الثمرة الثانية: الفرح
الفرح
عندما نتأمل قدرة الله الخالق الذي أبدع الكون لنعيش فيه، وعندما نتأمل محبة الله الفادي الذي افتدانا بالمسيح حمل الله، الذبح العظيم، تمتلئ نفوسنا بالبهجة الروحية العميقة، ونهتف:
«هَلُمَّ نُرَنِّمُ لِلرَّبِّ نَهْتِفُ لِصَخْرَةِ خَلاصِنَا. نَتَقَدَّمُ أَمَامَهُ بِحَمْدٍ وَبِتَرْنِيمَاتٍ نَهْتِفُ لَهُ»(مزمور 95: 1 و2)
«فَيَلَذُّ لَهُ نَشِيدِي وَأَنَا أَفْرَحُ بِٱلرَّبِّ» (مزمور 104: 34).
وعندما نفكر في مجيء المسيح ثانيةً إلى أرضنا، نتطلع إلى سماع صوته يقول لكل مؤمنٍ أمين:
«نِعِمَّا أَيُّهَا ٱلْعَبْدُ ٱلصَّالِحُ وَٱلأَمِينُ. كُنْتَ أَمِيناً فِي ٱلْقَلِيلِ فَأُقِيمُكَ عَلَى ٱلْكَثِيرِ. اُدْخُلْ إِلَى فَرَحِ سَيِّدِكَ» (متى 25: 21).
ولكن عندما نتأمل فيما يجري حولنا من ظروف مؤلمة وقاسية نندهش، ونتساءل: كيف نقدر أن نفرح مع أن عالمنا قد وُضع في الشرير (1يوحنا 5: 19)، وهو يضطهد كل من يحيا مع الرب؟.. كيف نحصل على ثمرة الفرح ونحن نعيش في مجتمع يعادي ملكوت الله؟ونندهش أكثر ونحن نقرأ نصيحةً كتبها الرسول بولس وهو سجينٌ في روما لجماعةٍ من المضطهَدين في فيلبي يقول فيها:
«اِفْرَحُوا فِي ٱلرَّبِّ كُلَّ حِينٍ وَأَقُولُ أَيْضاً ٱفْرَحُوا» (فيلبي 4: 4).
فكيف يطلب منهم أن يفرحوا وسط الآلام؟ وكيف يستطيع هو نفسه أن يفرح في ظروف السجن القاسية؟! ويجيء الجواب: «أما ثمر الروح فهو: فرح». وتزيد دهشتنا عندما نجد أن نصيحة الرسول بولس السجين لأهل فيلبي المضطهَدين لم تكن مجرد كلام، بل هي وصفٌ لما جرى للرسول بولس وزميله سيلا عندما أُلقي بهما في السجن الداخلي في مدينة فيلبي، ووُضعت أيديهما وأرجلهما في المقطرة،وبالرغم من كل هذا فاض الروح القدس بالفرح في قلب السجينَين، لأنهما حسبا نفسيهما مستأهلين أن يُهانا من أجل المسيح (أعمال 5: 41). وارتفعت تراتيلهما من قلبين فَرِحين بقوة حتى أيقظا كل المساجين! ثم حدثت زلزلة فتحت أبواب السجن،
فإذا سألنا بولس وسيلا كيف أمكنهما أن يرتّلا في شدة آلامهما، تجيئنا الإجابة أن قوة الروح القدس المسيطرة عليهما منحتهما الفرح وسط الحزن، فتغيَّرت معايير العالم عندهما تماماً، وتحقَّق معهما ما قاله المسيح:
«طُوبَى لِلْحَزَانَى، لأَنَّهُمْ يَتَعَزَّوْنَ» (متى 5: 4).
وهذا يعني أن الفرح الروحي ليس نتيجة الظروف التي يحيا المؤمن فيها، لكنه فرحٌ في وسطها وبالرغم منها، بفضل فعالية الروح القدس في داخل النفس. ويبدأ الرسول بولس ذكر قائمة ثمر الروح بكلمة «أما» وهي تفيد المفارقة. ففي العالم لنا ضيق، أما ثمر الروح فهو فرح، لأن المسيح غلب العالم (يوحنا 16: 33). نعم، إن في العالم أحزاناً، لكن المسيح قال: «سَتَحْزَنُونَ، وَلٰكِنَّ حُزْنَكُمْ يَتَحَوَّلُ إِلَى فَرَحٍ… عِنْدَكُمُ ٱلآنَ حُزْنٌ. وَلٰكِنِّي سَأَرَاكُمْ أَيْضاً فَتَفْرَحُ قُلُوبُكُمْ، وَلا يَنْزِعُ أَحَدٌ فَرَحَكُمْ مِنْكُمْ» (يوحنا 16: 20 و22). إن ظروفنا الخارجية، وما تمتلكه أيدينا، ومراكزنا الاجتماعية، وثقافتنا العلمية لا يمكن أن تمنحنا الفرح الذي يستمر. لكن هذا الفرح يجيء من داخلنا، نتيجة امتلاك الروح القدس لنا. وهو ما أوضحه إمام الحكماء سليمان، حين قال: «قُلْتُ أَنَا فِي قَلْبِي: «هَلُمَّ أَمْتَحِنُكَ بِٱلْفَرَحِ فَتَرَى خَيْراً». وَإِذَا هٰذَا أَيْضاً بَاطِلٌ. لِلضَّحْكِ قُلْتُ: «مَجْنُونٌ» وَلِلْفَرَحِ: «مَاذَا يَفْعَلُ؟» ومضى سليمان يعدّد ما امتلكه قال: «اِفْتَكَرْتُ فِي قَلْبِي أَنْ أُعَلِّلَ جَسَدِي بِٱلْخَمْرِ… فَعَظَّمْتُ عَمَلِي. بَنَيْتُ لِنَفْسِي بُيُوتاً، غَرَسْتُ لِنَفْسِي كُرُوماً… قَنِيتُ عَبِيداً وَجَوَارِيَ، وَكَانَ لِي وُلْدَانُ ٱلْبَيْتِ… جَمَعْتُ لِنَفْسِي أَيْضاً فِضَّةً وَذَهَباً… وَبَقِيَتْ أَيْضاً حِكْمَتِي مَعِي».فماذا كانت نتيجة هذا كله؟ قال: «ثُمَّ ٱلْتَفَتُّ أَنَا إِلَى كُلِّ أَعْمَالِي ٱلَّتِي عَمِلَتْهَا يَدَايَ، وَإِلَى ٱلتَّعَبِ ٱلَّذِي تَعِبْتُهُ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا ٱلْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ ٱلرِّيحِ، وَلا مَنْفَعَةَ تَحْتَ ٱلشَّمْسِ» (جامعة 2: 1-11). وقال أيضاً:«تُوجَدُ طَرِيقٌ تَظْهَرُ لِلإِنْسَانِ مُسْتَقِيمَةً، وَعَاقِبَتُهَا طُرُقُ ٱلْمَوْتِ. أَيْضاً فِي ٱلضِّحْكِ يَكْتَئِبُ ٱلْقَلْبُ، وَعَاقِبَةُ ٱلْفَرَحِ حُزْنٌ» (أمثال 14: 12 و13). ولكن ما أجمل ما قاله المرنم لربِّه، وهو يقارن نفسه بغيره ممَّن حاولوا أن يحصلوا على السرور مما يملكون. قال: «جَعَلْتَ سُرُوراً فِي قَلْبِي أَعْظَمَ مِنْ سُرُورِهِمْ إِذْ كَثُرَتْ حِنْطَتُهُمْ وَخَمْرُهُمْ. بِسَلامَةٍ أَضْطَجِعُ بَلْ أَيْضاً أَنَامُ، لأَنَّكَ أَنْتَ يَا رَبُّ مُنْفَرِداً فِي طُمَأْنِينَةٍ تُسَكِّنُنِي» (مزمور 4: 7 و8). وواضح أنه لا يستطيع أحدٌ أن «يضطجع بسلامةٍ لينام» إلا إن كان واثقاً تماماً أن الإله القدير، الذي اختبره وعرفه، هو ملجأه، وأن أذرع الله الأبدية من تحته ترفعه (تثنية 33: 27) وأن قلعته هو الرب، البرج الحصين الذي يركض إليه الصدِّيق ويتمنّع (أمثال 18: 10). إنه السيد والفادي والمقدِّس، الذي غسل المؤمنين من خطاياهم بالدم الكريم، وجعلهم ملوكاً وكهنة له. وصلتهم العميقة الشخصية به، وملء الروح القدس لهم، يضمنان لهم ثمر الفرح الذي يفيض دوماً في قلوبهم «لأَنْ لَيْسَ مَلَكُوتُ ٱللّٰهِ أَكْلاً وَشُرْباً، بَلْ هُوَ بِرٌّ وَسَلامٌ وَفَرَحٌ فِي ٱلرُّوحِ ٱلْقُدُسِ» (رومية 14: 17). وبسبب فرح الروح القدس الدائم والثابت والكامل قال نبي الله حبقوق: «مَعَ أَنَّهُ لا يُزْهِرُ ٱلتِّينُ، وَلا يَكُونُ حَمْلٌ فِي ٱلْكُرُومِ، يَكْذِبُ عَمَلُ ٱلزَّيْتُونَةِ، وَٱلْحُقُولُ لا تَصْنَعُ طَعَاماً. يَنْقَطِعُ ٱلْغَنَمُ مِنَ ٱلْحَظِيرَةِ، وَلا بَقَرَ فِي ٱلْمَذَاوِدِ، فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِٱلرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلَهِ خَلاصِي» (حبقوق 3: 17 و18). إن الفرح الذي نستمده من إنسانٍ أو شيءٍ مادي لا يستمر. أما ما نستمده من الروح القدس فهو الذي يبقى ويدوم، ويكون اختبار بركة كبيرة لا تزول.
من كتاب “ثمر الروح القدس”
د. منيس عبد النور