في الأخلاق العائلية
الأب منير سقّال
مقدمـة
” إن العائلة هي نوعاً ما لمدرسة غنى إنساني ولكي تستطيع أن تبلغ كمال حياتها ورسالتها تقضي باتحاد النفوس اتحاداً مطبوعاً بالحب وأن يضع الزوجان أفكارهما تحت تصرف بعضهما وأن يتعاون الوالدان تعاوناً واعياً في تربية الأبناء … وأخيراً فليتحد الأزواج أنفسهم بالحب عينه وبالتفكير عينه وبالقداسة المتبادلة ، هم الذين خُلقوا على صورة إله حي وأُقيموا في نظام شخص حقيقي . فيصبحوا على غرار المسيح مبدأ الحياة ومن خلال أفراح دعوتهم وتضحياتهم بالأمانة لحبهم ، شهوداً لسر المحبة الذي كشف عنه السيد المسيح للعالم بموته وقيامته ” .( الوثائق المجمعية ، شرف الزواج والعيلة 52 )
لقد طرأ على العيلة في عصرنا ، وربما أكثر من أية مؤسسة أخرى ، ما طرأ على المجتمع والثقافة من تغيرات واسعة ، عميقة سريعة . وهناك عائلات كثيرة تعيش هذه الحالة ، وهي باقية على أمانتها للقيم التي تشكّل أساس المؤسسة العائلية . لكن هناك عائلات سواها تشكو الحيرة والقلق أمام ما عليها من واجبات ويساورها الشك حتى ، وربما يعتريها الخجل في ما يتعلق بحقيقة الحياة الزوجية والعائلية وما لها من معنى عميق . ولما كان قصد الله من الزواج والعائلة يتناول الرجل والمرأة في واقع وجودهما اليومي في هذه أو تلك من الحالات الاجتماعية والثقافية ، بات لزاماً على الكنيسة أن تكبّ ، إتماماً لخدمتها ، على تفهّم الحالات التي يتحقق فيها الزواج والعائلة اليوم .
وضع العائلة في عالم اليوم
إن الحالة التي تتقلّب فيها العائلة وجهين : أحدهما إيجابي والآخر سلبي : فالأول يدل على خلاص المسيح الذي يعمل في العالم ، والثاني يدلّ على الرفض الذي يقابل به الإنسان محبة الله . وفي الواقع هناك ، من جهة ، وعي أشدّ للحرية الشخصية واهتمام أكبر بنوعية العلاقات بين الأشخاص في الزواج ، وبالعمل على توفير المزيد من الكرامة للمرأة ، والإنجاب المسؤول ، وبتربية الأولاد . وهناك أيضاً وعي للحاجة إلى تطوير العلاقات بين العائلات وإلى المساعدة المتبادلة على الصعيدين الروحي والمادي ولاكتشاف الرسالة الكنسية الخاصة بالعائلة ومسؤوليتها عن بناء مجتمع أكثر عدالة . ولكن لا تعوزنا الدلائل ، من جهة ثانية ، على تدنّي بعض القيم الأساسية تدّنياً يثير القلق من مثل سوء فهم استقلال الأزواج في ما بينهم من الناحيتين النظرية والعملية ، وسوء التفاهم الخطير بشأن علاقة السلطة بين الآباء والبنين ، والصعوبات العملية التي تلقاها العائلة في نقل القيم ، وتزايد الطلاق ، وآفة الإجهاض ، واللجوء المتكاثر دونما انقطاع إلى التعقيم ، وظهور عقلية تقول بصراحة باستعمال وسائل منع الحمل .
ويقوم غالباً في أساس هذه الظواهر السلبية مفهوم خاطئ وممارسة غير صحيحة للحرية التي لا ينظر إليها على أنها طاقة تمكن من تحقيق قصد الله من الزواج والعائلة ، بل على أنها قوّة مستقلة لتأكيد الذات تأكيداً غالباً ما يكون ضدّ الآخرين ، ومن أجل إرضاء الذات بدافع من الأنانية . فالحالة التاريخية التي تعيش فيها العائلة تبدو وكأنها مزيج من ظلال وأضواء .
وهذا يظهر أن التاريخ ليس حتماً مسيرة صاعدة نحو الأفضل ، بل إطلالة حرية وحتى صراع بين حريات متنافرة أي ، وفقاً لعبارة القديس اغسطينوس الشهيرة ، نزاع بين حبين : حب الله حتى احتقار الذات وحب الذات حتى احتقار الله . ويستتبع ذلك أن التربية على المحبة المتأصلة في الإيمان باستطاعتها وحدها أن تؤدي إلى إحراز القدرة على الشرح ، شرح ” علامات الأزمنة ” التي هي تعبير تاريخي عن هذا الحب المزدوج .
قصد الله من العائلة
تنشأ في العائلة مجموعة علاقات بين الأشخاص – الحياة الزوجية ، الأبوّة والأمومة ، البنوّة والأخوّة – يندمج بواسطتها كل شخص في العائلة ” العائلة البشرية ” وفي ” عائلة الله ” التي هي الكنيسة . والزواج المسيحي والعائلة المسيحية يبنيان الكنيسة : لأن الشخص البشري لا يولد في العائلة ويندمج شيئاً فشيئاً ، بفضل التربية ، في الجماعة البشرية وحسب ، بل يندمج أيضاً ، بفضل الميلاد الجديد في العماد والتنشئة على الإيمان ، في عائلة الله التي هي الكنيسة . والعائلة البشرية التي فكّكتها الخطيئة ، يعيد بناء وحدتها ما لموت المسيح وقيامته من قوّة وفداء . والزواج المسيحي الذي يشترك في ما لهذا الحدث من فعاليّة خلاصيّة ، يشكّل المكان الطبيعي الذي فيه يتم اندماج الشخص البشري في عائلة الكنيسة الكبرى . وتدرك الوصية المعطاة منذ البدء ، للرجل والمرأة بالنمو والتكاثر ، بهذه الطريقة ، حقيقتها الكاملة وتتحقق على أكمل وجه . هكذا تجد الكنيسة في العائلة المولودة من السر مهدها والمكان الذي باستطاعتها فيه الاندماج في الأجيال البشرية . وباستطاعة هذه الأجيال الاندماج بدورها في الكنيسة .
دور العائلة المسيحية
لا تكتشف العائلة في مخطط الله الخالق والفادي ” هويتها “ و ” ماهيتها “ وحسب ، بل ” رسالتها “ وما بإمكانها ومن واجبها أن ” تفعل ” . إن الدور الذي يدعو الله العائلة إلى القيام به في التاريخ ، ينبع من كيانها الخاص ويعرب عن تطوّرها الكياني الحيوي. وتجد كل عائلة في ذاتها نداءً ملحاً لا يمكنها أن تتجاهله، وهو يحدد لها، في وقت معاً ،كرامتها ومسؤوليتها . ” عليك أيتها العائلة أن تصبحي ما أنت . فعلى العائلة بالتالي أن تعود إلى ” بدء ” فعل الخلق الذي قام به الله ، إذا كانت تريد أن تعرف ذاتها وتحققها وفقاً لا لحقيقة كيانها الباطنية وحسب ، بل لعلمهما وعملها في التاريخ أيضاً . وما دام مخطط الله قد جعل العائلة ” شركة وحب عميقة “ فإن لهذه العائلة رسالة قوامها أن تصبح أكثر فأكثر ما هي ، أي شركة حياة وحب عن طريق جهد يجد كماله في ملكوت الله . ولا بد لنا ، إذا ما نظرنا إلى العائلة نظرة تذهب بنا إلى جذورها ، من القول أن الحب هو الذي يحدّد ، في آخر المطاف ، جوهر العائلة ودورها . ولهذا كان للعائلة رسالة تقوم على صيانة الحب وكشفه ونقله على أنه انعكاس حيّ لمحبة الله للإنسانية ومحبة المسيح الرب للكنيسة وعروسه ، واشتراك حق في هاتين المحبتين . وإن كان دور خاص بالعائلة ، إنما هو تعبير في الواقع عن حقيقة هذه الرسالة الأساسية ، ومواصلة أكيدة محدّدة لها ، فبات لزاماً علينا ، والحالة هذه ، أن نغوص على ما لرسالة العائلة من غنى فريد ونبرز عناصرها التي هي ، في وقت معاً ، متعدّدة وواحدة . انطلاقاً من الحب ، أربعة أدوار تضطلع بها العائلة وهي :
1- إنشاء شركة أشخاص .
2- خدمة الحياة .
3- المساهمة في تطوير المجتمع .
4- المشاركة في حياة الكنيسة ورسالتها .
1- إنشاء شركة أشخاص :
العائلة التي تقوم على المحبة وتحيا بها ، هي شركة أشخاص : رجل وامرأة يقيّدهما زواج ، وَالدَين وأولاد ، وذوي قربى ، وتقوم مهمة العائلة على أن تحيا بأمانة واقع الشراكة وحقيقتها في جهد متواصل لتطوير شركة أشخاص أصيلة . والمبدأ الباطني لهذه المهمة وقوّتها الدائمة وهدفها الأخير إنما هي المحبة : وكما أن العائلة دون محبة ليست شركة أشخاص هكذا لا يمكن العائلة دون المحبة أن تحيا وتنمو وتتكامل بوصفها شركة أشخاص وتحيا المحبة بين الرجل والمرأة في الزواج ، وبالتالي وعلى نطاق أوسع ، بين أعضاء العائلة الواحدة – بين الوالدين والأولاد ، بين الأخوة والأخوات ، بين الأقارب والأنسباء – وتنتعش بقوّة حميمة باطنية مستمرة تفضي بالعائلة إلى شراكة تتوطد وتتأصل يوماً بعد يوم فتكون من الشراكة الزوجية العائلية الأساس والمحرّك .
إن العائلة المسيحية مدعوة لتختبر نوعاً من شراكة جديدة ، فريدة ، تثبّت وتكمّل الشراكة الطبيعية الإنسانية وفي الواقع إن نعمة يسوع المسيح الذي هو ” بكر أخوة كثيرين ” ( روم 8/29 ) ، هي بطبيعتها وحيويتها الداخلية ” نعمة أخوة “ . والروح القدس المفاض لدى الاحتفال بالأسرار هو ينبوع حيّ وغذاء دائم للشراكة الفائقة الطبيعة التي تشدّ المؤمنين إلى المسيح ، وبعضهم إلى بعض ، في وحدة كنيسة المسيح . وتظهر العائلة المسيحية الشراكة الكنسية وتحقيقها ، ولهذا يمكن ويجب أن تدعى ” كنيسة منزلية ” . وقد أُعطي جميع أعضاء العائلة ، كل حسب مواهبه الخاصة ، النعمة ، وفُرض عليهم واجب بناء شراكة الأشخاص يوماً بعد يوم ، بحيث تكون ” العائلة مدرسة أوفر إنسانية “ . وهذا يتم ، سواء أكان بإحاطة الأولاد والمرضى والشيوخ بالعناية والمحبة ، أم بتبادل الخدمات اليومية ، أم بالمشاركة في الخيور والأفراح والاتراح .
ولبناء مثل هذه الشراكة الأساسية ، لا بد من قيام تبادل تربوي بين الوالدين والأبناء ، يعطي فيه كل منهم ويأخذ. ويعمل الأبناء فعلاً وإخلاصاً ، على بناء عائلة إنسانية مسيحية ، أصيلة ، بما يبدون من محبة واحترام وطاعة لوالديهم . وهذا عمل يستحيل على سواهم القيام مقامهم فيه . وإنهم ليعلمون ذلك ويعملون به بطيبة خاطر ، إذا مارس الوالدين سلطتهم التي لا يجوز لهم التخلي عنها ، على أنهم يقومون بوظيفة خاصة ، أي بخدمة ترمي إلى خير أبنائهم الإنساني والمسيحي ، وتساعدهم ، على الأخص ، على التمتع بالحرية وبما يستتبعها من واجب ومسؤولية ، هذا إذا ظل الوالدون في الوقت عينه واعين تماماً ” الهبة ” التي يأتيهم بها أبناؤهم باستمرار .
ولا تستمر الشراكة العائلية وتتكامل إلا إذا صاحبها عزم وتصميم على التضحية والتفاني ، وهذا يتطلب ، في الواقع ، من الجميع ، ومن كل منهم ، إرادة مصممّة سمحاء ، ميّالة إلى الرفق والسماح والغفران والاتفاق والمصالحة . وما من عائلة تجهل كيف أن الأنانية العمياء والخلافات والمشاحنات تمزّق الشراكة العائلية وتقضي أحياناً عليها : من هنا تنشأ ، في حضن العائلة ، أسباب خصام كثيرة مختلفة . لكن الله صانع السلام ، يدعو دائماً ، في الوقت عينه ، كل عائلة لإجراء ” المصالحة ” ، ولاختبارها بفرح يجدّد ، ورعاية الشراكة المستعادة والوحدة المسترجعة . والاشتراك ، على الأخص في سر المصالحة ، وفي وليمة جسد المسيح الأوحد ، يعطي العائلة المسيحية ما تحتاج إليه من نعمة وما يقيّدها من واجب التغلّب على كل انقسام ، والسعي إلى شراكة تامة حقيقية يريدها الله ، وإذا فعلت ذلك أرضت الرب الذي يرغب رغبة حارّة في ” أن يكونوا واحداً ” .
2 – خدمة الحياة :
” معاونون في محبة الله الخالق “ ، عندما خلق الله الرجل والمرأة على صورته ومثاله ، أنجز عمل يديه وتوّجه بأن دعاهما إلى المشاركة بصورة في محبته ، وفي سلطانه أيضاً بوصفه خالقاً وأباً ، وذلك بمعاونتهما الحرّة المسؤولة في نقل هبة الحياة البشرية ” وباركهم الله وقال لهم : انموا واكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها ” ( تك 1/28 ) . فوظيفة العائلة الأولى هي إذن خدمة الحياة ، وتحقيق بركة الخالق الأولى ، عبر الأجيال عن طريق نقل الصورة الإلهية من إنسان إلى إنسان بواسطة الإيلاد . والخصوبة ثمرة المحبة الزوجية وعلامتها وشهادة حيّة على تبادل هبة الذات التامة بين الزوجين : ” إن الحب الزوجي الصحيح المفهوم على حقيقته ، وتكوين الحياة العائلية النابعة منه ، إنما يرميان إلى إعداد الزوجين للمشاركة بشجاعة في حب الخالق والمخلص الذي يريد بواسطتهما ، وبدون انقطاع إنماء أسرته الذاتية وتعزيزها ، على أن لا يغفل ما تستحقه سائر أهداف الزواج من اعتبار “ ( الوثائق المجمعية ، ك ع 50 ) . وخصوبة الحب الزواجي لا تقتصر على إيلاد البنين ، ولو فهم الايلاد بمعناه البشري الخاص : لأنها تشمل جميع ثمار الحياة الأدبية والروحية والفائقة الطبيعة وتغتني بها ، وهذه الثمار ينقلها الأب والأم ، وفقاً لدعوتهما إلى أبنائهم وبواسطة هؤلاء إلى الكنيسة والعالم .
” التربية “ ، تغرس مهمة التربية جذورها في دعوة الأزواج الأساسية إلى الاشتراك في عمل الله الخالق : ذلك أن الوالدين ، بايلادهم في الحب ومن الحب إنساناً جديداً يحمل في ذاته دعوة إلى النمو والتطور ، يأخذون على عاتقهم مهمة مساعدة فعّالة على أن يحيا حياة إنسانية كاملة . ويتحدّد حق الأزواج وواجبهم في التربية بأنه جوهري لعلاقته بنقل الحياة البشرية ، وبأنه أساسي وأولي بالنسبة إلى واجب الآخرين التربوي ولارتباط الوالدين والأبناء برباط محبة فريد من نوعه ، وبأنه لا بديل ولا غنى عنه ، لأنه لا يجوز تكليف الآخرين القيام به كاملاً ولا انتزاع الآخرين من الواجب. وفضلاً عن هذه الميزات ، لا يمكن أن ننسى أن العنصر الأساسي الذي يحدد دور الوالدين التربوي إنما هو حب الأب والأم الوالدي الذي يكتمل بالعمل التربوي فيما يقوم بخدمة الحياة ويكمّلها : إن حب الوالدين الذي كان ينبوعاً يصبح روحاً وقاعدة تحرّك وتسيّر كل نشاط تربوي عملي وتغنيه بهذه القيم وهي الرقة والثبات والطيبة والخدمة والتجرد وروح التضحية التي هي أثمن ثمار الحب .
3- المشاركة في تطوير المجتمع :
” لما كان الخالق قد جعل من الشركة الزوجية أصل المجتمع البشري وأساسه … كانت الأسرة … الخلية الأولى الحية للمجتمع ” ( الوثائق المجمعية ، رع 11 ) . وترتبط العائلة بالمجتمع ارتباطاً حيّاً عضوياً ، لكونها أساسه وهي تغذّيه باستمرار بقيامتها بوظيفتها في خدمة الحياة . ففي العائلة يولد المواطنون ، وفي العائلة يجدون أول مدرسة لتلك الفضائل الاجتماعية التي تنعش حياة المجتمع وتعمل على تطويره . وهكذا فإن العائلة بطبيعتها ودعوتها لا تنطوي على ذاتها ، لكنها تنفتح على غيرها من العائلات وعلى المجتمع ، فيما تقوم بوظيفتها الاجتماعية الخاصة .
إن الوظيفة الاجتماعية الخاصة بكل عائلة تتناول بصورة جديدة أصيلة العائلة المسيحية المؤسسة على الزواج . وبعد فالسر ، إذ يشمل ما في الزواج ، بكل أبعاده من حقيقة بشرية ، يؤهل الأزواج والوالدين المسيحيين ويستحثهم لكي يحيوا دعوتهم كعلمانيين ويتمكنوا من أن ” يطلبوا ملكوت الله ، فيما يتعاطون الأمور الزمنية وينظّمونها وفقاً لشريعة الله ” ( الوثائق المجمعية ، ك 31 ) . وهكذا تدعى العائلة المسيحية لتأدية الشهادة أمام الجميع بنفس طيبة رضية ،منصرفة إلى الاهتمام بالقضايا الاجتماعية : ” مفضلة بالأولوية ” الفقراء والهامشيين .
4- المشاركة في حياة الكنيسة ورسالتها :
من أهم وظائف العائلة المسيحية وظيفتها الكنسية : أي تلك التي تضعها في خدمة ملكوت الله ، على مرّ العصور، بمشاركتها في حياة الكنيسة ورسالتها . تدخل العائلة المسيحية في سر الكنيسة لتشارك ، على طريقتها ، في القيام برسالة الخلاص الخاصة بالكنيسة : فللأزواج والوالدين المسيحيين بقوة السر ، ” في حالتهم ووضعهم ، هبة خاصة بهم في شعب الله ” ( وثائق مجمعية ، ك 11 ) . ولهذا فهم لا يتقبلون محبة المسيح ليصبحوا جماعة ” مخلصة ” وحسب بل ليدعوا إلى ” نقل ” محبة المسيح هذه إلى إخوانهم ليصبحوا أيضاً جماعة ” مخلّصة ” . وهكذا تكون العائلة المسيحية – التي هي ثمرة خصب الكنيسة الفائق الطبيعة وبرهانه – ورمزاً وشهادة ومشاركة في أمومة الكنيسة . ( وثائق مجمعية ، ك 41 ) .
وإذا كانت العائلة المسيحية جماعة جدّد المسيح روابطها بالإيمان والأسرار فيجب أن يتم اشتراكها في رسالة الكنيسة على ” صعيد جماعي ” : على الزوجين إذن في وقت معاً ” وكزوجين ” ، وعلى الوالدين والأولاد ” كعائلة ” أن يقوموا بخدمتهم للكنيسة وللعالم ويجب أن يكونوا بالإيمان ” قلباً واحداً ونفساً واحدة ” ، سواء أكان بالروح الرسولية المشتركة التي تنقصهم ، أم بتعاونهم الذي يحفزهم على القيام بأعمال الخدمة من أجل الجماعة الكنسية والمدنية .
وفضلاً عن ذلك ، إن العائلة المسيحية تبني ملكوت الله في التاريخ بهذه الوقائع اليومية التي تتناول ” وضع حياتها ” وتحدّده : وهكذا ” في المحبة الزوجية والعائلية يتم اشتراك العائلة المسيحية ويتحقق في رسالة يسوع المسيح الكهنوتية والنبوية والملوكية فالمحبة إذن والحياة تشكّلان نقطة الدائرة من رسالة العائلة المسيحية الخلاصية في الكنيسة ومن أجل الكنيسة .
الصلاة العائلية
للصلاة العائلية خصائصها . فهيّ صلاة جماعية يقوم بها الزوجان معاً ، والأهل والأبناء معاً . والاتحاد في الصلاة هو ، في الوقت عينه ، ثمرة هذا الاتحاد الذي يوّفره سرا العماد والزواج ، وهو ما يقتضيه هذا الأخير ، وبالإمكان تطبيق هذه العبارات ، التي أعرب بها الرب يسوع عن وجوده ، على أعضاء العائلة المسيحية خاصة ، وقد قال : ” وأقول لكم: إذا أتفق اثنان منكم في الأرض لأن يطلبا حاجة ، حصلا عليها من أبي الذي في السماوات ، فأينما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي ، كنت هناك بينهم ” ( متى 18/19 – 20 ) . والموضوع الخاص لصلاة هذه العائلة إنما هو حياة العائلة نفسها التي تبدو في جميع ظروفها كأنها دعوة من الله وتأتي كجواب بنوي على ندائه .
من أخص واجبات الاهلين المسيحيين النابعة من كرامتهم ومن الرسالة الخاصة بالمعمدين ، تربية أبنائهم على الصلاة واستدارجهم شيئاً فشيئاً إلى اكتشاف سر الله وإلى الحوار الشخصي معه . إن العنصر الأهم الذي لا غنى عنه في التربية ، إنما هو مثل الأهل الواقعي والشهادة التي يؤيدها حياتهم : إن الأب والأم اللذين يصليان مع أبنائهما ، فيما يمارسان كهنوتهما الملوكي ، ينفذان إلى أعماق قلوب أبنائهما ويتركان آثاراً لا تقوى على إزالتها أحداث الحياة المتعاقبة . ولنستمع إلى بولس السادس يحضّ الوالدين بقوله : ” أيتها الأمهات ، هل تعلّمن أولادكن صلاة المسيحي هل تعددن أبناءكن مع الكهنة لأسرار عهد الصبا : التوبة والافخارستيا هل عوّدتنهم ، إذا مرضوا ، التفكير بالمسيح المتألم والاستعانة بالعذراء مريم والقديسين هل تتلون في العائلة صلاة الوردية المريمية وأنتم أيها الآباء ، هل تعرفون أن تصلّوا أحياناً على الأقل ، مع أبنائكم وكل جماعتكم البيتية إن مثلكم إذا صاحبه تفكير سليم وعمل مستقيم ، وساندته صلاة مشتركة ، له ما للمدرسة المفيدة للحياة من قيمة ، وما لفعل العبادة من استحقاق عظيم . هكذا تدخلون السلام إلى بيوتكم : ” السلام لهذا البيت “. تذكروا : هكذا إنكم تبنون الكنيسة ” ( خطاب في المقابلة العامة في 11 آب 1976 ) .
خاتمـــة
” مستقبل البشرية يتوقف على العائلة ” : من اللازم أن يلتزم كل إنسان بواجب المحافظة على ما للعائلة من قيم سامية ومتطلبات ويعمل على تطويرها . وإن يندفع إلى محبة العائلة ، فمحبة العائلة معناها اكتشاف ما يتهددها من أخطار وشرور ، بغية التغلب عليها ، ومحبة العائلة هي بذل جهد الطاقة لخلق الظروف والأجواء التي تساعد على تنميتها وتقدّمها . وإنه لنوع سام جداً من أنواع المحبة أن تعطى مجدداً عائلات اليوم المسيحية ، من الأسباب ما يبعث فيها الثقة بالنفس وبما حبتها الطبيعة والنعمة من وسائل ، وبالرسالة التي وكلها الله إليها ، ” أجل ، من الواجب أن تعود عائلات عصرنا إلى سابق عهدها ، من الواجب أن تسير في خطى المسيح ” ( البابا يوحنا بولس الثاني ، قد اقترب ، 15 آب 1980 ) .
( هذا الحديث مقتبس من ” إرشاد رسولي ، في وظائف العائلة المسيحية في عالم اليوم ” ، 1981 )
– لمزيد من الاستفادة قراءة : ” شرعة حقوق العيلة ” ، يقدمها الكرسي الرسولي ، 1983
No Result
View All Result
Discussion about this post