عظمة المحبّة
إنّ المحبّة أسمى الفضائل، وأثمن عطايا الله التي يسكبها على القلوب بالروح القُدُس (رومية 5/5). فهي أفضل من جميع المواهب، وأسمى من النبوّة والعِلم. بل امتازت عن الإيمان والرجاء لأنّ الله محبّة، فالإيمان لا يثمر إلاّ بقوّة المحبّة، والرجاء لن يتحقّق لأولئك الذين أقفرت قلوبهم من روح المحبّة.
أجل, المحبّة هي القوّة الواقية من الشرور. فالذين يعيشون في المحبّة تكون لهم سوراً حَصيناً وواقياً من شرور الخطيئة، وسياجاً حافظاً من الآثام والموبقات. فلا تستطيع الخطيئة أن تستعبدهم.. المحبّة نار ملتهبة تحرق أشواك الرذيلة. فلا تفسد قلوب المؤمنين وتعطّل نفوسهم عن الخدمة. فتحرم حياتهم من ثمار البِرّ.
قال السيّد المسيح: “إن أَحبّني أحدٌ حفظ كلامي”. ولعلّه في قوله هذا لَم يقصد أن يعلّمنا أنّ برهان المحبّة هو حفظ وصاياه فقط ولكنّه أراد أيضاً أن نعرف أنّ حفظ وصايا الله هو ثمرة مباركة للمحبّة، ثمرة طبيعيَّة، لشجرة المحبّة الوارفة الظلال.
فالمحبّة تمنح المؤمنين نقاوة القلب وطهارة الضمير وقداسة السيرة. وأحبّاء الربّ يبغضون الشرور. كما أنّ نُور المحبّة الباهر يبدّد ظلمات الخطيئة ويجعلها تندحر وتتوارى إلى الأبد. يصرّح القدِّيس بولس قائلاً: “المحبّة تتأنّى وترفق، المحبّة لا تحسد ولا تظنّ السوء ولا تفرح بالإثم. بل تفرح بالحقّ وتحتمل كلّ شيء وتصدّق كلّ شيء وترجو كلّ شيء، وتصبر على كلّ شيء، المحبّة لا تسقط أبداً” (1قور 13/4-8).
كنيسة أفسس مثال المحبّة الصادقة
نقرأ في رسالة مار بولس إلى أهل أفسس. كيف سادت المحبّة على كنيسة أفسس كما هو ظاهر من شهادة الرسول عنها قائلاً: “سمعت بإيمانكم بالربّ يسوع المسيح ومحبّتكم نحو جميع القدِّيسين” (أفسس 1/15).
وكانت تلك المحبّة ولا شكّ صدى لمحبّة المسيح التي ينطبق عليها وصف الحاكم سليمان “المحبّة قويَّة كالموت قاسية كالهاوية. لهيبها لهيب نار لظى الربّ بسيول كثيرة لا تطفىء المحبّة والمياه لا تغمرها. لو أعطى الإنسان كلّ ثروة بيته بدل المحبّة تحتقر احتقاراً” (نشيد الأنشاد 8/6و7). لقد قبلت الكنيسة في أفسس دعوة الله الغنيّ في الرحمة والذي في محبّته الكثيرة التي أحبّهم بها اختارهم ليكونوا قدِّيسين وبلا لوم أمامه في المحبّة.
ومن ثمّ امتلكت المحبّة تلك القلوب. فعاشت الكنيسة زمناً في فرح المحبّة، وقوّة المحبّة، وسلام المحبّة، ونقاوة المحبّة، وثمار المحبّة. وكم أتمنّى على الكنيسة الجامعة المقدَّسة أن تتّخذ من كنيسة أفسس نبراساً لها في خضمّ هذا العالَم المضطرب، بالأحقاد والشرور والحروب والمنازعات لأنّه خالٍ من المحبّة…
ثبات المحبّة
نعم, المحبّة لا تسقط أبداً كما قال الرسول بولس. صحيح إنّنا قد نمرّ أحياناً في ظروف غير ملائمة نعيش فيها مع بعض المستهزئين. فيضعف ولاؤنا للربّ، كما كانت الحال مع الابن الضالّ. “ولكن لا توجد وسيلة ولا قوّة تستطيع أن تفصلنا عن محبّة المسيح” (رومية 8/35).
مؤمن كان طريح الفراش يعاني من آلام المرض وأوجاعه وحوله مجموعة من الأهل والأصدقاء يصلّون لأجله. فقال أحدهم: “يا ربّ اشفِ أخانا فأنت تعلم كَم هو يحبّك”. فقاطعه المريض قائلاً: “لا تصلِّ هكذا يا أخي, فليست محبّتنا الضعيفة هي التي تُعطينا نِعَمَ الله. بل حبّه الكامل يعطينا كلّ شيء”. فاستدرك المصلّي وقال: إذاً, لأردّد طلبة الرسول بولس من أجل أهل تسالونيقي “والربُّ يهدي قُلوبَكم إلى محبّة الله وإلى صبر المسيح” (2تسالونيقي 3/5).
ونعود إلى كنيسة أفسس حين كانت تنمو في إدراك محبّة الله التي لا تدرك. وتتطلّع كأهل بيت الله – إلى المحبّة الإلـهيَّة التي غمرتها، وتحاول مع جميع القدِّيسين أن تعرف العرض والطول والعمق والعلوّ لمحبّة المسيح الفائقة المعرفة. كانت كنيسة القدِّيسين: محبّتها ثابتة وقويَّة في المسيح له المجد.
ويتحدّث الرسول يوحنّا في سِفْر الرؤيا وهو يكتب إلى ملاك كنيسة أفسس قائلاً: “لكن عندي عليك أنّك تركت محبّتك الأُولى” (رؤيا 2/4). محبّتك الأُولى التي كانت تقودك لتُكثر ثمار بِرّك لمجد الله وحمده. فتنفق وتنفق من أجلي، تلك المحبّة التي ملأت القلوب فرحاً وقوّةً وثباتاً وسلاماً. لقد تركت محبّتك الأُولى، وبالتالي تركت كلّ هذه البَرَكات. كانت لك جميعاً ولكنّك قد أهملتها. طرحتها عنك.. فما أكبر الخسارة التي لا يُدركها إلاّ مَن تَذوّق ثمار المحبّة الشهيَّة!
وكما أنّ هذا الكلام موجّه إلى ملاك كنيسة أفسس فهو موجّه إلى كلّ مؤمن. حيث يقول لنا الربّ: ما عادت محبّتك في قوّتها الأُولى في هذا العصر الرديء. ما عادت محبّتك المحبّة النقيَّة التي تحفظك من أَن تشترك في أعمال الظلمة غير المثمرة. ما عادت محبّتك المحبّة التي تحملك على تجنّب الآثام والشرور والمعاصي.
هذا موجّه إلى كنيسة أفسس وملاك كنيسة أفسس، وإلى كلّ مَن تركوا محبّتهم الأُولى للربّ وتزعزعت أركانها حتّى الحضيض…
الربّ يسوع يعتب علينا
هذا هو عتاب الربّ يسوع القدّوس البارّ الذي انفصل عن الخطأة وصار عرشه في أعلى السموات. هو عتاب يسوع الذي عيناه أطهر من أن تنظرا إلى الشرور وإلى السالكين في دياجير الظلام، والمنحدرين في أعمق أعماق الهاوية…
أخي المؤمن: لنقف قليلاً ونتأمّل. ما هو تأثير هذا العتب فينا؟ لننظر إلى نفوسنا، ونمتحن ذواتنا، لنجرّب ألاّ تستوعب حياتنا مثل هذا العتاب! ألا تستحقّ عواطفنا الفاترة أو الباردة مثل هذا اللوم، أو مثل هذا العتاب من ربّنا وفادينا يسوع؟..
لقد كانت لنا جميعاً أيّام، اختبرنا فيها سلام الله الذي يفوق كلّ عقل. فأين نحن وهذا السلام الآن؟ لقد كانت لنا أيّام شعرنا فيها بغبطة الغفران وبهجة الخلاص وسلام التبرير. فأين نحن وهذه الحالة؟ أنستطيع اليوم أن نترنّم مع الرسول كما ترنّمنا فيما مضى من الأيّام “إذ قد تبرّرنا بالإيمان فلنا سلام مع الله بربّنا يسوع المسيح. الذي به أيضاً قد صار لنا الدخول بالإيمان إلى هذه النِعمة التي نحن فيها مقيمون ونفتخر على رجاء مجد الله” (رومية 5/1-2).
هل نستطيع اليوم أن نهتف مع الرسول قائلين: إنّ الخطيئة لن تسودنا لأنّنا لسنا تحت الناموس بل تحت النِعمة “وإنّ الناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقنا من ناموس الخطيئة والموت”. ولكن لماذا نعجز عن الهتاف بهذه الاختبارات الآن؟
لقد كانت محبّة الله تملأ قلوبنا، وكانت حياتنا حياة الحرّيَّة الروحيَّة، حياة الإيمان المفعمة بمحبّة الربّ يسوع. أمّا الآن وقد فرّطنا بهذه المحبّة وأضعناها وتركناها وأهملناها. فما عاد لحياتنا مثل هذه الاختبارات الروحيَّة المباركة…
قيل عن شمشون: “وفارقته قوّته لأنّ الربّ كان قد فارقه” (1صموئيل 28/15). هكذا نُزع عنّا فرحنا، وفقدنا سلامنا، وخسرنا قوّتنا، وتعرّينا من نقاوتنا وطهارتنا وعطايانا التي يعبّر عنها الكتاب المقدَّس…
ما أحوجنا إلى الجلوس عند أعتاب الصليب. لنتأمّل في محبّة الله الآب الذي لم يشفق على ابنه الوحيد بل بذله لأجل البَشَريَّة جمعاء. بل سُرَّ أن يسحقه بالحزن, إذ جعل نفسه ذبيحة إثم وهو الذي لم يعرف خطيئة, لكي يجعلنا “كنيسة مجيدة لا دَنَس فيها بل تكون مقدَّسة وبلا عيب” (أفسس 5/27).
لعلَّ تأمّلنا في هذه المحبّة يجذب قلوبنا إلى المسيح, فنستجيب لمحبّته ونُملّكه على قلوبنا ونفوسنا وضمائرنا… ولنصلِّ كما صلّى أحد رجال الإيمان فقال: “يا ربّ أعطني قلباً من لحم (نحو المساكين والمحتاجين), يا ربّ أعطني قلباً من حديد وفولاذ (نحو الخطيئة)، يا ربّ أعطني قلباً من نار (ليلتهب بمحبّة المسيح) الذي أحبّنا ووضع نفسه عنّا معانقاً راية الصليب حتّى الموت، وقيامته المجيدة، وصعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الآب في المجد الأبديّ.