طول الأناة عند الله
كتاب ثمر الروح – البابا شنوده الثالث
طول الأناة عند الله:
هكذا قال القديس بولس الرسول “وأما ثمر الروح فهو محبة فرح سلام طول أناة لطف..” (غل 5: 22، 23). وهذه الفضائل ترتبط معًا. فالذي عنده محبة بالضرورة يحيا في فرح وسلام. والذي عنده محبة، لبد أن يتصف بطول الأناة. وهكذا يقول الرسول أيضًا “المحبة تتأنى..” (1كو 13: 4).
وطول الأناة، توصف بأنها طول الروح، وطول البال، وسعة الصدر، والحلم، والصبر.
فالإنسان الطويل الأناة، هو إنسان صبور حليم طويل البال. واسع الصدر ورحب القلب. وقيل في ذلك عن سليمان الحكيم: “وأعطى الله سليمان حكمة وفهمًا كثيرًا، ورحبة كالرمل الذي على شاطئ البحر” (1 مل 4: 29). وقيل عن موسى النبي “وكان الرجل موسى حليمًا جدًا أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض” (عد 12: 3).
الله نفسه طويل الأناة، طويل الروح.
لولا طول أناته علينا، لهلكنا جميعًا. وطول أناته تنبع من عمق رحمته وحنانه. وفي ذلك يقول داود النبي “الرب رحيم ورؤوف طويل الروح وكثير الرحمة” (مز 103: 8). ويقول القديس بطرس “احسبوا أناة ربنا خلاصًا” (2بط 3: 15).
إنه يطيل أناته جدًا في معاملة الخطاة.
كم أطال أناته على الأمم -في عبادتهم للأصنام- حتى تابوا أخيرًا ورجعوا إليه… أطال أناته على أهل نينوى، إلى أنا صاموا منسحقين أمامه، فقبل توبتهم. وحزن يونان لأن الله لم يعاقبهم! (يون 3، 4).
أطال أناته مثلًا على فرعون، الذي وعد مرارًا ولم يف.
كم صبر الله عليه في قسوته وإذلاله للناس. وصبر عليه في الضربات، ليس في واحدة فقط، وإنما في عشر ضربات… في كل ضربة، كان يصرخ فرعون ويقول أخطأت (خر 9: 27) (خر 10: 16).. وكان يعد بالتوبة ويرجع… الله يطيل أناته..!
إن طول أناة الله، إنما تقتاد الخاطئ إلى التوبة. فإن لم يتب، يتعرض لعقوبة الله.
وهكذا ينذر القديس بولس الرسول فيقول للخاطئ “أم تستهين بغنى لطفه وإمهاله وطول أناته، غير عالم أن لطف الله إنما يقتادك إلى التوبة. ولكنك من أجل قساوتك وقلبك غير التائب تذخر لنفسك غضبًا في يوم الغضب” (رو 2: 4، 5).
فلا تظن إذا أخطأت كثيرًا ولم تنلك عقوبة، أن عدل الله قد كف عن العمل.
بلا ربما إن كأسك لم تمتلئ بعد… كما قال الرب مرة “لأن ذنب الأموريين ليس إلى الآن كاملًا” (تك 15: 16).. كذلك لما أكتمل كأس سادوم، حرقها الرب بنار” (تك 19).
الله يطيل أناته، لأن هذه هي طبيعته.
وطول أناته أما تقتاد إلى التوبة، أو إلى الدينونة.
ولعل من الأمثلة الجميلة لطول أناة الله، قصة تلك التينة التي ظلت ثلاث سنوات في الكرم، دون أن تنتج ثمرًا وجاءت فكرة قطعها بدلًا من أن تبطل الأرض. ولكن قيل:
“اتركها هذه السنة أيضًا، حتى أنقب حولها وأضع زبلًا”.
“فإن صنعت ثمرًا، وإلا ففيما بعد نقطعها” (لو 13: 6 – 9). حقًا إن طول الأناة تعطى فرصة أخرى، فرصة لإصلاح الحالة.
لقد أطال الرب أناته على الشعب في البرية، على الرغم من أنه كان شعبًا صلب الرقبة، كثير التذمر، كثير التقلب… قال عنه الله “مددت يدي طول النهار، لشعب معاند مقاوم” (رو 10: 21). ومع ذلك أطال أناته عليه، وأبقى منه بقية قال عنها اشعياء النبي:
“لولا أن رب الجنود أبقى لنا بقية، لصرنا مثل سادوم وشابهنا عمورة” (أش 1: 19).
ومن أمثلة طول أناة الله معاملته لأهل السامرة.
في مرة إحدى قرى السامرة أغلقت أبوابها في وجهه، لأن وجهه كان متجهًا نحو أورشليم، كما ذكرنا أيضًا هنا في موقع الأنبا تكلا هيمانوت في مواضِع أخرى. فقال له تلميذاه يعقوب ويوحنا أتشاء أن تنزل نار من السماء فتفنيهم. أما طول أناة الرب على السامرة فلم تفعل هذا. بل انتهر تلميذيه قائلًا: لستما تعلمان من أي روح أنتما. لأن ابن الإنسان لم يأت ليهلك أنفس الناس، بل ليخلص” (لو 9: 52 – 56). وجاء الوقت الذي خلصت فيه مدينة السامرة، وتعمدت وقبلت الروح القدس (أع 8: 14 – 17).
عجيبة هي طول أناة الله على مضطهدي الكنيسة.
ولعل في مقدمتهم شاول الطرسوسي الذي قال عن نفسه “أنا الذي كنت قبلًا مجدفًا ومضطهدًا ومفتريًا. ولكنى رحمت لأنى فعلت ذلك بجهل في عدم إيمان” (1 تى 1: 13).
شاول هذا الذي “كان ينفث تهديدًا وقتلًا على تلاميذ الرب… حتى إذا وجد أناسًا من الطريق رجالًا أو نساء، يسوقهم موثقين إلى أورشليم” (أع 9: 1، 2). شاول هذا أطال الله أناته عليه، حتى أصبح صعبًا عليه أن يرفس مناخس. وظهر له في الطريق إلى دمشق ودعاه إلى خدمته. وأصبح إناءًا مختار له (أع 3 – 16) ورسولًا للأمم، وتعب أكثر من جميع الرسل في خدمة الله (1كو 15: 10).
يقينًا لو لم يطل الله أناته على شاول الطرسوسي، لفقدت الكنيسة هذا الإنسان الجبار في خدمته، بولس الرسول.
أطال الله أناته على أريانوس والي أنصنا، الذي كان قاسيًا جدًا وعنيفًا في الاضطهاد القديسين أيام ديوقلديانوس الملك، وعلى يديه استشهد كثيرون. ولكن بطول أناة الله آمن أريانوس، بل وصار شهيدًا، تحتفل الكنيسة بذكراه…
وأطال الله أناته على كثير من الخطاة.
أمثال أوغسطينوس، ومريم القبطية، بيلاجية، وموسى الأسود، كثيرين غيرهم، وبطول أناة الله تاب هؤلاء كلهم. بل صاروا أنوار في الكنيسة يبعثون الرجاء في قلب كل تائب. فأوغسطينوس صار أسقفًا وأحد معلمي الكنيسة الكبار. وموسى الأسود صار من كبار آباء الرهبنة. ومريم القبطية توحدت وصارت من السواح… ترى لو لم يطل الله أناته على هؤلاء، كانت نفوسهم تهلك؟! وتخسر الكنيسة كل بركاتهم..!!
أيضًا أطال الله أناته على كثير من الملحدين والوثنيين.
أطال أناته على روسيا البلشفية، حتى عاد أكثر من مائة مليون إلى الإيمان، وكذلك رومانيا وكثير من بلاد الإتحاد السوفيتي، فأمن كل هؤلاء وفرحوا بالرب. وفي بدء المسيحية أطال أناته على كثير من فلاسفة الوثنية، حتى صاروا فلاسفة مسيحيين. بل أطال أناته على بعض السحرة، فآمنوا ومثال ذلك أثناسيوس الساحر الذي جهز سمًا مميتًا تناوله القديس مارجرجس فلم يؤذه وسيدراخس الساحر الذي جهز سمًا للقديس أباقسطور. فلم يؤذه أيضًا. فأمن كل من هذين الساحرين، ونالا إكليل الشهادة. كان الله قد أطال أناته على كل منهما. إلى أن أتى الوقت الذي يشعر فيه كل منهما بأن هناك قوة أقوى من سحره فيؤمن…
إن الله ليس فقط يطيل أناته على الخطاة حتى يتوبوا، إنما أيضًا هو طويل الأناة من جهة تدبير الأوقات…
إنه يختار الموعد الذي يراه مناسبًا ليعمل فيه، ويدبر خططه الإلهية الحكيمة. ولعل من أمثلة ذلك تدبير قضية الفداء…
لقد وعد أبوينا الأولين بأن نسل المرأة سيسحق رأس الحية (تك 3: 15). ومرت آلاف السنين، والحية رافعة رأسها تسحق عقب الآلاف من البشر بل الملايين… وبطول أناة عجيبة كان الرب ينتظر ملء الزمان الذي يتم فيه التجسد (غل 4: 4).
طول أناته انتظرت الوقت الذي توجد فيه العذراء القديسة التي تستحق هذا المجد وتحتمله، والوقت الذي يوجد فيه يوحنا المعمدان الذي يهيئ الطريق قدامه، وأيضًا الذي فيه يوجد الأثناء عشر الذين يحملون الرسالة من بعده. وتكون النبوءات كلها قد تمت مع باقي تفاصيل أخرى تجعل اختيار الوقت مناسبًا، كله حكمة…
إذن لا يحتج أحد ويقول: لماذا يا رب قد تأخر عمل الفداء؟!
كلا، إنه لم يتأخر مطلقًا، بل جاء في نفس موعده الذي حدده الله من قديم الزمان. وكانت أناة الله تمهد لإعداد كل شيء. وتمهد أيضًا لفهم الناس وقبولهم. ولو كان الفداء قد تم منذ أيام آدم، ما كان أحد قد فهمه ولا قبله ولا آمن به. إننا نحاول أن نفهم الأزمنة بعقلنا القاصِر. والرب يقول:
“ليس لكم أن تعرفوا الأزمنة والأوقات التي جعلها الآب في سلطانه” (أع 1: 7).
ليس لنا أن نستعجل الله في العمل، أو نقول له كما سبق وقال داود، تأكد أن الله في طريقه إليك، حتى قبل أن تطلب. وسوف تصل معونته في أفضل وقت مناسب…
أنظروا إلى قصة يوسف الصديق مثلًا:
ألقاه أخوته في البئر، ولم يفعل الرب شيئًا لإنقاذه منهم. وباعوه كعبد، يبدو أن الله
لم يتحرك. ثم يتهم يوسف ظلمًا ويلقى به في السجن، تمر سنوات… فهل كان الله قد أهمله وتركه؟! كلا. بل إن الله في طول أناته، يعد ويدبر الأوقات والمناسبات التي يحول فيها يوسف إلى وزير أو أمير.
ولو كان الله قد حل مشكلة يوسف، من وقت إلقائه في البئر، لظل يوسف مجرد راع بسيط..!
الله يعلم أولاده
قلنا إن الله طويل الأناة. ونقول أيضًا إنه يعلم أولاده طول الأناة أيضًا، يدربهم على ذلك.
اتفق الله مع إيليا على إنزال المطر، بعد ثلاث سنوات ونصف من المجاعة. وذهب إيليا وصلى من أجل ذلك مرة ومرتين وثلاثًا… إلى سادس صلاة، ولم ينزل المطر! ولم ييأس إيليا واستمر في الصلاة بطول أناة. وفي الصلاة السابعة، رأى غيمة في حجم قبضة اليد (1 مل 18: 44). فعرف أن صلاته قد استجيب…
No Result
View All Result