دير سيّدة صيدنايا البطريركيّ
المصدر: كتاب “أديار الكرسي الأنطاكي”، منشورات جامعة البلمند، 2007.
تكثر في بلدة صيدنايا السوريّة الأديار والكنائس والمزارات، والتي قد يصل عددها إلى الأربعين، إلاّ أنّ الأشهر من بينها جميعًا هو دير السيّدة العذراء، أحد أهمّ مؤسّسات البطريركيّة الأرثوذكسيّة الأنطاكيّة. منذ العصور الوسطى، كان الحجّاج في طريقهم إلى الأراضي المقدّسة، يتوقّفون في صيدنايا، للصلاة أمام إيقونة العذراء العجائبيّة وطلب بركتها. ويروي التقليد أنّ القدّيس لوقا، هو الذي رسم هذه الإيقونة، التي نُسب إليها العديد من المعجزات في مختلف المراحل الزمنيّة.
صيدنايا جزء من محافظة ريف دمشق ترتفع 1350 مترًا وتبعد حوالى 25 كلم شمال دمشق على أحد منحدرات جبل القلمون. ولطالما أشاد زوار هذه المنطقة بجمالها إلاّ أنّ المباني السكنيّة البشعة اجتاحتها في التاريخ الحديث، فشوّهت طبيعتها.
فسّر اسم صيدنايا بطرائق متعدّدة وقد يحمل أكثر من معنى. بحسب التراث المحلّيّ صيدنايا هو “مكان استراحة الغزال”. كما يُظنّ أنّه يعني “السيّدة الجديدة” بما أنّ كلمة “نايا” باليونانيّة هي “جديد” والجزء الآخر من الكلمة هو “سيّدة” بالعربيّة. لكنّ لفظ “صيد” مرتبط بشكل عامّ بمعنى الاصطياد و”نايا” باللغة السريانيّة لاحقة شائعة خاصّة بالمكان. لذلك فعلى الأرجح أنّ اسم صيدنايا هو “مكان الصيد”. في الواقع، كان ثمّة معبد للإله صيدون، إله الصيد الفينيقيّ، ينتصب في ذلك المكان الذي كان في الماضي السحيق غنيًّا بالغابات. ولكن بفعل التأثيرين المسيحيّ والعربيّ اللاحقين، ربّما شاع أنّ الاسم يعني “مكان السيّدة”.
يرد في أحد أقدم السجلات ذكر هذا الموقع تحت اسم “صادمنايا”، إلاّ أنّ المخطوطات اللاحقة تقدّم أسماء أخرى. ففي العصر الصليبيّ كان المكان يُعرف بدير سيّدة صرديناي أو سيّدة الصخرة، وفي القرن الخامس عشر يظهر اسم صردينايره، أمّا في القرن السابع عشر فصِيدينايا إلى أن أصبح أخيرًا صيدنايا.
يتميّز دير صيدنايا بضيافته السخيّة على الأخصّ. فالعائلات الأرثوذكسيّة من دمشق وغيرها من المدن تأتي تقليديًّا لتمضية الصيف هناك. كما أنّ في الدير ميتمًا للفتيات، يضمّ اليوم حوالى أربعين فتاة، تديره خمس راهبات ورئيسته الأخت فبرونيا. في العام 1948، أسّست الأمّ الرئيسة، ماريّا حسّون المعلوف من المحيدثة-لبنان، مدرسة للراهبات وكوّنت رهبنة تتألّف من فتيات الميتم، وقد اعترف بالمدرسة رسميًّا في العام 1950، وهي تقدّم شهادة علميّة مصدّقة من البطريركيّة الأنطاكيّة.
منذ العصور الوسطى، ارتدت الراهبات ثوبًا من الصوف والقطن يُربط عند الخصر بحزام جلديّ عريض. ولكلّ راهبة صومعتها التي تقيم فيها طوال مدّة إقامتها في الدير وهي مسؤولة عن تأثيثها وصيانتها والاعتناء بها. وعادةً يلحق بها مطبخ صغير وحمام.
تؤدّي الراهبات صلاة الصباح والمساء عندما يُقرع جرس كنيسة السيّدة، وخلال فترات الصوم تؤدّى هذه الصلوات أربع مرّات في اليوم. في العادة، تتناول الراهبات طعامهنّ مجتمعات، ولكنّ بعضهنّ يفضّلن تناول طعامهنّ منفردات فيتمّ تقديم الطعام لهنّ في صوامعهنّ. خلال النهار تؤدّي الراهبات واجباتهنّ الدينيّة ويقمن بالأعمال المختلفة؛ فلكلّ منهنّ وظيفتها كالحياكة والتطريز وصناعة الأدوات والتذكارات الصغيرة المخصّصة للبيع. لكنّ عملهنّ يتركّز اليوم حول ترميم الإيقونات وهو حقل متنام باستمرار. بالإضافة إلى ذلك ثمّة خمس راهبات متخصّصات بخياطة الثياب الكهنوتيّة. أمّا الراهبات الأخريات فيتولّين الاهتمام بالحجّاج والزوّار الكثر، فيستقبل الدير في الصيف وأيّام الأعياد ما يقارب ثلاثمائة وخمسين شخصاً.
ما يزال الدير يملك أراضي كثيرة في سورية ولبنان، وتتكفّل الراهبات بزراعة جزء كبير من حاجاتهنّ الغذائيّة. فالخوابي السفليّة (الموجودة تحت الصوامع الرهبانيّة) تحوي مؤونة الدير السنويّة التي يأتي معظمها من حصاد أراضي الدير. وقد حُفظت في هذا المكان كمّيّات كبيرة من الحبوب والطحين والبقول وغيرها من المواد الغذائيّة، ووُضعت في خزّانات حجريّة كبيرة لتلبية حاجات الراهبات والأيتام والزوّار. وتوفّر للدير حاجته من المياه وما يفيض أربعة آبار حُفرت تحت مستوى الطابق السفليّ.
يحتفل الدير بعيد والدة الإله سنويًّا في ذكرى ميلادها، وذلك في الثامن من شهر أيلول. وهذا يوم استثنائيّ للبلدة بكاملها إذ تغصّ بالزوّار من جميع أنحاء سورية ولبنان. فأهالي صيدنايا الذين يتركون في بعض الأحيان منازلهم للزوّار يخرجون إلى الشارع ليرحّبوا بالضيوف القادمين وينضمّوا إلى حشود المؤمنين. فوفقًا للتقليد، ترسل الأمّ الرئيسة مجموعة من الأشخاص يحملون راية الصليب المقدّس ليستقبلوا الزوّار عند العمود القائم في وسط البلدة. وهناك يجتمع الحجّاج ليبدأوا الزيّاح تتقدّمهم راية الصليب، منشدين الأناشيد ومطلقين الألعاب الناريّة.
وإلى جانب هذه النشاطات من الحجّ الجماعيّ، ثمّة حجّاج منفردون يأتون من سورية ولبنان والأردن وحتّى من البلاد الغربيّة، لزيارة الدير وتمضية عدد من الأيام فيه، رافعين الصلوات إلى والدة الإله لينالوا بركتها. كما أنّ عائلات مسيحيّة عربيّة وقبائل مسيحيّة كثيرة تنذر أن تعمّد أولادها في صيدنايا. ولا يزال مبدأ حسن الضيافة متّبعًا في الدير وفقًا للقانون المعلّق على جميع أبواب غرف الزوّار، إذ يُطلب من المسافر الذي يمضي ليلته في الدير أن يترك تبرّعًا يحدّد هو قيمته يصبّ في صندوق صيانة الدير.
تاريخ الدير
تاريخ نشأة دير سيّدة صيدنايا غير محدّد. فقد وجدت فيه بعض الآثار من العصر الكلاسيكيّ ومنها بقايا معبد وكتابات يونانيّة. كما أنّ المسيحيّة بلغت منطقة القلمون في زمن القدّيس بولس، فاللغة الآراميّة التي نطق بها سكّان المنطقة حتّى القرن الثاني عشر مشتقّة من اللغة التي كانت محكيّة في زمن المسيح، وكانت المخطوطات الملكيّة (أي الأرثوذكسيّة)، المدوّنة باللغة السريانيّة، تُنسخ في صيدنايا حتّى القرن الثامن عشر. بالإضافة إلى ذلك، فالأثر الآراميّ واضح جدًّا في اللهجة العربيّة المحلّيّة التي يستخدمها أهالي صيدنايا وأهالي قرية معلولا المسيحيّة المجاورة. وثمّة قريتان أخريان كانتا مسيحيّتين لكنّهما الآن مسلمتان، ما يزال أهلهما ينطقون باللغة الآراميّة. فسكّان القلمون المحافظون يتمسّكون بكل ثبات وتصميم بتقليدهم الأصيل ويشدّدون على صلتهم بالمسيحيّة الأولى.
يروي لنا التقليد أنّ الدير بناه الأمبراطور يوستينيانس الأوّل (527-565). ويأتي في الأسطورة أنّ الأمّبراطور كان يصطاد في منطقة القلمون فظهرت له العذراء مريم وأمرته ببناء دير على الصخرة العالية التي كانت هي واقفة عليها. في اليوم الثاني بدأ يوستينيانس العمل على إرساء دعائم بناء الدير. وعندما اكتمل البناء أصبحت ثيودورا، أخت الأمّبراطور يوستينيانس، أول رئيسة للدير.
لكن لا يوجد أيّ مستند من تلك الحقبة يثبت أنّ يوستينيانس هو الذي بنى الدير. فجدران صيدنايا لا تحمل أيّ أثر من القرن السادس، ولا يذكر بروكوبيوس القيصريّ (ت. 561)، مرافق يوستينيانس ومؤرخّه الرسميّ، أيّ شيء عن تأسيس الدير. كما أنّ المؤرخين المسيحيّين الذين عاشوا في العصر الوسيط، لا يذكرون يوستينيانس، بل يرد في أعمالهم أنّ الدير أسّسته أرملة خلال العصر البيزنطيّ انسحبت من العالم لتعيش حياة النسك في القلمون[1]. هكذا، فبدون أيّ دليل مثبت يربط صيدنايا بالحقبة البيزنطيّة، يكون من المستحيل التحدّث بثقة ويقين عن نشأته الأولى.
يقال إنّ إيقونة صيدنايا الشهيرة المعروفة بـ“الشاغورة” هي من عمل القدّيس لوقا الإنجيليّ نفسه، وهو الذي رسم ثلاث إيقونات عجائبيّة للعذراء بعد أن امتلأ من نعمة الروح القدس في العنصرة. وقد نشأ هذا الاعتقاد في مرحلة حرب الإيقونات التي شهدها القرن الثامن واستمرّت حتّى بدء القرن التاسع.
رغم أنّ العديد من كنائس سورية دمّر في العام 1014 تنفيذًا لأوامر الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله، فإنّ دير صيدنايا غير مذكور في هذا السياق، وتاليًا من المرجّح أن يكون الدير قد نجا من هذا المصير. أوّل موضع يرد فيه ذكر الدير هو تقرير وجّهه في العام 1175 بوركهارد من ستراسبورغ، سفير الأمّبراطور فريديريك الأوّل بربروسا إلى بلاط صلاح الدين[2]، إلى مولاه (أي الأمّبراطور بربروسا). يتضمّن هذا التقرير مقطعًا كاملاً حول دير صردناي ساردًا رواية تأسيسه. فمنذ بدء القرن الثالث عشر، ساهم الشعراء والمطربون بإكساب قصّة هذا الدير الأرثوذكسيّ الموجود في الشرق مزيدًا من الشعبيّة، فبدأ الحجيح الغربيّون يتوافدون إليه بأعداد كبيرة.
واقع الحال أنّ المماليك، خلال حكمهم بلاد الشام بين 1250 و 1517، هدموا الكثير من الكنائس والأديار، ولكنّ دير صيدنايا نجا من هذا المصير، إذ يرد ذكره لدى كاتبين عربيّين عاشا في تلك الحقبة هما شهاب الدين العمري (القرن الرابع عشر)، وياقوت الحمويّ (القرن الخامس عشر). فالأوّل يشيد بالهدايا القيّمة التي قدّمها له سكّان صيدنايا، ويشير إلى أنّ رحلة الحجّ إلى الأراضي المقدّسة كانت تتضمّن في العادة زيارة إلى صيدنايا[3]. أمّا الثاني فينوّه بكروم الدير وجودة نبيذه[4].
يقدّم الرحّالة الروس معلومات أكثر عن تاريخ صيدنايا. فيرد لديهم أنّ الرهبان في العهد العثمانيّ المبكّر تركوا الدير وسكنته الراهبات فقط بسبب الضرائب القاسية التي فرضتها السلطات. ففي العام 1506، وجّه البطريرك يواكيم ابن جمعة كتابًا إلى قيصر الروسيّا إيفان الرابع الرهيب، طالبًا منه مساعدة دير صيدنايا. وبعد ثلاثين سنة أتى راهب إلى الدير وأحضر معه مائة وعشرين قطعة من الذهب، هديّة من القيصر إلى الراهبات الستّين في صيدنايا.
وتذكر وثائق الوقف التي دُوّنت في بدء القرن السابع عشر اسم الأمّ الرئيسة مرتا، ابنة حاجي سعد. وفي العام 1636، رمّم صيدنايا من دون طلب الإذن من السلطات التركيّة، فسُجن رئيسه الأب موسى وعذّب وأُرغم على دفع غرامة كبيرة. في العام 1656، زار بطريرك أنطاكية مكاريوس الزعيم موسكو وتلقّى رسائل خاصّة من القيصر تنصّ على منح الحماية الروسيّة للأديار التالية: القدّيس جاورجيوس – الحميراء، البلمند، وصيدنايا.
وفي العام 1708، بلغ عدد الراهبات في الدير أربعين راهبة مع رئيس وخمسة عشر راهبًا. وكان رئيس الدير والرهبان يمضون الليل في القرية ويعملون في الدير ويصلّون فيه خلال النهار.
في العام 1762، بعد ثلاث سنوات على حدوث زلزال عنيف، أطاح بالكثير من الكنائس والجوامع في دمشق، أعيد بناء الدير بإذن خاصّ من المفتي العثمانيّ في دمشق الشيخ علي المرادي، بفضل تبرّعات قدّمها أعيان دمشق. وقد أعيد بناؤه وفق مخطّط ثلاثيّ بحيث يضمّ ثمانين صومعة. وكان للكنيسة أربعة مذابح أحدها مخصّص لليعاقبة (السريان الأرثوذكس)، الذين كانوا يقصدون الدير لتكريم إيقونة العذراء. وفي العام 1768، عُيّن المؤرّخ ميخائيل البريك رئيسًا لدير صيدنايا.
يخبّر أحد الرحّالة الذي زار دمشق، في العام 1825، أنّه قبل سنتين فقط نجا الدير بأعجوبة من الدمار الذي كاد يلحق به، إثر إعلان الاستقلال اليونانيّ في العام 1821[5]. وفي العام 1840 يروي القنصل الروسيّ أوسبنسكي أنّه شاهد في الدير ثماني وثلاثين راهبة، ويشير إلى أنّ عائدات الدير تصبّ كلّها في صندوق البطريركيّة. وفي تلك الحقبة كان عدد من الأديار الصغيرة المجاورة تابعًا لدير سيّدة صيدنايا كدير القدّيسة بربارة والقدّيس جاورجيوس والقدّيس توما والقدّيس خريستوفورس.
وفي بدء القرن التاسع عشر، احترق جزء كبير من المخطوطات السريانيّة التي كانت محفوظة في الدير. وكمنت نيّة مفتعلي هذه الحادثة في وضع حدّ لادّعاءات اليعاقبة المتعلّقة بملكيّة الدير، ومحو ذكرى اللغة السريانيّة التي كانت ما تزال تُسمع في صيدنايا في القرن الثامن عشر، والتي يخبر عنها الرحّالة أمثال براون، وريتر، وفولني[6].
لطالما كرّست راهبات صيدنايا أنفسهن للعمل الشاقّ. ففي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر كنّ يعملن في زراعة التوت وصناعة الحرير. فالرحّالة الأسقف بوكوك من القرن الثامن عشر يسجّل أنّ الأمّ الرئيسة أرته يديها الخشنتين والقاسيتين. وبشكل عامّ، من المعروف أنّ صيدنايا لطالما ضمّ عددًا كبيرًا من الرهبان. ففي العام 1384[7] سُجّل ثلاثة وعشرون راهبًا، وفي العام 1598[8] أربعة وعشرون. ويحصي الرحّالة في العام 1735 حوالى الأربعين راهبًا[9]. أمّا بوكوك الذي زار الدير، في وقت قريب من تلك الفترة، فيذكر أنّ عدد الراهبات في الدير يبلغ العشرين ويرأسهنّ راهبان. ويشير الكاهن والرحّالة الإنكليزيّ ج. ل. بوتر، في العام 1852، إلى أنّ الدير يضمّ أربعين راهبًا ورئيسًا واحدًا، والعدد ذاته يرد في سجلات العام 1930[10]، ويضم الدير حاليًّا ثماني وثلاثين راهبة.
هندسة الدير
خلال سنوات طويلة، عرف الدير تغييرًا مستمرًّا، غير أنّ أسلوب العمران الغالب فيه ينتمي إلى نهاية العصر العثمانيّ وبدء القرن العشرين. والأقسام التي تنتمي عمرانيًّا إلى العصر الوسيط هي: الشاغورة أو مزار العذراء الذي يحوي الإيقونة القديمة؛ والطابق السفليّ الذي يضمّ المطبخ والأقبية؛ والغرفة المقبّبة الموجودة تحت صوامع الراهبات. فهذه الأقسام كلّها بنيت مباشرة فوق الصخر الذي يمكن رؤيته في الممرّ المؤدّي إلى الشاغورة.
1. مزار الشاغوة
ينتهي الطريق المتعرّج المؤدّي إلى الدير عند قاعدة الجرف الصخريّ. وهناك درجان متساوقان يصعدان بشكل متعرّج في أعلاهما سور الدير الذي لا يزيد ارتفاع مدخله عن المتر. ويؤدّي هذا المدخل إلى ممرّ صخريّ تدعمه، في بعض المواضع، جدران حجريّة وفيه فسيفساء تمثّل الإمبراطور يوستينيانس وأخته ثيودورا يقدّمان إلى العذراء والطفل نموذج الدير.
يصعد الممرّ تدريجيًّا باتّجاه الساحة الداخليّة الصغيرة للدير، التي منها يقود باب مقوّس صغير إلى الشاغورة بعد اجتياز بهو يجب فيه على الزائر أن يخلع نعليه. مزار الشاغورة مظلم جزئيًّا؛ فهو غرفة صغيرة سقفها منخفض ومقبّب وجدرانها تغصّ بالإيقونات التي غلب على معظمها السواد الناتج من دخان الشمع. المصابيح الملبّسة بالذهب والفضّة تتدلّى من السقف. وقد وُضعت الإيقونات القديمة بمعظمها داخل صناديق من الفضّة وأطر من الخشب المحفور. مصدر النور الوحيد يتكوّن من عشرات من الشموع المضاءة على طاولة مخصّصة لها ومن الشمعدانات.
تتدلّى ستارة بيضاء أمام كوّة صغيرة أُقفلت بواسطة شبكة حديديّة علّقت عليها السلاسل الذهبيّة والفضّيّة والأساور والعقود والكثير من الصلبان، وكلّها هدايا قدّمت للدير منذ أقدم العصور. فخلف هذه الشبكة الحديديّة توجد إيقونة العذراء العجائبيّة الشهيرة التي يقال إنّ القدّيس لوقا رسمها بيده. فالشاغورة باللغة السريانيّة تعني “المشهورة” أو “اللامعة”. وقد تعني أيضًا “الينبوع” وهذه صفة موافقة لوالدة الإله، بما أنّ المسيحيّة بلغت إلى البشريّة بواسطتها.
2. كنيسة الدير
الكنيسة الحاليّة بناؤها معاصر، وقد رمّمت في عهد البطريرك إيروثيوس (1851 – 1885)، بعد أن دُمّرت خلال مجازر العام 1860. إذ لم يبق شيء من الكنيسة القديمة التي عرفها الحجّاج الصليبيّون وتحدّثوا عنها. فأولى الكتابات التي تصفها، والتي يتراوح تاريخها بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر، تفيد بأنّ الكنيسة هي كاتدرائيّة تتألّف من ثلاثة أجنحة مع قناطر تضمّ ستّة أقواس في كلّ جهة وسقف مقبّب وأرضيّة من الفسيفساء؛ وأنّ الإيقونسطاس القائم في الطرف الشرقيّ من صحن الكنيسة كان يحمل إيقونات كثيرة؛ وجدران الهيكل مزيّنة بالرسوم الجميلة. ورغم أنّ القبب الحجريّة تعود إلى العصر الوسيط، إلاّ أنّ الفسيفساء الأرضيّة تدلّ على أنّ الكنيسة، بنيت في الأصل، خلال العصر البيزنطيّ بين القرنين الرابع والسادس، ما يعزّز رواية تأسيسه.
يتحدّث الرحّالة الروسيّ بارسكي، الذي زار صيدنايا في العام 1728، عن كاتدرائيّة من خمسة أروقة. سقفها مقبّب وأرضها رُصفت بالحجارة اللوحيّة: وحده الهيكل ما يزال يحافظ على الفسيفساء البيزنطيّة. ويصرّح بارسكي بأنّ كنيسة صيدنايا كانت أجمل كنيسة زارها في الشرق.
وحين حلَّت كارثة العام 1759، انهدم جزء كبير من الكنيسة والسقف بكامله. لكنّ إعادة بناء الأجزاء المتهدّمة حصلت في العام 1726، ثمّ خضعت الكنيسة لمزيد من التغييرات في العام 1810. أمّا الترميم الأخير والكامل فقد أُجري بعد التهديم الذي حصل في العام 1860.
من الخارج لا يمكن رؤية شيء من الكنيسة سوى الجدار الشماليّ المواجه لساحة الدير. هذا الجدار المبنيّ بالحجر الكلسيّ الأبيض، والذي تخترقه نوافذ صغيرة، بسيط المظهر ومتواضع. داخل الكنيسة مساحة واسعة مكعّبة تكلّلها قبّة مرتكزة على ثلاثة أروقة. والصحن الرئيس الذي تعلوه قبّة نصف اسطوانيّة هو أوسع وأعلى من الرواقين الجانبيّين. وثمّة نوافذ ضيّقة مقوّسة موجودة في الجدارين الشماليّ والجنوبيّ على مستويين، ولكنّ القبّة تحجب النور، فثريّات الكريستال الجميلة المتدلّية والشموع المشتعلة هي التي تنير الكنيسة.
داخل الكنيسة الفسيح والشاهق متساوق بشكل تامّ، والأرض مبلّطة بالرخام المطعّم بألوان متعدّدة. الجصّ الأزرق يغطّي الجدران العليا والقبب. وثمّة نموذج نحتيّ عند قاعدة القبب يلفّ الكنيسة بأسرها؛ وفي قبّة الهيكل رُسمت شمس مشعّة.
الكنيسة تغصّ بالشموع ومنابر الوعظ والمقاعد والإيقونات المحاطة بأطر من الرخام أو المعلّقة تحت مظلاّت. وثمّة سلّم يؤدّي إلى منبسَط مثمّن الأضلع حروفه مزدانة بالإيقونات التي تمثّل الإنجيليّين الأربعة والمسيح المتربّع على العرش. فوق إيقونة المسيح عُلّقت منحوتة النسر ذي الرأسين الذي يرمز إلى الإمبراطوريّة البيزنطيّة بشقيها الدينيّ والسياسيّ وقد تبنّته الكنيسة الأرثوذكسيّة. أمّا الإيقونسطاس الخشبيّ الكبير فيمتدّ عبر أروقة الكنيسة الثلاثة. والإيقونات التي عُلّقت على هذا الإيقونسطاس الرائع تعود بمعظمها إلى القرن التاسع عشر.
3. المباني الأخرى
في الساحة الداخليّة سلّمٌ يؤدّي إلى القسم العلويّ الخاصّ بالراهبات، حيث ثمّة فسحة صغيرة مواجهة لغرف الاستقبال والمكاتب. وهناك أيضًا متحف يقوم مكان كنيسة القدّيس ديمتريوس، إلى يمين الكنيسة الرئيسة وخلف شبكة حديديّة سوداء. في السنوات الأخيرة جُهّز عدد من الغرف بحيث أصبح من الممكن عرض المجموعة القيّمة التي يملكها الدير، والتي تتألّف من الإيقونات وغيرها من الأدوات الدينيّة، التي تبرّع بمعظمها الحجّاج وسواهم من المؤمنين، وتعود كلّها إلى القرن السابع عشر. وفي المتحف حجرتان من الزجاج عُرضت فيهما الملابس الأسقفيّة الفاخرة المصنوعة من القماش الذهبيّ المطرز. كما ثمّة حجر أخرى تحوي أدوات دينيّة ذهبيّة أو فضّيّة، ومنها الصلبان والمباخر والكؤوس والشمعدانات والأوعية الخاصّة بحفظ الذخائر. وهناك غرفة أخرى تحتوي على مخطوطات قديمة قيّمة وأدوات ليتورجيّة نقلها البطاركة الأنطاكيّون إلى الدير خلال القرن العشرين.
من الموجودات الأكثر إثارة للاهتمام، نعش المسيح الذي يستخدم مرّة واحدة في السنة، في يوم الجمعة العظيم المقدّس، وهو مزيّن بسخاء بالأزهار القماشيّة وعقود اللؤلؤ. وعلى غطائه الخشبيّ إيقونة تمثّل وجه المسيح في القبر مع والدته والقدّيس يوحنّا ينوحان كلّ من جهة.
أحد أقدم أجزاء الدير يتضمّن المطبخ وقاعة الطعام وغرفة الجلوس. وتعلو كلاّ منها قبّة أسطوانيّة على مستوى مختلف من العلوّ وتتّصل بعضها ببعض بواسطة بعض السلالم الصغيرة. جدرانها الخارجيّة سميكة جدًّا تخترقها فتحات صغيرة. وفي الأسفل، بعد درج شديد الانحدار توجد الأقبية الكبيرة التي تقسم إلى ثلاثة أقسام. في إحداها خوابي زيت كبيرة حُفرت في الأرض وخزانات من الحجر ملأى بالحبوب والخضار اليابسة.
تقع صوامع الراهبات إلى يمين الساحة الداخليّة بعد الكنائس والمزارات وتطلّ على تلّة ووادٍ يشكّلان منظرًا خلاّباً. وانطلاقًا من ساحة خلفيّة صغيرة، ثمّة باب يقود إلى غرفة طويلة تعلوها قبّة أسطوانيّة تفوق سماكة جدرانها المتر وتتخلّلها نوافذ ضيّقة. وقد بُنيت هذه الجدران من الحجارة والآجر وهي طريقة اتّبعت للتخفيف من الأضرار الناتجة من الزلازل. وربّما كانت هذه الغرفة الخاصّة باستقبال الزوّار أقدم جزء من الدير. ويقوم فوقها مبنًى يتألّف من أربعة طوابق: الأوّل يحتوي على ورشة خياطة وغرفة غسيل، والطوابق الأخرى مخصّصة لصوامع الراهبات.
إيقونات مزار الشاغورة
إيقونة الشاغورة لا تكشف للزوّار أبدًا. ولكن وصلنا عدد من الكتابات الوصفيّة لها من الزوّار الذين رأوها في العصر الوسيط. الوصف الأوّل قدّمه حاجّ اسمه جيرو في العام 1175 ويأتي فيه: “رأيت في هذه الكنيسة لوحة مرسومة على الخشب طولها ذراع وعرضها نصف ذراع، وُضعت في إحدى نوافذ المزار خلف شبكة حديديّة، وهي إيقونة للعذراء المغبّطة. ولكن يا للروعة فالإيقونة والخشب يشكّلان الآن كيانًا واحدًا ويرشح منه بدون توقّف الزيت الذي رائحته أعطر من الطيب، والذي شفى العديد من المسيحيّين والعرب واليهود من أمراض متنوّعة. والجدير بالملاحظة أنّ هذا الزيت لا ينقص أيًّا كانت الكمّيّة التي أُخذت منه. لا أحد يجرؤ على لمس هذه اللوحة ولكن رؤيتها ممكنة للكلّ. الزيت يُحفظ بقداسة وعندما يأخذ المرء كمّيّة من هذا الزيت بتقوى وإيمان تكريمًا للعذراء وبكلّ احترام ووقار، يحصل على كلّ ما يطلبه. خلال الأيّام التي يُعيَّد فيها لرقاد العذراء وميلادها المجيدين، يأتي العرب جميعًا من المناطق المحيطة إلى هذا المكان ليصلّوا مع المسيحيّين ويقدّموا هداياهم بكلّ إخلاص”.
ليس لدينا إلاّ القليل من التفاصيل الأخرى حول هذه الإيقونة. فالشهود العيان الغربيّون يتحدّثون عن مقاييس مختلفة لها (1×1،5 ذراع؛ 1×1،5 قدم؛ أو 3×4 أقدام) والرحّالة الألمانيّ ليمان (1472 – 1480) يقول إنّها إيقونة العذراء المرضعة[11]. وثمّة حاجّ زار الدير في السنة 1336، وصف الإيقونة بأنّها ليست سوى صورة من اللون الأحمر الداكن تغمرها الرطوبة[12]. وبحسب الزائر العربيّ ابن مسعود فالإيقونة لوح خشبيّ من اللون الأحمر الداكن تبلغ سماكتها إصبعين وعرضه أربع أيدٍ. أمّا الرسم فلم تعد رؤيته ممكنة[13].
الإيقونات الأخرى المعلّقة على جدران الشاغورة مغطّاة بطبقة سميكة من السخام بسبب الشموع المضاءة بدون انقطاع على مدى قرون. واحدة منها فقط ما تزال واضحة بعض الشيء وهي صورة للعذراء بجانبها، رجل جاثٍ على ركبتيه، لابسًا معطفًا من الفرو الأخضر وعمامة. ويقول التراث المحلّيّ إنّه السلطان المملوكيّ بيبرس أو السلطان الأيوبيّ العادل أخو صلاح الدين. لم يذكر هذه الصورة أيّ من الرحّالة في العصر الوسيط. ولكنّ أسلوبها الذي ينتمي إلى المرحلة ما بعد البيزنطيّة، يرجّح أنّها تخبر عن أسطورة من العصر الوسيط[14].
إيقونات أخرى
في الكنيسة والدير عدد كبير من الإيقونات والموجودات القيّمة التي قدّم الحجّاج معظمها. فالإيقونات تغطّي جدران الكنيسة الرئيسة أي كنيسة السيّدة. ومعظمها رُسم تبعًا لنمط المدرسة القدسيّة التي ازدهرت بعد العام 1860، وهي السنة التي شهدت فيها دمشق وجبل لبنان أحداثًا مأساويّة إذ قتل العديد من المسيحيّين وهدم عدد كبير من الكنائس. ولكن عندما عمّ السلام من جديد، شهدت المنطقة حركة إحياء مسيحيّ قويّة، وإعمارًا كثيفًا للكنائس الجديدة التي كانت كلّها بحاجة إلى الإيقونات. ومنذ ذلك الحين، نشط إنتاج الإيقونات على نطاق واسع، وظهر في القدس عدد من راسمي الإيقونات الأصيلين. ومنهم يوحنّا صليبيّ القدسيّ، ميخائيل مهنّا القدسيّ، نقولا تادروس القدسيّ، وإسحق نقولا القدسيّ الذين عملوا جميعًا بجهد في لبنان وسورية. في الواقع، لا يمكن وصف هؤلاء الرسّامين بأنّهم فنانون مرهفون، ولكن إيقوناتهم تشكّل مجموعة متماسكة، بحيث يمكن القول إنّ هؤلاء الفنانين قدّموا نمطًا فريدًا ومدرسة إيقونوغرافيّة مختلفة. أسلوبهم لا يشبه النمط الحلبيّ، بل هو أقرب إلى الرسوم الدينيّة الروسيّة، التي ازدهرت في أواخر القرن التاسع عشر. ففي تلك الحقبة كان الوجود الروسيّ في فلسطين بارزًا. إذ عمل الفنّانون الروس في الأراضي المقدّسة وخلّفوا لوحات عدّة؛ كما أنّ الحجّاج الروس حملوا معهم الإيقونات خلال زياراتهم الأراضي المقدّسة. خلال الجزء المتأخّر من القرن التاسع عشر، اختلفت الإيقونوغرافيا الروسيّة كثيرًا عن الفنّ الروسيّ الدينيّ التقليديّ، إذ اتّجهت أكثر نحو الرسوم الزيتيّة الدينيّة الغربيّة، التي تعتمد زوايا مختلفة جدًّا في الرسم، ومنها مثلاً استعمال البعد الثالث، ولعبة الضوء والظلّ، والرسم القصصيّ. ففي هذا النمط من الإيقونوغرافيا، نجد أنّ البعد الروحيّ الذي يجب أن تحمله الإيقونة يحتلّ الدرجة الثانية. وهكذا فإنّ إيقونات المدرسة القدسيّة تتميّز بطابع زخرفيّ مع ألوان طبيعيّة، تختفي فيها الخلفيّة المذهّبة التي تطبع الإيقونات البيزنطيّة والتي ترمز إلى النور الإلهيّ، لتحلّ محلّها مناظر الأرياف مع السماء الزرقاء والغيوم. تأليف موضوع الإيقونة مليء بالتفاصيل وبالعناصر التي لم تكن موجودة من قبل. زد على ذلك، أنّ ثمّة مسحة وجدانيّة نقرأها على وجوه جميع الشخصيّات، وهذا يميّز جميع الإيقونات الروسيّة العائدة إلى تلك الحقبة الزمنيّة.
يفصل إيقونسطاس فخم صحن الكنيسة عن الهيكل. مقاييسه كبيرة رُفعت عليه إيقونات من مصادر مختلفة، لكنّ معظمها ينتمي إلى أسلوب المدرسة الفلسطينيّة. غير أنّ إيقونتي المسيح والعذراء تنتميان إلى مرحلة سابقة. إلى يسار الباب الملوكيّ نجد إيقونة المسيح ملك الملوك ورئيس الكهنة الأعظم الرائعة. في هذه الإيقونة رُسم المسيح جالسًا على وسادة حمراء مطرّزة بأناقة وُضعت على عرش فخم؛ يكلّل رأس المسيح التاج الملوكيّ وهو يرتدي لباس رئيس الأساقفة. رداؤه الأبيض مزيّن بأزهار وخطوط من اللون الأخضر وبصلبان من اللون الأصفر. أمّا المعطف فيزيّنه نموذج مذهّب على خلفيّة زرقاء داكنة، والقفطان أحمر مزيّن بأزهار زرقاء اللون. إلى الجانبين نرى الملائكة ساجدين وعلى أطراف الإيقونة الرسل والأنبياء. وجه المسيح، بملامحه الدقيقة ولحيته القصيرة وشاربيه المسترسلين، يجعلنا نؤكّد أنّ الإيقونة من عمل ميخائيل بوليخرونيس الكريتيّ، الذي عمل في لبنان وسورية في بدء القرن التاسع عشر. فالأثر الزخرفيّ الغربيّ جليّ في أعماله وهو ظاهر بوجه خاصّ في الزخرفة الباروكيّة للثياب والعرش.
إلى يمين الباب الملوكيّ توجد إيقونة العذراء والطفل، ويعود تاريخها إلى العام 1812 ويدلّ أسلوبها، مع الوجوه البيضاويّة الشكل والملامح الدقيقة والصغيرة، على أنّها من عمل ميخائيل بوليخرونيس الكريتيّ. تدلّ على العذراء كتابة يونانيّة وهي ترتدي قفطانًا أزرق ومعطفًا أحمر تزيّنه ثلاثة نجوم. والهالة فوق رأسها تحمل ex-voto مذهّبة. الملائكة تسبح مع الغمام على جانبي العذراء الجالسة على العرش. الطفل يحمل الكتاب المقدّس مغلقًا في اليد اليسرى ويبارك بيمينه. الهالة تحمل كتابات نذريّة وعند حدود الإيقونة رُسم الرسل والأنبياء.
عند كلا جانبي الإيقونتين الملكيّتين نجد صورًا تمثّل مشاهد من حياة المسيح. إلى اليسار توجد إيقونة البشارة التي تتضمّن مشاهد من لقاء مريم بأليصابات والميلاد والهروب إلى مصر، وكلّها داخل مربّعات عند الطرف الأدنى من الإيقونة. وقّع هذه الإيقونة الرسّام يوحنّا صليبا الأورشليميّ وهي تحمل تاريخ السنة 1873. المشهد برمّته متأثّر بالتقليد الغربيّ: فالعذراء تتأمّل نبوءة أشعياء بينما يأتي إليها الملاك جبرائيل حاملاً الرسالة الإلهيّة. الملاك ذو الأجنحة يشير نحو السماء ليدلّ على أصل الرسالة. بيده اليمنى يحمل ثلاث زهرات من الزنبق وهي رمز العذريّة والطهر. والعذراء جالسة في الجهة المقابلة للملاك تحت مظلّة كثيرة الزخرفة يداها مثنيّتان ورأسها منحنٍ. في السماء من فوقها مجموعتان من الغيوم عبرهما ينزل الروح القدس بهيئة حمامة مع أشعّة تنبثق منه باتّجاه العذراء.
هذا الأسلوب التصويريّ المتميّز بالألوان النضرة والوجوه المستديرة خاصّ بيوحنّا الأورشليميّ المعروف أيضًا بيوحنّا القدسيّ. فثنايا الثياب واسعة وتغطّي حركات الجسد. والزخرفة تحترم أعراف النمط البيزنطيّ ذي البعدين. إلاّ أنّ الرسم بحدّ ذاته غنيّ بالزخارف التي يظهر عبرها الأثر الغربيّ، ومنها الخطوط الباروكيّة والانحناءات ومجموعة متنوّعة من النماذج الزخرفيّة.
في المستوى السفليّ من الإيقونة نجد ثلاثة مشاهد تلي حدث البشارة بالترتيب الزمنيّ. الأوّل يصوّر أليصابات تعانق العذراء؛ ثمّ مشهد الميلاد الذي يصوّر يوسف ومريم يسجدان للطفل يسوع وفق التقليد الغربيّ؛ فمشهد الهروب إلى مصر الذي يصوّر العذراء تحمل يسوع وهما راكبان على حمار يقودهما يوسف سيرًا على قدميه.
إلى يمين الباب الملوكيّ وإلى جانب إيقونة العذراء عُلّقت إيقونة ذات مستويين: العلويّ يمثّل دخول العذراء إلى الهيكل، والسفليّ ميلاد العذراء.
في مشهد الميلاد نرى حنّة مستلقية على سريرها ويدها اليمنى ممتدّة باتّجاه الخادمات الأربع ويواكيم. تعلو رأسها هالة وهي لابسة ثوبًا أزرق فوقه معطف من اللون الأحمر اللمّاع. الخدم يرتدون عمامات شرقيّة وقد وضع عدد من الأطباق على مائدة. وعوضًا عن مشهد اغتسال الطفلة التقليديّ نرى العذراء في مهد يحرسها واحد من الخدم.
أمّا دخول العذراء إلى الهيكل في المستوى العلويّ من الإيقونة فيتألّف من سلسلة من المشاهد المركّبة وهي تعكس الأسلوب الإيقونوغرافيّ البيزنطيّ. فمريم ابنة الثلاث سنوات يرافقها يواكيم وحنّة والعذارى المرتديات ألبسة فاخرة وعمامات. الكاهن الشيخ زكريّا يمدّ لها يده مرحّبًا وهي تردّ عليه التحيّة. وثمّة سلالم تقود إلى الطابق العلويّ حيث تجلس العذراء تحت قبّة قدس الأقداس وتتلقّى الطعام السماويّ الذي يحضره لها الملاك. ووفقًا للتقليد يأتي رسمها فوق غمامة. أمّا الخلفيّة فتتكوّن من أبنية الهيكل المصوّرة بشكل مسطّح، توافقًا مع متطلّبات مبدأ البعدين الذي ينصّ عليه فنّ رسم الإيقونات البيزنطيّ. الوجوه الصغيرة المتشابهة والعناصر الغربيّة أو البيزنطيّة البارزة في الهندسة، والأطباق المصفوفة على الطاولة، تجعلنا نردّ هذه الإيقونة إلى مدرسة ميخائيل بوليخرونس.
في الجهة اليسرى من الإيقونسطاس عُلّقت إيقونة تصوّر النبيّ إيليّا والغراب. فإيليّا، نبيّ العهد القديم، بشّر بمجيء المخلّص وبقيامته. وتستبق أعجوبة إطعام طيور الغراب له في الصحراء حدث الإفخارستيّا. ففي العهد الجديد تتمّ مماهاة إيليّا بالقدّيس يوحنّا المعمدان كسابق للمسيح ونبيّ التجسّد. أسلوب هذه الإيقونة التي تحمل إهداءً في أسفلها مشابه لأسلوب إيقونتي العذراء والمسيح المعلّقتين عند الباب الشماليّ للكنيسة.
على إيقونسطاس كنيسة السيّدة يوجد ثنائيّ آخر من الإيقونات الملوكيّة المنتمية إلى المدرسة القدسيّة. فإيقونة المسيح الضابط الكلّ تحمل إهداءً مُحي جزئيًّا وقّعه يوحنّا صليبا القدسيّ. ويدلّ على المسيح اسمه باللغة العربيّة وصفاته باللغة اليونانيّة. الوجه يكاد يكون دائريًّا وتصميم الإيقونة بسيط وخال من التعبير. هالة المسيح تحمل الأحرف اليونانيّة المعبّرة بإيجاز عن “الكائن” (أو: هو من هو). إنّه يبارك باليمنى ويحمل باليسرى كتابًا يُقرأ فيه مثل الراعي الصالح. وهو يرتدي جبّة برتقاليّة ورداءً أزرق يشوبه اخضرار، ثناياه رُسمت بواسطة لمسات كبيرة من اللون الأصفر المتدفّق. واللافت أنّ تنفيذ الوجه واليدين يعكس الأسلوب الخاصّ بمدرسة يوحنّا صليبا القدسيّ.
أمّا الإيقونة المقابلة لهذه، أي إيقونة العذراء المرشدة، فربّما تكون هي أيضًا من عمل يوحنّا صليبا القدسيّ. العذراء تحمل الطفل على ذراعها الأيسر وتشير إليه بيدها اليمنى. ومعطفها مزيّن بثلاثة نجوم تدلّ على عذريّتها قبل ولادة المسيح وخلالها وبعدها. الطفل يحمل بيده الكرة السماويّة التي تزيّنها الشمس والقمر والنجوم والتي ترمز إلى سيادة المسيح على الكون. والهالة فوق رأسه تحمل الكتابة اليونانيّة “الكائن” (أو: هو من هو). أمّا الثياب وملامح الوجه فرُسمت بأناقة، والوجوه المظلّلة جزئيًّا تعبّر عن فرح التأمّل.
وثمّة عمل آخر من إنتاج المدرسة القدسيّة ألا وهي إيقونة الملاك ميخائيل، التي رسمها يوحنّا صليبا القدسيّ أو الأورشليميّ. ونرى فيها الملاك بجناحيه مرتديًا لباس الجنود وحاملاً حفنة من القضبان اللامعة؛ وتزيّن خوذتَه المجنّحة كتابةٌ نذوريّة. الألوان النضرة ووقفة الملاك الديناميّة تضفي عليه مزيدًا من الأهمّيّة، والأثر الغربيّ واضح في الزخرفة والثياب.
على جانبي الباب الجنوبيّ الجانبي عُلّقت إيقونتان: المسيح الضابط الكلّ والعذراء المرشدة. فوالدة الإله تدلّ عليها كتابة باليونانيّة والعربيّة، ونصّ الإهداء يحمل تاريخ السنة 1842. وهي ترتدي جبّة ومعطفًا أحمر مزيّنًا بثلاثة نجوم ومشبكًا عند عنقها على الطريقة الإيطاليّة. المسيح الطفل جالس على ذراع مريم اليسرى ويحمل الكتاب المقدّس مباركًا بيده اليمنى. وهو يرتدي جبّة من اللون الأحمر الداكن يزيّنها مشبك ورداءٌ أزرق. شعره مسترسل يصل إلى كتفيه، لحيته قصيرة وشارباه طويلان. بيده اليمنى يبارك وباليسرى يحمل كتابًا مفتوحًا دوّن فيه نصّ طويل باللغة العربيّة.
الإيقونتان من رسم يد واحدة. فملامح الوجوه ومميّزات اليدين الفائقة الدقّة وانحناءات الخطوط والتموّجات كلّها تضفي على الشخصيّات طابع التكلّف. أمّا الأجساد الضخمة والمكتنزة فتكاد تكون غير متناسقة مع الوجوه الصغيرة التي رُسمت ببساطة من دون أيّ ظلال.
في الجزء العلويّ من الإيقونسطاس نرى الرسل على جانبي إيقونة التضرّع. وهذه الإيقونة تشكّل محور الموضوع الرسميّ، إذ إنّها تؤسّس العلاقة الإفخارستيّة بين المسيح والإنسانيّة التي تعبّر عنها الإيقونات.
تحت ذلك توجد مظلّة خشبيّة أنيقة وُضعت فيها إيقونة ميلاد العذراء مع القدّيس مرقس المرسوم داخل كوّة في الأسفل. تعود هذه الإيقونة إلى العام 1866، وقد عنونها ووقّعها نقولا تيودورس القدسيّ. يصوّر المستوى العلويّ منها ميلاد العذراء والسفليّ مرقس الإنجيليّ مرتديًا ثيابًا مذهّبة وحاملاً الإنجيل.
وتعبّر هذه الإيقونة عن مشهد الميلاد بالطريقة التقليديّة: حنّة مستلقية على سريرها، ورأسها الذي تحوط به هالة يستند إلى وسادة. يواكيم جالس بقربها ينظر مشهد اغتسال الطفلة التقليديّ. ثمّة خادمة تخرج الطفلة العذراء من الحمام والثانية تصبّ ماءً والثالثة تفحص حرارة المياه. المشهد الذي يحصل داخل المنزل تحييه حركات الخدم؛ فالخادمة التي تسكب الماء مرسومة بوضعيّة جانبيّة وهذا غير معروف تقليديًّا في الإيقونوغرافيا البيزنطيّة. وكما يشير إلى ذلك اسم القدسيّ فإنّ راسم الإيقونة ينتمي إلى المدرسة القدسيّة التي اتّبعت التقليد البيزنطيّ، ولكنّها تأثّرت أيضًا بالفنّ الغربيّ. ورغم بساطة هذه الإيقونة الفائقة، ففي خلفيتها ميل واضح إلى الزخرفة.
هناك إيقونة أخرى للميلاد معلّقة على الحائط الشماليّ تحمل تدوينًا باللغة العربيّة والإهداء في أسفلها يحمل تاريخ السنة 1884. في وسط الرسم نجد المغارة التي يقدّم فيها يوسف ومريم التكريم والسجود للطفل في المهد. خلفهما وفوقهما نرى الرعاة يتلقّون البشارة من الملاك، وفي الأعلى نرى الملائكة يسجدون للطفل المولود تحوط بهم الغيوم التي ترمز إلى القبّة السماويّة، ومنها ينحدر نجم باتّجاه مهد يسوع. في الجهة اليسرى من الإيقونة ستّة مشاهد منها المجوس في حضرة هيرودس، يوسف ومريم يهربان من اضطهاد هيرودس، سجود المجوس للطفل المولود، وذبح الأطفال الأبرياء القدّيسين.
يدلّ الموضوع بكامله، وبخاصّة الوجوه العريضة والمتّسمة بمسحة وجدانيّة، على أسلوب المدرسة القدسيّة. أمّا الأثر الغربيّ فيتجلّى عبر سجود مريم ويوسف على الرُكب. الوجوه مرسومة بدقّة وأناقة من دون ظلال والثياب تُقَولِب بخفّةٍ حركات الأجساد.
وثمّة إيقونة جميلة للعذراء المرشدة وقّعها بالعربيّة واليونانيّة الرسّامان ميخائيل ويوحنّا القدسيّان وهي تحمل تاريخ السنة 1856. العذراء تحمل الطفل على ذراعها الأيسر وتشير إليه بيدها اليمنى. وهي ترتدي جبّة زرقاء ومعطفًا أحمر أطرافه مذهّبة. لكنّ النجوم التي تزيّن المعطف تقليديًّا غائبة. ثنايا ثياب العذراء خطّطت باللون الذهبيّ. أمّا المسيح فيرتدي جبّة رماديّة وثوبًا ذهبيًّا، وهو يحمل الإنجيل بيده اليسرى ويبارك باليمنى. الوجوه مستديرة وأنيقة وتعابيرها هادئة، ما يدلّ على تفضيل العودة إلى التقليد البيزنطيّ. وفي كلّ من زوايا الإيقونة الأربع رُسم مشهد صغير: ميلاد العذراء، دخولها إلى الهيكل، البشارة، والرقاد؛ وهذه المشاهد مؤطّرة داخل دوائر باروكيّة النمط. الوجوه دقيقة والتعابير هادئة ما يدلّ على التمسّك بالتقليد البيزنطيّ.
ثمّة رسم على جدار الكنيسة يصوّر الدينونة الأخيرة. والحقّ أنّ موضوع المجيء الثاني للمسيح، الذي يتردّد كثيرًا في الإيقونات الأنطاكيّة إذ يبدو محبّبًا، أعلن عنه أنبياء العهد القديم والإنجيليّون الأربعة وبخاصّة سفر رؤيا القدّيس يوحنّا. وترافق هذه المشاهد تعليقاتٌ باللغة العربيّة.
انسجامًا مع التقليد الإيقونوغرافيّ، تحوي هذه الإيقونة الكثير من العناصر. ففي الوسط يبدو المسيح بلباسه المضيء جالسًا على عرش سماويّ رجلاه مستندتان إلى الغمام، ويحوط به جمع من الملائكة والرسل الجالسين على الجانبين حاملين كتبًا، وأدناهم إليه بطرس وبولس. أمّا العذراء ويوحنّا المعمدان فيرفعان طلبات المؤمنين سائلين السيّد الرحيم أن يصفح عن خطايا البشريّة.
تحت المسيح رُسم عرش وُضع عليه الكتاب المقدّس والصليب وأدوات الصلب. الملائكة على الجانبين ينفخون في الأبواق لدعوة المختارين. وفي الأسفل رجل وامرأة يسيران كلاهما على الغمام، ربّما كانا آدم وحواء رمز الإنسانيّة المفتداة.
يصوّر الجزء السفليّ من اللوحة عناصر الدينونة: ففي الوسط نرى رجلاً عاريًا تزان نفسه بالميزان. الأخيار يقفون عن يمين المسيح (يسار الناظر إلى الإيقونة) وهم يشكّلون حشدًا كبيرًا أمام باب الفردوس الذي يحرسه ملاك من الشاروبيم. الرسول بطرس يفتح الباب بينما يحثّهم الرسول بولس على الدخول. الفردوس سماء منيرة يحرسها سور ضخم تحدّه شجيرات منسّقة. الآباء إبراهيم وإسحاق ويعقوب جالسون، ووالدة الإله متربّعة على عرش تغبّطها الملائكة.
بعد عملية وزن النفوس يُلقى الأشرار الواقفون إلى يسار المسيح في بحيرة النار التي ترمز إلى الموت الثاني. وفي أسفل اللوحة نرى الملعونين يعانون العذاب الأبديّ، كلّ بحسب خطاياه.
المغزى التعليميّ والعناصر اللاهوتيّة للحدث بارزان بروعة فائقة. فالأسلوب القصصيّ ووفرة التفاصيل واحتشاد الشخصيّات والمشاهد تعكس كلّها خصائص المدرسة القدسيّة.
كما عُلّقت على أحد أعمدة الكنيسة إيقونة تصوّر عذراء الورديّة وشجرة يسّى، بالإضافة إلى مشاهد تمثّل مقاطع من نشيد مديح العذراء. تحمل هذه الإيقونة توقيعًا باللغة اليونانيّة وتاريخ السنة 1874. فراسم الإيقونة هو يوحنّا ثيودورس الأورشليميّ وأسلوبها متأثّر بالفن الغربيّ، ذلك بأنّ معطف العذراء مقفل بمشبك. في الوسط نرى العذراء حاملة الطفل على ذراعها الأيسر. ويكلّل رأس الطفل، الذي يحمل الكرة الأرضيّة بيمناه وعصا الرعاية بيسراه، تاج أسقفيّ. أمّا الملاكان ميخائيل وجبرائيل فيكلّلان والدة الإله، وفوقهم جميعهم الثالوث. عند حروف الإيقونة يقف أنبياء العهد القديم يعرض كلّ منهم نبوءته المتعلّقة بمجيء المسيح.
يحوط بهذه العناصر كلّها أربعة وعشرون مشهدًا صغيرًا تمثّل مقاطع من نشيد مديح العذراء. ينسب التقليد البيزنطيّ هذا النشيد إلى رومانوس المرنّم الحمصيّ الأصل الذي عاش في القرن الخامس. ويقال إنّ ترانيمه في كاتدرائيّة آيا صوفيا أنقذت القسطنطينيّة بأعجوبة إبّان الحصار الفارسيّ في العام 626.
أمّا الشقّ الغربيّ المتعلّق بصعود العذراء إلى السماء فليس ذات أهمّيّة في التقليد الشرقيّ. عنوان المشهد مكتوب باليونانيّة، ويروي التقليد البيزنطيّ أنّ الحادثة وقعت في غرفة العشاء السرّيّ.
تصوّر هذه الإيقونة والدة الإله نائمة يداها مطويّتان، يحوط بها الرسل والأساقفة والعذارى والملائكة. القدّيس بطرس المصوّر بهيئة رجل عجوز عند أعلى السرير يؤرجح مبخرة، والقدّيس بولس الأصلع وذو اللحية الداكنة يقف عند آخر السرير. أمّا القدّيس يوحنّا المصوّر بهيئة رجل عجوز أبيض اللحية فيمدّ يديه نحو العذراء معبّرًا عن حزنه. تحت هذا المشهد نرى القدّيس جبرائيل يقطع يدي يفونياس اليهوديّ الذي كان ينوي خطف جسد العذراء في الطريق إلى القبر. وفيما يرنم القدّيس بطرس نشيدًا يستقبل المسيح روح والدته على هيئة نفس صغيرة محنّطة تحوط بها هالة وتلفّها جبّة. فوق ذلك، رُسم ملاكان يحملان العذراء إلى السموات وآخران يفتحان لها الباب. الأسلوب الإيقونوغرافيّ يتبع التقليد الأرثوذكسيّ: فالوجوه طويلة مع ملامح محدّدة وتعابير حزينة.
في كنيسة سيّدة صيدنايا إيقونة كبيرة جامعة. ظهر هذا النوع من الرسم، في القرن التاسع عشر، على شكل صورة كبيرة شبيهة بالبطاقات البريديّة تضمّ المواقع المقدّسة في القدس والأراضي المقدّسة. والإيقونة قطعة قماش رسمت عليها خريطة القدس تحوط بها مشاهد من الأمّ المسيح والقدّيسين الفلسطينيّين، مرتّبة بطريقة زخرفيّة.
مدينة القدس في الوسط، داخل أسوارها رسمت كنيسة القبر المقدّس، والجلجلة، والصلب، فالنوح، والقيامة، ومن ثمّ رفع الصليب المقدّس يرافقه القدّيس قسطنطين والقدّيسة هيلانة. خارج الأسوار نرى مشاهد مختلفة من حياة المسيح وحولها الرسل، وأخيرًا استشهاد النبيّ أشعياء.
تحت ذلك كلّه القدّيس جاورجيوس يقتل التنّين ومشاهد من استشهاده؛ والقدّيس ديمتريوس؛ ثمّ النبيّ إيليّا يتناول الطعام من الغراب. يصوّر الجزء السفليّ مرفأ يافا، وسليمان يشرف على بناء هيكل أورشليم.
يحتوي إيقونسطاس كنيسة القدّيس ديمتريوس التي تحوّلت إلى متحف للدير إيقونة الأربعين شهيداً. ففي العام 320 ألقي أربعون من حرس الأمّبراطور ليسينيوس حتّى الموت في بحيرة جليديّة لجهرهم بالإيمان المسيحيّ. الشهداء يقفون عراة في البحيرة وأحدهم، إذ لم يستطع احتمال الصقيع، هرب إلى حمّام دافئ وتروي الأسطورة أنّ جسده تعفّن للتوّ. لكنّ حارس هذا الحمّام الذي يُدعى أجلايوس اهتدى إلى المسيحيّة وأخذ مكان الجندي في البحيرة. في القبّة السماويّة يظهر المسيح مباركًا الشهداء كما نرى ملاكين يحلّقان فوق الغمام حاملين راية عليها كتابة يونانيّة.
الألوان حيّة، والوجوه والحركات معبّرة. ومن بين مجموعة الشهداء يرفع رجل شيخ رأسه باتّجاه المسيح. وهذه الإيقونة هي خير تعبير عن الأسلوب الذي اشتهر في بدء القرن التاسع عشر.
بالإضافة إلى الإيقونات الكثيرة التي رُفعت على جدران كنيسة السيّدة، ثمّة عدد من الإبيطافيونات التي تشكّل جزءًا من كنز الدير الليتورجيّ والإبيطافيون إيقونة جنّار السيّد المسيح، مرسومة على قطعة قماش، ويستعمل ليتورجيًّا في خدمة جنّاز المسيح. خلال السنة يعلّق فوق الباب الجنوبيّ في الكنيسة إشارة إلى قبر السيّد الذي يقع جنوب كنيسة القيامة.
ثمّة إبيطافيون وُضع داخل إطار يمثّل رقاد السيّدة، وهو مطرّز بخيط ذهبيّ على خلفيّة مخمليّة. موضوع الرسم تقليديّ بكامله: فمريم مستلقية ويداها مثنيّتان يحوط بها الأساقفة والرسل الذين تعلو رؤوسهم الهالات. القدّيس يوحنّا يبدو مائلاً باتّجاه العذراء، والمسيح في الوسط يحمل روح والدته بهيئة نفس صغيرة محنّطة. في الزوايا نجد الإنجيليين الأربعة، وأطراف الإيقونة تزيّنها زخارف حلزونيّة والكتابات اليونانيّة بادية في الأعلى والأسفل. الشخصيّات المطرّزة بخيط الذهب تبدو بارزة بالنسبة إلى ألوان الخلفيّة. العذراء ترتدي ثوبًا أبيض وسريرها أبيض وذهبيّ. وثمّة أبيطافيون آخر طُرّز عليه مشهد إضجاع المسيح في القبر. وقد خُطّت الكتابة المرافقة له باللغة الروسيّة، والأسلوب غنيّ ورمزيّ. الشخصيّات التي ترتدي ثيابًا مذهّبة تبدو خارجة من الخلفيّة المغرة اللون. في وسط المشهد نرى المسيح مستلقيًا على كفنه الأبيض، عيناه مغمضتان ويداه مثنيّتان وفوق رأسه هالة مضيئة، تحوط به النساء: مريم المجدليّة، مريم أم يعقوب ويوسف، أمّ أبني زبدى، والعذراء التي تدلّ عليها النجوم المزيّنة معطفها الذهبيّ الذي يغطي رأسها. من بين النساء الأربع وحدها العذراء مريم عيناها مفتوحتان. يقف في إحدى الزاويا ملاكان يرتديان لباسًا أبيض يراقبان المشهد، وثمّة على مقربة منهما رجلان عيناهما مغمضتان هما على الأرجح يوحنّا الإنجيليّ ويوسف الراميّ. وهذا الإبيطافيون هو أحد أهمّ الموجودات الليتورجيّة في الدير، وهو يستخدم بشكل خاصّ بعد خدمة الجمعة العظيم المقدّس.
[1] حبيب الزيّات، ص 23-25.
[2] Peeters, Paul, “La légende de Saidnaia”, Analecta Ballandiana 85.2 (1926), p. 138.
[3] شهاب الدين العمري، ممالك الأبصار، 2.356.
[4] ياقوت الحموي، معجم البلدان.
[5] حبيب الزيات، ص 10.
[6] Volney, Voyage en Syrie et en Egypte (Paris, 1787), vol.1, p. 331-2; Browne, W.G. Nouveau voyage en Egypte, en Syrie et en Afrique (1792-1798) (Paris, 1800), p. 242; Ritter, K. Die Erdkunde (Berlin 1854-5), p. 254-5.
[7] Leonardo Frescobaldi, p. 168.
[8] Don Aquilante Rochetta, p.90
[9] Van Egmond and H. Heyman, p.261
[10] Porter, J.L., Five Years in Damascus (London, 1870), p. 130.
[11] R. Röhricht and H. Meisner, Deutsche Pilgerreisen (Berlin, 1880), p. 105.
[12] Guillaume de Bouldeselle, Traictie de l’Estat de la Terre Sainte, Manuscrit francais de la Bibliothèque Nationale de Paris, no. 1380, fol. 137.
[13] حبيب الزيّات، ص 131. ويعتقد الزيّات أنّ الإيقونة لم تعد موجودة في الدير بدءًا من نهاية القرن السادس عشر (ص 143)
[14] حبيب الزيّات، ص 105.
No Result
View All Result