الوداعة فضيلة الأقوياء
26-11-2016 | 00:08
بقلم المطران كيرلّس سليم بسترس
التطويبة الثالثة من عظة يسوع على الجبل تتناول الوداعة، وتعد الودعاء بالأرض: “طوبى للودعاء فإنّهم يرثون الأرض”. ماذا تعني الوداعة، وما هي الأرض التي يوعد بها الودعاء؟
1- “طوبى للودعاء”
يمكن أن نحدّد الوداعة بنقيضها، أعني بالعنف. فالإنسان العنيف هو الذي يريد أن يحصل بأيّ ثمن على ما يرغب. فهو مستعدّ أن يقتل في سبيل الحصول على مبتغاه. يظنّ أنّه حرّ، غير أنّه في الواقع فريسة غرائزه. يظنّ أنّه قوي، لكنّه في الواقع ضعيفٌ لا قوّة له للسيطرة على أهوائه. أمّا الوديع فيعرف أن يصل إلى مبتغاه بسلام ومن دون عنف. لذلك فالوداعة هي فضيلةُ الأقوياء الذين يعرفون أن يسيطروا على غرائزهم، عالمين أنّهم على حقّ، وأنّ الغلبةَ في النهاية هي للحقّ. إنّهم ينظرون إلى الشرّير نظرة الله إلى الإنسان الخاطئ، فيُشفقون عليه ويرجون بوداعتهم أن يردّوه عن شرّه ويُبيّنوا له طريقَ الحقّ. هذا يتطلّب قوّة وامتلاكًا للنفس وصبرًا، وتلك الصفات هي صفات الأقوياء الذين توصّلوا إلى درجة عالية من الأخلاق. من يقتل ويدمّر يهدم أثمن ما في الحياة. يمكن دومًا إرغام الآخر بالقوّة على التخلّي عن شيء ما، ولكن لا يمكن على الإطلاق إرغامه على أن يُعطيَ الاحترام والصداقة والمحبّة.
الوداعة هي من صفات المحبة، كما جاء في رسالة بولس الأولى إلى الكورنثيّين: «المحبّة تتأنّى وترفق؛ المحبّة لا تحسد؛ المحبّة ىلا تتباهى ولا تنتفخ؛ لا تأتي قباحة، ولا تطلب ما لنفسها؛ لا تحتدّ ولا تظنّ السوء؛ لا تفرح بالظلم، بل تفرح بالحقّ؛ تتغاضى عن كلّ شيء، وتصدّق كلّ شيء، وتصبر على كلّ شيء” (1 كور 4:13-6).
والوداعة هي من ثمار الروح القدس، كما يقول أيضًا بولس الرسول: “أمّا ثمر الروح فهو المحبّة والفرح والسلام، وطول الأناة واللطف والصلاح، والأمانة والوداعة والعفاف”. ثمّ يُضيف: “لأنّ الذين هم للمسيح يسوع قد صلبوا الجسدَ مع الأهواء والشهوات… أيّها الإخوة، إنْ أُخِذ أحدٌ في زلّة فأصلحوه، أنتم الروحيّين، بروح الوداعة، واحْتَطْ أنتَ لنفسِكَ لئلاّ تُجرَّبَ أنتَ أيضًا. احْمِلوا بعضُكم أثقالَ بعض، وهكذا تُتموّن ناموسَ المسيح» (غلاطية 22:5-24؛ 1:6-2). إنّ العنفَ الذي يردّ الشرَّ بالشرّ هو من عمل ‘أهواء وشهوات’ الجسد الذي يُطلَب من المسيحيّ أن يصلبَه مع المسيح.
2- فإنّهم يرثون الأرض
ما هي تلك الأرض التي يرثها الودعاء؟ إنّ وعد الله لشعب إسرائيل، منذ إبراهيم، بأن يُعطيَه أرضًا مرتبطٌ بعبادة الله. فأرض الميعاد لم يَعِدْ بها الله شعبَه ليعيشَ فيها عيشًا هنيئًا فحسب، بل قبل أيّ أمر آخر ليتمكّنَ من عبادة الله بحريّة. وهذا ما طلبه موسى، بأمر من الله، من فرعون مصر، كما نقرأ في سفر الخروج : “فقال الربّ لموسى: قد ثَقُلَ قلبُ فرعون وأبى أن يُطلِقَ الشعب، فاذهبْ إلى فرعونَ في الصباح وقُلْ له: الربُّ إلهُ العبرانيّين أرسلني إليكَ قائلاً: أطلِقْ شعبي ليعبدَني في البريّة” (14:7-16). ثمّ إنّ اختيار الله لشعب معيَّن ليس ليسيطر على سائر الشعوب، بل ليعبدَ الله وينشر في العالم الحقّ والعدل والسلام. انطلاقًا من هنا، اتّخذ تشتّتُ اليهود معنى جديدًا وإيجابيًّا. كان شعب إسرائيل مشتَّتًا في العالم، بغية تهيئة فسحة ﷲ في كلّ مكان، وإتمامًا لمعنى الخلق. فإذا كان هناك من خلق، فلأنّ اﷲ شاء أن يُبدِع مكانًا يستجيب فيه الناس لحبّه، ويكون موئلاً للطاعة والحريّة. شيئًا فشيئًا، ومن خلال اقتبال الآلام التي تُرصِّع تاريخَ علاقات إسرائيل بالله، توسَّعَ مفهومُ الأرض وتعمّق، ولم يعد المقصود امتلاك وطن بقدر ما صار شموليّة حقّ الله على العالم، ونشر السلام بين جميع الناس. ويقول لنا الربّ، في نهاية المطاف، إنّ الأرضَ هي للودعاء، لصانعي السلام، ويجب أن تصبح ‘وطن ملك السلام’.
ومن ثمّ، مع مجيء المسيح، لم تعد أرضُ الميعاد مكانًا ماديًّا يحلم أبناء الشعب المختار باحتلاله، بعد أن يطردوا منه السكّانَ الذين عاشوا فيه مدّة قرون. أرض الميعاد هي ملكوتُ الله، أعني حضور الله في العالَم. والخروج من عبوديّة فرعون والدخول إلى أرض الميعاد، تلك الأرض التي يرثها الودعاء، يتحقّقان في العهد الجديد بالتخلّي عن الاستعباد للشهوات، ولا سيّما شهوة العنف، والدخول إلى الاتّحادِ بالله والحياةِ معه، حياةٍ نعبد فيها الله بحريّة، حياةٍ يسكنها المسيح كلمة الآب الأزليّ، وتنقّيها قدرة الروح القدس