصالحة الكبيرة ونذكِّرهم دائمًا قائلين ” يا ابني اتقِّ الله ولا تخشى شخصًا آخر سواه ” إذ إن مخافة الله تكفي للحصول على الحكمة والتمييز في الأمور الإنسانية. علّموهم أن يحسبوا الثروات كلاشيء، المجد البشري كلاشيء، السلطة كلاشيء، الموت كلاشيء، الحياة الحاضرة كلاشيء، هكذا سيكونون حكماء فإنْ زوّجناهم بعد هذا التدريب فكّروا كم سيكونون هدية ثمينة لزوجاتهم “.
أما عن موضوع ضبط الشهوات الجسدية فينبه قديسنا الأهل على هذه النقطة الهامة والحسّاسة، ويؤكد على ضرورة مساعدة الأولاد في ضبط شهواتهم وميولهم لا إلى إثارتها عن جهل وغباوة: ” لنحوِّلْه عن رؤية وسماع أشياء معينة وكل ما لا يليق ولْنَشغِل فكره بملذات مباركة ولْنُحدِّثْه عن سير القديسين الذين ضبطوا جِماح الأهواء بالصوم والتقشف. علّموا أولادكم الصوم والذهاب للكنيسة … علّموا أولادكم أن يصلّوا بحرارة وتخشُّع. ولا تقولنّ بأن الولد صغير ولن يتقبَّل ذلك. الولد الصغير ذو النظر الثاقب والمتيقظ يمكنه أن يتقبل الأشياء كلها. هكذا فالذي يجتهد في أن لا يحلف كذبا وأن لا يشتم شاتميه وأن لا يؤذي بكلامه الآخرين، وأن لا يبغض أحدا، وفوق كل ذلك أن يصوم ويصلي، هذا يجد ما يدفعه بإلحاح لضبط أهوائه …وإن قلتم أنه من الصعب استئصال المرض فهذا يعود إلى أنه ليس من أحد يهتم بمستقبل أولاده. لا أحد يكلمهم عن العُذْرية أو عن الاعتدال في الرغبات ولا حتى عن الازدراء بالثروات والمجد الباطل ولا عن الصوم والصلاة. لا أحد يكلمهم أو يحدثهم عن هذه التعاليم الموجودة في الكتاب المقدس”.
ويوجّه قديسنا حديثه إلى الأم بشكل خاص عند تعاطيها مع ابنتها قائلا: ” فلتهتم الأم بتربية ابنتها الشابة بأن تحوِّلها عن الرفاهية والزينة وكل الأشياء الأخرى من هذا القبيل التي تصنعها الزواني. ولتتقيد الشابة ولتمتنع، كما هو بالنسبة للشاب، عن حياة الرخاوة والسُكْر. هذه أمور مهمة لضبط أهوائها. لأن الشباب يضطربون من جراء حِدَّة حواسهم، والفتيات من رغبتهن في الزينة وكل ما يثير العجب فَلْنُقْصِ عنهنّ إذا كل ذلك “.
ويولي قديسنا أهمية خاصة لموضوع تسمية الطفل مؤكدا أنَّ لها دورًا هامًا في عملية تنشئته. فسابقا كان من الطبيعي أن يعطى للأطفال أسماء ذويهم وأجدادهم وكانت تعزية لهم، أما بعد القيامة فلا فائدة من ذلك إذ لم يعد الموت نهاية، ولا داعٍ لإبقاء النسب على الأرض الزائلة. لهذا كان القديس يطلب من مستمعيه أن يعطوا لأطفالهم أسماء قديسين وأبرار وشهداء. فالاسم هو وسيلة للتذكير بالفضيلة و طريقة إعطاء الأسماء هي دافع للحصول على هذه الفضيلة والاقتداء بالشفيع..
Discussion about this post