في مقدمة ثمار الروح: المحبة والفرح والسلام. ولنبدأ بفضيلة المحبة وعلاقتها بالفرح والسلام.
أهم ما أريد أن أكلمكم عنه في المحبة، هو محبة الله، ومحبة الخير. وكل منهما تؤدى إلى الأخرى. محبة الله توصل إلى محبة الخير والفضيلة. ومحبة الخير والفضيلة توصل إلى محبة الله. وكل منهما تقوى الأخرى. إذا أحب إنسان الخير، لا يكون له صراع مع الشر. كثير من الناس يضيعون حياتهم في الصراع مع الخطية أو في مقاومة الشيطان، لكي يصلوا بهذا إلى حياة التوبة. وحياة التوبة هي البعد عن الخطية التي يحبونها.
أما الإنسان الذي يحب الخير، فقد أرتفع فوق مستوى التوبة، وفوق مستوى الصراع مع الخطية. عبارة “الجسد يشتهى ضد الروح، والروح يشتهى ضد الجسد”، هي عبارة خاصة بالمبتدئين، الذين يجاهدون ضد الجسد غير الخاضع للروح. أما الجسد النقي، البار، الذي يحب الخير، فهو لا تشتهى ضد الروح (غل 5: 17). الإنسان الذي يحب الخير، لا يجاهد للوصول إلى التوبة، إنما كل جهاده هو للنمو في محبة الله ومحبة الخير. إنه جهاد إيجابي، وليس جهادًا سلبيًا.. إنه انتقال من درجة في القداسة إل درجة أعلى منها. إنه جهاد لذيذ بلا تعب.. إنما يتعب في جهاده، الإنسان الذي يقاوم نفسه، نفسه التي لا تحب الفضيلة، بل تحب “الظلمة أكثر من النور” (يو 3: 19).
أما الذي يحب الخير، فقد دخل إلى راحة الرب، دخل إلى سبته الذي لا ينتهي، يتدرج فيه من خير إلى خير أكبر، بلا تعب، بلا تغصب. إن فضيلة “التَّغَصُّب” ليست للقديسين يحبون الخير، فالذين يحبون الخير، لا يغصبون أنفسهم عليه، بل يفعلونه تلقائيًا، بلا مجهود. الذي يحب الخير، لا يرى وصية الله ثقيلة، بل يحب ناموس الرب “في ناموس الرب مسرته، وفي ناموسه يلهج نهارًا وليلًا”. إنه يفعل الخير، بلا وصية، بل بطبيعته الخيرة. ليس هو محتاجًا إلى وصية تدعوه إلى الخير. إنه يفعل الخير، لأن الخير من مكوناته، كصورة لله. يفعل الخير كشيء عادى، طبيعي، كالنفس الذي يتنفسه، دون أن يشعر في داخله أنه يفعل شيئًا زائدًا أو عجيبًا ولهذا فإنه لا يفتخر، إذ أنه في نظره شيء طبيعي..
الإنسان الذي يحب الخير، فليست بينه وبين الله عداوة. لأنه يوجد اتفاق بين مشيئته ومشيئة الله. إنه يحب الله، ويجد فيه مثالياته العليا، ويحب فيه الخير الذي يشتهيه. ويصبح الله شهوته، وهو لذته. الإنسان الذي يحب الخير يعيش في فرح دائم وفي وسلام.. وكما يقول الكتاب “افرحوا في الرب كل حين، وأقول أيضًا افرحوا”. إنه يفرح بالرب، لأنه يجد لذته في المعيشة معه، ويجد أن مشيئة الله هي مشيئته، وأن مشيئته هي مشيئة الله.
سلسلة ثمار الروح القدس: المحبة (2)
متى إذن يبدأ في أن يفقد محبة الله ومحبة الخير؟
لما يبدأ في معرفة الشر، وفي مذاقته، وفي الالتذاذ به. وهذه هي التجربة التي أوقع فيها الشيطان الإنسان الأول. كان آدم وحواء لا يعرفان إلا الخير، فأدخلهما في معرفة الخير والشر. أي أضيفت إلى معرفتها للخير، معرفة الشر (تك 3: 5)
بدأ الإنسان يختبر الشر، وتكون بينه وبين الشر علاقة وعاطفة. هناك أشياء من الخير للإنسان ألا يختبرها. وعن هذه قال الكتاب “الذي يزداد علمًا يزداد غمًا” (جا 1: 18). قال الشيطان لحواء “يوم تأكلان تنفتح أعينكما”. وكان خيرًا لهما ألا تنفتح أعينهما على ذاك اللون من المعرفة.
يا ليت أن الإنسان لا يعرف سوى الخير، حينئذ يعيش سعيدًا. يعيش في محبة للناس، لأنه لا يعرف إلا الخير الذي فيهم، وليس غيره. سيأتي وقت، في الأبدية السعيدة، حينما نتقيًأ ثمرة معرفة الخير والشر، ولا نعود نعرف سوى الخير فقط، وننسى معرفة الشر. سيمحو الله من ذاكرتنا كل الشر الذي رأيناه تحت الشمس، ولا يبقى فينا سوى الخير وحده، نعرفه، ونتأمله، ونختبره، ونذوقه، فنزداد حبًا له.. ونمارسه بالحب.
نحن لا نفعل الخير مضطرين، ولا مأمورين، ولا متغصبين، وإنما نفعل الخير حبًا في الخير. تأكد أنه عندما يزن الله أعمالك في الأبدية، ليرى ما فيها من خير، سيزن الحب الذي فيها، ولا يأخذ الله من أعمالك سوى الحب فقط، ولا يكافئك إلا على ما فيها من حب.
كيف يطبق هذا المبدأ في حياتنا وفي أعمالنا؟ خذ الخدمة كمثال: إنها ليست مجرد نشاط أو تعب أو عظات، إنما: أنت تخدم وأنت تحب الناس، وتحب خلاصهم، وتحب بنيان الكنيسة والملكوت؟ وتحب الله الذي يحبهم، والذي تريدهم أن يحبوه.. تأكد أن الله سوف لا يأخذ من خدمتك سوى الحب..
وهكذا ينجح في الخدمة، من يراها حبًا. حب الله والناس يقوده إلى خدمتهم. وكلما يخدمهم يزداد حبًا لهم، فيزداد خدمة لهم. ونفس الوضع نراه في الصدقة..
إنها ليست مجرد طاعة لوصية، فالكتاب يقول “المعطى المسرور يحبه الرب”. ليس مالك الذي تعطيه هو الذي يحسب لك عند الله، وإنما الحب، الحب الذي يرتفع فوق مستوى العشور والبكور والنذور، وفوق مستوى الأرقام، ويعطى بسخاء ولا يعبر.
أولى ثمار الروح القدس هي المحبة. لذلك عندما عاتب الرب ملاك كنيسة أفسس، ودعاه إلى التوبة، لخص عتابه كله في عبارة واحدة، لم يذكر فيها خطية معينة، إنما قال: “عندي عليك أنك تركت محبتك الأولى” (رؤ 2: 4). من أجل هذه المحبة قال الرب “يا ابني أعطني قلبك”. وإن أعطيتني هذا القلب، فحينئذ “ستلاحظ عيناك طرقي” فتكون إطاعة الوصايا هي نتيجة طبيعة للمحبة (أم 23: 26).
كثير من الناس سلكوا في حياة التوبة من الخارج، ولم يسلكوا في الحب الذي من الداخل، فأصبحت بينهم وبين الله علاقات وممارسات وطقوس، وليس بينهم وبينه حب، ففشلت حياتهم..
لما سئل السيد المسيح “أية وصية هي العظمى في الناموس؟”.. أجاب إنها المحبة بشطريها: تحب الرب إلهك من كل قلبك.. وتحب فريبك كنفسك.. بهذه المحبة يتعلق الناموس كله والأنبياء (مت 22: 26 – 40). كثيرون سيقولون له في اليوم الأخير “يا رب باسمك تنبأنا، وباسمك أخرجنا شياطين”.. (مت 7). ولكنه سيترك كل هذا ويسألهم عن الحب الذي فيهم. إنها ليست مسألة معجزات ومواهب، فما أكثر الذين هلكوا على الرغم من مواهبهم. لذلك فإن الرسول بعد أن تحدث عن المواهب الروحية، قال “أريكم طريقًا أفضل”.. وتحدث عن المحبة (1كو 13). وبمقدار محبتنا لله سيكون فرحنا به في الأبدية، وستكون سعادتنا.
نجم سيمتاز عن نجم في الرفعة، وهذه الرفعة ستحددها المحبة. وإذا أحببت الله سوف لا تخاف، أن المحبة تطرح الخوف إلى خارج.. إذا أحببت سوف لا تخاف الله، ولا تخاف الخطية، ولا تخاف الناس، ولا تخاف الموت..
بالحب يعيش الإنسان في فرح دائم، يفرح بالرب الذي يقوده في موكب نصرته، من خير إلى خير، ويفرح لتمتعه بالرب، لأن الخطية لا مكان لها في قلبه ولا مكانة.
حقًا قد تحدث له حروب ومقاومات من الشيطان، ولكنها ضيقات من الخارج فقط، وأما في الداخل فيملك عليه. وهكذا يجتمع في قلبه المحبة والفرح والسلام.
أريدكم أن تدربوا أنفسكم على هذا الحب، أخرجوا من مظاهر الحياة الروحية، وادخلوا إلى عمق الحب. والمحبة لن تسقط أبدًا. لقد أذكر بطرس معلمه، وسب ولعن وقال: لا أعرف هذا الرجل. ولكن الرب لم يسأله سوى سؤال واحد “أتحبني؟”.. وأجاب بطرس: “أنت تعلم يا رب كل شيء. أنت تعلم أنى أحبك” (يو 21: 15 – 17). وبهذه المحبة نال الغفران، ورجع إلى رتبته الرسولية.
من كتاب ثمر الروح للبابا شنودة الثالث
No Result
View All Result