مفهوم الوداعة
كتاب عشرة مفاهيم – البابا شنودة الثالث
أهمية الوداعة
من أبرز الآيات عن أهمية الوداعة قول السيد المسيح له المجد (تعلموا منى لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم) (مت 11: 29) كل الكمالات موجودة فيه، ولكنه ركز على الوداعة أولًا. وجعلها سببًا لراحة النفس.
والقديس بولس الرسول وضع الوداعة ضمن ثمار الروح (غل 5: 23).
ويقول القديس يعقوب الرسول (من هو حكيم وعالم بينكم، فلير أعماله بالتصرف الحسن في وداعة الحكمة) (يع 3: 13).
وحينما ذكر الرب التطوبيات، جعل الوداعة في أوائلها. فقال: (طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض) (مت 5: 5).
ويوجد تطويب كثير للوداعة في سفر المزامير، إذ يقول (يسمع الودعاء في الحق) (مز 25: 9) (اقرأ مقالًا آخرًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). وعندما تكلم القديس بطرس الرسول عن زينة النساء، قال (زينة الوديع الهادئ الذي هو قدام الله كثير الثمن (1بط 3: 4).
إن كانت الوداعة بهذا المقدار، يقف أمامنا سؤال مهم:
ما هي الوداعة إذن؟ وما هي صفات الوديع؟
ما هي الوداعة؟
الإنسان الوديع هو إنسان هادئ طيب، ومسالم، وبشوش..
هو إنسان هادئ، لا يغضب ولا يثور، ولا ينفعل بسرعة. لا يحتد في كلامه، بل الصوت المنخفض الخفيف.. هو بعيد عن النرفزة أعصابه هادئة..
قيل عن السيد المسيح في وداعته، إنه (لا يخاصم ولا يصيح، ولا يسمع أحد في الشوارع صوته قصبة مرضوضة لا يقصف، وفتيلة مدخنة لا يطفئ) (مت 12: 19، 20)، (أش 42: 2، 3).
هدوء الوديع، هدوء من الداخل ومن الخارج. يملك السلام على قلبه في الداخل، فلا يقلق ولا يضطرب. ومن الخارج هو مسالم لجميع. لا يهاجم أحدًا، ولا يجرح شعور أحد. هو بعيد عن العنف. حتى إذا هوجم، لا ينتقم لنفسه.
إنه لا يتدخل في شئون الناس، ولا يقيم لنفسه رقيبا على أعمالهم، وبالتالي لا يدين أحدًا. وإن تدخل في إصلاح غيره، يكون ذلك في هدوء، حسبما قال الرسول: “أَيُّهَا الإِخْوَةُ، إِنِ انْسَبَقَ إِنْسَانٌ فَأُخِذَ فِي زَلَّةٍ مَا، فَأَصْلِحُوا أَنْتُمُ الرُّوحَانِيِّينَ مِثْلَ هذَا بِرُوحِ الْوَدَاعَةِ، نَاظِرًا إِلَى نَفْسِكَ لِئَلاَّ تُجَرَّبَ أَنْتَ أَيْضًا” (رسالة بولس الرسول إلى أهل غلاطية 6: 1).
يصلحه بالإقناع بالهدوء، وبالاتضاع ناظرًا إلى نفسه لئلا يجرب هو أيضًا..
الإنسان الوديع يحتمل الآخرين، بطول الروح.
بطول بال. يضع أمامه قول الكتاب (الجواب اللين يصرف الغضب) (أم 15: 1) هو على صورة الله الذي يحتمل الخطاة، ويطيل أنته عليهم .
الإنسان الوديع بعيد عن التذمر سواء في علاقته مع الله أو الناس. بل بالعكس يكون على الدوام بشوشًا مبتسمًا.
والوديع غالبًا ما يكون خجولًا.
يتميز بشيء من الحياء. بل كما قال أحد الآباء (لا يملأ عينيه من وجه إنسان) لا يفحص ملامح الناس، ولا يغوص في أعماقهم، ليعرف ما في داخلهم.
لا يحلل الناس ومشاعرهم. إنما نظراته بسيطة. هو إنسان حيى. لا يفارقه حياؤه.
الوديع شخص سهل التعامل.
بسيط، ليس عنده دهاء ولا مكر ولا خبث. واضح في تعامله، يبطن غير ما يظهر، ولا يعقد الأمور. يتعامل في وضوح، بلا لف ولا دوران، ولا يدبر خططًا. يمكنك أن تستريح إليه، لأنه واضح، صريح، ومريح..
إنه رقيق، لطيف، حلو الطبع.
لذلك تجده محبوبًا من الكل. لأنه إنسان طيب. حتى لو ظلمه البعض، تجد الكثيرين يدافعون عنه ويقولون لمن ظلمه (ألم تجد سوى هذا الإنسان الطيب، لكي تظلمه؟!) حتى الذي ظلمه، يأتي إليه بعد حين ويعتذر له.. والكل يدافع عنه، لأنه لا يؤذى أحدا (اقرأ مقالًا آخرًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). ولأجل محبة الناس للوداعة، يقول الرب طوبى للودعاء لأنهم يرثون الأرض) (مت 5: 5) هذا بالإضافة إلى السماء.. ونعمة الله باستمرار تكون عليه.
والإنسان الوديع، إنسان (مهاوِد).
يميل إلى إراحة الناس، وعدم العناد معهم. لا يكثر من الجدل والنقاش. والمُلاججة والتحقيق. إنما الخير الذي يستطيع أن يعمله، يعمله بهدوء وسرعة وبدون تأجيل مناقشة. إنه لا يتشبث برأيه في كل شيء، كما يفعل البعض. إنما يمرر الأمور مادامت لا تكسر وصية. ولذلك فإنه لا يتحزب، إنما يحب الكل..
فَقْد الوداعة
الإنسان الوديع يحتفظ بوداعته باستمرار.
لا يفقد وداعته إن نال مركزًا كبيرًا، أو تمتع بسلطة. فمهما كان مركزه عاليًا، تستمر وداعته كما هي. ولا يرتفع قلبه في أمر ونهى.
والوديع أيضًا لا يفقد وداعته بسبب إصلاح الآخرين. فإن كان في وضع يسمح بهذا، لا يصلح الناس بالعنف أو بالشدة، أو بحدة الصوت أو حدة التصرف.
إنه لا يفقد وداعته أيضًا، إن دافع عن الحق.. إنما يدافع عنه في هدوء، دون أن يجرح شعور أحد.. كذلك إن تكلم بصراحة، لا تكون صراحته جارحة. وإنما يعبر عما يريد قوله بأسلوب رقيق (اقرأ مقالًا آخرًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات). وفي هذه المناسبة نذكر أسلوب السيد المسيح مع المرأة السامرية. كشف لها كل شيء، بغير أن يخدش حياءها، أو يجرح شعورها (يو4).
والوديع الحقيقي لا يفقد وداعته بحجة الحزم أو الشجاعة، أو بالفهم الخاطئ للقوة وللكرامة الشخصية.
ولا يحتج أحد بفقد الوداعة بحجة أنه مولود بالطابِع الناري. فموسى الأسود كان من هذا النوع، ولكنه اكتسب الوداعة بحياة التوبة، على الرغم من أنه بدأ حياته شديدًا. ولكنه درب نفسه حتى تحول إلى إنسان طيب القلب جدًا.
الوداعة والشجاعة
البعض يخطئ في فهم الوداعة، فيتصور الوديع كشخصية خاملة، بلا تأثير ولا فاعلية ويظن الوداعة رخاوة في الطبع!!
كأن يتحول الوديع -بسبب طبيعته- إلى أضحوكة وسط الناس، يلهون به ويدوسون على كرامته. أو أنه بسبب احتماله للآخرين وعدم تذمره، يصبح مهزأة. أو أيضًا بسبب عدم إدانته للناس، لا يفعل شيئًا متى رأى الشر مسيطرًا على الخير! كلا فليست هذه هي الوداعة.
إنما المفهوم الصحيح للوداعة، لا يمنع مطلقًا من أن ترتبط بالرجولة والنخوة والشجاعة والشهامة.
فنحن نتحدث عن الوداعة بأسلوب الحقائق! ونقول إن الوديع هو إنسان طيب ومسالم ومهاود، ونتغافل أن يكون ذا شجاعة ونخوة وشهامة..
وأيضًا هناك كلمة عميقة قيلت في سفر الجامعة، تنطبق على تصرف الوديع في مختلف المواقف والأحداث، وهي: (لكل شيء زمان، ولكل أمر تحت السموات وقت.. للسكوت وقت وللتكلم وقت) (جا 3: 1، 7).
فمع أن الطيبة هي الطابع العام في حياة الوديع، إلا أنه للشجاعة في حياته وقت وللشهامة وقت، ولكن في غير عنف.
أمثلة:
· السيد المسيح في وداعته وحزمه:
هذا المثل الأعلى الذي قيل عنه (لا يخاصم ولا يصيح ولا يسمع أحد في الشوارع صوته) نراه حازمًا قويًا في تطهيره للهيكل، حينما طرد الباعة، وقال لهم (مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعى، وأنتم جعلتموه مغارة لصوص) (مت 12: 12، 13).
وكان قويًا وحازمًا أيضًا في توبيخه للكتبة والفريسيين) (مت 23).
وكان حازما في شرح شريعة السبت وفعل الخير فيه، على الرغم من كل المعارضة التي لاقاها..
· مثال موسى النبي المشهور بحِلْمه العجيب.
حتى أنه قيل عنه (وكان الرجل موسى حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض) (عد 12: 3). موسى هذا الذي نزل من الجليل ومعه لوحا الشريعة، ووجد الشعب يعبد عجلًا ذهبيًا ويغني ويرقص (اقرأ مقالًا آخرًا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلا في قسم الأسئلة والمقالات).. لم يقف موقفًا سلبيًا باسم الحلم والوداعة، بل حمى غضبه وطرح لوحي الشريعة من يديه وكسرهما. ثم أخذ العجل الذي صنعوه، وأحرقه بالنار، وطحنه حتى صار ناعمًا وذراه على وجه الماء (سفر الخروج 32: 19، 20) وانتهر هرون رئيس هرون رئيس الكهنة، حتى اضطرب بين يديه.
· مثال آخر هو داود النبي.
هذا الذي قيل عنه في المزمور (اذكر يا رب داود وكل دعته) (مز 132: 1) كان موقفه جريئًا وشجاعًا، لما رأى جليات يعير صفوف الله الحي، بينما كان كل الجيش واقفا في خوف أمام ذلك الجبار..
أما داود الوديع فقال من هو هذا الأغلف حتى يعير شعب الله؟! وظل يكلم الناس بشأنه، ولم يهمه استهزاء أخيه الأكبر به. وأخيرا قال لشاول الملك (لا يسقط قلب أحد بسببه) (1صم 17: 32) وذهب وحاربه ولم يخف منه، بل قال له (أنت تأتى إلى بسيف وبرمح وبترس، وأنا آتى باسم رب الجنود.. اليوم يحبسك الرب في يدي.. (1صم 17: 45، 46).
هذا هو داود الشاب الهادئ الأشقر، صاحب المزمار والقيثار، وفي نفس الوقت صاحب الغيرة، ورجل الحرب جبار البأس..
· مثال ثالث هو بولس الرسول:
إنه إنسان طيب هادئ، يقول لأهل كورنثوس في توبيخه لهم (أطلب إليكم بوداعة المسيح وحلمه، أنا نفسي بولس الذي هو في الحضرة ذليل بينكم، وأما في الغيبة فمتجاسر عليكم) (2كو 10: 1).
ويقول لشيوخ أفسس (متذكرين أنى ثلاث سنين ليلًا ونهارًا، لم افتر أن أنذر بدموع كل أحد) (أع 20: 31) إنه رسول، من حقه أن ينذر، ولكنه بوداعة ينذر، ولكنه بوداعة ينذر بدموع.
بولس هذا في الكرازة والتبشير، كان أسدًا..
إنه حينما يتكلم عن البر والدينونة والتعفف أمام فيلكس الوالي، يقول الكتاب (ارتعد فيلكس. وقال له اذهب الآن، ومتى حصلت على وقت أستدعيك) (أع 24: 25) ولما وقف أمام أغريباس الملك، قال له الملك (بقليل تقنعني أن أصير مسيحيًا) (أع 26: 28).
وبولس هذا الوديع، لم يمتنع عن توبيخ بطرس الرسول. وقال (لما رأيت أنهم لا يسلكون باستقامة حسب حق الإنجيل، قلت لبطرس قدام الجميع: إن كنت وأنت يهودي تعيش أمميًا لا يهوديًا، فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا) (غل 2: 14).
· مثال رابع هو أليهو بن برخئيل:
كان الرابع بين أصدقاء أيوب. ومن وداعته ظل صامتا بينما كان يتكلم أصحاب أيوب الثلاثة معه على مدى 28 أصحاحًا. ولم يفتح أليهو فمه من فرط وداعته، لأنهم كانوا أكبر منه سنا..
وأخيرًا لم يستطع أن يصبر هذا الوديع أكثر من هذا، لما رأى أن الجميع قد أخطأوا. وفي ذلك يقول الكتاب (فحمى غضب أليهو بن برخئيل البوزي من عشيرة رام. على أيوب حمى غضبه، لأنه حسب نفسه أبر من الله. وعلى أصحابه الثلاثة حمى غضبه، لأنهم لم يجدوا كلاما واستذنبوا وأيوب.. فقال لهم (أنا صغير في الأيام، وأنتم شيوخ، لأجل ذلك خفت وخشيت أن أبدى لكم رأيي..) (أي 32: 2-7) ثم بدأ رسالته في التوبيخ..
حقًا لكل شيء تحت السموات وقت. لسكوت الوديع وقت، ولكلامه وقت. لطيبته وقت، ولحزمه وقت..
No Result
View All Result