العائلة مسؤولية الكنيسة والدولة
المقدّمة
إلى إخوتنا الأساقفة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات وأبنائنا كافة: «النِّعمَةُ وَالرَّحمَةُ وَالسَّلامُ مِنَ اللهِ أبِينَا، وَالمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا» (1 تيم1/2).
1. تدرك الكنيسة الكاثوليكية أن خير الشخص والمجتمع وخيرها هي تمرّ عبر العائلة. فالعائلة «مجتمع طبيعي» وجد قبل الدولة أو أي جماعة منظمة. وبهذه الصفة تمتلك حقوقاً خاصة بها، لا يمكن انتزاعها منها. غير أنها ليست مجرّد وحدة قانونية، اجتماعية أو اقتصادية، بل جماعة حب وتضامن، قادرة على أن تنقل القيم الثقافية والخلقية، الدينية والاجتماعية؛ وهذه كلها جوهرية لإنماء أعضائها وأفراد المجتمع، وتأمين خيرهم.
والعائلة «حرم الحياة»، حيث هذه تقبل وتحمى من التعديات عليها، وتستطيع أن تنمو وفقاً لمقتضيات النمو الإنساني. ما جعل دور العائلة حاسمًا ولا بديل عنه في بناء ثقافة الحياة.
والعائلة «خلية الدولة»، تلد لها المواطنين، وتحمي أخلاق شعبها. فيُطلب من الكنيسة والسلطات العامة أن تسهر عليها لئلاّ تتسرب إلى أعضائها ممارسات منافية للشريعة الطبيعية والإلهية.
وهي «الخلية الأساسية للمجتمع»، حيث ينشأ الإنسان للحياة في جماعة: فالرجل والمرأة مدعوان لهبة الذات بحب؛ والأولاد يتعلمون القيم الإنسانية والخلقية ومحبة الله؛ والعلاقات العائلية السليمة والمستقرة تولّد المشاعر العاطفية، وتشكّل الأسس للحرية والطمأنينة والأخوّة وسط المجتمع، وتدّرب على عيش الشركة بين الأشخاص، وعلى تقاسم الخيرات الروحية والمادية فيما بينهم. إنها حقًّا جماعة مميزة. إذا أصابها خلل، انفتح جرح في المجتمع. يكفي أن نذكر آفة الطلاق وما تخلف من أضرار جسيمة في الوالدين والأولاد. فالوالدون يختبرون مرارة العزلة والإهمال، والأولاد يعانون صدمة الخلاف بين والديهم، الذين غالباً ما يستعملونهم كأداة للقهر والابتزاز.
والعائلة «كنيسة مصغرة» أو «كنيسة منزلية» مبنيّة على سرّ الزواج. إنها جماعة الإيمان والرجاء والحب؛ فيها تتحقق الشركة بين الأشخاص على صورة الثالوث القدوس، ويعاش التفاني وبذل الذات والانسجام على مثال اتحاد المسيح بالكنيسة. إنها المكان الأول للتربية على الصلاة، حيث أبناء الله يصلون معًا ككنيسة، ويثابرون على الصلاة. إن العائلة، بوصفها «كنيسة مصغرة»، إنما هي تشارك كنيسة المسيح في حياتها ورسالتها، وتساهم في بناء ملكوت الله، إذا عاشت مشاركتها كهنوت المسيح في أبعاده الثلاثة: البعد النبوي بأن تكون جماعة مؤمنة ومبشرة بالإنجيل؛ والبعد الكهنوتي بأن تكون جماعة مصلية وفي حوار مع الله؛ والبعد الملوكي بأن تكون جماعة في خدمة الإنسان.
2. هذا المفهوم للعائلة عامة، والمسيحية خاصة، مع ما يقتضي لها من مساعدة، وحماية من مخاطر تتهددها، لكي تتمكن من تحقيق ذاتها والقيام بواجباتها الجوهرية، حدا بمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك أن يختار موضوعاً لمؤتمره الثالث عشر «العائلة في الشرق الأوسط – العائلة مسؤولية الدولة والكنيسة». وقد عقده في القاهرة ما بين 9 و13 كانون الأول (ديسمبر) 2003، في دار القديس إسطفانوس بالمعادي، بضيافة صاحب الغبطة الأنبا إسطفانوس الثاني غطاس، بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك، وكردينال الكنيسة الجامعة.
فيسرّنا أن نوجّه إليكم هذه الرسالة الراعوية التي نستعرض فيها مصاعب العائلة في بلدان الشرق الأوسط على مستويات الاقتصاد والأخلاق والبرامج الإعلامية وأخلاقيات الحياة والتنشئة الدينية والشركة الزوجية، وعلى مستوى التشريع والقضاء المحليين، وعلى مستوى التشريعات والتدابير الدولية؛ ثم نعرض ما تقتضي راعوية العائلة من توجيهات وحلول؛ ونقدم أخيراً نماذج عملية تساعد على تعزيز راعوية عائلية شاملة من شأنها أن تحمي ما للعائلة في بلداننا من قِيَم ودور. إن هذه الراعوية تكمّل خدمة الأساقفة والكهنة في التعليم والتقديس والتدبير، ونشاط الحركات والمنظمات التي تعمل في سبيل العائلة والحياة. فلا بدّ اليوم من جعل راعوية العائلة أولوية محسوسة وحقيقية وفاعلة، تكون صدى لصوت المسيح الفادي ومحبته، وقد أتى «لِيُخَلِّصَ العَالَمَ لا لِيَدِينَ العَالَمَ» (يو 3/17).
الفصل الأول
مصاعب العائلة في بلدان الشرق الأوسط
3. قدّم ممثلو كنائسنا الشرقية الكاثوليكية تقارير خطية عن واقع العائلة في بلدانهم، في مصر والأراضي المقدسة والأردن وسوريا ولبنان، نستخلص منها بعض الوقائع.
4. تعاني العائلة في بلداننا من أزمة اقتصادية خانقة، من جراء الأوضاع العالمية والمحلية، بسبب الحروب الدائرة هنا وهناك، وبخاصة الحرب في فلسطين والحرب على العراق، واتساع شبكات الإرهاب وسوء استثمار ثروات الأرض، والغبن في توزيعها، ما جعل الأغنياء أكثر غنى، والفقراء أكثر فقرًا. فانعكست الضائقة الاقتصادية حرمانًا اجتماعيًّا من العيش الكريم والكافي لمعظم عائلاتنا، ومن حقوق الإنسان الأساسية، التي تقتضي استخدام إمكانات الدولة في سبيل النمو الاقتصادي والترقي الاجتماعي بتأمين الخدمات العامة لجميع المواطنين والمناطق. وحملت البعض على استباحة الوسائل غير الخلقية لكسب المال كالرشوة والسرقة والدعارة والمتاجرة بالمخدرات. وانتشر الفساد، وقلّت فرص العمل، وانفتحت أبواب الهجرة التي تفرغ أوطاننا من قواها الحية وأبنائها. فأدّى هذا الواقع إلى شرذمة العائلة، التي باتت منقسمة بين الأهل وأولادهم، وإلى إضعاف الشركة بين أفرادها، وغياب الحوار وإهمال تربية الأولاد في البيت، فضلاً عن التوتر في العلاقات من جراء الهموم والهواجس وحالات اليأس.
5. وتعاني العائلة في بلداننا من انحرافات خلقية تشوّه وجهها، وتنتهك قدسيتها، وتحطّ من كرامتها. فبالرغم من أن مجتمعاتنا منضبطة نسبيًّا والشبيبة محاطة بعناية والدية، وملتزمة بانتمائها الكنسي، ومنضوية في حركات رسولية، فإنّ إباحية جنسية تمارس في المجتمع الخفي، ومساكنة حرة تتكاثر، وزواج عرفي ينتشر في جامعات بعض البلدان. وبسبب أجواء العنف والعبثية وانحطاط القيم والأخلاق وغياب المثل الأعلى في صورة الأب المسؤول وبالسلطة في البيت، انحرف عدد كبير من شباننا وراء ما هو سهل من دون رادع خلقي أو قانوني،
ما أدّى إلى تفشي ظاهرة الإدمان على المخدرات والكحول، ولو بدرجة متباينة بين بلد وآخر. وقد اجتاح هذا الإدمان حرم المدارس والجامعات، وروّجته السياحة والفنادق والعولمة. فخلّف عواقب وخيمة من هدم للصحة، ومنع عن العمل وكسب للعيش بالطرق المشروعة، وكلّف الأهلين والمجتمع مبالغ طائلة لمكافحة الأضرار ومعالجة المصابين بها. ومن مظاهر الانحراف الخلقي، الخلل في العلاقات الاجتماعية، وإيثار المصالح الشخصية على العامة، والوصولية واستغلال الغير والمتاجرة في كل شيء.
هذه كلها سربت إلى العائلة قناعات غير سليمة في السلوك اليومي، أصبحت قاعدة بدلاً من أن تكون شواذًّا. كل هذه الانحرافات تسيء إلى كرامة الزواج، وتهدم فكرة العائلة وتشوّه بهاء الحب الزوجي وجمال الأمانة، فضلاً عن مخالفتها للشريعة الأدبية والتعاليم الإنجيلية.
6. تقع العائلة فريسة البرامج الإعلامية الهدامة التي تعرضها بعض وسائل الإعلام والاتصال المكتوبة والمسموعة والمرئية. بالرغم من أنها «عطية من عطايا الله»كما تعتبرها الكنيسة، وقد أصبحت لغة مشتركة بين البشر وثقافة تشمل جميع جوانب الحياة الفكرية والاجتماعية؛ فبعضها يسيء إساءة كبيرة إلى العائلة وأفرادها. وإن المكانة الكبيرة التي باتت تحتلها المحطات الفضائية الأجنبية، عبر الصحون اللاقطة والكابلات وشبكات المعلوماتية، مع كونها تشكل غنى ثقافياً، فهي تنطوي على مخاطر جسيمة تهدد العائلة المسيحية وقيمها، نظراً إلى ما تسوقه من أفلام إباحية وموسيقى وبرامج تروّج للعنف والمتعة المحّرمة والإلحاد والمعاداة للمسيحية، والبدع والطقوس المشوّهة لرموز المسيحية وعقائدها. والقول نفسه ينساق عن مواقع الشبكة العالمية للانترنت والبريد الالكتروني والبرامج المختلفة المتصلة بها؛ فهي مع ما تحمله من إمكانيات للاتصال والتخاطب والتبادل واختصار المسافات، تشكل خطرًا على الشبيبة في حال سوء استعمالها من دون توعية ومسؤولية.
إن البرامج الإعلامية الهدامة التي تعاني منها العائلة في بلداننا تحط من القيم الخلقية وتفسد النفوس بترويج الإباحية الجنسية، وتنتزع المحبة والرحمة من القلوب بترويج العنف، وتعمل على انحلال الرابطة الزوجية بما تقدّم من برامج خيانة وطلاق. وقد أثّرت إلى حدّ بعيد على العلاقات بين الشبان واختيار شريك الحياة وعلى العيش في الأسرة بسلام ووئام، وعلى علاقة الأزواج بعضهم ببعض، وعلاقة الوالدين بأولادهم.
7. ويقع الإنسان في العائلة ضحية علوم الحياة المعروفة بأخلاقيات الحياة (bioethics ). إنها الجهود التي يبذلها العلم في خدمة تحسين نوعية الحياة البشرية، وهي التدخلات التي اكتشفتها العلوم الطبيعية والبيولوجية، ويمارسها الإنسان على حياة الإنسان، بل على الإنسان بحدّ ذاته، في مدى وجوده، من بدايته حتى نهايته. هذه التدخلات تطاوله من بداية تكوينه كمثل الإخصاب في الأنبوب، وحتى النفس الأخير، كمثل الموت الرحيم والعلاج العنيد وبواسطة تقنيات متنوعة كالإلغاء والتغيير وزرع الأعضاء وضروب الاختبارات. إذا مورست هذه الاكتشافات العلمية بشكل مناف للشريعة الإلهية أو الطبيعية، وبالتالي للشريعة الخلقية، بحيث تعتمد الإجهاض ووسائل منع الحمل الصناعية بمختلف أنواعها حتى المجهضة منها، والإخصاب الصناعي بجميع بوسائله، فإنها تنـزل في الأسرة أضرارًا أدبية جسيمة.
إن عددًا لا يستهان به من الأزواج وأفراد العائلات عندنا يلجأون إلى هذه الممارسات التي تستغل الجهل العام للحقائق العلمية والأخلاقية لدى الناس، وتمكّن بعض الأطباء من كسب مزيد من المال، في مقابل تقاعسٍ عن مجابهتها والحدّ منها لدى المسؤولين المدنيين والكنسيين. أضف إلى هذه الممارسات ما يشرّع في الغرب لصالح الإجهاض في مختلف مراحل الجنين والموت الرحيم وزواج المثليين، وما يتم من اختبارات على الحياة البشرية وهندسة الأجنّة، واستنتساخ بشري وإنجابي.
إن «مسألة أخلاقيات» الحياة هي اليوم «المسألة الاجتماعية الراهنة». فالبابا يوحنا بولس الثاني يؤكد في رسالته العامة «إنجيل الحياة»: «كما ان الطبقة العمالية، منذ قرن، كانت حقوقها الأساسية مغموطة، فتولّت الكنيسة الدفاع عنها بكثير من الجرأة وجاهرت بما يتمتع به العامل من حقوق مقدّسة، كذلك الآن، ونحن في إزاء فئة أخرى من الناس يُنتهك ما لها من حق أساسي على الحياة، تشعر الكنيسة بأنه عليها أن تتسلح بالجرأة نفسها وتعطي صوتاً لمن لا صوت له. إنها تستعيد دومًا صرخة الإنجيل في الدفاع عن بؤساء هذا العالم والمهددين والمحتقرين والمحرومين حقوقهم الإنسانية… فإذا كانت الكنيسة، في نهاية القرن السابق، لم يحق لها أن تصمت عن المظالم القائمة آنذاك، فلا يحق لها اليوم أيضًا أن تصمت».
8. ونلاحظ أنّ الجهل الديني الذي يعمّ أعداداً لا بأس بها من العائلات، يسهم إلى حدّ بعيد في إضعاف القيم التي تبنى عليها الحياة الزوجية والعائلية: انه يسهّل تسريب مفاهيم خاطئة عن الزواج وغاياته وميزاته؛ ويستبيح ممارسات في الحياة الزوجية منافية للشريعة الإلهية والخلقية؛ ويبلغ إلى إفراغ الإيمان من مضمونه؛ ويعرّض الأزواج وسائر أفراد العائلة للتأثر السريع بالتيارات والأيدويوجيات التي تبثها البدع والشيع المتفشية بإعداد متزايدة؛ ويضعف ممارسة الأسرار، ولاسيّما سرّي المصالحة والإفخارستيا، اللذين هما في أساس الحياة الزوجية والعائلية، إذ يحميان وحدتها وقدسيتها، وشركة الأشخاص فيها وتقاسم خيراتها المادية والروحية.
بسبب هذا الجهل المضرّ، دعت الكنيسة إلى تنشئة المسيحيين تنشئة روحية تواكبهم من سن الطفولة حتى الخطوبة فالزواج، بحيث يتلقّون المبادئ المسيحية المؤاتية، ويتدربون على قبول الأسرار، ويتربّون على تهذيب الأخلاق وكبح الأهواء واحترام الآخر، وينشأون على كرامة الزواج وقدسيته، ودور العائلة وأهميتها، وعلى قيمة الجنس والعفة في الزواج وخارجه، وعلى الأبوّة والأمومة المسؤولة فيما يختص بإنجاب الأولاد وتربيتهم.
9. من نتائج هذه الصعاب، التي ذكرنا، تقويض الرابطة الزوجية. فبالرغم من أن العائلات في بلداننا ما زالت محافظة، في معظمها، على ثبات العهد الزوجي، ووحدة أفرادها، نشاهد في هذه الأيام تكاثر الحالات المؤدية إلى انحلال الرابطة الزوجية بافتراق الزوجين وإبطال الزواج بالبطلان والطلاق، ما يخلّف أضرارًا روحية ومعنوية ومادية في الزوج البريء، وصدمات عاطفية ونفسية تطبع حياة الأولاد الذين يختبرون حالة اليتم، وأهلُهُم أحياء. فلا بدّ من اهتمام راعوي بالأزواج الذين يعانون من هذه الحالات الشاذة، وبالعائلات المتعثرة، من أجل تجنب الأضرار الفادحة التي قد تنـزل في المؤسسة العائلية وبالمجتمع الذي تشكل العائلة أولى خلاياه. وأهم عناية راعوية تبدأ بالإعداد للزواج إعدادًا روحيًّا وخلقيًّا واجتماعيًّا، ومواكبة العائلات المتعثرة وإحاطتها بمشاعر المحبة وبمبادرات إنقاذية هادفة.
الفصل الثاني
مصاعب العائلة في التشريعات والممارسة القضائية وفي السياسة الاقتصادية
10. فيما الزواج مصون والاسرة محافظة على هويتها وتقاليدها، بفضل نظام الاحوال الشخصية المعتمد في بلدان الشرق الأوسط وافريقيا الشمالية، فإنّ العائلة على وجه عام لا تحظى في كل هذه البلدان بكامل حقوقها وحقوق أفرادها. والاسباب متنوعة في التشريع والممارسة القضائية، نذكر منها: التمييز القائم بين الرجل والمرأة وعدم المساواة بينهما؛ الزيجات المختلطة التي تفقد الشريك المسيحي الكثير من حقوقه؛ تبديل الدين أو الطائفة من أجل الحصول على الطلاق والتفلت من التشريع الكاثوليكي وقضائه. ذلك كله يسهم في تفكيك روابط العائلة، ويضعها في حالة معاناة، ويصبح سببا من أسباب الهحرة للعائلة كلها أو لبعض أفرادها.
11. نشأ، في الأصل، نظام الأحوال الشخصية في هذه البلدان بحسب المفهوم الذي طوّره الإسلام، فاعتبر أن الشخصية القانونية للفرد وللجماعة مرتبطة ارتباطا مباشرا بالدين. فاعتبر أن لكل شخص دينه وشريعته، وان الشرائع توجد على الأرض الواحدة بمقدار ما يوجد عليها من اديان، وان لكل امّة دينية شرائعها التي بموجبها تفصل في نزاعات اتباعها. وتكتمل الاستقلالية التشريعية بالاستقلالية القضائية.
على هذا الأساس كانت للمسيحيين شرائعهم الخاصة بشؤونهم الروحية والزمنية ابتداءً من الجيل السابع، واكتملت في الجيلين الثاني عشر والثالث عشر بقانون موحّد (Nomocanon ) داخل كل كنيسة: قانون ابن العسّال للكنيسة القبطية، وكتاب الهدى للكنيسة المارونية، وقانون ابن العبري للكنيسة اليعقوبية أو السريانية الأرثوذكسية، وقانون عبديشو للكنيسة النسطورية، ومجموعات تشريعية لكل من الكنيستين الملكية والأرمنية.
حافظ المسيحيون في مختلف العهود الإسلامية على استقلاليتهم التشريعية والقضائية، في شؤون أحوالهم الشخصية ببعديها الديني والمدني، إنما في أطر تارة واسعة وتارة ضيقة. فكانت هذه الاستقلالية مطلقة في عهد الخلفاء الأّولين (632-656) والخلفاء الأمويين (656-750)، وتحددت صلاحيات المسيحيين التشريعية وصلاحياتهم القضائية، في عهد العباسيين (750-1258) في ما سُمّي بالشرع الشخصي والعيني والإرثي والجزائي. فاحتفظ «قاضي المسلمين» لنفسه بصلاحية الفصل في النـزاعات القائمة بين غير المسلمين من كنائس مختلفة وبتطبيق الشريعة الإسلامية عليهم، وفي النـزاعات القائمة بين مسلمين وذميين، وفي تلك المختصة بالنظام العام. وظلت الحال على هذا المنوال في عهد المماليك (1253-1517). أما في العهد العثماني (1516-1918)،
فكانت حركة “التنظيمات” التي هدفت إلى ضمّ الجماعات غير الإسلامية داخل الأمّة، وإلى تحديد أحوالها الشخصية بسلسلة من المراسيم الإمبراطورية، توالت من سنة 1839 حتى 1917. وفيما كانت ممارسة العدالة للمسلمين من صلب الدولة، ظلت العدالة لغير المسلمين محصورة ضمن هيكلية مذهبية، تشريعًا وقضاءً، ولكن تحت رقابة الدولة من حيث الصلاحية والتنفيذ.
12. مع نشوء الدول العربية في الشرق الأوسط وإفريقيا الشمالية، ونيل استقلالها، كانت في كل دولة قوانين رسمية للأحوال الشخصية. وكانت للكنائس شرائعها الخاصة ومحاكمها وفقًا للصلاحيات المحددة لها من قبل السلطة السياسية في كل بلد. ثم راحت قوانين هذه الدول تتطور وتقلّص شيئًا فشيئًا صلاحياتِ السلطات المسيحية في التشريع وممارسة العدالة على مستوى الأحوال الشخصية، بحيث لم يتساوَ المسيحيون مع سواهم من المواطنين في الحقوق على هذا الصعيد. وحافظ لبنان وحده إلى اليوم على نظام الأحوال الشخصية كاملاً في كل مضامينه بالمساواة بين المسيحيين والمسلمين في التشريع والقضاء.
13. إن القواعد المتبعة لممارسة العدالة في هذه البلدان، تنتقص من حقوق الأزواج المسيحيين، وتسبب خللاً في المساواة بين المواطنين بداعي الاختلاف في الدين. نذكر في ما يلي بعض الحالات على سبيل المثال:
أ- إذا اعتنق احد الزوجين المسيحيين الدين الإسلامي، في أثناء النظر في دعواه لدى محاكمه، يحق له الانضواء تحت أحكام الشريعة الإسلامية مثل سائر المسلمين. وإذا اعتنق الزوج المسيحي الدين الإسلامي، تُطبّق عليه الشريعة الإسلامية في منازعات أحواله الشخصية، سواء حصل التغيير قبل رفع الدعوى أم في أثناء السير فيها. ولا تأثير على هذه الممارسة، إذا بقيت الزوجة المسيحية على دينها. أما إذا اعتنقت الزوجة المسيحية الدين الإسلامي، وبقي زوجها على دينه المسيحي، فيحق لها أن تطلب طلاق الخلع، المقرر شرعًا، لدى المحكمة المدنية التي تصبح ذات اختصاص بداعي اختلاف الطائفة أو الملّة.
وإذا اعتنق أحد الزوجين المسيحيين الدين الإسلامي بعد صدور حكم بالهجر والنفقة من محكمتهما المسيحية المختصة، يصبح من صلاحية المحكمة الشرعية إصدار حكم بالطلاق، تلغى بموجبه النفقة المقررة سابقًا؛ وكل حكم يصدر عن المحكمة المسيحية يكون غير قابل للتنفيذ.
ب- إذا انتمى الزوجان إلى طائفتين أو ملتين مختلفتين، تطبق الشريعة الإسلامية على منازعاتهم.
ج- إذا كان أحد الزوجين مسلمًا، رجلاً كان أم امرأة، يكون الاختصاص في دعوى الأحوال الشخصية للمحكمة الشرعية الإسلامية.
د- إذا كان الزوج أو الزوجة مسلمًا، تحجب الوراثة عن زوجه غير المسلم. والمرأة المسيحية، إذا أسلم زوجها تفقد حق الوراثة منه.
14. أما في لبنان، فالقاعدة هي أن السلطات الدينية المسيحية والإسلامية وسواها من الديانات الأخرى لا تستطيع أن تمارس سلطتها القضائية سوى على الأشخاص المنتمين إليها وحاملي الجنسية اللبنانية؛ وصلاحية عقد زواج بين لبنانيين من طوائف مختلفة تعود للسلطة الدينية التي يخضع لها الرجل، إلا إذا اتفق الزوجان خطيًّا على عقده أمام سلطة الطائفة التي تنتمي إليها المرأة. وفي كل حال يخضع الزواج لمحاكم الطائفة التي عقد أمامها. وفي حال وجود عقد زواج شرعي أو أكثر تكون السلطة المختصة تلك التي عُقد أمامها الزواج الأول. أما إذا كان واحد فقط من هذه العقود شرعيًّا، اي موافقًا للأصول القانونية، فتكون الصلاحية للسلطة التي عقد أمامها هذا الأخير. في حال تبديل الطائفة أو الدين من قبل أحد الزوجين، تبقى الصلاحية للسلطة التي عقد الزواج أمامها. وإذا بدّله كلا الزوجين، فتنتقل الصلاحية إلى السلطة الدينية الجديدة التي يخضعان لها.
إن هذه القواعد اللبنانية التي تكرس المساواة بين المسيحيين والمسلمين في شؤون أحوالهم الشخصية، تشريعًا وقضاءً، ترتكز على صيغة العيش المشترك المنظم دستوريًا في لبنان، وتحديدًا في المادة التاسعة من الدستور التي تنص على أن ” حرية الاعتقاد مطلقة والدولة بتأديتها فروض الإجلال لله تعالى، تحترم جميع الأديان والمذاهب، وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها، على أن لا يكون في ذلك إخلال بالنظام العام، وهي تضمن أيضًا للأهلين، على اختلاف مللهم، احترام نظام الأحوال الشخصية والمصالح الدينية”.
15. أما على صعيد الجماعة الدولية، فقد واجهت العائلة وتواجه مصاعب وعقبات منظمة، ظهرت جلية في مؤتمر القاهرة الدولي حول السكان والإنماء في مناسبة السنة العالمية للعائلة عام 1994. كان السعي إلى إفراغ رسالة العائلة، بالتركيز على «وهم الانفجار السكاني». فعلى الرغم من سقوط هذا الوهم، في ضوء الأبحاث العلمية الجديدة، ما زالت الجماعة الدولية تغذي حملة عالمية لمراقبة السكان” (Population Control )، وصفها البابا يوحنا بولس الثاني في رسالته العامة «إنجيل الحياة» (الفقرة12) بأنها «مؤامرة المقتدرين ضد الفقراء»،. وهي كذلك، لأنها تعتمد وسائل لا تحترم الشخص وحقوقه الأساسية، فتعزِّز الإجهاض، ووسائل منع الحمل، وقتل الأطفال وبخاصة البنات ، والتعقيم.
إن منظمة الأمم المتحدة، التي تشكل سلطة دولية لدعم الأعمال والمبادرات الهادفة إلى العيش السلمي والتعاون بين الأمم مع حماية حقوق الشخص البشري الأساسية العامة وتعزيزها، ولخدمة الخير العام الشامل، مدعوة إلى أن تدرك أن العائلة تحتل الأولوية بين هذه الحقوق وهذا الخير العام، لكونها «الإرث الأصلي والمقدس للبشرية»، على ما يقول قداسة البابا، ولأنها
«العنصر الطبيعي والأساسي للمجتمع».
16. لقد نبّه الحبر الروماني أكثر من مرة إلى الخطر الذي يهدد بفقدان المعنى الأصلي للعائلة من جراء ما تتخذ هذه المنظمة الدولية من تدابير وما تروّج له من برامج لا تنسجم مع المثل والقيم الخلقية التي تأسست عليها، الأمر الذي يزعزع الثقة في عملها ، مع أنه غاية في الأهمية، لإيجاد الحلول الأدبية لمعضلات العالم. نذكر من بين هذه المعضلات النمو الديموغرافي في العالم، والتقدم في السن لدى سكان بعض البلدان الصناعية، ومكافحة الأمراض، والهجرة القسرية لمجموعات من السكان. كما أشارت الكنيسة باستمرار إلى المخاطر التي تهدّد، في زمننا الحاضر، العائلة والحياة، وكرامة الشخص البشري،
والوضع القانوني للجنين، ودور العائلة في المجتمع دورًا محوريًّا وحاسمًا، وحقيقة الجنس ومدلوله. عن هذه التهديدات وسواها كتب قداسة البابا: «وبالرغم من أن الكنيسة ما فتئت تندد بهذه التهديدات منتهزة مختلف الفرص- مثلاً في الخطب الملقاة في منظمة الأمم المتحدة، ومؤسسة الأونيسكو، ومؤسسة التغذية والزراعة، وفي غير مكان، فمن واجبها أن تتفحصها على ضوء الحقيقة التي تلقتها من الله».
17. البرلمان الأوروبي، باتخاذه قرارًا لصالح الممارسة المثلية، مشترعًا نوعًا جديدًا من العائلة قائمًا على هذا الأساس، إنما يعطي قيمة مؤسساتية لتصرفات شاذة، مخالفة لتصميم الله، ولو ادّعى انه فعل ذلك دفاعًا عن أشخاص ضعفاء، ورفضًا للتمييز العنصري تجاههم. هذان الدفاع والرفض توافق عليهما الكنيسة، لكنها لا ترضى بإضفاء الصفة القانونية على ما هو ضعف أو شذوذ. قال البابا يوحنا بولس الثاني في مناسبة الاحتفال بالسنة العالمية للعائلة: الجميع يعلم أن هناك حالات ضعف عند الإنسان، لكن هذا لا يعني أنه يجب دعم هذا الضعف وتشجيعه كما فعل ذلك البرلمان الأوروبي.
فالأسرة، هذا الاتحاد الدائم بين رجل وامرأة يلتزمان تبادل الذات، وينفتحان على إنجاب الحياة، ليست فقط قيمة مسيحية، بل هي قيمة طبيعية متأصلة في الخَلق. إن ضياع مثل هذه الحقيقة ليس قضية مذهبية، بل يشكل خطرًا يهدد البشرية بأسرها. في الواقع، الشريعة الطبيعية، لأن الله كتبها في قلب الإنسان، فإنها تسبق كل شريعة يضعها الناس، وهي مقياس لصحتها.
18. الإرشاد الرسولي ” في وظائف العائلة المسيحية” يساند العائلات في “واجب بذل الجهود لكي لا تمَسَّ شرائعُ الدولة ومؤسساتُها بحقوق العائلة وواجباتها”، وللدفاع عن هذه الحقوق والواجبات بطريقة حازمة. وهذا ما حمل البابا يوحنا بولس الثاني على تذكير المشترعين والقادة السياسيين بالأهمية الأساسية لقيم العائلة وواجباتها الاجتماعية، والتي يجب أن يؤيدوها صراحةً في صيغة تدخلات سياسية. ومن حق العائلات أن تطالب بهذا، من دون أن تعتبر مطالبتها تدخلاً في السلطة العامة، أو انتقاصًا من سيادتها؛ فهو واحد من حقوق المشاركة في توفير الخير العام الذي يضمن قيم العائلة والحياة. ولهذا لا يجوز للمنظمات الدولية أيضا أن تحصر أهدافَها، في الألفية الثالثة، على المعضلة الاقتصادية فقط، أو على التوازن بين القوى القائم على حالة اللاحرب بين الشعوب.
19. تلفت ” شرعة حقوق العائلة” في مقدمتها إلى “أن حقوق العائلة ومتطلباتها الأساسية وخيرها وقيمها، ولئن كانت محمية في بعض الحالات، فهي في أغلب الأحيان مهددة بشرائع ومؤسسات وبرامج اجتماعية واقتصادية مختلفة. وتطلب “ألاّ تكون المساعدة الاقتصادية الممنوحة، ضمن إطار العلاقات الدولية، من أجل إنماء الشعوب، مشروطة بقبول برامج منع الحمل أو التعقيم أو الإجهاض (المادة 3/ب). وتطالب بحق العائلة على الحصول على المساعدة اللازمة من المجتمع لإنجاب الأولاد وتربيتهم. “فيحق للأزواج الذين لهم عائلة كبيرة العدد أن يحصلوا على مساعدة متناسبة، ولا يجوز أن يكونوا ضحية لأي تمييز” (المادة 3/ج).
توجيهات وحلول
20. أمام هذه الصعاب التي تشكل تحديًا كبيرًا لنا جميعًا، نود في هذه الرسالة أن نرسم خطة مشتركة لراعوية العائلة في بلداننا، في ضوء ما صدر من توصيات عن مؤتمرنا الثالث عشر في القاهرة، وما للكنيسة من مبادئ وتوجيهات.
21. على المستوى الاقتصادي.
الاقتصاد عنصر أساسي لإنشاء عائلة ولتمكينها مع جميع أعضائها من أن تعيش بكرامة. ولهذا فإننا نؤيد حق العائلات في أن تنعم بأوضاع اقتصادية تؤمّن لها مستوى من الحياة ملائماً لنموها ونمو أفرادها، فيتمكنون من امتلاك الأموال الكافية، سواء بالوراثة أو ثمرة لجهودهم الخاصة إذا ما وفرت لهم فرص العمل المناسبة.
ومن شأن الحياة الاقتصادية السليمة أن تؤمّن لكل عائلة ما لها من حقوق أساسية طبيعية في مجالات العمل والأجر العادل، والسكن اللائق، والصحة والطبابة، والتعليم والتربية. فالعمليمكّن الإنسان من ممارسة نشاطه الخلاّق، وتحقيق ذاته، وكسب سبل عيشه وبقائه. وهو ضرورة اجتماعية لنمو المجتمع كله وتطويره وترقيه، ولتعزيز العدالة الاجتماعية والتوزيعية. والمسكن هو الإطار الطبيعي لاستقرار العائلة ولتوفير الأمان لها. وفيه تحترم الخصوصية والحياة الحميمة، وإليه يخلد الإنسان ليجد راحته بعد التعب وإرهاق العمل. ومن حق الإنسان المطلق ان يتمتع بصحة جيدة ويحمى من الامراض والأوبئة. ومن حقه الأساسي العلم والتربية. وكلها أسس يبني عليها حياته العائلية والاجتماعية والوطنية.
إن الكنيسة والدولة مدعوتان، كل واحدة من جانبها وبوسائلها الخاصة، للعمل على التخفيف من الضائقة الاقتصادية وتحرير العائلة من نتائجها الاجتماعية البائسة. واننا نناشد أبناءنا ومؤسساتنا لتكثيف الجهود، واستثمارِ الإمكانات والأموال، واتخاذ المبادرات للتضامن والتعاضد، في سبيل خلق فرص عمل جديدة، ولمواجهة المعضلات الحياتية في مجالات التعليم والطبابة والاستشفاء.
ولكنّ واجب الدولة يبقى الأساس للحدّ من الأزمة الاقتصادية، ولاسيما بوقف إهدار أموال الدولة وضبط الفساد، ورفع الظلم الاجتماعي ومواجهة حالة الفقر. “إن الذين تعهدوا الخدمة العامة في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ينبغي عليهم، من باب الواجب الآمر، أن يخضعوا مصالحهم الخاصة أو الفئوية لصالح أمّتهم، وأن يقودوا الشعب بكامله إلى السعادة بحسن إدارة الشأن العام، وان يعملوا جاهدين على بناء نظام سياسي واجتماعي عادل ومنصف يحترم الأشخاص والتيارات المختلفة ليبنوا معًا بيتهم المشترك».
22. على المستوى الخلقي، تشكل العائلة ضمانة أساسية لحفظ القيم الإنسانية والاجتماعية والتربية عليها؛ ولا قيام لمجتمع بشري سليم من دون هذه القيم. يعلّم آباء المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني أن ” العائلة هي المهد والوسيلة الفعّالة لجعل المجتمع أكثر انسانية، ولاضفاء الصفة الشخصية عليه. وبهذا تسهم اسهاماً فريداً وعميقاً في بناء العالم، اذ تمكّنه من ان يعيش الحياة بطريقة انسانية حقاً، وتساعد على نقل الفضائل والقيم من جيل إلى جيل».
لكي تنجو العائلة من الانحرافات الخلقية التي تتهددها، يقع على رعاة النفوس واجب العناية عناية خاصة بتنشيط الروحانية الزوجية والعائلية، التي تطبع الحياة اليومية وأعمالها كلها بطابع الحب الطاهر وهبة الذات السخية، فلا تنفصل عن القيم الخلقية التي تنظم الحياة العائلية. تتأصل هذه الروحانية في سرَّي المعمودية والميرون، وتتشدد بسرّ التوبة، وتتغذى بالإفخارستيا، وتكتمل بالصلاة العائلية. ان ممارسة سرّ المصالحة تمكّن الأزواج وجميع أعضاء العائلة من أن يدركوا بالإيمان كيف أن الخطيئة تنقض، لا العهدَ المبرم مع الله وحسب، بل أيضًا عهدَهم واتحاد العائلة، فينقادون إلى ملاقاة الله «الغني بالرحمة» الذي، بإفاضة حبه الأقوى من الخطيئة، يعيد بناء العهد الزوجي والاتحاد العائلي ويكمّلهما.
وفي سرّ الإفخارستيا، ينبوع الزواج المسيحي، وذبيحة عهد محبة المسيح للكنيسة المختوم بدمه على الصليب، يجد الأزواج المسيحيون الأصل الذي يتفرع منه عهدهم الزوجي ويحيا باستمرار. وفي المحبة النابعة من الإفخارستيا تجد العائلة المسيحية أساسها وأساس اتحادها ورسالتها، ذلك أن خبز الإفخارستيا يجعل من مختلف أعضاء الجماعة العائلية جسدًا واحدًا تتجلى فيه وحدة الكنيسة. ويصبح بالتالي تناول جسد الرب ودمه ينبوعًا لا ينضب لنشاط العائلة المسيحية الرسولي والإرسالي.
أما الصلاة العائلية فتمكّن حياة الأزواج والعائلة اليومية من أن تتحول إلى قرابين روحية مقبولة لدى الله بيسوع المسيح، بفضل مشاركتهم في كهنوت المسيح بالمعمودية وسرّ الزواج. فالصلاة العائلية صلاة جماعية يتلوها الزوجان معاً والأهل والأبناء، وتشمل حياة العائلة في كل ظروفها: الأفراح والأحزان، الآمال والهواجس، الولادات وذكراها السنوية، يوبيل زواج الوالدين، الغيابات والعودات، الاختبارات الخطيرة الحاسمة، وفاة الأحباء. كل هذه الأحداث تشكل مناسبات لتأدية أفعال الشكر والابتهال وتسليم العائلة ذاتها للآب الواحد الذي في السماء، وتظهر محبة الله التي تتدخل في مجرى أحوال العائلة.
23. على مستوى وسائل الإعلام والاتصال، التي لها تأثير كبير على ثقافة اليوم، بقدراتها المذهلة، ولا مجال للاستغناء عنها. فمن الضرورة بمكان التربية على حسن استعمالها، لخير الأشخاص والعائلات، بالرغم من المصالح التي توجد لدى البعض في هذا المجال والتي تجعلهم يضحون بالخير الأدبي، وخير الأطفال والشبان والعائلات. وبالرغم مما لهذه الوسائل من تأثير ايجابي بفضل قدراتها الهائلة، فان خطورتها تكمن في امكانية تلاعبها بالضمائر وبالحياة العائلية. يبقى على الكنيسة إذًا وعلى الدولة والمسؤولين عن وسائل الإعلام والاتصال والعاملين فيها، ان يتعاونوا في البحث عن استراتيجيات افضل لكي تنصب القدرات الايجابية في صالح العائلات.
فمن حق هذه الأخيرة حقًّا أساسيًّا، أن تستعمل هذه الوسائل وأن تكون في الوقت نفسه حرّة ومحمية من اجتياح صور العنف والجنس والإباحية بيوتها، من خلال برامج مجترئة وإعلانات غير محتشمة.
لا يحق للعائلات أن تتخلّى عن مسؤوليتها التربوية، أو تكتشف في فرص الهروب السهلة، التي يقدمها جهاز التلفزة والإنترنت وبعض النشرات المبتذلة، سبيلاً تشغل به وقت أطفالها وأولادها، بل يقع على الأهل واجب السهر على توفير تسليات أخرى لأبنائهم تكون أسلم وأنفع وأفيد تربويًّا للجسد وللأخلاق وللروح، وعلى استعمال الوسائل الإعلامية استعمالاً معتدلاً وناقدًا وفطنًا، من شأنه تهذيب ضميرهم، فيرشدهم إلى ما يجب أن يختاروه أو ينبذوه من المشاهد أو البرامج المعروضة.
على الوالدين أن يقيموا علاقات مع المسؤولين عن الانتاج الإعلامي، ليعرّفوهم إلى مطالب العائلات التي تضمن استقرارها واتزانها وسعادتها، لان كل انتهاك لما للعائلة من قيم أساسية سواء تناول الإباحية أو العنف، أم الدفاع عن الطلاق أو ما يتخذه الشبان من عادات تضاد المجتمع، إنما هو في الحقيقة مسّ بخير الإنسان الصحيح.
ومن واجب رعاة الكنيسة أن يحيطوا ببالغ العناية محترفي وسائل الإعلام والاتصال من ناشرين ومؤلفين ومخرجين ومديرين ومسرحيين ومذيعين ومعلقين وممثلين، ويسهروا على أن تتوفر لهم، إلى جانب التنشئة المهنية، ثقافة مسيحية، تمكنهم من جعل وسائل الإعلام أدوات ايجابية لبناء المجتمع، ونقل قيم العائلة الأساسية وحماية أفرادها من اعتداءات بعض هذه الوسائل. ويبقى على الجميع أن يدعموا ماليًّا ومعنويًّا وسائل الإعلام والاتصال المسيحية، وان يستفيدوا من برامجها، ولاسيما منها إذاعة «صوت المحبة» وتلفزيون «تليلوميار» و«نورسات» الفضائية، التي تسهم إسهامًا كبيرًا في نشر بشرى الخلاص والقيم الإنجيلية في كل بقاع الأرض.
وبما أن وسائل الإعلام منبر كبير للتبشير الجديد بالإنجيل، فقد بات من الضرورة بمكان أن يتخصص في هذا المجال الإكليريكيون والعلمانيون الملتزمون العملَ الرسولي.
24. على مستوى أخلاقيات الحياة، ان خطورة الممارسات العلمية على الحياة البشرية والإنسان، المتأتية من عزل الاكتشافات العلمية عن الوحي الالهي والشريعة الخلقية، تقتضي من الكنيسة ان تنشر المبادىء اللاهوتية والادبية المتعلقة بالزواج والاسرة والحياة، ومن الكهنة وسائر رعاة الكنيسة والمرشدين العمل على تنشئة ضمائر الأطباء والمؤمنين.
إن الوثائق الكنسية العديدة بشأن أخلاقيات الحياة (كالإخصاب في الأنبوب، ووسائل منع الحمل، والتعقيم، والتشخيص السابق للولادة، والإجهاض، والموت الرحيم، وسواها)، ينبغي أن تنقل إلى اللغة العربية، وتدرج في برنامج مراكز التحضير للزواج ومراكز الإصغاء للأزواج والعائلات. ومن الأهمية بمكان العمل على إنشاء مراكز تنشئة في أخلاقيات الحياة، تقدم لمحترفي الطب والتمريض، بالإضافة إلى المربين، أساسًا علميًّا وخلقيًّا للقيام برسالتهم. ولا بدّ أيضاً من التنسيق مع الكرسي الرسولي لإعداد مستندات بهذا الشأن، تستطيع أن توفر مشورات وآراء للمشترعين المعنيين بتهيئة مشاريع القوانين.
لقد اختصرت الكنيسة موقفها من أخلاقيات الحياة في شرعة حقوق العائلة بما يلي:
أ- للأزواج حق لا يُنتزع في تأسيس عائلة، وقرار تنظيم المسافة بين الولادات وعدد الأولاد المنوي إنجابهم، وفقًا للنظام المرتكز على الشريعتين الإلهية والطبيعية، والذي ينفي اللجوء إلى وسائل منع الحمل والتعقيم والإجهاض، منطلقين من واجباتهم تجاه ذواتهم وأولادهم والأسرة والمجتمع. فكل تدخل من قبل السلطات العامة أو المنظمات الخاصة يحد من حريّة الأزواج وقراراتهم الضميرية، يُعتبر إساءة خطيرة للكرامة الإنسانية وللعدالة (المادة 3/أ).
ب- من الواجب المطلق أن تُحترم الحياة البشرية منذ اللحظة الأولى للحبل بها. وعليه، فإن الإجهاض انتهاك مباشر للحق الأساسي لكل كائن بشري في الحياة؛ واحترام كرامة هذا الكائن تنفي كل تلاعب مخبري أو استغلال للجنين البشري؛ وكل تدخّل في الإرث الوراثي للشخص البشري، لا يهدف إلى تصحيح انحرافات، يشكل انتهاكًا للحق في السلامة الحسية، ويتنافى وخير العائلة (المادة 4/أ، ب، ج).
25. على مستوى الجهل الديني، توجب راعوية العائلة على الرعاة في الكنيسة أن ينمّوا حسّ الإيمان لدى جميع المؤمنين، وينشئوهم على فهم الحقيقة الإنجيلية فهمًا ينضج يومًا بعد يوم. يقوم عمل الكنيسة على أن تحمل الإنجيل إلى العائلات المتقلبة في ظروف العالم الحاضر، والمدعوة لكي تقبل ما رسم الله لها من قصد وتحيا بمقتضاه. ومن واجب الأزواج والوالدين المسيحيين أن يهتموا بتثقيف أنفسهم الروحي، الشخصي والجماعي، سواء بمسعى ذاتي أم بمبادرة من الكنيسة، لكي يتمكنوا، بفضل ما أوتوا من هبة خاصة ونعمة من سرّ الزواج، من تكوين حكم إنجيلي أصيل في مختلف الحالات والأوضاع الثقافية التي يعيشون فيها زواجهم وحياتهم العائلية.
تقوم راعوية العائلة على التثقيف الديني، الذي يشمل الأطفال والشبان والكبار والمسنين. ومن أولويات هذه الراعوية الإعداد للزواج في مراحله الثلاث: البعيدة والقريبة والمباشرة. كما ينبغي أن تتوفر عناية راعوية متخصصة بالأزواج والعائلات في حالاتهم الصعبة وتلك الشاذة .
من أجل تعزيز التثقيف الديني، لا بدّ من أن يلتزم الكهنة والمكرسون والمكرسات بتأمين التثقيف للحركات والمنظمات الرسولية، ولاسيما تلك المعنية بالعائلة والحياة. ويقضي الواجب من الأساقفة أن يعنوا بتنشئة العاملين في راعوية العائلة، تنشئة خلقية وانتروبولجية ونفسية، مع التنشئة البيبلية والاسرارية. إننا نعني بالعاملين في هذه الراعوية الكهنة والرهبان والراهبات والعلمانيين والإكليريكيين.
وتهدف راعوية العائلة بنوع خاص إلى إعداد الوالدين لمهمة تربية أولادهم. وهي واجب «أساسي وأولي» بالنسبة إلى واجب الآخرين التربوي ولارتباط الوالدين والأبناء برباط الحب الفريد من نوعه، و «لا بديل أو غنى عنه» بحيث إنه لا يجوز أن يفوّض إلى غيرهم بشكل مطلق، أو أن ينتزعه احد منهم. إنهم المربون الأولون والأساسيون لأولادهم، يربونهم حسب قناعاتهم الأدبية والدينية، وتقاليد عائلتهم الثقافية. وبهذه الصفة، من حقهم أن يختاروا بحرية المدرسة والوسائل التربوية الأخرى، وان يطالبوا بألاّ يُرغم أولادهم على اتباع تعاليم لا تتفق وقناعاتهم، ولاسيما من حيث التربية الجنسية التي من واجبهم مراقبتها في المدرسة أو في المراكز التربوية التي اختاروها لهم. في مقابل مسؤولية الوالدين التربوية، على السلطات العامة أن تشركهم بالمساعدات المالية، بحيث لا يضطرون إلى تحمّل أعباء إضافية مباشرة أو غير مباشرة، تحدّ من ممارسة حريتهم.
26. على مستوى انحلال الرابطة الزوجية، تقتضي راعوية العائلة العمل على ثلاثة أصعدة: أولا، دعم مراكز التحضير للزواج، وجعل هذا التحضير في مرحلتيه القريبة والمباشرة إلزاميًّا على طالبي الزواج. ثانيا، إنشاء مراكز الإصغاء والإرشاد العائلي لمواكبة الأزواج والعائلات في مصاعبهم، وللتعاون مع المحاكم الكنسية لمصالحة الأزواج وأفراد عائلاتهم. ثالثا، إعادة النظر في قوانين الأحوال الشخصية في الأمور المختصة بالنفقة وحراسة الأولاد ومشاهدتهم وحضانتهم، فضلاً عما يطلب من القضاة أن يتصفوا به من روح راعوي ونزاهة كاملة وغيرة على العدل والأنصاف الملطفين بالمحبة.
الفصل الرابع
وسائل عملية لراعوية العائلة
27. تشكل راعوية العائلة أولوية في رسالة الكنيسة. ففي الأسرة يحاك النسيج الاجتماعي الأول، وتتحقق تربية الشبيبة المسؤولة غدًا عن الوطن، ويتربى الأولاد منذ الصغر على حضور الله والثقة بحنوه الأبوي، وينتقل الإيمان المسيحي من جيل إلى جيل، وتنضج الدعوات إلى الزواج والكهنوت والحياة المكرسة، ويشهد الأهل بنمط حياتهم لجمال الحياة الجماعية وبذل الذات، ويقدمون قدوة في الصلاة المسيحية والتأمل بكلام الله. فلا بد من أن تتضافر الجهود وتنسّق من أجل راعوية للعائلة انجح، انطلاقاً من الأطر الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تعيش فيها العائلة، في محيطنا الشرق أوسطي. وهذه مسؤولية تقع على القوى الحية في كنائسنا: على الأبرشية والرعية، على الجماعات الرهبانية ومؤسساتها، على المدارس والجامعات، على المنظمات والحركات المعنية بالعائلة والحياة.
28. على صعيد الأبرشية، يولي الأسقف اهتمامًا خاصًّا بإنشاء لجنة العائلة في الأبرشية تؤازره في التخطيط لراعوية العائلة، وتفعيل اللجان الفرعية في الرعايا، وتكون صلة الوصل بين الأبرشية واللجنة المركزية للعائلة والحياة في كل بلد.
ومن أولى اهتماماته إنشاء مركز أبرشي لتحضير الزواج. وقد دلّ الاختبار، في مختلف الأبرشيات، أن هذا المركز يشكل محطة روحية بالغة الأهمية في حياة الخطيبين، تساعدهما على تكوين شخصيتهما الإيمانية عن طريق عرض الحقائق المسيحية المختصة بالزواج والحب والعائلة والحياة، وترسيخ المبادئ الأخلاقية في حياتهما الزوجية والعائلية، ووعي المسؤولية تجاه بعضهما البعض، وتجاه الأسرة والكنيسة والمجتمع، فضلاً عن اكتشاف ما في دعوتهما إلى خدمة الحب والحياة من جمال وعظمة.
وتبين أيضًا أن مركز التحضير للزواج هو مكان التلاقي والحوار مع الذات والله والكنيسة. اللقاء مع الذات يمكّن الخطيبين من اتخاذ القرار بالزواج عن وعي وتفكير، بعيدًا عن الارتجال والخيار المتسرع. واللقاء مع الله يوقظ فيهما إدراك الدعوة إلى الزواج وخدمة الحب والحياة. واللقاء مع الكنيسة يجعلهما يشعران بأنها «الأم والمعلمة» التي تساندهما في حياتهما الزوجية والعائلية العتيدة، وتواكبهما، وتحمل معهما همومهما، وترسم أمامهما طريق المستقبل.
ولا تنحصر منافع إعداد الزواج في الأزواج وحدهم بل يَطال الجماعة المسيحية كلها والمجتمع. ذلك أن إعداد الخطيبين يهيئ عائلة تغتني بالقيم الإنسانية والروحية والاجتماعية والوطنية، فيغتني بها المجتمع. وإذ تتعلم كيف تواجه صعوبات الحياة الزوجية والعائلية، وكيف تجد لها الحلول، فإنها توفّر على المجتمع مآسي ومشكلات قد تنتج عن النـزاعات بين الأزواج أو عن انحلال الرابطة الزوجية.
أما برنامج الإعداد للزواج، المستقى من الإرشاد الرسولي «في وظائف العائلة المسيحية»، فينبغي أن يشمل، في دورات أسبوعية متتالية، الزواج المسيحي بمفهومه اللاهوتي كعهد وسرّ؛ خلقية الحياة الجنسية في الزواج؛ الأبوّة والأمومة المسؤولة من حيث إنجاب الأولاد وتربيتهم، وتنظيم المسافة بين الولادات باعتماد الوسيلة الطبيعية، المعروفة اليوم بطريقة بيلينغز؛ العفة الزوجية، وكرامة الحب، والعلاقة الزوجية، وموقف الكنيسة من وسائل منع الحمل، والإخصاب الصناعي، والإجهاض؛ الأوضاع النفسية التي يمرّ فيها الزوجان والعائلة وكيفية معالجتها؛ مسؤولية الأهل في تربية الأولاد داخل البيت وبالتعاون مع المدرسة والكنيسة والمجتمع ووسائل الإعلام والاتصال؛ الحياة العائلية اليومية بوجهها الإنساني والاجتماعي وإدارة البيت المالية والاقتصادية، والتوفيق بين العمل والحضور الزوجي والعائلي لخير الزوجين والأولاد، وأخيرًا رتبة الاحتفال بسرّ الزواج، بالاستعداد الروحي له، وفهم رموزه، وحسن المشاركة في ليتورجيته.
29. ويعتني الأسقف بإنشاء مركز أبرشي للإصغاء والإرشاد العائلي، يهدف إلى المواكبة الروحية والإنسانية للعائلات التي تعاني من صعوبات، بغية استعادة سلامها الداخلي وحياتها الطبيعية في البيت والمجتمع والكنيسة. فيستقبل الزوجين اللذين يعانيان سواء من صعوبة في علاقتهما الزوجية، تنعكس على حياتهما وسعادتهما، وتعكّر صفو العائلة وسلامها، أم من مشكلة نفسية تعطل التواصل بينهما، أو من مشاكل عنف زوجي أو ضيق مادي، أو من معضلات صحية أو نزاعات حقوقية تجعل الحياة صعبة ومهددة بالتفكك.
يسعى «مركز الإصغاء والإرشاد» إلى تفهم الحاجة والمشكلة، وإلى مؤآزرة الزوجين والأولاد في إيجاد الحلول الفضلى، بالتعاون مع كهنة، وإخصائيين، وأزواج ذوي اختبار وغيرة رسولية، ومساعدات واجتماعيات.
ويعمل هذا المركز على إنشاء شبكة علاقات وتعاون مع المؤسسات الاجتماعية والمنظمات المعنية بالعائلة وأطباء وخبراء نفسانيين متطوعين، ليلجأ إليهم من أجل توفير علاج أو وساطة أو مساعدة مادية.
وتجدر الإشارة إلى ما لهذا المركز من دور في مصالحة الأزواج المتخاصمين وتجنب المحاكمات المفضية إلى هجر أو إبطال للزواج وبالتالي إلى مآسي إنسانية وأضرار روحية وخلقية تهدد حياة الزوجين والأولاد. وإننا نشجع التعاون الوثيق بين المركز والمحكمة الكنسية.
30. وفي الرعية، يضطلع الكاهن بمهمة المرشد الساهر للأزواج والعائلات بمختلف أفرادها وأعمارهم وحالاتهم، ومن الضرورة أن ينشىء لجنة لشؤون العائلة، مرتبطة بالمجلس الرعوي، تعمل من جهة على تنفيذ المخطط الراعوي بشأن العائلة والحياة، الذي يضعه الأسقف بالتعاون مع لجنة العائلة في الأبرشية، ومن جهة ثانية على نقل واقع العائلة، الروحي والاجتماعي، في الرعية إلى الأسقف، ليتمكن من متابعة مخططه الراعوي.
ويعنى كاهن الرعية بتعزيز «صلاة العائلة» التي تساعد عائلاتنا المسيحية على أن تتوطد وتنمو وتصمد، ككنيسة بيتية، وخلية في المجتمع، ومدرسة طبيعية للاغتناء بالقيم الروحية والإنسانية والاجتماعية. إن الصلاة في العيلة تقليد عريق في بلداننا. فهي التي حفظت الإيمان في العائلات ونمّته في أفرادها، وربّت الأبناء على الحوار الشخصي مع الله واكتشاف سره ومحبة القريب والولوج إلى حياة الكنيسة ورسالتها، وساعدت على تحمل المحن والصعوبات التي كان يسمح بها الله، وعلى قراءة علامات حضوره في أحداث الحياة الزوجية والعائلية، الحلوة منها والمرة. وهكذا بالصلاة العيلية تتقدس العائلة في نشاطها وآمالها، في أفراحها وأحزانها، في همومها وتطلعاتها.
ومن الضرورة أن يضع الكاهن «صلاة العائلة» في إطار الحياة الليتورجية في الرعية. فيوجه العائلات إلى موقع الصلاة في البيت، على أنها استعداد للمشاركة في الحياة الليتورجية وما تشتمل عليه من أسرار ورتب وزياحات، وتواصل للصلاة الجماعية في بيت الله، الكنيسة الرعائية. ولينبّه العائلات إلى ان الصلاة في العائلة لا تحلّ محل صلاة الجماعة الرعائية المتحلقة حول الافخارستيا، بل ترتبط بها ارتباطًا عضويًّا.
تنتعش العائلات المسيحية في الرعية «بالجماعات العيلية الرعائية». إنها جماعات من الرعية تصغي معًا إلى نداء الرب لها لعيش هويتها ورسالتها في المجتمع، حسب مشروع الله الخلاصي في الزواج والعائلة. تهدف هذه الجماعات العيلية إلى خلق إطار كنسي وراعوي يمدها بما تحتاج إليه من تنشئة عميقة، لتنمو في معرفة المسيح ومحبته والشهادة له والمشاركة في حياة الكنيسة ورسالتها، فتحقق دعوتها إلى القداسة في قلب العالم.
تتمحور حياة هذه الجماعات حول المواظبة على التعليم والصلاة وممارسة الأسرار وخدمة المحبة. ولها هيكليتها المنظمة ونشاطاتها المحددة، الروحية والرسولية، في الرعية والأبرشية، تحت قيادة الكاهن والأسقف. وتعتني بتوحيد الجهود والمواهب في سبيل راعوية العائلة.
31. تغتني راعوية العائلة والحياة «بالمنظمات والحركات المختلفة”. وهي مبادرات أثارها الروح القدس في الأبرشيات والرعايا. لقد ساهمت وتساهم إلى حدّ بعيد في تنشيط روحانية الزواج والعائلة، وتساعد مطران الأبرشية وكاهن الرعية في تحقيق رسالتهما بهذا الشأن. فمن الضروري للغاية السهر على هذه المنظمات والحركات بالإرشاد والتوجيه والتثقيف، والاعتناء بتمييز الأرواح. وإنّا نشجع الجهود الحميدة المبذولة في هذا المجال لخير العائلة، ونوصي بالمحافظة على روح الوحدة والشركة الكنسية في نشاطهم وصلاتهم. غير أن الضرورة تقضي بخلق شبكة تنسيق وتعاون مع مختلف هذه المنظمات والحركات على مستوى الأبرشية والمنطقة، بحيث تتكامل الغايات والنشاطات وتتنظم في إطار المخطط الراعوي المرسوم على صعيد الأبرشية والبلاد.
ومن أهم هذه الحركات العاملة في بعض أبرشياتنا، نذكر حركة العائلات الجديدة، المنبثقة من حركة الفوكولاري، وحركة فرق السيدة أو أخوية عائلات مريم، و «أخوّة قانا» حركة كنسية تتبع «الطريق الجديد» (Chemin Neuf )، «حركة التجدد بالروح القدس» وهي حركة رسولية مسكونية، و«حركة نعم للحياة»، و«أزواج من أجل المسيح» ( Couples for Christ )، و«أنت أخي»، و«إيمان ونور» للمعاقين جسدياً وعقلياً وعائلاتهم. جميع هذه العائلات لها دور هام في راعوية العائلة.
ولا يخفى ما للجمعيات الرهبانية من نشاطات ومبادرات ومؤسسات لصالح العائلة وأفرادها، تستحق كل تقدير وتشجيع وشكر. وإننا نحمد الله على المدارس الكاثوليكية للدور الذي تؤديه في التربية الأساسية التي تقدمها لأجيالنا الطالعة. وإننا نوجه نداء في هذه المناسبة إلى هذه المدارس للتعاون تعاونًا مستمرًّا مع العائلة من أجل تأمين تربية متكاملة لأولادها. وإن الكنيسة تتطلع إلى مزيد من التعاون مع الجامعات الكاثوليكية والمعاهد الأكاديمية العليا، حيث توجد، من أجل أبحاث علمية تختص بالعائلة والحياة، ومن أجل إعداد متخصصين فيها، يساعدون الكنيسة في مختلف قطاعات راعوية العائلة.
معهد البابا يوحنا بولس الثاني للعائلة
32. أنشئ هذا المعهد في أعقاب سينودس الأساقفة الخاص بالعائلة، الذي انعقد في روما من 26 أيلول حتى 25 تشرين الأول 1980، وقد أشار إليه الإرشاد الرسولي ” في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم، الذي أصدره البابا يوحنا بولس الثاني في 22 تشرين الثاني 1981. الغاية من هذا المعهد توفير تنشئة لاهوتية وفلسفية وعلمية في حقل الزواج والعائلة وأخلاقيات الحياة، على مستوى جامعي يمنح شهادات إجازة وماستر ودكتورا. فيتخرج منه أخصّائيون، من كهنة ورهبان وراهبات وعلمانيين، يعملون في حقل التعليم والنشاط الراعوي لصالح الزواج والعائلة والحياة.
من أجل هذه الغاية، يعمل المعهد الحبري الروماني، التابع مباشرة إلى الكرسي الرسولي، على انشاء فروع له خارج المدينة، روما، في مختلف القارات.
وقد أوصى مؤتمر مجلس بطاركة الشرق الكاثوليك المنعقد في القاهرة بإنشاء فرع في لبنان، للشرق الأوسط، لمعهد يوحنا بولس الثاني، للدراسات حول الزواج والعائلة. وقد عهد بتنفيذ هذه المهمة إلى لجنة العائلة في لبنان.
وأوصى المؤتمر أيضًا بتأسيس لجنة تنسيق بين لجان العائلة في الأبرشيات، تابعة لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، هدفها أن تنسق وتنظم اللقاءات والمبادرات المختلفة على صعيد المنطقة.
خاتمة
33. خلق الله الإنسان عائلة. “خَلَقَ الله الإنسَانَ عَلَى صُورَتِهِ وَمِثَالِهِ. عَلَى صُورَةِ الله خَلَقَهُ، ذَكَرًا وَأُنثَى خَلَقَهُم وَبَارَكَهُم” (تكوين 1: 27). وأرادها الله أن تصبح شريكة في خلقه: “انمُوا وَاكثُرَوا وَاملأُوا الأرضَ وَتَسَلَّطُوا” عليها (تكوين 1: 28). وقال القديس بولس إن اتحاد الرجل بالمرأة يشبه اتحاد المسيح والكنيسة، فجعل له مع واقعه الجسدي بكل أبعاده ومعانيه الجسدية معنى روحيًّا ساميًا وصلةً تربطه بقداسة الله سبحانه وبمثال حبه لخليقته الذي تجلى في الخلق ثم في الفداء: “إنَّ الله أَحَبَّ العَالَمَ حَتَّى إنَّهُ جَادَ بِابنِهِ الوَحِيدِ لِكَي لا يَهلِكَ كُلُّ مَن يُؤمِنُ بِهِ، بَل تَكُونُ لَهُ الحَيَاةُ الأبَدِيَّةُ” (يوحنا3: 16).
هذه هي الأصول التي على العائلة المسيحية أن تتذكرها في التحديات التي تواجهها في أيامنا هذه. ففي خضم همومها وجهادها اليومي لتحصل على العيش الكريم، عليها أن تنظر دائما إلى هذا المثال الإلهي المقدَّم لها، فتجد فيه مصدر قوة وتجدد مستمر تقوى معه على حمل رسالتها وعلى تسليمها بأمانة للأجيال الجديدة.
قداسة الكنيسة وقداسة الأفراد فيها، في جميع الدعوات المكرسة وغيرها، مرتبطة بقداسة العائلة. بل صمام الأمان في المجتمع البشري بأكمله مرتبط بسلامة العائلة وقداستها. إنْ وجدَت العائلة سلامها أمام الله في التأمل في جلاله وجد المجتمع كله طريقه إلى السلام والطمأنينة، وأصبح قادرا على العمل في سبيل الخير العام وعلى توفير السعادة لجميع أفراده.
ما زالت العائلة في الشرق محافظة على تقاليدها، ولكنها باتت هي أيضًا مهدَّدةً مثل غيرها في العالم كله. وبوادر التبديل أخذت تظهر في مجتمعاتنا أيضا. ومن ثم نجاة العائلة في مواجهة التحديات المعاصرة أولوية في الكنيسة وفي المجتمع. هي أولوية في العمل الرعوي في أبرشياتنا وفي رعايانا. رعاية العائلة رعاية لجميع أفرادها ولجميع المؤمنين. وبالمحافظة على قداستها يتقدس المجتمع كله.
نسأل الله أن يوفقنا في هذه الخدمة الأساسية في الرسالة التي أرسَلَنا لها. نسأله أن يبارك جميع العاملين في هذا المجال الرعوي، الأساقفة، والكهنة، والرهبان والراهبات والمؤمنين والحركات الرسولية على أنواعها. وفيما نعرب للجميع عن تقديرنا وتقدير الكنيسة لكل جهد يبذل في سبيل العائلة، نسأله تعالى أن يفيض عليكم جميعا، أيها الإخوة والأبناء الأعزاء، وافر بركته الإلهية، هو الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد الأحد، له المجد والعزة والقوة إلى دهر الدهور. آمين.
Discussion about this post