منذ العام 1813، وفندقُ دي شاتيون هو الديرالأمّ لجمعيّةِ راهباتِ المحبّة، راهباتِ القدّيس منصور. فقد شَيَّدتِ الراهباتُ كنيسةً مُكَرَّسَةً لقلبِ يسوع الأقدس. وفي الواقع، فإنّ ختم الجمعيّةِ يُمثّلُ يسوعَ المسيح على الصليب معَ القلبِ الأقدسِ الذي يَشعُّ محبّةً، للدلالةِ على أنَّ للراهباتِ رسالةً هي المحبّة
في العام 1830، فورَ انضمامِ كاترين لابوريه إلى الجمعيّة، كانت لها نعمةُ الالتقاءِ بالقدّيس منصور دي بول . وطوالَ فترةِ التنشئة تَراءى لها المسيحُ الحاضرُ في القربانِ المقدَّس، ولكنْ من دونِ أيَّةِ رسالة. وفي وقتٍ لاحق، في 18 تموز، و27 تشرين الثاني، وفي شهرِ كانون الأوّل 1830 التقتِ السيّدةَ العذراء، وأعطتها مريمُ العذراءُ نموذجَ الأيقونةِ العجائبيّة. ومنذُ ذلك اليومِ يَتوافَدُ ملايينُ الحُجّاج من جميعِ أنحاءِ العالَمِ للصَّلاةِ في الكنيسة
الظُّهوراتُ والأَيقونَةُ العجائبيّة
بُنيتِ الكنيسةُ في العام 1815، وكُرِّسَت لقلب يسوع الأَقدَس. وقد طُبِعَت بأحداثٍ استثنائيَّة في العام 1830 نتيجةً لظهوراتِ السيّدةِ العذراءِ للراهبةِ كاترين لابُورِيه
الظُّهورات
لقد نزلتِ السماءُ إلى الأرض … فمن تمّوز إلى كانون الأوّل من سنة 1830، تلقّتِ الأختُ كاترين، الراهبةُ المبتدئةُ في ديرِ راهباتِ المحبّة، حُظْوَةً كُبرى لدى مريم العذراء إذ تراءت لها ثلاثَ مرّات
في الأشهر التي سَبقت، حَظِيَت كاترين بظُهوراتٍ أُخرى؛ إذ أَظهرَ لها منصور دي بول قلبَه. فأثناءَ الصلاةِ في الكنيسة، رأت كاترين، على مدى ثلاثةِ أيّامٍ مُتَتالية، قلبَ القدّيس منصور في ثلاثةِ ألوانٍ مُختلِفة. تراءى لها أولاً بِاللونِ الأبيضِ لونِ السلام، ثمَّ الأحمرِ لونِ النار، ثمَّ الأسودِ علامة المصائبِ التي ستَحلُّ على فرنسا وباريس على وجهِ الخُصوص
بعد فترةٍ وَجيزة، رأت كاترين المسيحَ حاضراً في القربان المقدّس، من خلال القربانة
» رأيتُ ربَّنا في القربان المقدَّس طوالَ زمن التنشئة كلّها، باستثناءِ المرّاتِ التي كنت أَشكُّ فيها »
وفي 6 حزيران 1830، عيدِ الثالوثِ الأقدس، تراءى لها المسيحُ بشكلِ ملكٍ مصلوب، مجُرِّداً من حُلِيِّه
تموز 1830
ت 18 تموز 1830، عَشيَّةَ عيد القديس منصور الذي تُحبُّه كثيراً، التجأت كاثرين إلى ذاك الذي رأت قلبَه يَفيضُ حُبّاً لكي تَتحقّقَ رغبتُها الشديدة في رؤيةِ السيّدةِ العذراء. عندَ الساعة 11:30 مساءً، سمعَت مَن يُناديها باسمها
طفلٌ غريب، بالقرب من سريرها يدعوها للنهوض قائلاً: « إنّ السيّدةَ العذراء في انتظارك »ك
ارتدت كاترين ثيابَها وتبعَتِ الطفلَ الذي كان ينشر أشعَّةً تُضيءُ المكانَ حَيثُما تَوَجَّه
لدى وُصولِها إلى الكنيسة، تَوقّفت كاترين بالقرب من الكرسيِّ الذي يجلسُ عليه الكاهنُ قرب المذبح تحتَ صورة القدّيسة حنة (مَوقِع تمثال القدّيس يوسف حاليّاً). وإذا بها تسمعُ صوتاً « أَشبَهَ بِحَفِيفِ رداء من حرير فيقولُ لها دليلُها الصغير
« ها هي العذراء القديسة »
تردّدت في التصديق اوّل الامر. لكن الطفل كرّر بصوت أقوى
« ها هِيَ السيّدةُ العذراء القدّيسة »
فارتمت كاترين عندَ أقدامِ السيّدةِ العذراء الجالسةِ على كرسيٍّ، ووضعت يدَيها على ركبتَي والدةِ الإله
هناك قضَيتُ أجملَ وأعذبَ وقتٍ في حياتي كلِّها. وسيكونُ من المستحيل بالنسبة لي أن أُعبّرَ عمّا كنتُ أشعرُ به. لقد قالت لي السيّدةُ العذراء كيف يجبُ عليّ التصرّفُ معَ مُرشدي الروحيّ وأشياءَ أخرى كثيرة
أشارتِ السيّدةُ بيدها إلى المذبح حيثُ بيتُ القربان وقالت
« تعالي إلى أقدامِ هذا المذبح. هنا ستفيض النِّعَمُ على جميع الذين يطلبونَها بثقةٍ وحرارة »
تلقّت كاترين الإعلانَ عن رسالةٍ صعبة وطلبِ تأسيسِ جمعيّةِ الشبيبةِ المريميّة. هذه الطلبُ الأخيرُ سيحقّقُه الأب أَلَدال في 2 شباط 1840
27 تشرين الثاني 1830
في 27 تشرين الثاني 1830، ظهرتِ السيّدةُ العذراء من جديد لكاترين في الكنيسة. هذه المرّة عند الخامسة والنصف مساءً، خلالَ فترة التأمّل للمبتدئات، تحت صورة القدّيس يوسف (المَوقع الحاليّ لعذراء الكُرة الأرضيّة). رأت كاترين مشهدين حيَّين متداخلَين، ظهرت فيهما مريمُ العذراء واقفةً على نصف الكرة الأرضيّة، وقدماها تسحقان الحيّة
في المشهد الأوّل، العذراءُ تحمل في يديها كُرةً ذهبيّةً صغيرة يعلوها صليب، رافعةً إيّاها نحو السماء. فسمعت كاترين صوتاً يقول
« هذه الكرةُ تمثّلُ العالمَ بأسره، وفرنسا وكلَّ إنسانٍ بمفرده «
وفي المشهدِ الثاني، تَظهرُ يدا العذراء منبسطتَين وفي أصابعها خواتمُ من الحجارةِ الكريمة، وتنبعِثُ من يديها أشعّةٌ ضياؤُها أخّاذ. سمعت كاترين في الوقت عينِه صوتاً يقول
« هذه الأشعّةُ ترمزُ إلى النِّعَمِ التي أُسبغُها على الأشخاص الذين يطلبونها منّي »
ثم تَشكَّلَ رسمٌ بيضاويٌّ حولَ الظهور، وشاهدت كاترين كتابةً في شكل نصف دائرة بحروف من ذهب
« يا مريمُ البريئةُ من الخطيئة الأصليّة صلّي لأجلنا نحن الملتجئينَ إليك »
ثم سمعت صوتاً يقول
« إطبَعي أيقونةً على هذا الشكل. وكلُّ مَن يحملُها بثقةٍ ينالُ نِعَماً غزيرة «
M ثمّ استدارتِ الصورةُ؛ فرأت كاترين الجانبَ الآخَر للأيقونة: في الأعلى حرف
وفوقَه صليب، وفي الأسفل قلبان الأوّلُ مُحاطٌ بإكليلٍ من شوك، والثاني مطعونٌ بسيف
1830كانون الأول
في كانون الاول 1830 أثناء التأمّل، سمعت كاترين حفيفاً مرّةً أُخرى، هذه المرّة وراء المذبح. وتظهر الصورة عينها للأيقونة بالقرب من بيت القربان، قليلاً إلى الوراء
« هذه الأشّعة هي رمز النعم التي تُسبِغُها مريم العذراء على الأشخاص الذين يطلبونها … ولن تريني بعد الآن »
إنّها نهاية الظهورات. وقد أبلغت كاترين مرشدها، الأب أَلَدال بطلبات السيّدة العذراء. فاستقبلها بطريقة سيّئة جدّاً، ومنعها عن التفكير في الأمر. فكانت الصدمة صعبة جدّاً
في 30 كانون الثاني 1831، انتهت سنة الابتداء؛ ولبست كاترين ثوب الرهبنة. وفي اليوم التالي ذهبت إلى مأوى إنين الذي أسّسته عائلة أورليان ، شرق باريس، في أحد أحياء البؤس 12 شارع رويّي حيث ستخدم العجزة والفقراء مدّة 46 عاماً متخفّيَّةً
الأيقونة
في هذه الكنيسةِ التي اختارَها الله، جاءت مريمُ العذراء بنفسُها لتكشف شخصيّاً عن هويّتها من خلالِ شيءٍ محسوسٍ صغير، أيقونة للجميع من دون تمييز
هويّة مريم كانت موضِعَ جدلٍ بين اللاهوتيّين منذُ الأزمنةِ الأُولى للكنيسة. ففي سنة 431 أَعلنَ مَجمعُ أفسس العقيدةَ المريميّةَ الأولى: مريم هي أمُّ الله. ومنذ عام 1830، كان الابتهال
« يا مريم التي حُبلَ بها بلا دَنسٍ صَلّي لأجلنا نحن الملتجئين إليك »
هذا الابتهال الذي تصَعَّده إلى السماء آلافُ قلوبِ المسيحيّين، متكرّراً آلافَ المرّات في العالم كلِّه، بطلب من والدة الله، سيفعلُ فِعلَه
في 8 كانون الأوّل 1854 أعلن البابا بِيّوس التاسع عقيدةَ الحبل بلا دنس انطلاقاً من النعمة الخاصّة التي كانت قد مُنحت لها بموت ابنها، مريم هي بريئةٌ من الخطيئة منذ الحبل بها
بعد أربع سنوات، في عام 1858، ستؤكِّدُ ظهوراتُ لورد لبرناديت سوبيرو هذه الخاصّةَ التي تميّزت بها والدةُ الإله. بقلبها الطاهر، مريم هي الأولى التي افتداها يسوع المسيح. إنها النُّورُلأرضنا. ونحن جميعاً مُعَدّونَ مثلَها للسعادةِ الأبديّة
بعد بضعة أشهرٍ من الظهورات، تمَّ تعيينُ الأخت كاترين في مأوى إنين (باريس 12) للعناية بالمُسنّين؛ فانكبّت على العمل. لكنّ الصوتَ الداخليَّ كان يناديها يإلحاح: يجبُ طبعُ الأيقونة. ففاتحت مُجدَّداً مرشدَها الأب أَلَدِيل بالأمر
في شباط 1832 تَفَشّى في باريس وباءُ الكوليرا الرَّهيب الذي أودى بحياة أكثر من عشرينَ ألفَ شخص! في حزيران، بدأت راهباتُ المحبّة بتوزيع ألفي أيقونة هي الأيقوناتُ الأولى التي طُبعت بناءً على طلبِ الأب ألديل . فتزايدت حالاتُ الشفاء، وكذلك حالاتُ الوقاية والاهتداءات. كان ذلك حدثاً مزلزلاً. فأطلق أهلُ باريس على الأيقونة لقب العجائبيّة
في خريف 1834 كان هناك أكثر من 500000 أيقونة. وفي العام 1835 تخطّى عدُدها المليون في جميع أنحاء العالم. وفي العام 1839 وُزِّع منها أكثرُ من عشرة ملايين نسخة. وعند وفاة الأخت كاترين، في عام 1876، بلغ عدُدها أكثرَ من مليار أيقونة
إنّ الكلماتِ والرسومَ المحفورةَ على وجه الأيقونة تُعبّرُعن رسالةٍ ذات أبعادٍ ثلاثةٍ مترابطة
« يا مريمُ البريئةُ من الخطيئة الأصليّة، صلّي لأجلنا نحن الملتجئين إليك »
إنّ هويّةَ مريم قد كُشِفَت لنا هنا بشكلٍ واضح: مريمُ العذراء هي بريئةٌ من دنس الخطيئة منذ لحظةِ الحبل بها. من هذه الميزةِ المُعطاة لها عَبْرَ استحقاقاتِ آلام ابنِها يسوع المسيح، تنبعُ قُدرتُها المُطلَقَةُ على التشفُّع بأولئك الذين يُصلّونَ لها. لذا، فإنّ العذراءَ تدعو جميعَ الناس للالتجاء إليها كلّما واجهتهم الصعوباتُ في حياتهم
قدماها اللتان تضعهما على نصف الكرة، تسحقُ بهما رأسَ الأفعى
نصفُ الكرة هو نصفُ الكرة الأرضيّة ويعني العالم. والأفعى عند اليهود والمسيحيّين، تُجسّدُ الشيطان وقوى الشرّ
العذراءُ مريم هي نفسُها ملتزمةٌ بالحرب الروحيّة، الحربِ ضدَّ الشرّ حيث عالمُنا هو ساحةُ المعركة. إنّها تدعونا للدخول نحن أيضاً إلى مَنطِق الله المختلفِ عن منطقِ العالم. هذه هي نعمةُ التوبة الحقيقيّة التي على المسيحيّ أن يطلبَها من مريم لنقلِها إلى العالم
يداها منبسطتان وأصابعُها مزيّنةٌ بخواتمَ مرصّعةٍ بالأحجار الكريمة ومنها تنبعثُ أشعّةٌ تتسقاطُ على الكُرةِ الأرضيّة وتتعاظمُ عند الأسفل
إنَّ تألُّقَ هذه الأشعة، كما الجمالُ وضوءُ الظهور الذي وصفته كاترين، يدعو ويبرّرُ ويغذّي ثقتنا بإخلاص مريم (الخواتم) تجاهَ خالقها وتجاهَ أبنائها وبفعاليّةِ تَدَخُّلِها (أشعّةُ النِّعَمِ الموزّعة على الأرض) وفي النصر النهائيّ (النُّور) لأنّها هي نفسُها التلميذةُ الأُولى، وأوّلُ المخَلَّصين
يَحملُ الوجهُ الآخرُ للأيقونة الحرفَ الأوّلَ من اسمِ العذراء ورسوماً تُدخلُنا في سرِّ مريم
يعلوه صليب « M« الحرف
الحرفُ الأوّل من اسم مريم، وصليبُ المسيح. العلامتان المترابطتان تُظهران العلاقةَ التي لا تَنفَصِمُ بين المسيح وأمّه الكلّيّةِ القداسة. مريم هي شريكةٌ في رسالةِ خلاصِ البشريّة من خلال ابنها يسوع وتُشاركُ من خلال حنانها بفعلِ تضحيةِ المسيح الخلاصيّة
في أسفل الأيقونة قلبان، الأوّلُ مكلّلٌ بالشوك، والآخر مَطعونٌ بالسيف
القلبُ المكلّلُ بالشَّوك هو قلبُ يسوع، ويُذكِّرُ بالمرحلةِ القاسيةِ من آلام المسيح التي تَرويها الأناجيل، المرحلةِ التي سبقت صَلبَه وموتَه. إنّه يرمزُ إلى آلامه حبّاً بالبش
القلبُ المطعونُ بالسيف هو قلبُ مريم أمِّه، يُذكّرُ بنبوءةِ سمعان الشيخ التي ترويها الأناجيل يوم تَقدمة مريم ويوسف ليسوعَ إلى الهيكل في أورشليم، ويرمزُ إلى حبّ المسيح الساكنِ في مريم وحبِّه لنا. من أجل خلاصِنا، قبلت مريم التضحيةَ بابنها
إنّ تقاربَ القلبين يدلُّ على أنّ حياةَ مريم هي حياةٌ حميمةٌ مع يسوع
إثنتا عَشْرةَ نجمةً محفورة على إطار الأيقونة
إنّها مُطابقةٌ لعدد الرُّسلِ الاثني عشرَ الممثّلِين للكنيسة. وأَنْ تكونَ من الكنيسة يعني أن تُحبَّ المسيح وتُشاركَ في آلامه من أجل خلاصِ العالم. وكلُّ مَعمَّدٍ مدعوٌّ إلى المشاركة في رسالة المسيح الخلاصيّةِ باتّحاد قلبه بقلبَي يسوع ومريم
الأيقونةُ هي نداءٌ موجَّهٌ إلى ضميرِ كلِّ واحدٍ منّا لكي يختارَ كما المسيح ومريم طريقَ المحبّةِ حتّى البَذلِ الكُلّيِّ للذات.