ثمر الروح القدس (الإيمان)
كتاب ثمر الروح – البابا شنوده الثالث
الذي يحيا حياة روحية، لابد أن يتصف بالإيمان…
فقد ورد في الكتاب أن من ثمر الروح: الإيمان (غل 5: 23). كما ذكر الإيمان أيضًا ضمن مواهب الروح القدس (1كو 12: 9).
ولسنا نقصد هنا الإيمان بمعناه السطحي أو النظري.
فالإيمان بمعناه الروحي يشمل الحياة كلها، كما سنرى… هذا هو الإيمان العملي. أما الإيمان النظري، فيشبه إيمان الشياطين، كما قيل “أنت تؤمن أن الله واحد. حسنًا تفعل. والشياطين يؤمنون ويقشعرون” (يع 2: 19). يؤمنون بوجود الله، ويقاومونه. لهذا فإنهم يقشعرون منه…
هناك إيمان في العقيدة، وإيمان في ممارسات الحياة العملية…
أشخاص يظنون أنهم مؤمنون، لمجرد أنهم يتلون قانون الإيمان في الكنيسة. وقد تكون حياتهم بعيدة كل البعد عن الإيمان!!.. إنما الإيمان الحقيقي، هو الذي يظهر واضحًا في حياتنا العملية، في ممارستنا، في علاقاتنا بالله والناس…
هذا هو الإيمان العملي…
فالإنسان يظهر إيمانه في أعماله. كما يقول الكتاب “وأنا أريك بأعمالي إيماني” (يع 2: 18). ولذلك قيل في الكتاب أكثر مرة “الإيمان بدون أعمال ميت” (يع 2: 17، 20).
المطلوب إذن هو الإيمان الحي المثمر:
إن كان إيمانك حيًا، فلابد أن تظهر ثماره في حياتك. “لأن كل شجرة لا تصنع ثمرًا جيدًا، تقطع وتلقى في النار” (لو 3: 9). هكذا يقول الرسول “لا الختان ينفع شيئًا ولا الغرلة، بل الإيمان العامل بالمحبة” (غل 5: 6). والمحبة عبارة عن برنامج روحي طويل، يضم فضائل عديدة ذكرها في (1كو 13).
فكيف يظهر الإيمان وثمره في حياتنا العملية؟
هذا موضوع طويل، يدخل في تفاصيل تفاصيل حياتنا حتى يشمل حياتنا كلها. وكيف ذلك؟ هذا ما نود الآن شرحه، سواء من جهة مشاعر قلوبنا، أو من جهة علاقاتنا مع الله والناس. ولنضرب لذلك أمثلة:
* إن كنت تؤمن أن الله كل مكان ويراك ويسمعك، لا يمكن أن تخطئ.
لأنك سوف تستحي وتخجل من الله الذي يراك وأنت في حالة الخطية. بل تستحي أيضًا من الملائكة الذين يرونك ومن أرواح القديسين، كما تستحي أن تفعل الخطية أمام البشر الذين يرونك على الأرض… فعدم خجلك يدل على أن إيمانك بوجود الله ورؤيته لك أثناء الخطية، هو إيمان ضعيف، أو غير موجود… عكس ذلك يوسف الصديق الذي رفض أن يخطئ قائلًا: كيف أفعل هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله؟! (تك 39:9).
* أيضًا الذي يؤمن بالله ورعايته وقوته العاملة، لا يخاف فالخوف هو دليل على ضعف الإيمان…
لذلك فإن بطرس الرسول، لما خاف من الأمواج ووقع في الماء قال له الرب “يا قليل الإيمان، لماذا شككت” (مت 14: 31).
وجيحزي كان خائفًا من قوات العدو المحيطة بالمدينة. أما معلمنا أليشع النبي فكان يرى أجناد الرب التي تدافع عنها، لذلك صلى من أجله قائلًا “افتح يا رب عينى الغلام فيرى..” (2 مل 6: 17). نعم، بالإيمان يرى، وليس فقط بالعيان… فيطمئن أن الذين معنا أكثر من الذين علينا.
هذا الإيمان الذي لا يخاف، قال عنه داود النبي في مزمور الراعي “إن سرت في وادي ظل الموت، لا أخاف شرًا، لأنك أنت معي” (مز 22 [23]). وقال في مزمور آخر “تقدمت فرأيت الرب أمامي في كل حين، لأنه عن يميني فلا أتزعزع” (مز 16: 8).
نعم، إن آمنت أن الرب معك فلن تخاف.
وإن آمنت أنه أمامك في كل حين وأنه عن يمينك، فلا تتزعزع. بل تقول مع المرتل “إن يحاربني جيش، فلن يخاف قلبي. وإن قام عليَّ قتالٌ، ففي ذلك أنا مطمئن” (مز 27: 3).
إن كثيرين -لعدم إيمانهم- ليسوا فقط يخافون، بل يصل بهم القلق والاضطراب إلى حد اليأس.
* أما المؤمن فإنه يثق أن قوة الله معه، ويثق بقول الكتاب:
“كل شيء مستطاع للمؤمن” (مر 8: 24).
حقًا إن هذه عبارة عجيبة ومعزية. أننا نؤمن أن الله هو الذي “يستطيع كل شيء ولا يعسر عليه أمر” (أي 42: 1). أما إن كل شيء مستطاع للمؤمن، فهذا أمر عميق ومذهل، يعطينا فكرة عن قوة الإيمان وفاعليته، ويذكرنا بقول القديس بولس الرسول:
“أستطيع كل شيء، في المسيح الذي يقويني” (في 4: 13).
إذن الإيمان هو قوة. وهو يقوى الإنسان باستمرار، فلا يخاف ولا يضطرب ولا يقلق ولا ييأس. ومصدر قوته هو الله الذي يقويه. لذلك يقول المرتل في المزمور “قوتي وتسبحتي هو الرب، وقد صار لي خلاصًا” (مز 117: 14).
* ولهذا فإن الإيمان يصحبه السلام أيضًا: السلام الداخلى والسلام مع الله.
وهكذا يقول الرسول “إذ قد تبررنا بالإيمان، لنا سلام مع الله” (رو 5: 1). لنا سلام مع الله، إذ نؤمن أن الرب قد حمل كل خطايانا على الصليب، وأننا “متبررون الآن بدمه”، “وقد صولحنا مع الله بموت ابنه” (رو 5: 9، 10). لأن “الله كان في المسيح مصالحًا العالم لنفسه، غير حاسب لهم خطاياهم” (2كو 5: 19).
* وبهذا الإيمان وهذا السلام، يكون لنا الفرح.
لذلك فالمؤمنون دائمًا فرحون، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. … فرحون لأنهم يؤمنون برعاية الرب لهم، ولأنهم يؤمنون أن هذا الله الذي يرعاهم هو قادر على كل شيء، وأنه أب حنون: في احتياجهم يعطى، وفي توبتهم يغفر، وفي حمايتهم يقدر ويخلص… حتى إن أصابتهم ضيقة، وبدأ من الخارج أنهم في كرب، يقولون مع الرسول “كحزانى ونحن دائمًا فرحون” (2كو 6: 10). وهكذا يقول الرسول لهؤلاء المؤمنين “افرحوا في الرب كل حين، أقول أيضًا افرحوا” (في 4: 4).
ألا يبدو أن ثمار الروح مترابطة، الفرح والسلام والإيمان…
* إن الإيمان ضد الشك. فالمؤمن لا يشك.
والشك يدل على ضعف الإيمان. والرب قد ربط بين الأمرين حينما قال للقديس بطرس “يا قليل الإيمان، لماذا شككت؟!” (مت 14: 31).
ما أكثر ما يقع البعض في الشك، لضعف إيمانهم!! قد يصلون، ويخيل إليهم أن الله لم يستجب صلاتهم، أو تباطأ في الاستجابة… فيشكون. وقد يدركهم الشك في محبة الله وفي رحمته، إن وقعوا في ضيقة، أو في مرض أو في مشكلة أو مات أحد الذين يحبونه!
وقد يقع إنسان في شك من جهة العقيدة، إن قرأ كتابًا أو مقالًا ضد الإيمان، وكان هو ضعيفًا في إيمانه!
لذلك فالإيمان الحقيقي، هو إيمان ثابت لا يتزعزع.
إيمان في كل وقت، وكل حين، مهما كانت الظروف، ومهما صادقة الضيقات أو المتاعب… أنظروا ماذا يقول الرسول المختبر: “كونوا راسخين غير متزعزعين، مكثرين في عمل الرب كل حين، عالمين أن تعبكم ليس باطلًا في الرب” (1كو 15: 58). فلنتذكر هذه العبارة ونضعها أمامنا باستمرار: كونوا راسخين غير متزعزعين…
لا نؤمن فقط بالله، إنما بعمل الله فينا ومعنا.
نؤمن أن الله دائمًا يعمل. وأنه يعمل معنا كأفراد وجماعات. يعمل الكنيسة ومع المجتمع ومع العالم كله. ويعمل لخيرنا. وفي ذلك نؤمن بيد الله في الأحداث. وأن “كل الأشياء تعمل معًا للخير، للذين يحبون الله” (رو 8: 28). وهذا الإيمان يمنحنا سلامًا واطمئنانًا.
ومع ذلك، فالإيمان على درجات.
ليست درجة الإيمان واحدة عند كل الناس. ولا درجة الإيمان واحدة عند نفس الشخص في كافة مراحل حياته فقد يقوى حينًا، ويضعف في حين آخر. وإيمان المبتدئين غير إيمان الكاملين. إن أب الرجل المصروع من الشيطان، لما سأله الرب عن إيمانه أجاب: “أؤمن يا سيد، أعِن عدم إيماني” (مر 9: 24).
وهناك إيمان قوي يصنع المعجزات. وإيمان كامل قال عنه الرسول: إن كان لك كل لإيمان حتى تنقل الجبال… (1كو 13: 2).. على أن الإيمان كأية فضيلة يمكن أن ينمو وأن يقوى… إن بطرس الرسول الذي ضعف إيمانه أمام جارية أثناء محاكمة المسيح (مت 26: 70). عاد فقوى إيمانه بعد حلول الروح القدس. وقال بكل شجاعة “ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس” (أع 5: 29).
لقد عرف الرسول الإيمان بأنه الثقة بما يرجى، والإيقان بأمور لا ترى” (عب 11: 1).
فنحن نؤمن بوجود الله، والله لا يرى ونؤمن أيضًا بوجود الأرواح وكلها كائنات لا ترى بعيوننا المجردة. وهذا هو الفرق بين الإيمان والعيان… كذلك نحن نؤمن بالنعم غير المنظورة التي ننالها من خلال أسرار الكنيسة المقدسة، وكلها أمور لا ترى. ومع ذلك نحن نوقن بذلك كل الإيقان.
على أن للإيمان علامات تظهره وتدل عليه.
فالمؤمن إنسان بعيد عن الكبرياء والتعالي. الآن الذي بوجود الله، لا يستطيع أن يسلك في كبرياء أمام الله، بل يدرك يقينًا أنه مجرد تراب ورماد (تك 18: 27).
ومن هنا كان خشوع المؤمن في صلاته.
وكذلك ما في الصلاة من ركوع وسجود، وما يسميه القديسون “الزِّي الحسن في الصلاة” حيث يقف وكأنه أمام عمود من نار. وهكذا نقول في القداس الإلهي “قفوا بخوف أمام الله، وأنصتوا لسماع الإنجيل المقدس”، “اسجدوا لله بخوف ورعدة”..
أما الذي يقف متخاذلًا متكاسلًا في صلاته، يلتفت أثناءها هنا وهناك، أو يسرح في أمور عديدة، فهذا يدل على أنه غير مؤمن أنه واقف أمام الله…
كذلك هناك فرق بين صلاة بإيمان، وصلاة بغير إيمان.
المؤمن يثق تمامًا أن صلاته قد وصلت إلى الله، وأن الله قد سمعها وأنه سوف يستجيب. ويؤمن أن الله لابد سيعمل. وهكذا نرى أن داود النبي تبدأ بعض مزاميره بالطلب، بينما تنتهي بعبارات الاستجابة. فنراه مثلًا يختم المزمور السادس بعبارات يقول فيها “ابعدوا عنى يا جميع فاعلي الإثم. لأن الرب قد سمع صوتي بكائي. الرب سمع تضرعي. الرب لصلاتي قبل” (مز 6) نقط أخرى نقولها في علامات الإيمان ودلالاته:
أنت تؤمن أن الله هو الحق، كما يقول “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو 14: 6). فهل تؤمن بالحق ما دُمت تؤمن بالله؟
إن كنت تؤمن بالحق، لأنك تؤمن بالله الذي هو الحق، فهل تسلك في الحق، وهل تدافع عن الحق.
إن السلوك في الباطل هو لون من ضعف الإيمان بالله لأن البعد عن الحق هو البعد عن الله.
كذلك الذي يؤمن بأن الله هو النور (يو 8: 13). فهل تؤمن بالنور، أم تسلك في الظلمة؟! كيف في الظلمة بينما أنت تؤمن بالنور؟! والرب يقول “أنا هو نور العالم. من يتبعني، فلا يسلك في الظلمة” (يو 8: 13).
كذلك إن كنت تؤمن بالأبدية، فلابد أن تستعد لها.
وما دمت تستعد، فلا يمكن أن تشتهى الأمور التي في هذا العالم، لأن “محبة العالم عداوة لله” كما يقول الكتاب (يع 4: 4). “أن أحب أحد العالم، فليست فيه محبة الآب” (1يو 2: 15). إذن فالذي يسلك في محبة العالم وشهواته، ليس هو مؤمناَ بالحقيقة. وإلا كان متناقضًا مع نفسه.
كذلك إن كنت تؤمن بأن جسدك هو هيكل الله، فهل من المعقول أن تنجسه وتدنسه؟!
يقول الرسول “أما تعلمون أنكم هيكل الله، وروح الله يسكن فيكم. إن كان أحد يفسد هيكل الله، فسيفسده الله، لأن هيكل الله مقدس، الذي هو أنتم” (1كو 3: 16، 17) ويقول أيضًا “أم لستم تعلمون أن جسدكم هو هيكل للروح القدس الذي فيكم، الذي لكم من الله، وأنكم لستم لأنفسكم” (1كو 6: 19).
إذن فالذي يفسد جسده، لا يؤمن أن جسده هو هيكل الله. ولا يؤمن أن الروح القدس ساكن فيه. وبنفس المنطق مَنْ يفسد جسد مؤمنة هي أيضًا هيكل للروح القدس.
من هنا نرى أن كلمة الإيمان لها معنى كبير واسع، يشمل الحياة كلها. لهذا يقول الرسول:
“اختبروا أنفسكم هل أنت في الإيمان. امتحنوا أنفسكم” (2كو 13: 5).
ومن الوسائل التي يختبر بها الإيمان الضيقة: فهناك أشخاص يضعف إيمانهم أو يضيع في الضيقة. بينما غيرهم يثبتون في الإيمان على الرغم من الضيقات. مثال ذلك القديسون الشهداء والمعترفون الذين تعرضوا لكل ألوان التعذيب ولكنهم ثبتوا في إيمانهم، وتعرضوا للإيذاء وللتهديد وظلوا ثابتين في إيمانهم.
وكما يُخْتَبَر الإيمان في الضيقة، كذلك يُخْتَبَر بالشكوك.
فالذين وضعوا أرجلهم في البحر الأحمر وعبروا، ما كان عندهم شك، بينما المياه والأمواج كانت تحيطهم من الجانبين (خر 14).
الإيمان القوي ينتصر على كل الشكوك التي تحاربه. وهكذا فإن الكنيسة القوية اجتازت فترات الهرطقات الشديدة خلال القرنين الرابع والخامس للميلاد. فحرمت الهرطقات وخرجت منها بإيمان سليم.
نرجو من الرب أن يثبتنا في الإيمان الذي ينبع من أرواح قوية، تنتصر في كل حروب الإيمان.
No Result
View All Result