مفهوم العفة في المسيحية
القمص تادرس يعقوب ملطي
1- عفة النضوج لا العجز!
يميز القديس أغسطينوس بين عفة الشاب الناضج المجاهد وطهارة الطفل العاجز. فالشاب يجاهد ويصارع من أجل العفة، قد يسقط ليقوم، قد يُجرح في جهاده الروحي لكنه لا ييأس قط؛ فكل جهاد حتى وإن صحبه أحيانًا سقوط فهو علامة نضوج وحيوية وحب.
للأسف كثير من الشباب ييأس عند أول ضعف أو سقوط، حاسبين أن العفة أمر مستحيل؛ خلال اليأس ينهار من سقوط إلى سقوط، ليخسر المعركة الروحية تمامًا.
سبق أن رأينا الغريزة الجنسية كطاقة قوية يثيرها البعض ويلهبها في اتجاه مضاد لعملها. كما يمكنه كبتها إلى حين حتى يفلت الزمام فتحطمه، أما أولاد الله فبالروح القدس يعلون بها ويرتفعون لبنيانهم الروحي. لكن كثيرين يحسبون أن بعملية إعلاء الغريزة للحب بالعمل والبذل الحقيقي بروح الرب لا يعود الإنسان يتعرض لحرب الفكر أو النظر… الحق يا عزيزي أن الروح القدس يهب شبعًا للنفس بكل طاقاتها والجسد بغرائزه حتى يفيض الإنسان على الغير بالحب الطاهر بلا دنس، يود الإنسان أن يموت من أجل جميع أخوته وأخواته لا ليشبع غرائزه ولا بقصد البلوغ إلى لذة جسدية، بل بحب بلا حدود بلا تمييز ما استطاع… لكن الروح القدس لا ينزع عن المؤمن الحرب مع الفكر الشرير حتى لا يُحرم من التمتع بالنصرة والغلبة ليصير له إكليل أبدي.
فمن حق الجسد أن يهاجِم بشهواته، وبإمكانية الروح تُمتص هذه الثورة وتستوعب وتُصبَغ بالصبغة الجديدة وتُوجَّه لطاقات حب وبذل غير محدودين، فينطلق الشاب بنفس القوة الأولى وبنفس الثورة الأولى في طاقة أعظم وأقوى بصورة جديدة وتتعدى حدود الجسد، تنطلق بكل الكيان الداخلي والخارجي للصلاة والخدمة والدراسة والأمانة في الحياة.
الروح الإلهي يصيِّر عينك بسيطة، فيكون جسدك كله نيّرًا، فإن تعرضت العين لمنظر ما لا يسترخي الجسد بطاقاته تائقًا التمرغ في وحل اللذة الجسدية، بل يقوم الروح بالستر على العين فيطلب الإنسان أن يستر الله عليه، وعلى صاحب المنظر ليكونا مقدسين في الرب.
هذه هي عفة النضوج، حيث لا تعود إلى عفة الطفولة الطبيعية التي لا تخطئ جنسيًا بالطبيعة البشرية، بل تتقبل حياة الطفولة البريئة الناضجة خلال عمل الروح القدس المقترن بالصليب، كسكين يبتر فينا ما هو ليس حق أو ليس عفة واهبًا لنا قدرة للحرب والجهاد.
عفة الرجولة الروحية هذه، فيها يحارب المؤمن بالصليب فلا يجد في الأفكار المهاجمة فرصة للاستكانة بل غنيمة يقتنيها، خلالها يُنقل المؤمن ويرتقي من فصل إلى فصل أعلى، لينال بركات روحية أسمى عندما يصمد في الحرب بأمانة حتى وإن جرح خلالها ببعض الجراحات.
قد تتعرض يا عزيزي لما حدث مع يوسف الشاب، حين قُدمت له الخطية في أخدع صورها… سيدته الآمرة الناهية تجبره وتتوسل إليه وتضغط عليه وهو بلا معين، ليس له أهل ولا كنيسة ولا كتاب مقدس ولا مرشد… لكن الرب الذي يسنده ستر على عينيه فرأى الفرصة سانحة للنصرة والغلبة بالله القدير.
إذن. فالطفل الصغير أو الشاب العاجز جنسيًا لا يعتبر في حياته عفيفًا بالمعنى الصحيح للعفة لمجرد امتناعه عن الممارسة الجنسية إنما عفته هي عفة العجز لا الجهاد. أما الشاب (أو الشابة) الذي يصارع في جهاده ليتقبل حب الله فيه ويتفاعل معه، فإنه وإن سقط، لكن سقوطه ليس دليل نجاسته أو عدم طهارته. فالعفة لا تكمن في مجرد عدم السقوط بل في حب الله وكراهية الخطية وجهاده ضدها حتى الدم.
الصديق يسقط سبع مرات ويقوم… لا عن استهتار أو بلادة، ولكن في حرب وجهاد مع صلوات مستمرة واشتياق للعفة.
فالشاب الذي وهبت له غرائز، يحاربه الإنسان العتيق -شهوات الجسد- وتحاربه مغريات العالم ويصارع مع شيطان الزنا… هذا الشاب المسكين إن تسلح بنعمة الله وجاهد في صلوات واعترافات وتناول من الأسرار المقدسة، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في أقسام أخرى… حتى وإن هاجمه الفكر مرة ومرات، وإن سقط، طالما في ألم وحزن وصراخ وتأوهات، بغير استسلام أو يأس، ولا في استهتار أو تراخ… بل في حزم مع نفسه وطلب النعمة يجاهد… مثل هذا الشاب يكلل بإكليل العفة… عفة الجهاد والغلبة لا العجز.
2- العفة… حب وشبع!
يليق بنا أن نميز بين العفة في مفهومها الإيجابي عنها في المفهوم السلبي.
يظن البعض أن العفة مجرد امتناع عن الزنا، أو عدم ممارسة لبعض العادات والممارسات المنحرفة المثيرة للشهوة أو للذة الجنسية أو هي مجرد قمع للعين عن أن تنظر، أو لبقية الحواس كي لا تتفاعل مع أحاسيس عاطفية جنسية؛ أو هي مجرد هروب من أماكن أو أشخاص أو أوضاع مثيرة، أو عدم انشغال الفكر والقلب بالعواطف والأحاسيس والأفكار الخاصة بالجنس. هذه كلها نواحٍ سلبية للعفة، من يقف عندها عبثًا يتخبط في اقتنائها، بل تصير العفة بالنسبة له جبلًا شامخًا لا تعلو عليه رجل إنسان، أو هي حياة من وحي الخيال لا يسلكها ولا يتذوقها إنسان ما.
هذه المفاهيم السلبية حطمت كثيرين في جهادهم، وأفقدتهم تذوق العفة وعذوبتها.
أما العفة من الجانب الإيجابي فهي إمكانية داخلية، هبة الله للإنسان؛ بمعنى أنها التصاق الله بالإنسان، حُب وَعِشْق لهُ، ليغتني القلب بالحب، وتمتلئ النفس من دسم نعمته، فيفيض بالحب على الغير ليعطي بفرح دون أن يطلب ما لذاته. العفة ليست كبتًا وإغلاقًا على العواطف والأحاسيس والغرائز، إنما هي شبع وفيض، هي انطلاقة قوية بهذه جميعها في موضعها السليم واتجاهها الحقيقي.
يميز المؤمن بين العفة المسيحية الإيجابية التي هي عملية إيجابية فيها يكون الإنسان حذرًا لكن بلا اشمئزاز من الجنس، أما الكبت فهو عملية سلبية، هروب من الواقع، تسوده مركزية الأنا بطريقة متسترة.
العفة المسيحية ليست شكلًا من التبو Tabou أي من التحريم الخرافي الذي يفقد الإنسان بهجته وسلامه إنما هي انطلاق بالحب المفرح للنفس. العفة هي موقف لا يمس الجانب الجنسي وحده، إنما هو موقف للكيان الإنساني كله، فيه يتجه الإنسان نحو الشركة والعطاء، كما أكد القديس إكليمندس الإسكندري.
No Result
View All Result