ماذا لو لم يحبّنا المسيح ونحن خطأة؟
ماذا لو لم يحبّنا المسيح ونحن خطأة؟ ماذا لو تركنا مطرحين في هاوية شقائنا وبؤسنا، غارقين في عبوديّتنا وسائرين نحو الموت؟
خلقنا الله من عمق حبّه وتصاغر وواضع نفسه واتّخذ صورة عبد حبّاً بنا. وقاده هذا الحبّ الفائق الإدراك لأن يتقلّد الصّليب، ويغلب الموت بالموت. ولا يكفي أن نتحدّث عن هذا الحبّ العظيم نظريّاً بل وجب الدّخول في سرّه وتلمّس عظمته وإن كانت عصيّة على عقلنا البشري. ولكي يقبل منطقنا البشريّ ويفهم ماهيّة هذا الحبّ عليه أوّلاً أن يحترم أنّ منطق الله مغاير لمنطق الإنسان، وأن يتواضع ثانياً، لتنكشف له نفسه أمام الحبّ الإلهي. عندها نتبيّن كم شوّه الكبرياء صورة الله فينا وبالمقابل ورغم كلّ شيء تحنّن الرّبّ علينا ونظر إلى جرحنا الإنساني وخلّصنا.
يقودنا هذا التّأمّل إلى فهم مراد بعض من أقوال القدّيس يوحنا فم الذّهب في ما يخصّ محبّة الأعداء. خاصّة أنّه ارتقى بشكل لا مثيل له إلى سموّ كلمة الرّبّ ومنطقه البهيّ والمترئّف بالإنسان. وتجدر الإشارة إلى أنّ آباءنا القدّيسين لم يكتبوا كلاماً استهلاكيّاً ولم يردّدوا عبارات حفظوها وحسب. وإنّما نقرأ في كتاباتهم عصارة خبراتهم الرّوحيّة والحياتيّة. هم، من اتّحدوا بالرّبّ عاينوا بقلبه الجرح الإنساني العميق النّاتج عن الخطيئة.
) أوصيكم أن تكونوا طيّبين مع الّذين خرجوا عنكم ( أهل البدع)، قاربوهم بكلام لطيف… الجراح السّاخنة تخشى مرورَ اليد عليها لذا يستخدم الأطباء إسفَنْجَةً ناعمة لغسل مثلِ هذه الجراح. هي نفوسٌ مجروحة مسمومة مدمّاة. لنتشبّه بالّذي يستخدم لها إسفنجة ناعمة مبلولة بالماء الصافي… أيقابلون عنايتكم بالإهانات وحتى بالضربات؟… مهما فعلوا، أنت أيها الحبيب لا تتخلَّ عن هدف علاجك لهم إنّه سبب آخر لمزيد من الشفقة عليهم). لا يريد القدّيس يوحنا فم الذّهب بالطّيبة السّذاجة والخنوع والتّبرير، وإنّما تفهّم الأسباب الّتي أدّت إلى نتيجة معيّنة. ومن خلال التّفهّم يمكن معالجة الجرح. ماذا لو تمنّع الطّبيب عن غسل الجراح، وكيف له أن يعالج مريضه ما لم يتبيّن كيفيّة غسلها؟
( أسمع كثيرين يقولون لي: أنا لا أشعر بأيّ حقد تجاه الذين أساؤوا إليّ. لا يطلب منك اللهُ أن لا يكون لك علاقة معهم، يطلب بالأحرى أن يكون لك علاقةٌ كبيرة، لذلك هو يدعو عدوَّك ” أخاك “. لا يقول فقط سامح أخاك إن أساء إليك بل يقول: ” اذهبْ أوّلاً واصطلح مع أخيك” ( متى 5 : 24 ). إن كان هناك شيءٌ ضدّك لا تنسحب قبل أن تُعيد الوحدة بينكما”(
المسيحيّة لا تعني في مفهومها الإلهي الإنساني الالتزام بأخلاقيّات وأدبيّات، وإنّما تتخطّاها إلى التّشبّه بالفعل الإلهيّ. ومحبّة الأعداء أمر يستحيل على الإنسان ما لم تكن هذه المحبّة نعمة خاصّة من الله. وهذه النّعمة تتطلّب صلوات كثيرة وتضرّعات بدموع متواضعة خاشعة كيما نتمكّن من محبّة أعدائنا. عندما سأل الرّبّ قايين ” أين أخوك هابيل؟”، أجاب قايين: ” لا أعلم! أحارس أنا لأخي؟” ( تك 9:4). ولا يسأل الرّب هذا السّؤال لأنّه لا يعلم أين هابيل، أو ماذا فعل قايين، بل لأنّ كلّ واحد منّا حارس لأخيه وموكل به ومسؤول عنه. وإلّا ما معنى إيماننا المسيحي، وما هي أهمّيته؟