العفة والتعفف
مكتبة الكتب المسيحية | كتب قبطية | المكتبة القبطية الأرثوذكسية
مقالات البابا شنودة الثالث المنشورة في جريدة الأهرام – مقال يوم الأحد الموافق 29 مايو 2011
التعفف يشمل عفة الجسد, وعفة الحواس ( النظر والسمع واللمس), وعفة اللسان, وعفة الفكر, وعفة القلب, وعفة القلم, وعفة اليد.
† عفة اللسان: في عفة اللسان يبعد الشخص عن كل كلمة بطالة. فاللسان العفيف لا يلفظ كلمة شتيمة ولا كلمة تهكم. فالإنسان العفيف يحترم غيره.
فلا يسيء إليه بكلمة جارحة, ولا بكلمة استهزاء أو احتقار أو ازدراء, في أي حديث أو أي عتاب. وأتذكر أنني قلت ذات مرة في رثاء أحد أساتذتي الروحيين منذ نحو ستين عاما:
يا قويا ليس في ذاته عنف.. لك أسلوب نزيه طاهر…
لم تنل بالذم مخلوقا ولم… ووديعا ليس في طبعه ضعف
ولسان أبيض الألفاظ عف تذكر السوء إذا ما حل وصف
لهذا فإن الذي يستخدم ألفاظًا جارحة, أو ألفاظا قاسية, وكأنها كرجم الطوب… ليس هو بالإنسان العفيف اللسان. فاللسان العفيف لا يشهر بغيره, ولا يكشف عورة إنسان في حديثه. لأن عفته تمنعه من ذلك. واللسان العفيف هو لسان مؤدب ومهذب. يزن كل كلمة يلفظها. ولا يحتاج إلي مجهود لكي يتكلم كلامًا عفيفًا, لأنه تعود ذلك وأصبح هكذا بطبعه.
واللسان العفيف لا يستخدم ألفاظًا معيبة من الناحية الأخلاقية: فلا يتلفظ بكلمات جنسية بذيئة, ولا يذكر قصصًا أو فكاهات جنسية, ولا يقبل سماعها إن قيلت من غيره. ولا يردد أغاني من نفس النوع, بل يخجل من النطق بها, حتى فيما بينه وبين نفسه في مسكنه الخاص. إنه لا يتدني إلي هذا الوضع. يمنعه أدبه من استخدام لغة لا تتفق وهذا الأدب الذي تعوده.
† واللسان العفيف قد تعود أيضا عفة التخاطب, وتعود أيضا أدب الحوار. فهو لا يقاطع غيره أثناء الحديث معه. ولا يوقفه عن الكلام لكي يتكلم هو, ولا يعلو صوته في الحوار. ولا يحاول أن يقلل من شأن غيره في حواره معه, لكي يثبت صحة رأيه هو. ولا يهين غيره أثناء المناقشة. فكل هذه أمور لا يسمح بها أدبه.
واللسان العفيف -في حواره- يكون موضوعيًا. فلا يتعرض إلي الجوانب الشخصية فيمن يتحاور معه. ولا يمكن أن يصف محدثه بالجهل أو عدم الفهم. ولا يكشفه في هذه النواحي. بل يركز علي موضوع النقاش.
† عفة القلم: عفة القلم ترتبط أيضا بعفة اللسان. ونعني بها القلم الذي يراعي كل ما قلناه فيما يكتب. فلا يشهر بأحد, ولا يجرح أحدًا, ولا يعمد إلى الإهانة. ولا يشيع عن إنسان ما ليس فيه.
بل يحرص علي أعراض الناس. ويري أن سمعتهم أمانة أمام قلمه لا يمكن أن يتجاوزها. وفيما يكتب, يكتب بموضوعية نزيهة.
وهنا نري عفة النقد ونزاهته: نعني النقد العادل البريء الموضوعي, الذي يهدف إلى الحق.
ويزن الأمور بميزان سليم. ويذكر النقاط البيضاء أولا, قبل غيرها من النقاط التي لا يوافق عليها.
وهكذا يعطي كل ذي حق حقه. وفي نقده لا يدخل في نوايا الناس وفي دواخلهم, هذه التي لا يعرفها إلا الله وحده.
† عفة القلب وعفة الفكر: عفة القلب هي عفة المشاعر والعواطف والأحاسيس, وأيضًا عفة المقاصد والنيات والرغبات, ومن عفة القلب تصدر أيضًا عفة الفكر, وتصدر أيضا عفة الحواس.
وكلها خارجة من مصدر واحد. وأيضا عفة اللسان صادرة عن القلب. فاللسان غير العفيف مصدره قلب غير عفيف. ومن فيض القلب يتكلم اللسان. والذي يتكلم كلامًا شريرًا, يدل علي أن الشر موجود في قلبه, والذي في القلب, يعبر عنه الفكر, ويعبر عنه اللسان, وتعبر عنه الحواس أيضًا. وإن لم يضبط العقل والفكر حينئذ قد يتدرج الأمر إلى الإرادة, ثم إلى العمل.
† وعفة القلب والفكر ترتبط أيضا بعفة العقل الباطن. والعقل الباطن يعمل عن طريق المخزون فيه من أفكار ومن رغبات وصور ومشاعر, فإن كان المخزون في العقل الباطن غير عفيف, حينئذ يصدر ذلك في أحلام غير عفيفة, وفي ظنون وأفكار من نفس النوع. كما هو معروف أن كل شجر ينتج ثمرًا كجنسه.
فليحرص إذن كل إنسان علي عفة قلبه وفكره, بما يدخله فيهما من روحيات ومن محبة الخير والعفة. وذلك لكي يصيرًا مصدرًا لكل من عفة اللسان وعفة الحواس وعفة الجسد.
† عفة الأذن: الأذن العفيفة لا تلتذ إطلاقًا بسماع ما لا يليق, ولا تجد لذة في سماع مذمة الغير, أو سماع أخبار عن سقوط أو فشل من تعاديهم. فهذا نوع من الشماتة لا يتفق مع عفة القلب ولا مع عفة الأذن، وقد تحدثنا عن هذا الموضوع هنا في موقع الأنبا تكلاهيمانوت في أقسام أخرى. وقد قال سليمان الحكيم: لا تفرح بسقطة عدوك, ولا يبتهج قلبك إذا عثر. والأذن العفيفة أيضا هي التي لا تتنصت علي غيرها, أي لا تتجسس لتعرف أسرارًا ليس من حقها أن تعرفها. الأذن العفيفة لا تسرق أخبارًا, متدخلة في خصوصيات غيرها بغير حق.
والذي يفعل هذا لا يكون مهذبًا.
† عفة النظر: إنها أيضا صادرة عن عفة القلب, يعني بها النظرات العفيفة غير الشهوانية. والإنسان العفيف ينظر بغير شهوة, بل في استحياء.. ليس في الأمور الجنسية وحدها, بل أيضا العفة من جهة نظرة الاحترام لمن هو اكبر منه. فلا ينظر بغير أدب, بل في توقير. ويحرص عفيف النظر علي أن يبعد عن النظرات المتجسسة الفاحصة بما في ذلك من تفاصيل.
† يبقي علينا أن نتكلم عن عفة الجسد. وهذا موضوع طويل أحب ان أؤجله إلى مقال آخر.
No Result
View All Result